دار القرار والجواري المقدودات
وحينما وصل الأمين إلى الحديقة استقبله جماعة من الخدم الشاكرية أعانوه على النزول عن جواده، وقد تحوَّل صاحب الحربة قبله ومشى بين يديه بالحربة حتى وصلا إلى موضع الأزهار، وقد فاحت روائحها وامتزجت بروائح الطيب، فتنحَّى صاحب الحربة ومشى الأمين وحده حتى وصل إلى باب القصر، فرأى والدته واقفة هناك في انتظاره، فلما دنا منها همَّت به فضمَّته إلى صدرها، وقبَّلته قبلة الوالدة المُشتاقة، فقبَّل يدها فأحسَّ ببضاضتها. وكانت زبيدة مشرقة الوجه بيضاءه، عليها وقار الهاشميين مع حلاوة وجمال، وكانت سوداء العينين كبيرتهما مع ذكاء وحدة، وقد استدار خداها وانبسطا من عيش الترف والرغد، وكان فمها صغيرًا باسمًا يعلوه أنف فيه شمم، وذقن قليل البروز ليس بينه وبين الترقوة غور ولا ثنية، وقد استدار عنقها واشتد بياضه، وليس فيه بروز.
وكانت بضة طويلة القامة مع سمن قليل. إذا أسرعت في مشيتها ارتج كتفاها وفخذاها ارتجاج الدلال والرخاء. وقد تزمَّلت برداء من الحرير أرجواني اللون يستر كل أثوابها، وتمنطقت فوقه بمنطقة مذهبة شدت طرفيها بعروة مرصعة بالجواهر. وقد أرسلت شعرها ضفيرة واحدة على كتفيها، وعصبت حول رأسها عصابة ليس بها شيء من الجواهر. والعصائب كانت لا تزال حديثة العهد لم تبلغ إلى نساء العامة، بل كانت مقصورة على بيت الخلفاء والأمراء، شأن ما يحدث في الأزياء في كل عصر؛ فإن الزي الجديد (المودة) تبدأ به عادةً بعض الوجيهات فيُقلِّدها أترابُها، ثم يشيع بين العامة. والعصائب استنبطتها علية؛ أخت الرشيد؛ لتستر بها عيبًا في جبينها، فاصطنعتها مرصعة بالجواهر، كما تقدم، فاستحسن الناس ذلك فقلدوه. أما زبيدة فكانت لفرط اعتزازها بمنزلتها عند الرشيد حسبًا وجمالًا وتعقلًا تستنكف أن تُقلِّد سواها، فاتخذت عصابة بسيطة لا جواهر بها؛ ترفعًا عن التقليد. ولم تضع في عنقها عقدًا، ولا في أصابعها خاتمًا، ولا في معصمها سوارًا؛ تنزهًا عما يستطيع سواها تقليدها به. فلم يتمالك الأمين عند مشاهدة تلك العصابة عن الابتسام وقال: «أراك تقلدين عمتي علية. إن هذه العصائب جميلة يا أماه، لكنني لا أرى على عصابتك شيئًا من الجواهر.»
فابتسمت وأشارت بسبابتها إلى قدميها، فنظر إلى قدميها فإذا هي قد رصَّعت خفيها بالجواهر، فأعجب بترفعها وبذخها. وهي أول من لبس الخفاف المرصعة.
وكان الأمين يمشي بجانب والدته لا يدري إلى أين تسير به، فقطعت الدهليز وبلغت إلى درجات صعدت عليها وهو يتبعها، حتى مرت من دهليز آخر إلى القاعة التي ذكرناها، فلم يبهره ما هنالك من الفراش الثمين، ولكنه دهش لشيء آخر لم يكن قد رآه من قبل. ذلك أنه لما أطل على القاعة تزايدت رائحة المسك، ورأى عند مدخلها صفين من الجواري الحسان على رءوسهن العمائم وقد سوين شعورهن على أشكال الطرر والأصداغ والأقفية، ولبسن الأقبية والقراطق والمناطق من الذهب والفضة؛ فبانت قدودهن وبرزت صدورهن على شكل غريب، وفي أيدي بعضهن جامات المسك، وفي البعض الآخر قوارير الطيب، فلم يتمالك الأمين عند مشاهدة ذلك المنظر عن الدهشة والإعجاب، وأمه تتماسك عن الضحك، فالتفت إليها فضحكت، فقال: «ما هذه الملابس يا أماه؟ أراك قد جعلت هؤلاء الجواري غلمانًا.»
فسرَّ الأمين بتلك الهدية. وكانا قد وصلا إلى مجلس مُعدٍّ لهما على سرير من الأبنوس في صدر القاعة محلًّى بالذهب، فجلست زبيدة فوقه على وسادة من الخز المزركش محشوة بريش النعام، وأجلست الأمين إلى جانبها وهي تنظر إليه ولا ترتوي من رؤيته، ثم أشارت إلى من كان هناك من الجواري والغلمان فانصرفوا.