المشورة والحيلة
فلما خلت به تغير وجهها من الابتسام والأنس إلى الهيبة والجلال، وبدت في عينيها السوداوين اللامعتين ملامح الذكاء وحدَّة الذهن والجد فقالت: «كيف قضيت نهارك أمس يا محمَّد؟»
قال: «قضيته كما تحبين يا سيدتي من الأنس والطرب.»
قالت: «وفي الليل؛ لماذا كنت مستترًا في خلوة؟»
قال: «ومن قال لك ذلك؟»
قالت: «أخبرني به الشاكري الذي بعثته إليك. فما هي هذه الخلوة؟»
قال: «هي خلوة يحلو لك سماع خبرها، وقد كنت عازمًا على المجيء إليك لأُطلعك على سرٍّ اكتشفته يسرُّك الاطلاع عليه. وأنت؛ ما الذي بعثت إليَّ من أجله؟»
وكانت متكئة على كتفه ويدها على خده تلاعب بأناملها شعرات في عذاره، وتنظر إليه نظر الحنان والعطف، فلما قال لها ذلك ابتسمت وقالت: «وعندي أيضًا ما يهمك الاطلاع عليه، وأرجو أن تتخلص به من ذلك الفارسي.»
فعلم أنها تشير إلى جعفر البرمكي فبُغت وقال: «وخبري أيضًا يتعلق به — قبَّحه الله — هل تعنين خبره مع العلوي أم مع عمتي العباسة؟»
فأجفلت زبيدة، وتصاعد الدم إلى وجنتيها، وظهرت الدهشة في عينيها وقالت: «هل علمت بخبر العباسة أيضًا؟»
قال: «نعم، علمتُ به، وكدت أتميِّز من الغيظ، ولكن لا أظننا ننتفع بذلك عاجلًا. أما خبر العلوي فهو أقرب للإفادة منه.»
فقالت: «وأي علوي تعني؟ وما خبره؟ إني لم أسمع بشيء من هذا القبيل.»
فاعتدل في مجلسه، وقصَّ عليها ما سمعه مساء الأمس من الجارية حتى أتى على آخره، وزبيدة تنظر إليه وعيناها تبرقان استغرابًا ودهشة، فلما فرغ من حديثه تنهَّدت وقالت: «ذلك جزاء من يستهين بسلطة فوَّضها الله إليه. إن أباك مع تعقله وحزمه قد استسلم لهذا الفارسي حتى أصبحت الخلافة له، ولم يبق لأبيك إلا اسمها، ولكن سوف يلقى الباغي عاقبة بغيه.»
فقال: «لا أنكر عليك أن والدي أطلق يد هذا الوزير في أمور الدولة، ولكن ألا تظنين ذلك لازمًا ليضمن سير الأعمال؟ وهل يستطيع أمير المؤمنين أن يتولى كل الأعمال بنفسه؟»
فقالت والجد ظاهر في عينيها: «إن إطلاق يده في شئون الدولة قد يكون له فيه عذر، ولكن ما عذره في إدخاله على حريمه بلا إذن ولا حرج؟ إن جدك المهدي — رحمه الله — مع استخدامه البرامكة وثقته بهم، لم يبلغ هذا الحد من إطلاق أيديهم، ولا عمك الهادي فعل شيئًا من ذلك، ولا أظن أن أحدًا يفعل ما فعله أبوك.» قالت ذلك وقد ظهر الغضب على وجهها فزادها هيبة.
قال: «وماذا تعنين يا أماه بدخوله على الحريم؟»
قالت: «أعني أن أباك — حفظه الله — أمن أن يَدخُل جعفر على دور النساء في السفر والحضر، وأبرز إليه جواريه وإخوته وبناته؛ لزعمه أن بينهما رضاعًا يُحلل ذلك، فهو يدخل إلى قصور نساء الخليفة وبناته وأخواته بلا حرج، فلا عجب إذا ظهر ما ظهر من جرأته.» وتنهدت وقد أخذ الغضب منها مأخذًا عظيمًا. وكان في يدها جام فيه مسك تتشاغل بتفتيته في أثناء الحديث، فلما غلب عليها الغضب ارتعشت أناملها فوقع الجام من يدها وانتثر فتات المسك على البساط، فهمَّ الأمين بالتقاطه وهو يقول: «وهل بلغ من إطلاق يده في دور النساء أن يدخل إلى قصرك ويراك؟» وقد بانت الغيرة في وجهه.
وكان الأمين قد فرغ من التقاط المسك، فأعاده إلى الجام ودفعه إلى أمه وهو يقول: «وما الرأي الآن؟ إن هذا الرجل لا ينبغي أن نستر فعله وإلا ذهب الأمر من أيدينا، واكتسينا العار الذي لا يُمحى لما ارتكبه هذا الخائن بعمتي.»
فقطعت كلامه وقالت: «إن أمر عمتك يا بني أكثر اللوم فيه على أبيك، كما قلت لك؛ لأنه أباح لوزيره الدخول إلى قصرها ومخاطبتها وقضاء حوائجها، وهو شاب حسن الخلقة، نظيف الثوب، طيب الرائحة، وهي لم تر رجلًا غيره؛ ذلك جزاء من جمع بين النار والحطب، على أن هذا لا يبرئه من الخيانة.» وعادت إلى التشاغل بفتات المسك وهي تنظر إلى البساط تتفرس في الطاووس المنقوش في وسطه. والأمين قد انقبضت نفسه، وضاق صدره؛ لأنه مع طول الحديث لم يصل إلى الغرض المطلوب، ولا تجاسَر أن يفاتحها بطلب قتله أو الوشاية به، فلما ضاق ذرعًا أطرق وبانت الحيرة في وجهه. ولاحظت أمه ذلك فأسرعت إلى تطييب خاطره قائلة: «أظنك تريد أن تعرف رأيي في هذا الرجل؟»
فلم يتمالك محمد أن صاح: «نعم، يا أماه، لقد ضاق صدري.»
فقالت: «وهل ترى أن نبلغ أباك خبر أخته العباسة؟»
قال: «لا أدري. وإنما أريد أن يقتل هذا الرجل والسلام.»
فضحكت وأدارت ذراعها حول عنقه وقبلته ودموع الحنان تكاد تتناثر من عينيها لولا عظم الأمر الذي أدخلت نفسها فيها، وقالت: «قد كنت عازمة على أن أُطلعه على خبر أخته، ولكن مباغتة الرشيد بذلك لا تخلو من الخطر على الناقل، فيكفي الآن أن نبلغه خبر العلوي.» ثم خفضت صوتها ومدت يدها إلى جيبها فأخرجت بطاقة دفعتها إليه وهي تقول: «لا تظنني غافلة عن الانتقام لك من هذا المولى. إني لا أنسى تشديده عليك بالقسم على كتاب العهد بالكعبة في العام الماضي؛ فقد بلغ من قِحَته وسوء أدبه أن يستهين بك أمامي، وقد أعددت أبياتًا من الشعر بمعنى ما نحن فيه، على أن أوصلها إلى أبيك سرًّا من حيث لا يعلم، فنكون قد أبلغناه بالخطر الذي يهدد الدولة من هذا الرجل، فإذا لم يفلح ذلك في تحذيره، عمدنا إلى ما هو أبلغ.»
فلما فرغ من قراءتها أحس بارتياح وقال: «أظنها تقتله لا محالة. وهل أنت عازمة على إيصالها؟ وكيف؟»
قالت: «لا يهمك ذلك؛ فإني أكلف واحدًا من جواسيسنا هناك يلقيها عند مصلَّى أبيك، فإذا رآها قرأها، وأظنها تفي بالغرض المطلوب وإلا فالدواء الناجع عندي.» قالت ذلك ووقفت، فوقف الأمين وقد علم أنها تنوي الخروج من تلك القاعة، فمشيا معًا وهي تقول له: «أظن أنك جائع وقد أعِدَّت المائدة؛ فهَلمَّ بنا إليها.»
قال: «صدقت. إني جائع، وهل أعود بعد الطعام إلى قصري؟»
قالت: «إني مشتاقة إليك يا محمد. دعنا نقضي هذا اليوم معًا.»
وذهبا إلى غرفة المائدة.
فلنتركهما يتناولان الطعام، ولنعد إلى ما كان من إسماعيل بن يحيى ومهمته إلى الرشيد.