الفصل السابع والثلاثون
قصر الخلد
تركنا إسماعيل بعد مفارقة جعفر في مساء الأمس وهو عازم على زيارة الرشيد في الغد؛
لمخاطبته في شأن ابن الهادي والعالية، فلما أصبح لبس سواده وقلنسوته وركب إلى قصر الخلد،
وقضى مسافة الطريق وهو يفكر في الرشيد، ويهيئ الأسلوب الذي ينفذ منه إلى مخاطبته في أمر
ابن
عمه؛ لعلمه بقسوة الرشيد إذا غضب. وربما سبق إلى ذهنه سوء الظن، فتعود العائدة وبالًا
عليه،
لكنه لم يطل على ذلك القصر حتى رأى الناس يسرعون في الأسواق نحو الشارع الأعظم المؤدي
من
القصر إلى الجسر، فأمر أحد الغلامين السائرين في ركابه أن يسأل عن سبب ذلك الهرج، فعاد
وهو
يقول: «إن أمير المؤمنين خارج إلى الشماسية لحضور حلبة السباق.» فتشاءم إسماعيل من هذا
الاتفاق، وسبق إلى اعتقاده فشل مهمته؛ لأنه لم يوفَّق فيما كان يريده في ذلك الصباح،
ولا هو
يرجو أن يقابل الرشيد في المساء؛ لأن الشماسية في الجانب الشرقي من بغداد، والحلبة تستغرق
كل
النهار، فترجَّل وتنحَّى جانبًا بحيث يرى موكب الخليفة ولا يعلم به أحد، فما لبث أن رأى
الناس
يسعون إلى الفرار. يدفع بعضهم بعضًا كأنهم يساقون سوقًا، ثم رأى خدمًا صغارًا يركضون
وفي
أيديهم قسِيُّ البندق يرمون بها العامة الذين يعترضون الموكب في الطريق — وهم فرقة من
الخدم
يسمونهم النمل
١ — ومن ورائهم رجال مشاة على الأقدام عليهم شارة الدولة، وفي أيدي بعضهم السيوف
المرهفة، وفي أيدي الآخرين الأعمدة، ووراءهم رجال في أيديهم القسي الموتورة،
٢ وهم يمشون بوقار
وسكون. ووافى الخليفة بعدهم على جواد مخضَّب بالحناء عليه سرج مذهب وقد تغطى سائر الجواد
بالديباج المخوص بالذهب، والرشيد جالس فوقه وعلى رأسه قلنسوة طويلة ليس حولها عمامة؛
لأن
الخلفاء كانوا إذا لبسوا القلانس مكشوفة زادوا في طولها وحدة رءوسها؛ حتى تكون فوق قلانس
جميع الأمة،
٣ فكيف إذا ركب وهم مشاة، ورأى سواده مسترسلًا حتى غطَّى جانبًا من ظهر
الجواد.
وكان الرشيد يومئذ في الحادية والأربعين من عمره، وقد أشرق وجهه بياضًا، وأبرقت عيناه
ذكاءً، وكانتا كبيرتين، ولحيته خفيفة كستنائية اللون، وشاربه مستطيل دقيق، وفي فمه ابتسامة،
وفي يده اليمنى قضيب من الأبنوس طرفه مصنوع من الذهب. وكان الجواد يمشي الهوينى، ويتبختر
في
مشيته كأنه يعرف مَن فوقه، ووراء الخليفة صاحب المظلة يحمل مظلة من ريش النعام مجنبة
على
عصاها لتظلل الخليفة من الشمس، ووراءهما فرسان من الخاصة والقواد وكبار الكتاب، إلا جعفرًا
الوزير، فإنه لم يكن معهم. ويلي ذلك أفراس الحلبة عليها سروج خفيفة، وسُياس يقودونها
بالأرسان،
وبينها فرس عليه رئيس السُّياس وهو تركي له مهارة في تربية الخيل. وأخيرًا فرقة أخرى
من الخدم
الصغار يردون الناس عن الموكب من الوراء.
وظل إسماعيل واقفًا ينظر إلى ذلك الموكب نظر الفيلسوف المفكر، وهو يعجب لغرور الإنسان
واهتمامه بالمظاهر الزائفة أكثر من الحقائق الدامغة. ونظر فيمن يحف بالرشيد من الخاصة
والقواد والهاشميين وهو يعلم ما في نفوسهم؛ ومنهم من يكره الرشيد حتى يتمنى له الموت،
ومنهم من يحبه ويتفانى في خدمته، والمرجع العام في ذلك كله إلى حب الذات، ثم فكر في نفسه
وفيما كان قادمًا من أجله، وتحركت فيه الغيرة على الدولة والرغبة في سلامتها.
وأسف لإخفاقه في مهمته في ذلك الصباح، فركب وعاد إلى منزله متألمًا، على أن يعود في
صباح
الغد لاستئناف ما كان يسعى إليه.
وبادر في صباح اليوم التالي فركب كالأمس وغلاماه في ركابه وعليه السواد والقلنسوة،
وما زال
حتى أقبل على قصر الخلد.
وللقصر أربعة أسوار الواحد داخل الآخر، فلا يستطيع أحد الوصول إلى مجلس الخليفة إلا
بعد
المرور في أربعة أبواب،
٤ وعند كل منها حرس من الشاكرية وقفوا بالأسلحة، فدخل الباب الأول وهو
راكب، فوقف الحرس إكرامًا له ولم يعترضوه؛ لعلمهم أنه من كبار بني هاشم، فضلًا عن منزلته
عند
الرشيد، ودخل الباب الثاني فالثالث والحرس يقومون له ويحيونه، حتى إذا وصل إلى الباب
الرابع
تناول الفرس أحد الغلامين ومشى إسماعيل في طريق واسع يؤدي إلى دار العامة، وغلمان القصر
يسيرون بين يديه وهو يمشي الهوينى في جلال ووقار، حتى أقبل على تلك الدار؛ وهي التي يجلس
فيها الخليفة للعامة، وبجانبها غرف يقف فيها الشعراء والأدباء والندماء، أو يجلسون ريثما
يؤذن لهم، أو يطلب الرشيد أحدهم، فعلم إسماعيل من جلبتهم وغوغائهم وخلو المكان من الحرس
(الشاكرية) أن الرشيد ليس هناك، فاستغرب ذلك وأحب أن يسأل عنه، فإذا بمسرور؛ خادم الرشيد،
يعدو
نحوه مسرعًا وسيفه يخبط على جانب فخذه لشدة سرعته، فلما رآه إسماعيل لم ينشرح صدره له؛
لعلمه
بفظاظته وقسوته — وهو فرغاني الأصل — وأكبَّ مسرور على يد إسماعيل ليقبلها، فاجتذبها
منه
وسأله عن أمير المؤمنين.
فقال: «هو في دار الخاصة يا مولاي.»
قال: «وكيف ذلك واليوم موعد جلوسه في دار العامة؟»
فقال: «كان عازمًا على الجلوس فيها، فجاءه وفد من ملك الهند، فأحب أن يجلس لهم في
دار
الخاصة؛ لأن ذلك أقرب للرهبة والعظمة.»