وفد ملك الهند
فتحول إسماعيل نحو تلك الدار، وقبل الوصول إليها رأى صفين من جند الخليفة الأتراك وقد وقفوا بانتظام، ولبسوا الحديد حتى لا يرى منهم غير حدقات عيونهم، فقال لمسرور: «ما بال هؤلاء؟ وما الذي بعث على وقوفهم بالحديد كأنهم في ساحة الحرب؟»
فانبسطت نفس إسماعيل لما لمسه من رغبة الرشيد في أُبهة الدولة، ولكنه ما لبث أن تذكر ما يخشاه عليها من الدسائس فانقبض صدره، على أنه تماسك ومشى نحو الدار بين الصفين، حتى دنا من بابها وكان مرتفعًا يصعد إليه على درجات عريضة من الرخام الأبيض يتخللها قطع من البلاط الأخضر، والشاكرية وقوف إلى الجانبين وفي أيديهم السيوف، فدخل مسرور أمامه ليخبر صاحب الإذن (الحاجب) بحضوره؛ ليستأذن له في الدخول.
فصعد إسماعيل في أثره وهو يتباطأ في مشيته ريثما يُؤذن له، فما لبث أن جاء يدعوه للدخول، فمشى في دهليز عريض مبلط ببلاط أحمر مشدود بعضه إلى بعض بقضبان الذهب، والآذن يسير بين يديه، فرأى في آخر الدهليز ثلاثة كلاب هائلة المنظر كبيرة الأبدان كأنها أسود، وقد أوثقت من أعناقها بسلاسل من الحديد، وأمسك السلاسل ثلاثة رجال عرف من منظرهم وألوانهم أنهم من أهل الهند، وهم مكشوفو الرءوس، فاشتغل خاطره بتلك الكلاب، وتهيب من توقد أبصارها وضخامة أبدانها.
ولكنه تجلَّد وهو يمر بالأروقة والدهاليز، والخدم يقفون له حتى انتهى إلى دار قوراء مفروشة بالبسط الثمينة، فوقها جلود النمور والسباع، وفي جوانبها قضب المناور عليها الشموع الملونة، فوقف إسماعيل هناك وهو يتشاغل بقراءة ما نقش على الجدران من أبيات الشعر أو الحكم؛ لعله يحتاج إلى إذن ثانٍ على جاري العادة في الداخلين على الخليفة، فرأى الآذن قد عاد وهو يشير إليه أن يتقدم؛ لأن مثله لا يحتاج إلى إذن ثانٍ.
فتقدم نحو باب عليه ستارة من الديباج المخوص بالذهب فتحه الآذن بيده اليسرى، وأشار إلى إسماعيل باليمنى أن يدخل، فدخل إلى إيوان كبير طوله ثلاثون ذراعًا في ثلاثين، قائم على أساطين من الرخام، وعلى جدرانه صور ممَّا في البر والبحر نُقشت بالذهب والفضة، تتخللها أبيات من الشعر، وحكم مكتوبة بماء الذهب، وفي أرضه بساط من الديباج الأصفر كأن صانعه قلد به القطيف بساط كسرى، عليه نقوش بألوان زاهية بينها خيوط القصب تمثل أشجارًا وأنهارًا وطيورًا وأسماكًا، توهم الناظر أنه في حديقة يانعة الثمار جرت فيها الجداول، وتغنت فيها الأطيار. وعلى حواشي البساط وشي جميل. وسقف الإيوان قبة عظيمة الاتساع، مبنية على ثلاثة عقود، كل عقد قائم على خمسة أساطين، وعلى سقف القبَّة نقوش وكتابة. وفي وسط الإيوان ستارة من الحرير الصيني معلقة عرضًا بين الحائطين، تحجب الخليفة عمن يجالسه على عادتهم في مجالسة الخلفاء يومئذ، إلا من اختار الخليفة تقديمه ورفع الستارة بينه وبين أهله وخاصته.
فأشار صاحب الستارة إلى إسماعيل أن يدخل إذا شاء، أو يجلس على أحد الكراسي، ريثما يفرغ الرشيد من هؤلاء الهنود. وكان إسماعيل قد سمع الرشيد يتنحنح، فعلم أنه جالس هناك على سريره وراء الستارة، ففضل الجلوس هناك حتى يفرغ من هؤلاء، وهو يخشى أن يحولوا بينه وبين ما يريد من مخاطبة الرشيد، ثم سمع الرشيد يخاطبهم من وراء الستار بواسطة الترجمان، وهو صاحب الستارة؛ لأنهم كانوا يختارون أصحاب الستارة من الناطقين باللغات في مثل هذه الأحوال، فقال الرشيد لرئيس الوفد: «ما الذي أتيتمونا به؟»
قالوا: «هذه سيوف قلعية لا نظير لها عندنا.»
فدعا الرشيد بالصمصامة؛ وهي سيف عمرو بن معدي كرب، وأمر أحد رجاله الأتراك فقطع بها تلك السيوف واحدًا واحدًا، وأمر أن يريهم ذلك السيف فرأوه، فإذا هو لا فل فيه، فأُسقط في أيديهم ونكسوا رءوسهم، ثم قال: «وما عندكم غير هذا؟»
قالوا: «أتينا بكلابٍ لا يلقاها سبع إلا عقرته.»
فلما سمع إسماعيل قولهم زاد تهيبًا من رؤيتها، ثم سمع الرشيد وهو يقول: «إن عندنا سبعًا، فإن عقرته كلابكم فهي كما ذكرتم. أخرجوها إلى السِّباع في أقفاصها، وأْمُروا السبَّاع أن يُخرج السَّبع عليها ونحن ننظر إلى ما يدور بينها من الروشن.»
فخرج صاحب الستارة وأشار إلى الهنود، فنهضوا ومشوا حتى مروا بالكلاب في الدهليز فساقوها معهم، وسار بعض الغلمان بهم إلى خارج الدار وقد سبق أحدهم إلى السبَّاع فأمره بإخراج أسد عظيم فأخرجه، وجاءوا به إلى ساحة أطلق فيها الكلاب القلعية، ورأى إسماعيل الأسد يخطر ويزأر، مما يؤكد أنه سيمزق الكلاب إربًا إربًا، فإذا هي قد مزقته، ورأى الرشيد ذلك من الروشن فأرسل إلى الوفد أن يعودوا إلى الإيوان كما كانوا، فعادوا وعاد إسماعيل وهو يستغرب مما رآه من الكلاب، فلما عادوا قال الرشيد للوفد: «من أين لكم هذه الكلاب؟ ومن أي جنس هي؟»
قالوا: «هي كلاب سيورية تعيش في بلادنا لا شبيه لها في العالم.»
فقال: «هذه أحب أن أحفظها. فتمنوا مقابل هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا.»
قالوا: «لا نتمنى سوى السيف الذي قطعت به سيوفنا.»
فقال لهم: «لا يجوز في ديننا أن نهدي إليكم السلاح، ولولا ذلك ما بخلنا به عليكم، ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم.»
قالوا: «لا نتمنى سواه.»