الفشل
فرفع إسماعيل بصره واغتنم رغبة الرشيد في التعويض عن رفضه لطلبه وقال: «صدق مولاي، إن الرجوع عن الوعد لا يليق بمقامه، وأنا أعلم ذلك؛ لثقل ما أقاسيه من رجوعي بخفي حنين بعد أن وعدت ابن أخي بهذا الشرف، وقد تسرعت في وعدي، ولكنني لم أفعل ذلك إلا رغبة في صيانة الدولة؛ لما يعلمه مولاي من غيرتي على سلامتها.»
فأدرك الرشيد ما يعرض به من الرغبة في إرضاء ابن أخيه الهادي ليشغله عن طلب الخلافة أو الوقوف في سبيلها. وقد تعوَّد الرشيد أن يسمع من إسماعيل ما هو أكثر صراحة من ذلك مما لا يتجرَّأ سواه على بعضه، ومع ذلك فإن هذا التعريض أثار غضبه؛ لأن الخلفاء العباسيين لم يكونوا يغضبون لشيء مثل غضبهم لما يُشتمُّ من رائحة التعرض للمُلك ولو تلميحًا، ولكنه تمالك وكظم غيظه وتجاهل وقال: «إنك مشهور بغيرتك على دولتنا، وهي إنما تتأيد بآراء أمثالك من شيوخ الحكمة وأرباب الرأي السديد، وهم قليلون. وأما ابن أخي، فإنه من لحمي ودمي، وأحب له ما يرضيه، فهل من شيء تطلبه له غير خطبة العالية؟»
فقال: «أطال الله بقاء أمير المؤمنين. إني أراه يبالغ في مجاملتي، ولكن يسرني أن يعلم الغاية التي أقصدها، فأرجو منه أن يُسند إلى ابن أخيه عملًا يشغله. ونظرًا لقرابته من الخليفة، فأطلب له ولاية مصر أو خراسان.»
فوجم الرشيد عند سماعه ذلك، وبدت البغتة في عينيه، وهز رأسه استغرابًا لذلك الاتفاق وقال: «وهذا لا سبيل إليه يا عماه؛ فإني وعدت وزيري في صباح الأمس بولاية مصر لإبراهيم المذكور، وأما خراسان فقد وعدته بها لنفسه منذ أيام، وقد كتمت ذلك ولم أخبر به أحدًا، ولولا أنك إسماعيل ما صرحت لك به.»
فضاق إسماعيل ذرعًا من توالي الفشل على هذه الصورة، وعاد إلى الإطراق وإعمال الفكرة، ولم ير بدًّا من التصريح بغرضه من تلك الاقتراحات، فعاد إلى ما فُطر عليه من حرية القول ونسي موقفه وما يعلمه من سوء العاقبة إذا غضب الرشيد فقال: «فليأذن لي أمير المؤمنين في أن أبوح له بما في ضميري، فأخاطبه باعتبار أنه هارون بن محمد وأنا ابن عمه إسماعيل بن يحيى.» وتنحنح واعتدل في جلسته والرشيد يتجلَّد لسماع قوله، وهو يكاد يتلقفه بعينيه من شدة التفرس.
فقال: «أنت تعلم غيرتي على سلامة هذه الدولة، وشدة محافظتي على بقاء هذا الخاتم بيد هارون، وهذه البردة على كتفيه، وتعلم أيضًا ما قد يجول في خاطر ابن أخيك، وأنا أعلم عجزه عن الظفر به، ولكن المصلحة وحسن السياسة يقضيان علينا بتلافي أسباب الفتن؛ لئلا يرى أعداؤنا ضعفًا فينا فيغتالوننا، وهم كثيرون؛ يكفي منهم الروم في القسطنطينية، والأمويون في الأندلس. وأنا أؤمن بعجزهم عن الفوز، ولكن الحكمة تستدعي التكاتف وجمع الكلمة. وهذا سهل على الرشيد إذا استخدم ذكاءه ودهاءه، فيشغل أهل المطامع من أهله بخدمة دولته بدلًا من أن يتفرغوا لإقلاق راحته.»
فبادر الرشيد إلى قطع كلامه خوفًا من استرساله في الحديث حتى يصرح بأكثر من ذلك، فيغلب الغضب عليه ولا يقوى على التماسك فقال: «قد كان بودِّنا أن نولي ابن أخينا مِصْرَ، لولا ما قدمته من الوعد بها لإبراهيم. فهل ترى لي حيلة أخرى؟»
فأسرع إسماعيل بالجواب قائلًا وقد غلبت عليه الأنفة والاستقلال بالرأي: «لي حيلة واحدة.»
قال: «وما هي؟»
فقال وكفَّاه على ركبتيه كأنه يتحفَّز للقيام: «تُبايع له بالخلافة بعد محمد وعبد الله (الأمين والمأمون). افعل ذلك ولو على سبيل الرضاء.»
فلما سمع الرشيد قوله ألقى القضيب من يده على السرير ونهض بغتة، ونزل إلى البساط بسرعة حتى انحرفت البردة عن كتفيه وكادت تسقط، وقد نسي موقفه ومنزلة إسماعيل عنده، ثم أصلح البردة وجعل يخطر في الإيوان. فنهض إسماعيل وقد أدرك أن بقاءه هناك أصبح خطرًا ولا فائدة منه، وأجَّل التصريح بما في نفسه لفرصة أخرى، فتراجع من موقفه وقد رأى بنهوض الخليفة مسوغًا لخروجه من حضرته؛ لأن ذلك من علامات الإذن بالانصراف عند الخلفاء، ولكنه لم يشأ الخروج على تلك الصورة لئلا يسيء الرشيد الظن به فقال: «أظن أن أمير المؤمنين قد ندم على ما سمح لي من إطلاق لساني بين يديه، وأظنني قد تطاولت في الدالة عليه إلى أبعد مما ينبغي فتدخَّلت فيما لا يعنيني، فأعتذر له عن جسارتي.»
وكان الرشيد قد وقف وتشاغل بقراءة بيتين من الشعر منقوشين على حائط الإيوان، فلما سمع قوله تحوَّل إليه وتكلَّف ابتسامة لم تُخفِ غضبه وقال: «إن إسماعيل عندنا في المقام الذي تعلمه، وله فضل النصح والمشورة على الدولة، فلا يزعجك ما رأيته من وقوفي فجأة. وإذا غضبت فإن غضبي لك لا منك، وكيف أغضب من شيخ بني هاشم وحكيم بني العباس؟ ولكن ساءني أنك لم تطلب أمرًا ممكنًا لكي أجيبك إليه حالًا، مع رغبتي في رعايتك وإكرامك.»
فأدرك إسماعيل من خلال قوله ما كان يحاول إخفاءه من الغضب، وما يتكلفه من التلطف في الجواب، فقال: «أشكر لمولاي تفضله وحسن قصده، والظاهر أن سوء طالع ذلك الرجل قد أوجب هذا الاتفاق؛ إذ لكل وقت طالع، وكأن طالع هذه الساعة لا يوافق حظه. فهل يأذن مولاي بانصرافي الآن، ونؤجل ذلك إلى ساعة خير من هذه؟»
فسرَّ الرشيد لطلبه الانصراف في تلك الحال وقال: «لا بأس من انصرافك يا عماه.»
فرجع إسماعيل وهو منحنٍ يمشي القهقرى بين يديه على جاري العادة في الخروج من مجالس الخلفاء حتى وصل إلى الستارة، وخرج والرشيد واقف ينظر إليه، وقد احتدم في نفسه من الغضب ما أقلقه وحبب إليه الخلوة بنفسه.