عبد الملك بن صالح
أما إسماعيل فخرج توًّا إلى جواده، وقد ندم على مجيئه، فركب ومشى الغلامان في ركابه، وهما غافلان عما يتَّقد في قلبه من الغضب، وما يتردد في ذهنه من الأسف على حال تلك الدولة بما يعلمه من تضارب الأحزاب، واختلاف الأغراض، فوصل إلى قصره والشمس قد تكبدت السماء، فوجد ابن الهادي في انتظاره، واستفهم منه عما جرى، فقص عليه بعض الخبر وأبلغه عذر الرشيد في امتناعه عن زواجه بالعالية، وبالغ في الاعتذار عنه لئلا يثير غضبه، ولم يخبره بطلب ولاية مصر، ولا ولاية العهد إلى أن قال: «وإني آسف لما اتفق لي من الفشل، والرشيد أكثر أسفًا مني على ذلك، ولكن لا حيلة لنا في الواقع، فاصبر وكن عاقلًا، وسنغتنم وقتًا غير هذا للتحدُّث في هذا الأمر، فإن الرشيد حسن الظن بك.»
فلم يَخفَ على جعفر غرض إسماعيل من تلطيف الخبر، ولكنه سايره وقال: «إني مذعن لأمرك، ولكن هل تعلم السبب الذي بعث على خطبة العالية لإبراهيم؟»
قال: «كلا، ولكن للوزير دالة على الخليفة، ولعبد الملك دالة على الوزير، فيبدو أنه طلب منه أن يتوسط له بخطبتها عند أمير المؤمنين، وهو ابن عمها وكفء لها، فأجاب طلبه.»
فانظر إلى هذه الجرأة التي ليس أغرب منها إلا رضاء الرشيد بها! وقد فعل جعفر ذلك مكافأة على شرب النبيذ، ونحن نلوم ابن عمنا الأمين مع صغر سنه على شربه، ونعدُّه خليعًا. وهذه هي الخلاعة، ولا يخفى عليك إضرارها بالملك. ومع ذلك، فإن الرشيد أطاع جعفرًا ولم يفكر فيما يترتب على ذلك من ضعف الملك.»
وكان إسماعيل يسمع كلام ابن الهادي وهو يكاد يتميز غيظًا، ولكنه اختصر في الجواب وأظهر الاستخفاف بالقصة وقال: «هكذا أبلغك الجاسوس، ولا يخلو قوله من مغالاة، ومع ذلك فليس هذا بالأمر الهام، وإنني أرجو أن تكتم ما دار بيننا وتصبر لنرى ماذا يكون.»
فسكت جعفر عن احترام لا عن اقتناع، فقال إسماعيل: «فاذهب إلى البصرة وسألحق بك بعد يومين.»
فقال: «سمعًا وطاعة.» فودعه وأظهر أنه يتأهب للسفر، وانشغل إسماعيل عنه، فاختفى يومًا ثم أتى إلى الفضل بن الربيع في منزله. وكان الفضل لا يزال يفكر في أسلوب يبلغ الرشيد به خبر العلوي. وقد عاد محمد الأمين وأخبره بحديث والدته أم جعفر، وما دار بينها وبينه من خبر العلوي، وما في نفسها على البرامكة. ولم يكن الفضل يجهل ذلك، فلما جاءه ابن الهادي رحَّب به فأخبره بما سمعه عن أمر عبد الملك بن صالح وزواج العالية، وما يدل عليه ذلك من ضعف الخليفة واستبداد البرامكة، وحرضه على إبلاغ خبر العلوي إلى الرشيد.
فقال له الفضل: «قد أعددت كل شيء.»
قال: «وهل اخترت من يقوم بذلك؟»
فقال: «ليس لنا إلا أبو العتاهية، فإنك تشتريه بالمال وله دالة على الخليفة.»
قال وقد تذكر أمرًا قد نسيه: «وهل عاد من اقتصاص أثر الطفلين؟»
فقال: «عاد وقد قبض عليهما وحبسهما في مكان أمين لوقت الحاجة.»
فأبرقت أسارير جعفر وقال: «لقد قُتل البرمكي لا محالة. والآن دبِّر ما تراه لإبلاغ الخبر إلى الرشيد، فإني منصرف من بغداد؛ لأن عمي إسماعيل ألح عليَّ في الانصراف، وأنا واثق أنك كفء لإنجاز العمل.»
قال: «كن مطمئنًا.»
فودعه ورجع وهو يتوهم أنه أغرى الفضل واستخدمه في مصلحته، والفضل يعتقد أنه استخدم ابن الهادي لغرضه؛ لأنه إذا سقط البرامكة عادت الوزارة إليه، ولم يخف عليه ما في نفس ابن الهادي على الرشيد، وأنه إنما يسعى في مصلحة نفسه لإرجاع الخلافة إليه؛ ولذلك كان يوهمه أنه يسعى في مساعدته على نيل الخلافة، على حين أنه كان يعمل على إرجاع الوزارة له، ولا يهمه أكانت وزارته للرشيد أو لسواه، فكانت النيات مختلفة، والدسائس متنوعة، والمساعي متضاربة، ولكن الغرض متفق فيها كلها؛ وهو إسقاط البرامكة بأية وسيلة كانت. وإذا أراد الله أمرًا هيأ له أسبابه.