المداجاة
فدخل الوزير تلك القاعة وهو يتكلف الابتسام، ويظهر الاطمئنان وقلبه يرتجف خوفًا. فلما أقبل على الرشيد رحَّب به وابتسم له وقال: «ليتك جئتني بمثل ملابسي؛ فإن مجلسنا مجلس أُنس.» ودعاه للجلوس بجانبه على السرير، فحيَّاه وجلس متأدبًا وقد سرِّي عنه واطمأن باله. وجعلا يتطارحان الأحاديث والرشيد يحتفي به ويلاطفه، ومما قاله: «لقد دعوتك رغبة في أُنسك؛ لأني شعرت بملل في أثناء النهار على أثر مقابلة ذلك الوفد الهندي.» وأقبل يقصُّ عليه ما جاء به الوفد من السيوف القلعية والكلاب السيورية، وما كان من قوتها وفتكها بالأسد.
فأجابه جعفر: «ما زال قصر الخلد مصدر الأبهة والسؤدد، ولا زال أمير المؤمنين مؤيدًا بنصر الله يتزلف له الملوك والسلاطين.»
فقال جعفر: «هو على حاله يا أمير المؤمنين، لا يزال في الحبس كما أمرت.»
فابتسم الرشيد وقال: «هل هو هناك؟»
فقال جعفر: «نعم يا أمير المؤمنين.»
قال الرشيد: «بحياتي؟»
ففطن جعفر إلى أن سؤاله لم يكن سؤالًا عاديًّا، فبُغت وظهرت البغتة على وجهه وقال: «لا وحياتك، بل أطلقت سراحه؛ لأني لم أجد مكروهًا عنده ولا خوفًا منه. وزد على ذلك أني أخذت عليه المواثيق والعهود حتى لا يعود إلى شيء مما كان فيه.»
فضحك الرشيد وقدَّم لجعفر خوخة كانت في يده وهو يقول: «بورك فيك؛ فقد فعلت ما كنت أرجوه منك، ولم تتجاوز ما في نفسي.»
فاستأنس جعفر بتلك الملاطفة، وخاصة بعد أن غيَّر الرشيد الحديث وأخذ يمازحه.
ولما فرغا من العشاء جاءهما الخدم بآنية الغسيل، فغسلا أيديهما وجلسا يتحدَّثان ساعة ثم استأذن جعفر في الذهاب، فأذن له الرشيد ومشى لوداعه إلى باب القاعة، فلما ودعه ورجع صرَّ على أسنانه وقال في نفسه: «قتلني الله إن لم أقتله.»
أما جعفر فلم تنطلِ عليه مداجاة الرشيد، ولا انخدع بملاطفته ومجاراته؛ فقد خرج وهو يعلم أن مركزه أصبح في خطر؛ لاعتقاده أن تلك القصة لم يردْ ذكرها عرَضًا كما أحبَّ الرشيد أن يُوهمه، ولا كان ينوي إطلاق العلوي كما زعم. وكيف يصدق ذلك وقد كان هذا العلوي مطلقًا ومعه أمان بخط الرشيد وختمه، فما زال الرشيد يسعى حتى أفسد الأمان ومزَّقه، وأمر بالقبض عليه وحبسه؛ خوفًا منه. فهل ينطلي على جعفر أنه كان ينوي إطلاقه مع ما اختبره من طباع الرشيد، وكظمه الغيظ وملاينته؛ ولكنه أظهر أنه صدَّق قوله، وافترقا وهما يتخادعان ويتداجيان، ويظن كل منهما أنه خدع صاحبه، وكلاهما خادع ومخدوع.