دار فنحاس
أما عتبة، فإنها عادت إلى الخوخة وأمرت البواب ففتح الباب، فدخل الرجل «رياش» يحمل أحد الصبيين على كتفه، وقد ألقى الصبي رأسه على زنديه فوق رأس الرجل، واستغرق في النوم وذؤابتا شعره مرسلتان على كتفيه فوق الدراعة، وكذلك كان الصبي الآخر على كتف المرأة، وعتبة تسير بين أيديهما بالمصباح في فناء الدار حتى تواروا عن بصر أبي العتاهية، ثم رأى البغلتين في الزقاق عائدتين يسوقهما المكاري، فظل واقفًا وهو يفكر فيما رآه، وقد نسي المُهمة الأصلية التي جاء من أجلها، وأصبح همُّه كشف ذلك السر، وخاصة بعد أن سمعهم يتساءلون عن مولاتهم، فقال في نفسه: «مَن عسى أن تكون تلك المولاة؟! لعل في الأمر سرًّا أكتسبُ من وراء كشفه مالًا!» فرأى أن يؤخر دخوله هنيهة لئلا يلحظ أهل البيت أنه عرف شيئًا من أمر القادمين. فإذا دخل بعد ذلك احتال في كشف السر، فانتظر حتى سمع صرير الباب ورآه يُغلق، ثم سمع صوت إغلاقه فتقدم نحوه ودقَّه بالحلقة، فسمع رجلًا ينادي: «من؟»
فأعاد القرع ففتحت الخوخة، وأطل رجل من أنباط السواد اسمه حيان — كان فنحاس قد جعله بوابًا — وكان يعرف أبا العتاهية وشاهده هناك غير مرة، فلما رآه في تلك الساعة وقد توسط الليل استغرب مجيئه، لكنه رحَّب به وفتح له، فدخل أبو العتاهية وهو يتظاهر بالتعب وقال: «هل مولاك في البيت يا حيان؟»
فقال بلهجة الأنباط وهم يلفظون الحاء هاء، والعين همزة، والقاف كافًا: «نأم. هل تريد الدخول إليه؟»
أي «نعم. هل تريد الدخول عليه؟»
فقال وهو يمشي في فناء الدار: «لم يكن مرادي الدخول عليكم في هذه الساعة لو لم أر البيت يشع نورًا على غير المعتاد؛ لأني لم أعهد المعلم فنحاس يظل ساهرًا إلى ما بعد العشاء، فاستغربتُ ذلك وأحببتُ أن أعرف الباعث على هذه السهرة، فأرجو أن يكون السبب احتفالكم بزواج، أو مجيء زائر.» قال ذلك وهو يمازح البواب لعله يبوح بشيء.
فأجابه: «ليس ثمة ما يُكْلِك (يقلق) الراحة، ولكني لا أأرف (أعرف) سبب السهرة.» ثم بدل الحديث حالًا فقال: «أتريد أن ترى سيدي الآن؟»
قال: «نعم. أين هو؟»
فقال: «إني ذاهب لأدءوه (لأدعوه) لك.» وأسرع في مشيته حتى دخل في دهليز ينفذ إلى سلم صعد عليه، وأبو العتاهية يتبعه لئلا يبقى خارجًا ويحدث ما يمنعه عن الصعود. وكان الدهليز والسلالم كلها مضيئة بالشموع، ولكنه لم ير أحدًا من الخدم أو الجواري في طريقه، ولم يكن يسمع ضوضاء ولا غوغاء، فعلم أن القادم يريد التستُّر. ثم وصل حيان إلى غرفة تعوَّد أبو العتاهية أن يجالس فيها فنحاس — وكانت مُظلمةً — فأدخل إليها حيان مشمعة فيها عدة شموع ودعاه للجلوس فجلس. وذهب النبطي ليدعو مولاه، فمكث أبو العتاهية في انتظاره وهو يدبِّر الحيلة للبقاء هناك تلك الليلة، ويودُّ أن يعرف مقر أولئك الضيوف في القصر، فسمع صوت غلام يضحك، فعرف أنهم في غرفة قريبة من غرفته يعرف الطريق إليها.
ثم عاد حيان وهو يقول: «إن سيدي ذهب إلى الفراش، هل أيكظه (أوقظه)؟»
فاستبشر أبو العتاهية بنومه وقال: «دعه نائمًا وسأقابله في الصباح.» قال ذلك وتثاءب وتمطَّى وهو يُظهر التعب والنعاس، فقال له البواب: «هل تريد النوم، أم آتيك بطعام قبلًا؟» — مع تحريف الأحرف بلفظه.
قال: «لا حاجة بي إلى الطعام، ولكنني أشكو التعب؛ فقد كنت في مكان بعيد وتعبت من كثرة الركوب، ولما اقتربت من قصركم ورأيت الأنوار فيه قلق خاطري، وأتيت أقضي ساعة مع المعلم فنحاس، فصرفت الدابة والمكاري، ولا أدري إذا أردت الذهاب هل أجد دابة بقرب هذا المكان؟»
فقال حيان: «إذا كان لا بد من ذهابك فإن في الإصطبل دوابَّ كثيرة، ولكني لا أرى حاجة إلى السرعة؛ فاسترح عندنا الليلة، وإذا شئت النوم أخذتُك إلى حجرة فيها فراش.»
فقال: «ولكني لا أستطيع النوم في النور على هذه الصورة.»
قال حيان: «قد أخذنا في إطفاء الأنوار ولا تلبث أن ترى القصر مظلمًا.»
فقال: «إذا كان الأمر كذلك، فإنني أفضِّل النوم هنا على أن أذهب وأعود في الغد؛ لأني جئت إلى المعلم فنحاس بأمر فيه كسب كثير بعون الله.»
فازداد البواب رغبة في إبقائه لعلمه أن سيده يتوقع منه ذلك لكثرة جشعه للمال، بالرغم مما عنده من الثروة الطائلة. وكان فنحاس إنما يهمه كسب المال ولا يبالي بالطريقة المؤدية إلى كسبه، فكثيرًا ما كان يغضي في سبيل ذلك عن أمور لا يغضي عنها الحرُّ. وعذره أن الناس على ضلال في أمر دنياهم، فهم يتمسكون بأمور اعتبارية لا طائل تحتها يسمُّونها الشرف أو عزة النفس، ويبذلون في سبيلها حياتهم، أو يضيعون فيها أموالهم، ويفوتهم كثير من المكاسب الطائلة. وما كان الشرف يشبعهم إذا جاعوا، أو يدفئهم إذا تعرضوا للبرد، أو يرويهم إذا عطشوا. أما المال فهو عنده السلطان أو هو الصولجان، فمن استولى عليه كان سلطانًا تطأطئ له الرءوس ويخدمه الزملاء. تلك هي مبادئ المعلم فنحاس. وكان أبو العتاهية يعرف ذلك فيه، وكثيرًا ما كان يستعين به في أعمال يكسب بها الاثنان على نحو ما جاء به تلك الليلة.
فلما توسم البواب من أبي العتاهية ما يسرُّ مولاه ألح عليه في النوم هناك، ودعاه أن يتبعه، فسار وأبو العتاهية ينصت ويتلفت لعله يعرف الغرفة التي تتوق نفسه إلى معرفة سر أهلها، ثم وقف حيان أمام باب فتحه ودعاه إلى الدخول والمشمعة بيده، فدخل وإذا هناك فراش على طنفسة لا بأس بها، فقال أبو العتاهية: «هذا فراش نظيف. جزاك الله خيرًا.» وأظهر أنه يريد النوم، فتركه حيان ومضى. وكان أبو العتاهية قد عرف الجهة التي فيها أولئك الناس، فلما ذهب حيان وأطفئت الأنوار ونام أهل البيت، نزع عمامته وعباءته وتخفف بطاقية كانت على الفرش، وخرج يتلمس الحائط وركبتاه ترتجفان. وقد نام أهل القصر وساد السكون على المكان، وأصبحت معرفة تلك الغرفة أقرب من حبل الوريد، فإذا لم يدل عليها الصوت دلَّ عليها النور المنبعث من شقوق بابها.