إسماعيل وجعفر
وفي صباح اليوم التالي، علم أن الرشيد بعث إلى جعفر فجاءه فأجلسه إلى يمينه وأكرمه غاية الإكرام، وبشَّ في وجهه وحدَّثه ساعة وأهداه هدايا كثيرة في جملتها غلام خادم من خاصة خدمه، وأنبلهم، وأوضحهم وجهًا، وأكملهم ظرفًا، كاتبًا، حاسبًا، لبيبًا، وأن جعفر سرَّ سرورًا كاملًا بذلك، فعجب إسماعيل من مقدرة الرشيد على كتمان ما في نفسه من شدة الحنق والضيق والغضب. وربما تبادر إلى ذهنه أن الرشيد قد صفح وذهب ما يحفظه على جعفر، لولا ما علمه من إطلاق سراح العلوي، والرشيد يكره تلك الشيعة ويخاف منها على ملكه.
ثم علم إسماعيل بعد يومين أن الرشيد خلع على وزيره وعقد له لواء على خراسان، فظنه قد صفا له، فتمنى أن تزول الضغائن بهذه الطريقة، وتعود المياه إلى مجاريها، ولا سيما بعد أن علم برضاء جعفر عن هذه الولاية، وإسراعه في إرسال أعوانه ورجاله يتقدمونه إلى النهروان خارج بغداد، فإنهم ذهبوا وضربوا مضاربهم هناك وأخذوا يتأهبون للرحيل إلى خراسان، والبلد بعيد الشُّقة يحتاج إلى الأحمال والأثقال. فلما تحقق إسماعيل من قرب سَفَر جعفر، رأى أن يزوره ويودعه ويسعى في إزالة ما قد يكون باقيًا في نفس الرشيد بوسيلة خطرت له.
فهذا بعض ما كان من فخامة هذا القصر وأمثاله من قصور البرامكة مما يضيق المقام عن وصفه، ووصف ما فيه من الرياش الفاخر. وقد وصفنا قصر الخلد وقصر الأمين ودار القرار (قصر زبيدة) فقِس عليها.
فعاد جعفر إلى قصره المشار إليه وهو لا يصدق أنه ولي خراسان، وإن كان الرشيد قد وعده بها غير مرة، فتبادر إلى ذهنه أن الخليفة ليس في قلبه غلٌّ عليه، أو أنه ولَّاه خراسان خوفًا منه على دولته إذا ظلَّ في بغداد، فاستقوى نفسه واستضعف الرشيد ونسي خوفه منه. فلما عاد إلى القصر أمر قهرمانه أن يهتم بالرحيل ويوصي قيِّم الجواري والعبيد وكاتبه أن يتهيَّئوا في الغد، ودخل القصر وكان قد أعجب بالخادم الذي أهداه الرشيد إليه؛ لأدبه وفرط جماله، فاصطحبه إلى قاعة ريشها سماوي اللون؛ لاعتقاده أن هذا اللون يشرح الصدر على مذهب القدماء، ودخل الغلام لمؤانسته، ثم جاءه الحاجب يقول: «إن إسماعيل بن يحيى بالباب.»
فنهض جعفر لاستقباله وأدخله حتى أجلسه في صدر مجلسه؛ لأنه كان يجل مقامه ويثق به؛ لاعتقاده بصفاء نيته، وصدق لهجته، ولكنه لاحظ في أثناء حديثه أنه يكتم أمرًا يريد إطلاعه عليه، فصرف من كان في مجلسه من الناس، ولم يبق في الغرفة سواهما، وأقبل جعفر بكليته ليسمع حديثه، فقال إسماعيل: «يا سيدي، أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير، كبيرة المساحة، عظيمة المكانة، فلو تنازلت عن بعض ضِياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده.»
فلما سمع جعفر قوله تبادر إلى ظنه أن الرشيد أوفده للتوسط في ذلك، فزاد استخفافًا به وثقة بنفسه، وغلب عليه الحقد لما يقاسيه من تصرفه معه، وظن أنه قد نجا من قبضته بانتقاله إلى خراسان قبل أن يكشف أمر العباسة. وكان حسن الظن بإسماعيل، وكثيرًا ما ذكر فضل بيته على الدولة بين يديه وإسماعيل يوافقه؛ لأن هذا هو اعتقاده، فلم يمتنع عند سماعه ذلك عن التصريح برأيه في هذا الأمر فقال: «والله — يا إسماعيل — ما أكل الخبز ابن عمك إلا بفضلي، ولا قامت هذه الدولة إلا بنا. أما كفى أني تركته لا يهتم بشيء من أمر نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله أموالًا، ولا زلتُ للأمور الجليلة أدبِّرها حتى يمد عينه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي من بعدي، ودخله حسد بني هاشم وبَغْيهم ودبَّ فيه الطمع. والله لئن سألني شيئًا من ذلك ليكونن وبالًا عليه سريعًا.»
فندم إسماعيل على مجيئه إليه، وخشي أن يترتب على حديثه أمرٌ يبلغ الرشيد فيعده منه إفشاء، فغيَّر الحديث حتى اغتنم فرصة للاستئذان وخرج.