الرشيد وزبيدة
كان الرشيد أكثر كتمانًا لسرِّه مما ظهر لإسماعيل، فمع شدة ثقته به لم يطلعه على كل ما ينويه؛ لأن غضبه لإطلاق سراح ذلك العلوي ظل راسخًا في نفسه، وقد ولى جعفر خراسان وعقد له عليها ليُجرِّبه ويستطلع كُنه قلبه، فأهداه ذلك الخادم الجميل جاسوسًا ينقل إليه أقواله. وكان الخادم المشار إليه واقفًا ساعة زيارة إسماعيل، بحيث يسمع ما دار بينه وبين جعفر، فكتب بذلك إلى الرشيد حالًا، فلما وصل كتابه إليه تحقَّق من سوء نية جعفر، فعاد إلى مخاوفه وكان جالسًا على سريره، فلمَّا قرأ الكتاب هبَّ من مقعده وقد عظُم الأمر عليه، ورأى الفرصة ضيقة لا تأذن بإعمال الفكرة، وخيِّل له أن وزيره إذا خرج من بغداد أفلت من بين يديه، وأهل خراسان طوع إرادته، فيسهل العصيان عليه. فلما تصوَّر ذلك خفق قلبه وأشكل عليه أمره، فأخذ يخطر في الغرفة ذهابًا وإيابًا كأنه أُصيب بجنَّة، وأحس بحاجته إلى من يباحثه في ذلك، ولم يعد يرى أن يخاطب إسماعيل بعد ما علمه من حديثه مع جعفر وصداقته له، وإن كان لا يشك في أمره، فإنه إنما يلتمس المداولة مع مَن يجاريه في عزمه، ولا يعارضه كما فعل إسماعيل.
قضى الرشيد ساعة في التردد حتى كاد يتَّقد غيظًا، فخطر له أن يشاور امرأته زبيدة في الأمر على غير المألوف من شأن المرأة في ذلك العهد، ولكن الرشيد كان يحب زبيدة ويحترمها ويتبرك بمشورتها، ويعلم ما بينها وبين جعفر من العداوة القديمة. فلما خطر له ذلك أحس بارتياح عظيم، وكان الوقت نحو الغروب، فدعا مسرورًا وأمره أن يهيئ له برذونًا ليركب عليه خفية إلى قصرها (دار القرار) ولا يسير معه أحد سواه.
فأعد له البرذون فركبه وقد تلثَّم ومشى مسرور في ركابه، فلما أقبل على الدار لم يعرفه الحرس، ولكنهم عرفوا مسرورًا ففتحوا له فدخل الحديقة، ثم ترجَّل الرشيد وأمر مسرورًا أن يسبقه إلى زبيدة فيخبرها بمجيئه. فلما أخبرها أدركت أنه إنما جاءها في تلك الساعة لأمر هام، فخرجت لاستقباله في القاعة التي استقبلت فيها ابنها محمدًا منذ أيام، وقد أضيئت فيها الشموع فزادتها بهاء. ولبست هي أفخر ثيابها وتطيبت واستقبلته أحسن استقبال، وعليها العقود من الجوهر، وفي رأسها الدبابيس المرصعة، وفي صدرها الحلي المنمقة على أشكال بديعة، حتى خفافها كانت مرصعة، كما علمت، وأقبلتْ ترحب به وتلاطفه. أما هو فمع شدة غضبه لم يتمالك عند رؤيتها من الابتسام، وجلس على السرير وأمسك بيدها وأجلسها إلى جانبه وهو يتشاغل بالنظر إلى ما عليها من أنواع الحلي، وقد زادها ضوء الشموع لمعانًا ورونقًا. أما هي فلحظت ما وراء ذلك الابتسام من الغيظ، ولكنها تجاهلت وعادت إلى الترحاب فقالت: «مرحبًا بأمير المؤمنين. لقد آنسني بلقياه، وشرفني بمجيئه، فهل يأمر بطعام أو شراب؟»
فلم يسعه إلا أن قال: «لم آتكِ للطعام يا ابنة العم.»
فقالت وقد أبرقت عيناها تفرسًا واستطلاعًا: «لخيرٍ جئتَ إن شاء الله.»
فمد يده إلى جيبه وأخرج الكتاب الذي جاءه من جاسوسه ودفعه إليها ولم يتكلم، فتناولته وقرأته وهو يراقب ما يبدو منها، فلما فرغت من قراءته أعادته إليه وهي تضحك، فقال لها: «أراك تضحكين كأنك لم تقرئي الكتاب؟»
قالت: «بلى، قرأته.»
قال: «لا أظنك تدركين ما ينطوي عليه إلا إذا أخبرتك بما ارتكبه هذا الفارسي؟»
فلما سمعت قوله ظنته اطلع على خبر العباسة، فتجاهلت وقالت: «وماذا ارتكب؟»
قال: «إنه أطلق سراح الرجل العلوي الذي لم نقبض عليه إلا بشق النَّفس، ولم نكد نتحقق أننا حبسناه واتقينا شرَّه حتى عاد فأطلق سراحه! وأنت تعلمين من هذا الكتاب أن هذا العبد قد شمخ بأنفه حتى أصبح يهددنا. فمن يضمن أنه إذا سار إلى خراسان لا تحدِّثه نفسه بالتمرد فيعصانا وتخرج خراسان من أيدينا؟ فأشيري عليَّ؛ فإني أتبرك بمشورتك.»
فضحكت زبيدة ضحكة يمازجها التهكم والاستخفاف. ولم يكن أحد من أهل الخافقين يجرؤ على ذلك بين يدي الرشيد سواها؛ لأنه كان يحبها ويحترم رأيها، ولها عليه دالة القرابة وسلطان الحب، فكيف إذا أضيف إليهما نفوذ صاحب الحق؛ لأنها كثيرًا ما نصحتْ له أن يعدل عن الاستسلام لجعفر وأهله وهو لا يطيعها، بل كان يحمل ذلك منها محمل الانتقام منهم. فلما جاءها الآن يشكو عواقب استسلامه، نظرت إليه نظر الظافر وقالت: «مثلك يا أمير المؤمنين مع البرامكة مثل رجل مخمور غريق في بحر عميق، فإن كنت قد تيقظت من سَكرتك، وتخلصت من غَرقك، أخبرتُك بما هو أعظم من ذلك كثيرًا، وإن كنت لا تزال على الحالة الأولى تركتك.»
فأثَّرت لهجتها هذه على الرشيد تأثيرًا عظيمًا، ولولا حرمتها عنده ما أمسك عن الفتك بها، فقال لها: «قد كان ما كان؛ فقولي أي شيء أعظم من هذا؟»
قالت: «إن الأمر الذي سأحدِّثك عنه قد أخفاه عنك وزيرك، وهو أقبح من الخبر الذي عرفت وأشنع.»
فغضب الرشيد وقال: «ويحك! وما هو؟ قولي.»
فأعرضت بوجهها عنه وقالت: «إني أجلُّ نفسي عن أن أخاطبك به. وعليك أن تحضر أرجوان الخادم وتُشدِّد عليه وتوهنه ضربًا فيُنبئك بالخبر.»
فكاد الرشيد يتَّقد غيظًا ونهض سريعًا وصاح: «أرجوان؟ خادم العباسة أختي؟»
قالت: «نعم، خادم العباسة أختك.»
فصاح الرشيد: «أين هو؟ استدعيه.»
فصفقت زبيدة فجاءها أحد الشاكرية الواقفين ببابها، فقالت: «اذهب حالًا وادع لنا أرجوان الخادم من قصر العباسة.»
فأجاب مطيعًا وخرج، وظل الرشيد في انتظاره كأنه على لظى الجمر، وزبيدة جالسة بين يديه، ولم يَفُه أحدهما بكلمة.