كشف السر
وكان أرجوان مشتغلًا بالتأهب للسفر، كما علمت، وقد اطَّلع على سر مولاته وسبب سفرها، وهو حريص على راحتها، متفانٍ في سبيل مرضاتها، فإن أولئك الخصيان إذا طابت سرائرهم كانوا نعمة على مواليهم؛ لأن الرجل منهم إذا أخلص النية نسي نفسه، وانقطع لخدمة مولاه بكل جوارحه. ولعل السبب في ذلك أنهم لا يتزوجون، فلا يعلقون آمالهم بولد أو ابنة، فتنصرف عواطفهم إلى مواليهم يسرون لسرورهم، ويحزنون لحزنهم، لا يبالون بما يقاسونه في سبيل ذلك، ولا يهمهم إن كان مولاهم على حق فيما يعمله أو على باطل. وكان أرجوان من أطيب الناس قلبًا، وأكثرهم تعلقًا بمولاته، ولا سيما العباسة، فإنها نظرًا لما كانت تتمتع به على يده من أسباب الراحة بما يسهله لها من دخول جعفر إلى قصرها وخروجه، فإنها كانت تبالغ في إكرامه، وتتلطف في معاملته، وهو يزداد تفانيًا في خدمتها.
فكان أرجوان في ذلك المساء يعد معدات السفر. وإذا بالخدم يدعونه فخرج، فرأى شاكريًّا ينتظره بالباب، فعرف أنه رسول من زبيدة فقال: «ما وراءك؟»
قال الشاكري: «مولاتنا أم جعفر تستدعيك.»
فقال أرجوان: «الساعة؟»
قال الشاكري: «نعم، في هذه الدقيقة.»
فقال أرجوان: «تمهل ريثما أخبر مولاتي العباسة بذلك.»
فقال الشاكري: «لا داعي إلى إخبارها؛ فإنها كلمة تقولها مولاتنا لك ثم تعود.»
فصدقه أرجوان وخرَج والعباسة لا تعلم.
أما الرشيد فكان قد ملَّ الجلوس في تلك القاعة ساكتًا، فنهض وتمشى في دهليز الدار وهو يرتعد من شدة الغضب ويقول في نفسه: «ماذا عسى أن يكون ذلك الأمر العظيم؟» على أن ترفُّع زبيدة عن التصريح به وإحالة ذلك إلى أرجوان الخصي نبَّهه إلى أنها فضيحة تمس العِرْض.
ثم سمع حركة في الحديقة فعلم أن الشاكري قد عاد، فتقدم حتى رجع إلى القاعة. وكانت أم جعفر قد خرجت منها لئلا تسمع ما يدور بين الرشيد والخصي.
فدخل الشاكري وقال: «إن أرجوان بالباب يا أمير المؤمنين.»
فقال الرشيد: «هاتوا السيف والنطع.»
فأتاه الشاكري بهما، فبسط النطع في الدهليز خارج القاعة، ووضع السيف بجانبه، ثم صاح الرشيد: «أين أرجوان؟ أدْخِلْه.»
ولما سمع أرجوان صوت الرشيد بهذه اللهجة أُسقط في يده فدخل وركبتاه تصطكان من الخوف، ووقف متأدبًا، ولما رأى النطع والسيف لم يعد يستطيع الوقوف من شدة الارتعاش، ولم يجسر على أن يرفع بصره عن الأرض، فأشار الرشيد إلى مسرور بإبعاد الخدم والشاكرية وإغلاق الأبواب حتى لا يعلم أحد بما يدور في هذا الشأن، ثم نظر إلى أرجوان قائلًا: «برئت من المنصور إن لم تصدقني في حديث جعفر لأقتلنَّك.»
فعلم أنه يسأله عن أمر جعفر مع العباسة، فظل ساكتًا، ولو أراد أن يتكلم لم يطعه لسانه من شدة الخوف، فصاح الرشيد: «ما بالك؟ تكلَّم وإلا فهذان هما النطع والسيف.» ثم صاح «مسرور.»
فحضر ذلك الرجل الغليظ القلب بأسرع من لمح البصر، فأشار الرشيد إليه فتناول السيف وانتضاه، ووقف بجانب النطع ينتظر أمر الخليفة، فلما رأى أرجوان ذلك جثا عند قدمي الرشيد وأخذ يقبلهما ويبكي، فتلطف الرشيد في خطابه فقال له بصوت هادئ: «قل الصدق ولا تخف. ما الذي تعلمه من أمر جعفر الوزير وأهل ذلك القصر؟ قل حالًا.»
فقال أرجوان وصوته يكاد يختنق، ولسانه يتلعثم من شدة الخوف والبكاء: «الأمان يا أمير المؤمنين.»
فقال الرشيد: «نعم. لك الأمان إن قلت الصدق، وإلا فإننا سوف نقتلك بهذا السيف. واعلم أننا مطلعون على كل شيء.»
فحدَّثته نفسه أن يحافظ على سر مولاته تفانيًا في سبيل مصلحتها، ولكن الضعف البشري غلب عليه، وهو يغلب على كبار الرجال في مثل هذه الحال، فكيف بعبدٍ خصيٍّ مهما بلغ من إخلاصه؟ على أنه انتحل لنفسه عذرًا لإقراره؛ وذلك أن الرشيد لم يسأله إلا وهو يعلم كل شيء، فإذا أنكر قُتل ولم تنتفع مولاته بقتله. أما إذا اعترف وظل حيًّا فقد يستطيع إنقاذها، أو خدمتها في شيء. مرَّت تلك الخواطر في ذهنه في لحظة واحدة، ولمَّا عمد إلى الإقرار أحس بوخز الضمير لئلا يقع من إقراره ضرر على مولاته العباسة، فأطرق وتشاغل ببلع ريقه ولا ريق في فمه؛ لما أصابه من الجفاف لشدة خوفه وهول موقفه. ولاحظ الرشيد تردده فصاح فيه: «تكلم أو أقتلك.»
فقال أرجوان وصوته يتلجلج: «إن جعفرًا قد تزوج أختك العباسة منذ سبع سنين، وولدت منه ثلاثة بنين؛ أحدهم له ست سنوات، والآخر له خمس سنوات، والثالث عاش سنتين ومات قريبًا، والاثنان الباقيان قد أرسلهما إلى مدينة الرسول، وهي حامل بالرابع.» واختنق صوته.