التردد
أما العباسة فقد كانت في غفلة عن كل ذلك، تهتم بإعداد معدات السفر، وعتبة تبذل جهدها في طمأنتها وتطييب خاطرها، وتمنِّيها بما ترجوه لها من السعادة متى خرجت من بغداد وأقامت في خراسان؛ إذ يكون زوجها صاحب السلطة فيها. وكانت العباسة إذا أعملت فكرتها واستخدمت عقلها رأت أنها تعرض نفسها لخطر عظيم ربما آل إلى سفك الدماء. أما إذا استشارت قلبها وتصورت اجتماعها بحبيبها ولا رقيب عليهما، فيقومان بتربية الولدين في طمأنينة وسلام، فلا يحرمان من حبهما وحنانهما؛ تبرق أسرَّتها وتنبسط نفسها، ثم يعترضها غضب أخيها إذا علم بصنيعها، فتعود إلى الانقباض. وأخيرًا أحست بانفراج كربتها فجأة لخاطر طرق على ذهنها يُغنيها عن هذه المخاوف؛ وذلك أن تكتم اسمها وخبرها في خراسان، فتعيش مع زوجها وولديها متنكرة حتى يقضي الله بما يشاء. وكانت هذه الخواطر تخفف من مخاوفها، ولا سيما إذا تذكرت أرجوان خادمها الأمين؛ لأنه كان من أعظم أسباب تعزيتها.
وبينما هي في تلك الهواجس رأت عتبة تعدو نحوها والبغتة ظاهرة على وجهها، فخفق قلبها وتصاعد الدم إلى محياها. ولم يكن أسرع من وقوع الرعب في ذلك القلب لما تعلمه صاحبته من الأخطار المحدقة بها من كل جانب، ولا سيما في تلك الساعة وهي على ما قدمناه من القلق. فلما رأت عتبة على هذه الصورة صاحت فيها: «ما وراءك؟»
فقالت عتبة: «أرجوان.» وسكتت.
فبغتت العباسة وقالت: «ماذا جرى له؟»
فقالت عتبة: «لا أعلم أين هو؟»
قالت العباسة: «أليس هو في القصر؟ ابحثي عنه؛ لعله في إحدى الغرف يقوم بإعداد معدات السفر.»
فهمَّت عتبة بالخروج وهي لا تنويه، ثم عادت ووقفت متحيرة وأطرقت وهي تتشاغل بحك صدغها، فازدادت العباسة خوفًا وقالت: «ما بالك يا عتبة؟ ماذا جرى لأرجوان؟ قولي أين هو؟»
فقالت عتبة: «لا أدري يا مولاتي، ولكن أخبرني أحد الخدم أنه خرج من القصر و…»
فقطعت العباسة كلامها قائلة: «خرج من القصر؟! أفي مثل هذه الساعة يتركنا؟! وإلى أين ذهب؟»
فقالت عتبة: «لا أعلم.» وغَصَّت بريقها.
فصاحت العباسة: «ويحك! قولي. أين هو؟»
فقالت عتبة: «أظنه ذهب إلى دار القرار»
فصاحت العباسة: «دار القرار. ذهب إلى أم جعفر، وأي شغل له هناك؟»
فقالت عتبة: «أخبروني أن شاكريًّا جاء في طلبه على عجلٍ، ولم يُمهله ريثما يستأذنك.»
فعضت العباسة على شفتيها وأطرقت لحظة، ثم استأنفت السؤال قائلة: «شاكري جاء في طلبه؟ وماذا تظنين سبب ذهابه؟»
فقالت عتبة: «أظنه ذهب لأمر مخيف.»
فقالت العباسة: «أمر مخيف؟ ولماذا؟ قد يكون ذهابه لغرض بسيط!»
قالت عتبة: «بل هو ذهب لأمر مخيف؛ لأن أمير المؤمنين هناك الليلة.»
فضربت العباسة يدًا بيد وصاحت: «أمير المؤمنين هناك؟ ومن أخبرك بذلك؟ قولي. لقد أزعجتني يا عتبة!»
فقالت عتبة: «علمت أنه هناك من جاسوس لنا في قصر الخلد جاءني من ساعة وأخبرني أن الرشيد ركب برذونه وجاء إلى دار القرار ومعه الخادم اللعين مسرور، ولم أنقل لك هذا الخبر في حينه لأنني كنت منشغلة في الاستعداد للسفر، وكنت أحسب مجيئه لأمر خاص به، فلما علمت بذهاب أرجوان على هذه الصورة وقع الرعب في قلبي فجئتُ إليك. إني خائفة من عاقبة ذلك يا سيدتي.»
فأطرقت العباسة وقد أخذ الخوف منها مأخذًا عظيمًا، وعمدت إلى التفكير فيما سمعته، وارتبكت في أمرها فقالت: «ما الذي تخافينه من استدعاء أرجوان وأخي هناك؟! ومع ذلك فنحن على أهبة السفر غدًا.»
قالت عتبة: «صدقت، وأنا قد فرغت من الاستعداد، ومتى رجع أرجوان ورأينا في الأمر ما يدعو إلى سرعة الذهاب خرجنا حالًا. ألا تخرجين في هذا المساء؟»
فقالت العباسة: «ولكن الوزير أمرنا أن ننتظر حتى يأتينا رسوله.»
فقالت عتبة: «سنرى، وسأرسل خصيًّا يتجسس خبر أرجوان ويعود إلينا سريعًا.»
قالت العباسة: «افعلي.» وتحولت عنها إلى الشرفة التي تعودت أن ترى رسول جعفر منها إذا جاءها بخبر، وخرجت عتبة لإرسال الخصي.