العباسة والرشيد
وقفت العباسة في الشرفة ساعة، وعيناها تتطلعان إلى الطريق، والظلام يحجب بصرها، وكلما رأت شبحًا ظنَّت أنه رسول جعفر.
ظلت العباسة على هذه الحال حتى مضى نصف الليل والهواجس تتقاذفها، فلما استبطأت عتبة همَّت أن تبعث في استقدامها، فإذا هي آتية تعدو مهرولة والدمع يتساقط من عينيها، وقد نُبش شعرها، وامتقع لونها، وابيضت شفتاها، فصاحت العباسة: «ما بالك يا عتبة؟ ما لي أراك تبكين؟ ماذا حدث؟»
فأسرعت عتبة وأمسكتها بيدها وجرَّتها إلى حافة الشرفة وهي لا تتمالك عن الارتعاش وقالت: «اذهبي يا سيدتي. انزلي من هذه الشرفة. اطلبي الفرار بنفسك.»
فقالت العباسة: «ماذا جرى؟ هل عاد الجاسوس الذي أرسلتِه؟ ماذا قال؟»
فقالت عتبة: «عاد ولم تنفعنا عودته. انزلي من هذه الشرفة واختبئي في الشارع، وسأرسل إليك من يصحبك إلى مولاي الوزير. انزلي. انزلي.»
فاستغربت العباسة حالها وقالت لها: «ماذا جرى؟ قولي.»
فقالت عتبة وصوتها يرتجف ويتقطع: «أمير المؤمنين، يا مولاتي، أمير المؤمنين.» وأومأت بيدها نحو الداخل.
ففهمت العباسة أن الرشيد جاء إلى القصر، وأدركت أن الأمر بلغ أشده، وأن الساعة آتية لا ريب فيها؛ لأن أخاها لا يأتيها بعد نصف الليل إلا لأمر عظيم، ولا سيما بعد تلك المقدمات، فعظُم عليها الأمر لأول وهلة فوقفت لحظة، ثم غلبت عليها عزة النفس ونسيت ما كانت فيه من الاضطراب، وأكبرت أن تفر على هذه الصورة وهي لا تضمن النجاة، وتحولت رعدتها إلى سكينة، وثاب إليها رشدها، وظلت واقفة مكانها وعتبة تشدُّ بهدب ثوبها وتحرِّضها على الفرار من تلك الشرفة. ثم سمعتْ دبدبة ووقع أقدام كثيرة، فاجتذبتْ ثيابها من عتبة وقالت: «دعيني؛ فإني أحب أن أرى أخي وأسمع قوله.» ثم تراجعت وهمست في أذنها قائلة: «أرسلي رجلًا سريع الخطى يمضي إلى الوزير فيخبره بما جرى لنا ليكون على حذر من أمر نفسه، مخافة أن يصيبه ما أصابنا؛ لأن مجيء أخي بعد منتصف الليل على هذه الصورة يدل على خطر يهددنا جميعًا.»
قالت العباسة ذلك ونزلت من الشرفة نحو الدار، فلقيت الرشيد مارًّا في الدهليز نحوها وعليه ثوب بسيط فوق عباءة واسعة؛ لأنه جاءها متنكرًا. وكان قد ذهب إلى قصره على أن يؤجل أمر العباسة إلى الغد — كما تقدم — فعظم عليه القلق ولم يستطع النوم، فبادر إليها ومعه مسرور؛ خوفًا من أن يبلغها غضبه فتعمد إلى الفرار؛ لعلمه بمن يحيط به من جواسيسها وجواسيس جعفر، ولم يكن يتوقع أن يراها خارج الفراش، فكيف وقد شاهدها تتأهب للسفر؟!
أما العباسة فتجلدت ورحبت بالرشيد قائلة: «لقد شرفني أخي بزيارته.»
فلم يجبها الرشيد، بل ظل ماشيًا إلى مقصورة لها في أحد جوانب القصر تعوَّد أن يجالسها فيها إذا زارها، فتبعته وركبتاها تصطكان وهي تحاول أن تهدِّئ من روعها، وقد ذهب خوفها من الموت؛ لأن توقع المصيبة شر من وقوعها، وكبير النفس إذا تراكمت عليه المخاوف وتحقق من وقوع الخطر تجلَّد ورجع إلى رشده؛ فالعباسة تشددت وقام في نفسها أن تناقش أخاها الحساب، فإذا قُتلت بعد ذلك فلا تندم على الحياة.
وكانت عتبة تمشي في أثرها وهي تبكي وتتمتم، فأشارت إليها العباسة أن تنصرف لأداء المهمة التي كلفتها بها، ورأت العباسة في دهليز الدار مسرورًا الخادم واقفًا، فلما وقع نظره عليها حيَّاها باحترام، فلم ترد عليه التحية لعلمها بفظاظة قلبه — والنساء يكرهن أهل الغلظة والخشونة بلا سبب يدعو إلى الكراهية — وما زالت العباسة تمشي وراء أخيها الرشيد حتى دخل المقصورة، وجلس على المقعد وهو يلتف بالعباءة وعلى رأسه عمامة صغيرة من الوشي. وتوسمت العباسة في وجهه الغضب الشديد حتى كاد الشرر يتطاير من عينيه، فتجاهلت ووقفت أمامه تنتظر ما يبدو منه.
أما هو، فقد أمرها بإغلاق الباب فأغلقته، ووقفت في جرأة لم يعهدها فيها من قبل، فابتدرها قائلًا: «أراك في ثياب السفر يا عباسة، فإلى أين؟»
فقالت العباسة: «إلى حيث لا أرى أخًا، ولا أخاف ظلمًا.»