الفتك
فلما سمع الرشيد قولها وما فيه من الجرأة، لم يعد يصبر على رؤيتها، فانتهرها قائلًا: «أراك تماديت في القحة، وقد أخطأت لأني أفسحت لك مجال القول، وقد نفد صبري وآن لي أن أفرغ منك.» ثم نادى: «مسرور.»
فدخل ذلك الفرغاني الغليظ القلب وحسامه إلى جانبه، فلما رأته العباسة استعاذت بالله من رؤيته، وتحققت من قرب منيتها، فالتفتت إلى الرشيد وقالت: «إني مقتولة الآن لا محالة، وليس من يدفع عني هذا القضاء. فإذا كنت لا تصدقني بدفاعي عن نفسي، فإني أتوسل إليك أن تصدقني في جعفر؛ فإنه لا يستحق القتل، ولا ذنب له في شيء مما تتهمه به، وارفق بالطفلين.» قالت ذلك وخنقتها الدموع.
أما الرشيد فحين دخل مسرور صاح فيه: «هل أوصدت أبواب القصر وحبست أهله؟»
فقال مسرور: «نعم يا مولاي.»
قال الرشيد: «وأين الخادمان والفَعَلة الذين أتيت بهم معك؟»
فقال مسرور: «هم على مقربة منا. هل أدعوهم؟»
قال الرشيد: «ادع الخادمين فقط.»
فخرج مسرور ثم عاد ومعه خادمان يحملان صندوقًا كبيرًا، فلما رأت العباسة ذلك تحققتْ من أنها مقتولة، والتفتت إلى أخيها فرأته قد حوَّل وجهه عنها وأشار إلى مسرور، فهجم عليها بالسيف، فقالت لأخيها: «أنت مُصرٌّ على قتلي؟ ألا تخشى الله فيَّ؟ تقتلني لأني أطعت الله وعصيتك، ولكنكم — معاشر الرجال — تحللون لأنفسكم ما تحرمونه على نسائكم. أمن العدل أن يكون في قصرك مئات من السراري والجواري وتقتلني من أجل رجل تزوجته بشرع الله وسُنَّة رسوله؟ إنني لا أبالي أن أموت ولقد لقيتك وناقشتك الحساب.» ثم خفضت صوتها وقالت: «ولكنني أبالي أن ترتكب ذلك بزوجي العزيز وولديَّ الحبيبين!» ثم ولَّت وجهها نحو طريق الحجاز حيث تظن أن ابنيهما يقيمان، وقد تعودت أن تستنشق ريحهما من تلك الجهة، وقالت: «أستودعتكما الله يا حسن ويا حسين.» ثم حوَّلت وجهها نحو الشماسية كأنها تهمُّ أن تناجي حبيبها، فسبقها مسرور بالسيف فقتلها، والرشيد لا يلتفت إليها، وودَّ أنه لم يشهد قتلها؛ لأنه كان يحبها كثيرًا، وكثرة محبته لها أوجبت شدة نقمته عليها لما اعتقده من خيانتها.
فلما سقطت العباسة ميِّتةً أومأ مسرور إلى الخادمين فوضعاها في الصندوق، ونادى الرشيد: «أين الفعلة؟» فخرج مسرور وعاد بهم — وهم عشرة من الرجال الأشداء يحملون المعاول والزنابيل، وقد حسروا عن سواعدهم، وشمروا عن سيقانهم كأنهم من الأبالسة — فأمرهم أن يحفروا وسط تلك المقصورة، فحفروا حتى بلغوا الماء، فقال: «حسبُكم. هاتوا الصندوق.» فأتوا به وأدلوا به في تلك الحفرة، ثم قال: «ردوا عليه التراب.» ففعلوا وأعادوا الموضع كما كان. ثم أخرجهم وأقفل الباب وأخذ المفتاح معه، وأمر مسرورًا أن يحرس القصر ولا يدع أحدًا يخرج منه أو يدخل إليه، فأوصى الحرس بذلك وشدد عليهم، وقال: «أي إنسان يأتي إلى هذا المكان، اقبضوا عليه.»
ثم قال الرشيد لمسرور: «خذ هؤلاء القوم وأعطهم أجرهم ووافني في القصر.» ففهم مسرور أنه يأمره بقتلهم، فأخذهم ووضعهم في جواليق، وخيَّط عليهم بعد أن أثقلهم بالصخر والحصى، ورماهم في وسط دجلة، وعاد إلى قصر الخلد، فوجد الرشيد هناك وقد طار نومه، فلما أقبل سأله الرشيد: «هل فعلت ما أمرتك به؟»
فقال الرشيد: «خد هذا المفتاح وأَبقِه معك حتى أسألك عنه.» ودفع إليه مفتاح المقصورة.
فتناوله مسرور وقال: «سمعًا وطاعة.»
وكان الصبح قد اقترب، فقال الرشيد: «نحن في صباح الخميس، وهو موعد موكب جعفر الوزير؛ فلا تبعد عني.»
فأومأ مسرور مطيعًا.