عتبة وحارس القصر
أما عتبة فكانت قد أمرتها العباسة ساعة مجيء الرشيد أن تبعث إلى جعفر، فتخبره بما يهدده من الخطر لعله ينجو بنفسه، فمضت إلى غرف الجواري والخدم لتُرسل أحدهم في هذه المهمة، فرأت القصر مُحاطًا بالحرس ولا سبيل إلى الخروج، فعظم عليها الأمر، وذهبت إلى غرفتها ترتعد خوفًا على سيدتها بعد ما شاهدته من مجيء الرشيد على تلك الصورة، وأخذت تفكر فيما دهمها من الأمر، وأيقنت أن سيدتها ستصاب بشرٍّ عظيم، ولم تعلم أنها مقتولة بعد قليل. وما إن تحققت من قتلها حتى بكت وندبتها، وعلمت أن الخطر سيمتد إليها، ولكنها احتقرت حياتها بعد هذا المصاب، وأصبح همُّها أن تنفِّذ وصية سيدتها إلى جعفر؛ لأنها لم تكن تشك في قتله بعد قتْل العباسة، فلا بد من أن تُنبهه إلى ذلك لينجو بنفسه، فأعملت فكرتها في وسيلة تُنذره بها، فرأت السبل مقفلة في وجهها، فزادت حيرتها وطلع الفجر وهي تطوف من غرفة إلى غرفة وهي تبكي وتندب.
ثم رأت أن البكاء لا يجديها نفعًا، وأحست أن خير ما تفعله في تلك الساعة أن تسعى في الخروج من القصر، فإذا خرجت نجتْ من القتل وأبلغت الخبر إلى جعفر، وفي نجاته تعزية لها على مصابها في سيدتها، وانتقل فكرها فجأة إلى أبي العتاهية؛ لاعتقادها أنه سبب هذه المصائب كلها، فلعنته، وتذكَّرت ما كان مِن حبِّه لها، وكيف طلبها من الخليفة وأبت المجيء إليه، فخُيِّل لها أنها إذا وُفِّقت إلى مقابلته فلربما استرضته بإظهار حبِّها له، وهو لا يعجز عن إخراجها من ذلك القصر؛ لما تعلمه من دالة الشعراء ونفوذهم، فإذا خرجت لا تعدم وسيلة في الوصول إلى جعفر، وتذكرت رغبة أبي العتاهية في المال — وهو كثير بين يديها — فإذا لم تستعطفه بالحب أغرته بالمال. ولما تصورت ذلك أحست بارتياح، ولكنها ما لبثتْ أن عادت إلى الانقباض؛ لأنها لا تعلم أين هو أبو العتاهية في تلك الساعة، ولا كيف تصل إليه.
ثم خطر لها أن المال يذلل الصعاب، ويلين أغلظ القلوب، فعزمت على بذله في أقرب الأسباب، فأخرجت عقدًا من الجوهر كان في جملة ما جمعته من حلي مولاتها للسفر، وتنكَّرت في ثوب غريب، وتقنَّعت بخمارها، ولبست خفها، وخرجت تطلب باب القصر، وهي تتجاهل الأوامر بالاحتفاظ به مغلقًا. فلما بلغت الباب ووجدته مقفلًا قرعته ونادت البواب الذي كان عليه من عهد مولاتها العباسة، فلم يجبها أحد، فقرعته ثانية، ففُتحتِ الخوخة وأطل منها رجل عرفت أنه حارس من جند الرشيد، فقالت له: «أين البواب؟ ما بالكم أقفلتم علينا الأبواب؟»
فأقفل الحارس الخوخة وتحوَّل وهو يقول: «ادخلي. لا سبيل إلى الخروج.»
فقالت عتبة: «ويلاه! ولماذا؟»
فصاح فيها الحارس: «أدخلي ولا تكثري من الكلام؛ فإن القصر مقفل بأمر أمير المؤمنين.»
فصفقت عتبة وصاحت: «ما الذي جاء بي إليه؟»
فأدرك الحارس من ذلك أنها ليست من أهل القصر، ففتح الخوخة ونظر إليها، فرآها تبالغ في التقنع وهي تقول: «بالله عليك إلا فتحتَ لي وأطلقت سبيلي؛ فإني لم أرتكب ذنبًا، ولا أنا من أهل هذا القصر.»
فقال الحارس: «وما شأنك؟»
قالت عتبة: «جئت البارحة في مهمة إلى مولاتنا العباسة، وخيَّم الظلام قبل الفراغ منها، فقضيتُ ليلتي مع بعض الجواري وأنا عازمة على الخروج إلى سيدي لئلا يستبطئني ويسيء بي الظن.»
فقال الحارس: «ومن هو سيدك؟»
قالت عتبة: «سيدي أبو العتاهية؛ شاعر أمير المؤمنين.»
فلما سمع الحارس اسمه استأنس به لشهرته. والشعراء يومئذ زينة مجالس الخلفاء.
فقال الحارس: «وما الذي جئتِ به مِن قِبَله؟»
فأظهرت عتبة أنها تخشى التصريح بذلك وظلت ساكتة.
فقال الحارس: «ما بالك لا تجيبينني؟»
قالت عتبة: «جئت من قِبَله في مهمة إلى مولاتنا العباسة و… و…؛ فافتح لي ولا تُعطِّلني، حفظك الله وأبقاك.»
فلم يشك الحارس في أنها تقول الصدق، فأراد العبث بها فقال: «أتيتِ في مهمة سرية؟ إذن امكثي في مكانك واحفظي سرك معك.» قال ذلك وأغلق الخوخة.
فصاحت عتبة: «أستحلفك بالله أن تفتح لي ولا تضايقني؛ فقد كفاني تأخري الليلة الماضية، ولا آمن من شر أتوقَّعه بسببه، فكيف إذا تأخرت الليلة أيضًا؟!»
فعاد الحارس وفتح الخوخة وقال لها: «لا أطلق سراحك إلا إذا أخبرتني عن السر الذي جئت به.»
قالت عتبة: «أراك تعبث بي وقلبك مستريح وأنا قلقة، فإذا لم تصدق قولي فإني أستشهد بمولاتي العباسة عليه. ألا تصدقها؟»
فزاد الحارس تظاهرها بالسذاجة اعتقادًا بصدقها، ولكنه تذكر تشديد الرشيد عليه، فخاف أن يخرجها ويتحمل تبعة ذلك، فقال لها: «هذا لا يهمني؛ فإني مأمور بمنع أهل هذا القصر من الخروج، والسلام.» وأراد إقفال الخوخة، فأمسكتها عتبة منه وحاولت فتحها وهي تقول: «وإذا أخبرتك بسبب مجيئي، فهل تطلق سراحي؟»
قال الحارس: «وما هو؟ قولي.»
فقالت عتبة وهي تخفض صوتها: «أظنُّك تعلم أن أبا العتاهية، أن أبا العتاهية أبطل نظم الشعر.»
قال الحارس: «نعم، أعلم ذلك.»
فقالت عتبة: «وأظنك تعلم أنه يحب المال.»
قال الحارس: «إنه مشهور بذلك.»
فقالت عتبة: «فإذا أراد المال نظم القصائد سرًّا لبعض الأمراء، فنظم أمس قصيدة في مدح العباسة وبعثها معي، فحملتها إليها مساء أمس، فدفعت إليَّ الجائزة وأكرمتني بالمبيت هنا. ليتها لم تفعل.» وهزت رأسها.
فقال الحارس: «وما هي تلك الجائزة؟»
فتظاهرت عتبة بالخوف من التصريح وتوقفت عن الجواب، فابتدرها الحارس قائلًا: «لِمَ لا تقولين؟»
فقالت عتبة بلهجة الخائف المستعطف: «بلى.» ومدت يدها إلى جيبها فأخرجت العقد، فأبرق بين أناملها كالشمس، فمد الحارس يده ليتناوله، فأسرعت في إرجاعه إلى جيبها، فقال لها الحارس: «أريني إياه.»
فدفعته عتبة إليه وهي تظهر خوفها عليه، فتناوله وأخذ يقلِّبه ويعجب به وهو يقول لها: «إنه عقد ثمين، ولكن هل تظنين أني أخرجك بهذا العقد وأنا لا أملك جوهرة من جواهره؟»
فقالت عتبة وهي ضاجرة: «يهمني الخروج والسلام.»
فلما رآها الحارس تتلهف على الخروج قال لها: «إذا شئت الخروج فاخرجي وحدك!»
فقالت عتبة للحارس: «وماذا أقول لأبي العتاهية؟»
قال الحارس: «قولي له إن مولاتك العباسة لم تعطك شيئًا.» فسرَّها قبوله ذلك، ولكنها قالت له: «ولكنه لا يصدقني، وأرى أن أُنصف بينكما، فأعطيك نصف الجائزة وأحمل إليه نصفها الآخر.»
ففرح الحارس بذلك وبادر في الحال فقطع العقد وأخذ معظمه، ودفع إليها بالباقي وقال لها: «يكفيك هذا القدر؛ فإذا أعجبك ذلك فأخرجي، وإلا فادخلي.»
فأطرقت عتبة لحظة ثم قالت له: «بل أخرج، وأحسب أنها لم تعطني شيئًا.»
فسرَّ الحارس لفوزه بتلك الجواهر وفتح الباب وقال لها: «اخرجي، ولكن احذري أن تخبري أحدًا بخروجك؛ فإنك تُقتلين لا محالة.»
فخرجت عتبة وهي لا تصدق أنها نجتْ، وقلبها يكاد يطير فرحًا بإطلاق سراحها من ذلك الأسر، وأملًا في نجاة جعفر. وكان الحارس أكثر فرحًا منها. وكانت الشمس قد أشرقت، فأسرعت لا تلوي على شيء، واكترتْ حمارًا وركبت قاصدة قصر جعفر بباب الشماسية.