الدعوة
وكذلك أبو زكار الأعمى، فإن عَمَاه كان يحفِّز جلساءه على التصريح بأكثر مما يصرحون به أمام سواه، فكان على بيِّنة بما يحيط بجعفر من الخطر، وربما ألمع إلى ذلك في بعض غنائه فلا يلاحظه غير العارفين. فلما دعاه إلى الغناء في ذلك اليوم غنَّاه:
فلما سمع الحضور قوله أدركوا مراده ما عدا جعفرًا. وما أتم أبو زكار غناءه حتى فُتح الباب ودخل الحاجب، فقال له جعفر: «ما بالك؟»
فقال الحاجب: «إن مسرورًا خادم أمير المؤمنين بالباب.»
فلما سمع اسمه أجفل؛ لأنه كان يبغضه ويستثقل ظله، لكنه لم يسعه إلا الإذن له في الدخول، فدخل، فصاح فيه جعفر: «ما وراءك؟»
فقال مسرور: «أمير المؤمنين يستدعيك يا سيدي.»
فانزعج جعفر من تلك الدعوة وقال له: «ويلك يا مسرور! أنا خرجت من عنده في هذه الساعة! فما الخبر؟»
فقال مسرور: «وردت كُتب من خراسان يريد منك أن تقرأها له.»
فاطمأن خاطر جعفر قليلًا، فنهض وهو يقول في نفسه: «كنت أحسب مقابلتنا في هذا الصباح آخر مرة ألاقي فيها هذا الرجل في بغداد، فإذا أنا مضطر للقائه مرة أخرى. لا حول ولا قوة إلا بالله.»
ثم دعا بثيابه وسواده وقلنسوته فلبسها وتقلَّد سيفه، وأمر أن تُعد له الركائب، وخرج وانفض المجلس. وفيما هو خارج من القاعة ومسرور بين يديه جاءه الحاجب ووقف بحيث يراه ويفهم أنه يريد مخاطبته، فتحول جعفر إليه وسأله عن غرضه فقال: «إن عتبة؛ جارية مولاتنا العباسة، في دار النساء تطلب أن تراك.»
فخطر له أن عتبة جاءته من عند مولاتها العباسة للتداول في شأن السفر، فقال: «قل لها إني راجع الساعة فأخاطبها بما تريد.»
فقال الحاجب: «إنها تطلب مقابلتك حالًا.»
فخطر له أن يقابلها ويسألها عن شأنها، ولكنه خشي أن يلاحظ مسرور ذلك فيبلغه إلى الرشيد، فوقف برهة يتردد في الأمر، ثم تذكَّر ريحان، وأنه يعلم بكل ما يتعلق بالسفر، فقال للحاجب: «دعها تقابل غلامنا ريحان وتطلب ما تريده؛ فهو مفوض من قِبلِنا.»
فأشار مطيعًا، وخرج جعفر حتى بلغ باحة القصر، فركب في موكبه من الفرسان والغلمان، وساروا يطلبون قصر الخلد يتقدمهم مسرور على فرس، ويتوسط الموكب جعفر بسواده وقلنسوته، وحوله الفرسان من نخبة رجاله، وأكثرهم من الفُرس، وكلهم يَفْدُونه بأرواحهم، وكان إذا ركب اعتزَّ بهم، فقطعوا الشماسية حتى أتوا الجسر، فتخطَّوه وأقبلوا على الميدان أمام قصر الخلد، فلما وصلوا باب القصر ترجَّل مسرور، وأشار إلى فرسان الموكب أن يقفوا هناك، فوقفوا وهم في غفلة عمَّا يريد، فدخل مسرور وجعفر والغلمان في ركابه، ولم يفطن لاشتغال خاطره بأمر تلك الدعوة. ولما دخلوا أومأ مسرور سرًّا إلى الحراس فأغلقوا الباب، وكانوا قد أُحيطوا علمًا بذلك قبل ذهابه، ثم دخلوا الباب الثاني فاستبقى الغلمان خارجه، ودخل جعفر فأقفل الباب وراءه. ولما دخل الباب الثالث التفت فإذا هو وحده ولم يبقَ معه أحد من رجاله، فندِم على ركوبه في تلك الساعة وقد تعذَّر عليه الرجوع، ورأى في فناء القصر قبة تركية — كان قد نصبها مسرور هناك بأمر الرشيد — وحولها أربعون غلامًا من السودان، فظن أن الرشيد ينتظره فيها، فدخلها فلم يجد أحدًا، وإنما شاهد في أرضها سيفًا ونطعًا، فأيقن بالهلاك، ووقف وركبتاه ترتعدان، وغلب عليه الخوف، وصغرت نفسه؛ لعلمه بوحشية مسرور، وأنه لو أراد مقاومته لا يقوى عليه. وهبْ أنه غلَبه فلا فائدة من فوزه وهو محصور في تلك الدار، فعمد إلى الملاينة، فقال لمسرور: «ما الخبر يا أخي؟»
فضحك مسرور في استخفافٍ وقال: «أنا الساعة أخوك، وفي منزلك تقول لي: ويلك! أنت تدري ما القضية، وما كان الله ليُهمِلك ولا يغفلك؛ فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك وحمل رأسك إليه الساعة.»
فلما سمع جعفر قول مسرور بهذه الصراحة اقشعرَّ بدنه، وكاد الدم يجمد في عروقه، وغلب عليه صغر النفس. ولعل ذلك الضعف طرأ عليه من الشرب — ويتوقع القارئ أن يرى من جعفر الوزير ثباتًا ورباطة جأش في هذا الموقف شأن الرجل الكبير — ولكن الانغماس في الترف والخمر يضعف القلوب، ويوهن العزيمة، فلا صبر لصاحبهما على التجلُّد إذا تحقق من وقوع الخطر، ولا سيما ساعة خروجه من مجلس الشراب، كما كان حال جعفر في ذلك الصباح — فلما سمع مسرورًا يخاطبه بهذه اللهجة الشديدة لم يتمالك عن الترامي عند قدميه، وأخذ يقبلهما ويقول: «يا أخي مسرور، أنت تعلم مدى إكرامي لك دون جميع الغلمان والحاشية، وأن حوائجك عندي مقضية في سائر الأوقات، وأنت تعرف مكانتي من أمير المؤمنين، وما يفضي به إليَّ من الأسرار، ولعلهم بلَّغوه عني باطلًا، وهذه مائة ألف دينار أحضرها لك الساعة قبل أن أقوم من موضعي هذا، واتركني أهيم على وجهي.»
فقال مسرور: «لا سبيل إلى ذلك أبدًا.»
قال جعفر: «احملني إلى أمير المؤمنين وأوقفني بين يديه؛ فلعله إذا وقع نظره عليَّ تتداركه الرحمة فيصفح عني.»
فهز مسرور رأسه وقال: «ما من سبيل إلى ذلك أبدًا، ولا يمكنني مراجعته، وقد علمت ألا وسيلة إلى بقائك على قيد الحياة بأية حال.»
قال جعفر: «أمهلني ساعة وارجع إليه، وقل له إنك فرغت مما أمرك به، واسمع ما يقول، وعُدْ فافعل ما تريد؛ فإن فعلت ذلك وحصلت لي السلامة، فإني أُشهد الله وملائكته أني أشاطرك نعمتي مما ملكته يدي، وأجعلك أمير الجيش، وأملكك أمر الدنيا.»
فلما سمع مسرور هذه الوعود ارتاحت نفسه إليها، وخطر في باله أن الرشيد ربما أمر بالقتل في ساعة غضبه، فإذا سكن غضبه يغير رأيه، ويعفو عنه، فيكتسب هو هذه الأموال، ويتمتع بهذا المنصب، فأطرق. فلما رآه مطرقًا طمع في الحياة، ولبث ينتظر ما يبدو منه، فإذا هو يقول: «ربما يكون ذلك.» ومد يده إليه فحلَّ سيفه ومنطقته وأخذهما، وعهد به إلى الحراس الواقفين هناك، وأوصاهم بحراسته وخرج.
فلما خلا جعفر إلى نفسه تلفَّت فلم ير غير النطع والسيف فرجع إلى رشده. ومع ما يغلب على المرء من الأمل في الحياة مهما بلغ من تعرضه للخطر، فجعفر لم يكن يرجو نجاة؛ لما يعلمه من الأسباب التي بعثت الرشيد على قتله بعد ما كان يدور بينهما من المداجاة والمخادعة، وأيقن في تلك الساعة أن الرشيد يعلم بصلته بالعباسة، ثم تذكر مجيء عتبة بتلك العجلة، فندم على استمهالها ريثما يعود، وخطر له أن تكون قد جاءت بتحذير أو تنبيه كان ينفعه لو اطلع عليه قبل خروجه، فزادت مصيبته، وأصبح كأنه يرى الموت رأي العين، وهاجت أشجانه فتمثلت له العباسة كما فارقها للمرة الأخيرة وقد تواعدا على الفرار إلى خراسان، وتذكر ما كان يرجوه من النجاة بها وبولديه لو سافر بالأمس بغير وداع، أو لو قابل عتبة قبل خروجه، فضاق صدره وتجسمت مصيبته فدهمه البكاء، وود لو أنه يرى العباسة قبل موته ويقبِّل طفليه قبل هذا الفراق الأبدي، فأخذ في البكاء وجعل يخاطب نفسه قائلًا: «وا حسرتاه عليك أيتها الحبيبة! بل وا لهفي على قبلة من ولديَّ! قضيت العمر أتحرَّق على ساعة ألاعبهما فيها كما يلاعب الأب أولاده، فلما ظننت ذلك قريبًا فإذا هو بعيد عني بُعد الأبدية، وأنت يا زوجتي بشرع الله — وإن ادَّعى أخوك الرشيد خيانتنا — لقد تحمَّلت خطر الموت من أجلي، وعرضت نفسك لغضب هذا الرجل المستبد حبًّا لي. نعم، لم يحملك على ذلك غير الحب الصادق، ولولاه لكنتِ في نعمة وسعادة؛ لأن بني هاشم جميعًا يتمنون رضاك. ماذا عسى أن يكون حالك إذا عرف أخوك الرشيد بأمرنا؟ فإنه يقتلك لا محالة. إذا لم يكن قد قتلك الآن. هل جاءت عتبة لتخبرني بقتلك، وتحذرني من مثله؛ رفقًا منك بحبيبك أن يصيبه ما أصابك؟ ربما كان ذلك. وأنت جديرة بهذه الخصال؛ فقد عرفتُ تفانيك في سبيل حبي غير مرة. فإذا كنت قد قضيتِ نحبك قبلي، فأنا نادم على طلب البقاء، بل أنا راغب في اللحاق بك، وإذا كنت لا تزالين على قيد الحياة، فأنت لاحقة بي لا محالة؛ لأن أخاك لم يسرع إلى الفتك بي إلا وقد اطلع على ما يظنه خيانة، والله يعلم أننا إنما أطعنا به الشرع وشروط الحب.» وسكت لحظة ريثما يبلع ريقه ويمسح دموعه ثم قال: «وولدانا؟ يا حسن ويا حسين. أين أنتما الآن؟ هل تعلمان بما حلَّ بوالديكما على يد ذلك الخال الظالم؟ آه من استبداده وقسوة قلبه.» قال ذلك وغصَّ بريقه، وأحس باختناق صوته، وإذا بالمفتاح يعالج الباب، فأجفل وانتبه لنفسه، فسكت وبصره شاخص نحو الباب، حتى إذا فتح دخل مسرور ووجهه مقطب، فعلم أنه لم ينجح في مهمته، وهمَّ أن يخاطبه فسمعه يقول: «ذهبت إلى أمير المؤمنين، فلما رآني سألني عنك، فقلت له قد أنفذت أمرك فيه.» فقال: «ائتني حالًا برأسه.»
فلما سمع جعفر قوله تجلد وقال له: «افعل ما بدا لك، ولكنني أسألك سؤالًا واحدًا أصدقني في الإجابة عنه وأنا في آخر لحظة من لحظات الحياة.»
فقال مسرور: «وما ذلك؟»
قال جعفر: «ماذا جرى للعباسة؟ قل الصدق ولا تخفْ من وشاية؛ فإن سامعك مقتول.»
فقال مسرور: «إن العباسة قتلت.»
فصاح جعفر: «قُتلتْ! اقتلني. عجِّل بقتلي؛ لا رغبة لي في الحياة.»
ولم يتم جعفر كلامه حتى ضربه مسرور بالسيف على عنقه فأطار رأسه، فحمَل الرأس وهو ينقط دمًا وذهب به إلى الرشيد.