قُضي الأمر
فأدرك الرشيد أنه جاءه بشأن جعفر، وعجب لاطلاعه على أمره مع مبالغته في الكتمان، كما علمت. وإنما عرف إسماعيل ذلك من ريحان — غلام جعفر — بعد مجيء عتبة بالخبر في ذلك الصباح؛ إذ حينما رفض جعفر مقابلتها وأحالها إلى ريحان، قصَّت عليه الخبر — وكان الموكب قد مشى — فلم يجرؤ أن يتبعه لئلا تبدو الشبهة لمسرور، فوقع في حيرة وتشاور مع عتبة. ونظرًا لما يعلمانه من صداقة إسماعيل وجعفر، أجمعا على الذهاب إليه، فأسرع ريحان إلى قصره، فوجده جالسًا في الحديقة، فأخبره بما جرى، واستحثه على التوسط لدى الرشيد، فتعجَّل في لبس ثيابه، وجاء إلى قصر الخلد فمنعه الحراس من الدخول في بادئ الأمر، ثم أذنوا له فدخل وهو لا يعلم بقتل جعفر — ولم يخطر له أن يعجِّل الرشيد بقتله إلى هذا الحد — وسأل عن الرشيد فقيل له إنه منفرد في دار الخاصة، فجاء ودخل، كما تقدم.
فلما سمع الرشيد قوله وعلم أنه يشفع إليه في جعفر تجاهل وقال: «إن شفاعتك مقبولة، وأمرك نافذ ولو على ولي العهد.»
فاستبشر إسماعيل وقال: «أطال الله بقاء أمير المؤمنين وحفظ أنجاله، وإنما أنا أشفع إليك في وزيرك جعفر.»
فهز الرشيد رأسه وقال: «جئت متأخرًا يا ابن العم؛ فقد نفذ القضاء.»
فلما سمع إسماعيل قوله أجفل وتراجع وقال: «قتلت جعفرًا؟»
فقال الرشيد: «قتلته.»
قال إسماعيل: «قتلته يا أمير المؤمنين؟ قتلت وزيرك وصاحب خاتمك ومدبِّر دولتك؟»
قال الرشيد: «لا سبيل إلى إطالة القول يا إسماعيل. إن وزيري هذا قد قُتل بخيانته، ولو علمت ما ارتكبه وأنت هاشمي لحكمت عليه بالقتل.»
فحسبه إسماعيل يشير إلى ما يتهمونه به من حب الشيعة العلوية بإطلاقه ذلك العلوي، وقد تحدَّثا عن ذلك من عهد غير بعيد. وكان إسماعيل يعتقد أنه لا يستحق القتل لاطِّلاعه على سعي أعدائه ووشايتهم به، فقال: «ألم يكن أمير المؤمنين قد عزم على إبعاده إلى خراسان ثم يفكر في شأنه؟»
فقال الرشيد: «قد كنت عزمت على ذلك، ثم رأيت أن التفكير في أمره وهو في قبضتنا أقرب إلى صيانة ملكنا، ونيل مرادنا؛ لأنه إذا سار إلى خراسان كان في أهله وأحزابه، وأهل خراسان لا يزالون ناقمين علينا منذ قتل جدي المنصور أميرهم أبا مسلم. نعم إنهم يعجزون عن مناوأتنا، ولكنهم يشغلوننا، فمن سداد الرأي أن نتدارك الخطر قبل وقوعه.»
فقال إسماعيل: «رأي أمير المؤمنين أصوب، ولكن حسَّاد جعفر كثيرون، وقد وشوا به، وأكثروا ذنوبه، وبالغوا في الطعن عليه، وأمير المؤمنين حريص على الخلافة لبني هاشم، فعجَّل بقتله، وربما كان بقاؤه أنفع لمصلحة الدولة، ولكن قضي الأمر.»
فلما سمع الرشيد تعريض إسماعيل بذكر الواشين أراد أن يسترق منه أخبارهم؛ لينتقم منهم أو يجتنب أذاهم، فقال له: «وهل أنت على يقين من ذلك يا إسماعيل؟ ومَن هم الواشون؟»
فهمَّ إسماعيل أن يُطلعه على ما يعلمه من سعي ابن الهادي والفضل بن الربيع وغيرهما، ولكنه أمسك لسانه، وأعمل فكرته، فرأى أن التصريح يزيد الخرق اتساعًا، ويزيد الدولة ضعفًا وارتباكًا، وهو حريص على صيانتها، كما علمت، فلو كان جعفر حيًّا لكان الخطر من التصريح قليلًا. أما وقد قُتل فأصبح ذكر الواشين والإقرار بأقوالهم وأعمالهم وشاية أخرى، فندم على ما بدر منه، وعزم على كتمان ذلك فقال: «إذا كنت قد قتلت جعفرًا، فإنها إحدى المصيبتين، فإذا ذكرت لك غيره جررت الدولة إلى مصيبة أخرى؛ فلْيُعْفني أمير المؤمنين من ذلك، وهو يعلم رغبتي في سلامة هذه الدولة. وقد خالفتني فيما أردته من تبرئة جعفر، فلا تكلفني الوشاية بآخرين، ولو علمتُ أن في ذلك خدمة نافعة ما كتمته، فأطعني في هذا واعلم أني إنما أكتمه لخير بني هاشم، كما كان تصريحي ببراءة جعفر لنفس هذا السبب. وأرجو من الرشيد ألا يعدَّ كتماني وقاحة. وإذا عدَّه كذلك، فله أن ينتقم بما يشاء؛ إني لا أبخل بروحي في سبيل هذا الكتمان.»
وكان الرشيد يجلُّ إسماعيل، ويعتقد في إخلاصه وصدق نيته، ويضن بحياته، فقال له: «إن حياتك عزيزة علينا يا عمَّاه، وحاشا لله أن نسيء الظن بك، وهبْ أنك عصيتنا، فإنما تعصانا لتنفعنا، وأما جعفر فلو كان ذنبه مقصورًا على ما علمت من تعرُّضه للدولة، ونصرته للشيعة؛ لصبرنا عليه، واحتطنا له، كما صبرنا فيما مضى؛ لأن انحيازه للشيعة لم يكن جديدًا علينا، ولكنه ارتكب ما هو أفظع من ذلك كثيرًا. ارتكب ما لو علمته لسبقتني إلى قتله بسببه، ولا تسألني عما ارتكبه؛ فإني حريص على كتمانه، ولو علمت أن يميني علمت به لقطعتها.» قال ذلك وقد اشتد غضبه، وزاد انقباض أساريره، وارتجفت شفتاه حتى رقصت لحيته، ثم هز رأسه وقال: «آه! آه! لو أستطيع قتله مرة أخرى لفعلت.»
فتهيب إسماعيل من غضب الرشيد، ولم يفته الأمر الذي سمعه يلمح إليه؛ فإن خبر العباسة بلغه على علاته وهو على خلاف رأيه، فتجاهل، ولو رأى مجالًا للكلام ما تكلَّم لئلا يجر الكلام إلى الجدال بلا فائدة؛ لعلمه بشدة غيرة الرشيد على العِرْض، وحرْصه على شرف بني هاشم، فظل ساكتًا.
ثم سمعا الآذان لصلاة الظهر، فنهض الرشيد، ونهض إسماعيل واستأذن وخرج.