الحسن والحسين
أما الرشيد فأمر صاحب وضوئه فجاءه بالماء فتوضأ وخرج للصلاة في المسجد، فصلى بالناس جماعة ورجع إلى داره، فأنفذ بعض خاصته للقبض على والد جعفر وأخيه وجميع أولاده، وعلى قصورهم ودورهم، واستباح ما فيها، فاستولى رجاله على ما وجدوه هناك من الجواري، واستبقوهم لخدمتهم، إلا ريحان وعتبة؛ فإنهما فضَّلا اللحاق بمن قُتل، فقاوما بعض الذين جاءوا للنهب فقتلوهما، ووجه الرشيد مسرورًا إلى معسكر جعفر في النهروان، فأخذ جميع ما فيه من مضارب وسلاح وخيام وغير ذلك.
وأصبح الرشيد يوم السبت وقد قتل من البرامكة وحاشيتهم ألف إنسان، وترك من بقي منهم لا يرجع إلى وطنه، وحبس يحيى بن خالد؛ والد جعفر، والفضل بن يحيى؛ أخاه، في مطمورة، وأمر بصلب جثة جعفر على جسر بغداد، فصُلِبَت.
فلما اطمأن خاطره ذهب إلى زبيدة زوجته وأخبرها بما كان، فاستحسنت ذلك، ولكنها تذكرت الصبيين فقالت له: «لقد فعلت فعل أهل الحزم، وأنقذت الخلافة من الأعداء، ولكن ما الذي فعلته بالصبيين؟»
فأطرق الرشيد وأعمل فكرته، فابتدرته زبيدة قائلة: «إذا أردت محو العار الذي لحقنا، فبادر إلى إزالة أثره؛ لأن بقاء الصبيين وصمة باقية.»
فقال الرشيد: «وهل تعلمين مقرهما؟»
قالت زبيدة: «إذا شئت دللتُ خادمك على مكانهما.»
فقال الرشيد: «أخبري مسرورًا بذلك.»
فدلته زبيدة على مخبئهما، ومضى الرشيد إلى قصره وجلس ينتظر مجيئهما.
وكان الغلامان قد خبَّأهما الفضل بن الربيع على يد أبي العتاهية في بيت على شاطئ دجلة، وأوقف عليهما الحراس، فذهب مسرور إليهما وحملهما إلى قصر الخلد بعد أن قتل رياشًا وبرة؛ الخادمين القائمين على تربيتهما.
ولما جاء مسرور بالغلامين أدخلهما على الرشيد، وكان جالسًا على وسادة وحده.
فدخل الغلامان وهم يدرجان ويضحكان، ووجهاهما يطفحان سرورًا وسذاجة وطهارة، يحسبان أن مسرورًا جاء بهما إلى فرجة أو وليمة، فلما رأى الرشيد جمالهما انقبضت نفسه أسفًا على ما سينالهما من الأذى؛ لعلمه بأنهما بريئان طاهران، ولكنه كان قد صمم على محو أثر تلك الخيانة من الوجود، فتجلد ودعاهما إليه، فأسرعا وتراميا عليه وهما يلتفتان لمشاهدة ما في تلك القاعة من الرياش الفاخر، والألوان الزاهية.
فسأل الرشيد أكبرهما: «ما اسمك يا قرة عيني؟»
قال: «الحسن.»
فقال الرشيد للصغير: «وما اسمك يا حبيبي؟»
قال: «الحسين.»
فأعجب الرشيد بمنطقهما؛ لأن لغتهما وفصاحتهما هاشمية، ثم أعمل فكرته فيما هو عازم عليه من الأمر الخطير، وهو والد يحب أولاده، ولو لم يكن والدًا لكان الإقدام على ذلك العمل أسهل عليه؛ لأن الحنان لا ينضج ويبلغ أشده إلا في قلوب الوالدين، والوالد لا يقصر حنانه على أولاده، بل هو يتعود ذلك حتى يحن على كل ولد. وزد على ذلك أن في الغلامين دمًا هاشميًّا، والقرابة من أسباب العطف، فعظم الأمر على الرشيد، ولبث حينًا يفكر والغلامان يلاعبانه، ويعبثان بلحيته وطوقه، حتى كاد الحنان يغلب عليه، فتذكر ما هو فيه، وخشي غلبة الضعف، فعاد إلى الحزم وسرعة الفتك لئلا يحول بينه وبين ذلك شفيع، فعمد إلى قتلهما، على ألا يرى ذلك بعينيه، ولا يسمعه بأذنيه، فتصادمت عواطفه، وجاشت أشجانه، فغلب عليه البكاء وأغرق فيه حتى منعه من الكلام، والغلامان يتعجبان لبكائه. أما هو فنظر إليهما والدمع يترقرق في عينيه وقال: «يعز علي حسنكما وجمالكما. لا رحم الله من ظلمكما.» ثم قال: «يا مسرور، أين المفتاح الذي دفعته إليك، وأمرتك بحفظه؟»
فقال مسرور: «هو حاضر يا أمير المؤمنين.»
قال الرشيد: «فأتني به.»
ثم دعا الرشيد بجماعة من الغلمان وأمرهم أن يذهبوا مع مسرور إلى تلك الحجرة، ويحفروا فيها حفرة عميقة، وأومأ إلى مسرور بأن يقتل الغلامين ويدفنهما في تلك الحجرة. أومأ بذلك وهو يبكي بكاءً شديدًا، حتى ظن مسرور أنه رحمهما، ولا يلبث أن يعدل عن قتلهما، فإذا هو قد مسح عينيه ونهض، وأشار إلى مسرور بأن يمشي، فأطاعه ومضى بهما إلى تلك الحجرة، ثم عاد وأخبر الرشيد بأنه قتلهما ودفنهما هناك، وقتل الرجال الذين ساعدوه على ذلك.»