خائنة الأعين
١
لقد سافرَتْ إلى الإسكندرية خصيصًا مبكرة في موعد السفر حتى لا ترى هذا الذي يحدث بالقاهرة. وأرغمت زوجها على موعد السفر، وأن يترك القضايا التي يدَّعي أنها كثيرة في المكتب، ولم يكن زوجها ليستطيع أن يردَّ لها مطلبًا، فحياة البيت جميعها قائمة على يديها، ومهما يكن مكتبه يُتيح له أن يقول عن القضايا ما شاء له القول إلا أن الحقيقة آخر الأمر هي أن المكتب يُشكِّل عبئًا من الأعباء التي تنفق عليها زوجته، ولولا شركتان تعطيان له مرتبًا شهريًّا لكان ثمن السجائر وبنزين السيارة عبئًا آخر يُضاف إلى أعباء زوجته. فهيهات له أن يتحدَّث عن قضاياه أمام أوامر زوجته إلا بالإشارة العابرة التي لا تعني شيئًا إلا إبقاءً على أطلال رجولة.
وسهام تُحب أن تُنفق على البيت، وعلى المكتب، وعلى إصلاح السيارة، وعلى كل شيء؛ فهذا الإنفاق يُهيئ لها أن تكون صاحبة الكلمة العليا، وطالَما أحست بالراحة والسعادة كلما فكرت أنها تزوجت هذا الزوج؛ فلو كان غيره ما استقامت بها الحياة، ولكن حمدي خُلق خصيصًا ليكون زوجها، ولا يكون شيئًا آخر غير هذا الزوج، وسهام تحبُّ الناجحين من الرجال على أن يكون هؤلاء الناجحون ناسًا آخرين غير زوجها؛ فهي تعلم عن ثقة أن الرجل الناجح يجب أن يشعر بكيانه في بيته، ويجب أن يقول رأيًا وأن تَسمع زوجته لهذا الرأي، بل والأدهى من ذلك يجب أن تطيع زوجته رأيه هذا، فلو أنها تزوَّجت دري بدلًا من حمدي لما دام الزواج أكثر من أيام لا تَكتمِل شهرًا على أي حال.
يستطيع دري أن يكون حبيبها، ولكن يجب وجوبًا ألا يكون زوجها.
دري طبيب عظام من أشهر أطباء العظام، وهي تعرف أنه يحب أن يكون سعيدًا في بيته غاية السعادة؛ فهي تعرف زوجته، وكثيرًا ما روت لها عن عاداته في البيت، وكيف أصبح البيت جميعه، ولا عمل له إلا إرضاؤه وإتاحة الهدوء والراحة له في الساعات التي يقضيها في البيت.
عرفته سهام يوم التَوت قدمها، وهي تخرج من البانيو، ومن ذلك اليوم توطَّدت الصداقة بينهما، وقد أحبت أن تكون هذه الصداقة أسرية، فما إن شفيت حتى دعته هو وزوجته إلى البيت ولبَّى الدعوة، واستطاعت سهام أن تُوطد صداقتَها بناهد وأحبَّتْها ناهد، حتى لقد كانت تُلقي إليها بخفايا نفسها، وما يجيش في صدرها من وسواس.
ولم تُدهش سهام كثيرًا حين دعاها دري يومًا إلى أن تَخرج معه مُنفرِدَين، ولم تدهش كذلك حين أخبرها أن لديه شقة صغيرة يحب أن يخلو فيها إلى نفسه.
والعجيب أن دري أيضًا لم يدهش حين قالت له سهام قبل أن تخرج من الشقة: أين مفتاح هذه الشقة؟
– هذا هو.
– أمعك مفتاح آخر؟
– لا داعي لمفتاح آخر.
– هل هناك مفتاح آخر لهذه الشقة مع أحد؟
– أبدًا.
– كن واثقًا.
– إني واثق.
– فأنت إذن ستعطيني هذا المفتاح، ولن تفتح هذه الشقة لغيري.
– هذا أمر؟
– تستطيع أن ترفض.
– بل لا أستطيع أن أرفض، هذا هو المفتاح!
– قد آتي هنا من حينٍ لآخر من غير علمك لأُرتِّب الشقة، ولأشتري ما تحتاج إليه فيها، فاحذر أن تكون أعطَيتَ المفتاح لغيري.
– لا تخافي.
– عليك أنت أن تخاف، فإنك ستَجد قتيلة في شقة مستأجَرة باسمك.
– أنا أُقدِّر هذا، ولن يأتي أحد إلى هذه الشقة مطلقًا.
– اتفقنا.
ولهذا بدأت علاقتهما، وكان عجيبًا أن تُحاول سهام أن توطد صلتها مع الأيام أكثر وأكثر مع ناهد، وقد يبدو للنظرة المجرَّدة الساذجة أن سهام لن تخبرها أن هناك صلة في الخفاء بينها وبين أحد، ولكن سهام بذكاءٍ خارقٍ أخبرتها أنها تعرف شخصًا آخر غير زوجها، فإنَّ ناهد لن تتصوَّر أن هذا الشخص الآخر هو زوجها، ولم تكن سهام تريد أن تظن بها ناهد الغفلة، لدرجة أنها ترضى بزوجها هذا الذي يدلُّ منظره على الغباء الشديد، فهي تحب أن تُظهرها على ذكائها، وعلى معرفتها بسخافة زوجها، وتحب أيضًا أن تعرف منها ناهد أنها مثار إغراء للرجال، وأن جمالها ليس عاطلًا عن جذب من يُقدِّره ويعرف قيمته.
فلم يكن خافيًا أن زوجها يُقدِّر غناها الشديد، وإنفاقها على البيت، أما الجمال فلم يكن عنده بالأمر الخطير الذي يقيم حياة.
وكثرت زيارات ناهد إلى سهام، وكان دري كثيرًا ما يمر على زوجته عند سهام، وكثيرًا ما يقضيان السهرة هناك، وكان حمدي سعيدًا بهذه الصداقة الجديدة التي ظن أنها قامت بين دري وبينه، وكثيرًا ما كان يلحُّ على ابنه أسامة وابنته فريدة أن يقضيا السهرة في البيت؛ لأن عمهما دري سيكون موجودًا.
ولم يكن أسامة أو فريدة يُهمُّهما من أمر أبيهما شيء؛ فقد كان عندهما مجرد سميتريه لأمهما، ما دام هناك أمٌّ فلا بد أن يكون هناك أب، هذا كل ما في الأمر؛ فأبوهما هو مجرد التكملة الطبيعية أو غير الطبيعية لأمهما، وهكذا كانا يَستهينان برأيه، فقد كان أسامة في السابعة عشرة، حين كانت فريدة في الخامسة عشرة، وفي هذه السن كان من المفروض ألا يَعرفا لأبيهما غير الاحترام، ولكن الاحترام شيء هُلامي لا شكل له، ولا صورة، ولا قوام، والشخص إما أن يكون محترمًا، أو لا يكون بهبةٍ من الطبيعة لا يعرف مأتاها إلا الخالق العظيم الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.
وصاحب هذه الموهبة يفرضها على جميع من يتصل به دون أن يقوم هو بأي عمل، إنما يجد نفسه محترمًا، ويجد الناس أنفسهم يحترمونه، ومثل كل موهبة لا بد للشخص أن يعين ما وُهب له أو هو يجد نفسه كذلك دون أن يدري، فهو يترفَّع عن الصَّغار، ويختار الحديث قبل أن يُلقيه ولا يقف موقفًا مُزريًا أمام نفسه أو أمام الآخرين. والاحترام نوع من الموهبة التي تتوزَّع بين الناس بقدر، فمنهم من نال منها قسطًا أوفى، ومنهم من نال منها قسطًا أدنى، ومنهم من لم ينلْ منها قسطًا ولا حظًّا، وهكذا لم يكن أسامة أو فريدة يَحترمان أباهما، وربما كان خدم البيت هم الذين ألقوا هذا النوع من عدم الاحترام إلى نفس السيِّدَين الصغيرَين.
وربما اضطر الشابان اضطرارًا إلى عدم الاحترام هذا، وهما يَريان أباهما يتلقى أوامره دائمًا من أمهما، بينما كثيرًا ما يناقشها الخدم هذه الأوامر.
وربما كان السبب في عدم احترامهما لأبيهما واحدًا من هذه الأسباب، أو كانت هذه الأسباب مجتمعة، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أنهما لم يَحمِلا له احترامًا منذ بواكير حياتهما.
وهكذا كان كلٌّ منهما لا يجد في أمر أبيه له بالبقاء مع عمِّهما دري شيئًا واجب الطاعة، بل لعلهما كانا يريان فيه شيئًا واجب العصيان.
أما مع أمهما، فإن الأمر يختلف؛ فقد كانا في هذه السن الباكرة يجدان في أوامر أمهما جنوحًا إلى التحكم، ولكنهما لم يُدركا هذا المعنى يومذاك، وإنما كل ما كانا يدركان أنهما لا يجدان نفسيهما مثل زملائهما من الصبيان والبنات.
فبينما كان الأبناء يخرجون إلى الشارع ليَلعبوا كانا هما حبيسين في البيت لا يخرجان إلا مع دادة كانت الأم تحرص على أن تُزينها كما تُزيِّن منضدة عندها، كانت تحرص على زينة أسامة وفريدة، فلا يلبسان إلا أغلى الثياب، وأرفعها سعرًا، فقد كانت تحب أن ترى غناها في ملابس طفلَيها، وكانت تحدد الساعة التي يتنزَّهان فيها مع الدادة لا يتأخَّران عنها دقيقة واحدة.
حتى إذا كان الليل لم تكن تُلقي عليهما غطاء سميكًا في الشتاء، كما تَفعل كل الأمهات، وإنما كانت تُدخلهما في شوال من البطاطين، وتربط الشوال عند رقبة كل منهما، وذراع كل منهما في داخل الشوال. كان هذا الشوال يُمثل تمامًا أخلاق سهام، فقد كانت تحب أن تسيطر على كل حركة من ولديها أو زوجها، وقد استطاع الشوال أن يُمكنها من هذا مع ابنها وابنتها، ولو كان قريبًا من المعقول أن تضع زوجها في شوال ما توانت، ولكن خشيت أن يسخر منها الآخرون، أما زوجها فما كان ليُعارض لو أنها أرادت به هذا.
ولم تكن سهام لتهتمَّ أن يكون ابنها وبنتها حاضرين مع دري أو لا يكونان؛ ولذلك فقد كانا ينصرفان إلى حجرتَيهما، ويصنعان أي شيء إلا أن يذاكرا.
ولكن سهام لاحظت أن أختها إلهام كثيرًا ما تكون حاضرة عندما يأتي إليها دري.
وإلهام فقَدت زوجها منذ سنتين، وكان هذا الفقدان فجيعة للأسرة جميعًا؛ فقد كانت حياة إلهام وتوفيق مضرب الأمثال في السعادة والهناء والحب، وعلى الرغم من أن إلهام كانت عاقرًا لم تهَب له البنين في السنوات الخمس التي عاشاها معًا، إلا أنه كان يحبها حب تقديس كما كانت هي لا ترى السعادة إلا في عينيه الصافيتين.
وكانت إلهام حين مات عنها زوجها، قد تركت الثلاثين من عمرها بسنواتٍ قلائل، وقد كانت تكبر سهام بسنتين، إلا أن السن في هذه الفترة الباكرة من الشباب لا يبين له أثر، فإلهام ناضرة كوردة قوية كشجرة ليس من طبيعتها أن تُثمر، ضاحكة الوجه، حتى وإن حاولت أن تبدو حزينة، بيضاء في حمرة من الجمال والصحة معًا، دقيقة الجسم فارعة الطول، جذابة النظرة، ذات عينَين سوداوين شديد سوادهما، شديد بياضهما في وقتٍ معًا، فكأنها العيون التي كان شعراء العرب يقولون عنها إن في طرفها حورًا، وكان شعرها أسود فاحمًا مُنسدلًا في انسياب ورزانة على كتفيها، ومن يرى إلهام إلى جانب سهام لا يعتقد بحال أنهما أختان؛ فقد كانت سهام ذات شعر أصفر عربيد، ثائر في غير شرود، وكان بياضها ناصعًا، وكانت عيناها خضراوين فيهما إصرار، وفيهما فرح، وفيهما رغبة، وفيهما تخاضُع، اختلطت هذه الإشعاعات جميعًا، ولكنها عندما تريد ينبعث الشعاع الذي تريد بما قدَّرت له أن يكون نافذًا، حيث ينبغي أن ينفذ مؤدِّيًا ما شاءت أن يُؤدِّي.
كانت إلهام كثيرًا ما تزور سهام، ولم تكن سهام ترى في ذلك عجبًا، وأي عجب يُمكن أن يكون؟! فهما أختان بينهما مثل ما بين كل الأخوات من حب، شابَهُ في حينٍ من الأحيان خلافات حول ميراثهما من أبيهما، ولكن قليلًا ما دامت هذه الخلافات، فالأب كان يعلم أن ابنتَيه لن يَرثا كل ماله إذا هو ترك المال يُورث، فوزع عماراته على بناته بيعًا وشراءً بطريقة غاية في الذكاء، حتى لا يدعي أحد على العقود صورية، وغاية في العدل، بحيث لا تشعر واحدة من البنتين أنها غُبنت، ولم يكن الخلاف إلا حول أشياء قليلة تركها في الخزانة، وحَسمت الأم هذه الخلافات بأوامر لها صارمة لا تناقش، وعاد الحب الطبيعي يجمع بين الأختين.
وكانت إلهام تعيش مع أمها بعد أن مات عنها زوجها، فكان من الطبيعي أن تذهب كثيرًا لزيارة أختها، وما لها لا تفعل والسيارة تحت قدمها.
ولكن سهام مع ذلك لم تقتنع بالصدف العجيبة التي جعلت إلهام تكون موجودة، كلما كان دري وناهد موجودين.
هذه لعبتنا يا ست إلهام، أم تراك أنت الأخرى تلعبينها؟!
ولقد راقبت سهام أختها رقابة شديدة، فلم تلحظ عليها شيئًا، ولا هي على دري لاحظت شيئًا، ولكن لا … على من … هذا التحفظ كله يُخفي ما يدعو إلى التحفظ.
ولكن كيف يجرؤ على هذا التفكير، إنه حبٌّ جديد، ألا يُغنيه حبي، حتى يبحث عن حبٍّ آخر؟ ويله! إن إلهام أرملة؛ إذن فقد يكون في الأمر زواج! أقتله، لقد كان يشكو لي من ناهد، وأنها لا تفهمه، ولكنها أيضًا كانت لا تسأله عن شيءٍ في حياته خارج البيت، وبقدر ما كان سعيدًا بهذا بقدر ما كان يرى فيه غباءً منها يُضيفه إلى غباءات أخرى كثيرة تبدو منها؛ فالطاعة العمياء من الزوجة غباء عند الزوج. ملاعين هؤلاء الرجال لا يحبون أن يعارضهم أحد، ولا أن يناقشهم أحد، فإذا وجدوا المرأة التي لا تُعارضهم ولا تناقشهم فهي غبية، وإن عارضت أو ناقشت فهي امرأة متعبة تملأ حياتهم تنغيصًا، وتجعل البيت الذي ينبغي أن يكون مثابة للراحة والهدوء والاسترخاء نيابة عامة، أو مجلسًا نيابيًّا.
كانت لا تعجبه ناهد، ويل له إذن من إلهام، المهم أن أعرف هل صحيح ما أفكر فيه؟ أكاد أقطع أنه صحيح، فإن كان، أهو استلطاف أم حب أم زواج؟ الزواج هو أهون الشرور؛ فمن حقه ما دام قد وجَد من تُمتِّع عواطفه أن يبحث عمن تُمتِّع بيته، ولكن هناك شرطًا، ألا يكون الزواج على حب، ليس من المحتم أن يكون الزواج على حب، بل إن الأفضل ألا يكون الزواج عن حب، فهذا زواجي مع حمدي قد توجد فيه كل العواطف إلا الحب، يحب أولاده على الرغم من أنهم لا يحترمونه، ولكنه يُحبهم حب جنون، فهو يشعر أنهما يُقوِّيان الصلة بيني وبينه، وهكذا يستطيع أن يأمن بقاء الحياة بيننا؛ فهو واثق أنني لا أحبه رغم أنني الوحيدة التي أبدي احترامي له في البيت، ولا أقول عنه إلا البيه إذا تحدَّثت عنه، قد يُثيرني أحيانًا بغبائه، فأضطر إلى إسكاته حتى يَنكتم، وقد أضطر أحيانًا أن أُعطيَه بعض نقود أمام الخدم، ولكنني مع ذلك الوحيدة التي تحترمه في البيت.
مهما يكن الأمر فزواجي من حمدي زواج ناجح، وربما هو ناجح؛ لأنه لا صلة له بالحب، كل منا لا يطالب الآخر بالحب، ربما طالبت أنا ببعض أشياء تُعبِّر عن الحب؛ كالاحتفال بعيد ميلادي، أو الاهتمام بطلباتي، ولكنني لا أطلب ذلك من باعث الحب عند حمدي، وإنما أطلبه في مقابل ما أقدم من مال؛ فأنا من حقي لا شك في مقابل هذا المال الذي أنفقه عليه، وعلى البيت، وعلى الأولاد أن أُطالب ببعض اهتمام، أو ربما حتى بكثيرٍ من الاهتمام، هذا حقي.
على أية حال بيتي ثابت غير متعرِّض لأية أعاصير؛ فحمدي لا يعرف كيف يغضب مهما أفعل أنا، وأنا إن غضبت يعرف كيف يَسكُت، ودائمًا تمر الأمور، ويظل بيتنا ثابتًا. لو كان على الحب قام لكان نهبًا للأعاصير، فإن المحبِّين يطلبون الكثير، ولا ينالون إلا القليل، فويل إذن لدري إن فكر في الزواج عن حب.
أما إذا كان زواجًا لمجرد الزواج، فالمصيبة أهون إلا أنه حينئذٍ سيقع سجينًا لإلهام من العسير أن يُفلت، ولكنه طبيب ما يزال. إفلاته أمرٌ يُمكن تدبيره، لكن لا بد أن أعرف، لا بد أن أعرف.
– أليس هذا شيئًا غريبًا.
– أبدًا.
– في كل مرة.
– صدفة.
– دري.
– نعم.
– فتح عينك.
– على الآخر.
– من التي أمامك؟
– المؤكد ليست ناهد.
– إذن اعتدل.
– معدول والله.
– صدفة؟!
– صدفة.
– دري.
– ماذا تظنين؟
– لا شأن لك بما أظنُّ، أريد الحقيقة.
– أنت تعرفين صداقتها بناهد.
– دري.
– أفندم.
– أنت تعرف أن صداقة ناهد هذه لعبتي أنا.
– فما الغرابة أن تكون لعبة أختك؟
– إذن فهناك لعبة.
– على كل حالٍ ليس من جهتي.
– لا تُهمني الجهة.
– وعلى كلٍّ لست أنا الذي علَّمتها اللعبة.
– ولا يهمني ممن تعلمتها.
– قولي؛ ماذا تريدين؟
– هل هناك شيء؟
– وافرضي.
– أقتلك.
– ألا تعرفين أولًا.
– طبعًا زواج.
– مثلًا.
– أقتلك.
– وأنتِ ماذا يهمك؟
– كيف لا يُهمني؟
– أليست أختكِ أولى من ناهد؟
– زواج حب طبعًا!
– وهل يَترك حبُّكِ مكانًا لحب آخر؟
– عليَّ أنا هذا الكلام.
– وحياة بنتي الوحيدة إن هذا الزواج لا صِلةَ له مطلقًا بحبِّنا.
– فما أسبابه؟
– أريد زوجة تعرف كيف تُرتِّب بيتها؟ تعرف كيف تجعل الرجل يحيا، أنا أراكِ مرة في الأسبوع أو مرتين، الأسبوع كله مع زوجة لا تفهم شيئًا، لماذا لا أعيش مثل كل الأطباء الذين نجحوا كما نجحت؟ لماذا أكون وحدي مع زوجة لا تفهم شيئًا؟
– من أجل هذا فقط.
– فقط.
– من أين أعرف؟
– ذكاؤك يدلُّك.
والْتَقَيا في قبلة.
– كيف تزوجت ناهد؟
– كأي زواج.
– سمعنا غير ذلك.
– أبدًا.
– دري؟!
– أبدًا والله.
– ربما، هل رأيتها جميلة؟
– حين تزوجتها لم أكن أراها قبيحة.
– على كل حالٍ هي عادية لا جميلة، ولا قبيحة.
– الشباب في أول حياته لا يفرق كثيرًا بين أحجام الجمال.
– ولماذا كرهتها؟
– لم تستطع أن تجعلني أحبها.
– وكيف تستطيع امرأة أن تجعلك تحبها؟
– أنتِ تعرفين ذلك جيدًا.
– لو كنتَ زوجي لما أحببتَني.
– أنت كما أحب المرأة أن تكون.
– كلام.
– أتريدين مزيدًا من كلمات الحب؟
– لا تضر.
– ولا تنفع، أنتِ تعرفين ماذا أنت عندي.
– هل أنت واثق؟
– أنت واثقة؟
– نعم، أعتقد ذلك.
وكانت بواكير الصيف قد أقبلت، وسارعت سهام بالسفر إلى الإسكندرية حتى لا ترى كيف يتقرَّب دري لإلهام، وكانت تأمُل أن يتم الزواج دون استدعاء لها متصورةً أن زواج أرملة من رجلٍ مطلَّق لا يحتاج إلى احتفال، وحاولت أن تَنسى أن إلهام تحب كل شيء لها أن يكون على أتمِّ رواء، وحاولت أن تنسى أيضًا أن إلهام لا تحب أن تَتركهم يستمتعون بوقتهم، وهكذا أعاد استدعاؤها إلى القاهرة كل ما حاولت أن تنساه، قالت لها أمها: أختك ستتزوج بعد غد.
ولم تسألها سهام عن الزوج، وتعجَّبت الأم، ولكنها لم تقل شيئًا لإلهام، وحين طلبَت سهام أن تُكلم أختها لم تجدها، فحمدت الله في سرها، وانتهت المكالمة بين عجب من الأم وغيظ من الابنة.
وها هي ذي تقطع الطريق مع حمدي إلى القاهرة في سيارتها الجديدة التي اشترتها له، وأبقت رخصتَها باسمها، تاركةً أسامة وفريدة مع توحيدة ليكونا عذرها في عود سريع.
٢
أهو انتقام ما أفعل؟ هل لم تستطع كل هذه السنين أن تمحو من نفسي ذلك اليوم؟ ألم تستطع عبير أن تُنسيَني ذلك اليوم؟ ألم تستطع هي نفسها ناهد أن تُنسيَني ذلك اليوم؟ أعزيزة هي الحرية إلى هذا الحد؟ إن لم تُتَح لي الحرية في اختيار زوجتي ففيمَ إذن، بل إنني أريد الحرية في كل شيء، أحمد الله أنني لست كاتبًا؛ فالكاتب — فيما أعتقد — كثيرًا ما يُرغَم على ابتلاع كلام كثير يُريد أن يقوله، كيف يستطيع كتَّاب روسيا أن يسمُّوا أنفسهم كتابًا، إنهم آلات كاتبة يدق عليها أعضاء الحزب، بل يدقُّ عليها سكرتير الحزب وحده بدعوى كاذبة أن هذه هي إرادة الحزب، أو إرادة الشعب كما يُحبون دائمًا أن يقولوا، ما هذا الخرف؟ ما دخل روسيا والحزب وكتَّاب روسيا بما أفكر فيه، عجيب هذا العقل يشرد رغم أنف صاحبه ويذهب إلى مذاهب عجيبة من التفكير بلا رقيب أو حسيب. قرأت مرة في رواية ترسم المستقبل أن هناك آلة سيكون من شأنها معرفة ما يفكر فيه العقل، ويقول المؤلف إن الدولة ستَعتمِد على هذه الآلة في محاسبة الناس على أفكارهم، أعوذ بالله، إنَّ الله لا يحاسب الناس على أفكارهم، عجيبة أن يذكر الناس الله في هذه المواضع، لقد نسوا أن الله رحيم، ولو أن الدول حاسبت الناس كما يحاسبهم الله لأصبح البشر في سعادة لا تُماثلها سعادة ولأصبح الذهاب إلى الجنة لا داعي له.
وهل هناك داعٍ للذهاب إلى الجنة؟ لا بد، إننا في كل ما نفعل نحاول أن نهيئ لأنفسنا جنة على الأرض، ونفشل طبعًا لأننا بشر، هل الجنة حور عين وأنهر من عسل، إنها صفات حسية ذُكرت لقوم كان الحسُّ عندهم مجسمًا دائمًا في الجنس والمأكل، إن الجنة عندي هي السعادة، قد لا نأكل هناك شيئًا، وقد لا نجد حورًا عينًا أو غير عين، ولكننا لا شك سنجد السعادة، سنعيشها، نعرفها مشرقة دائمًا في نفوسنا لا ومضة وتختفي، أو لحظة وتزول، وإنما نعرفها حياة بلا نهاية، ألا يُصيبنا الملل، وهل مع السعادة ملل؟ إن الذي خلق الإنسان، وصنع النفس والروح، وشكَّلها كما يشاء لا يَصعب عليه أن يَمحق الملل من الحياة الأخرى، ومن أين يأتي الملل؟ إننا إن لم نصنع شيئًا إلا الالتقاء بالعباقرة الذين سبقونا ليقصُّوا علينا قصصهم الصغيرة والكبيرة ومشاعرهم دون نفاق للمُجتمع أو خوف من الناس لاندحر الملل عنا، ولذهب إلى غير رجعة، وإلى الأبد، أهناك أبد؟ إن الآخرة هي الأبد، كأني نسيت أن هناك نارًا أيضًا، لا بد أن نمرَّ بها من باب العلم بالشيء.
اسمع، أنا طبيب، ولا بد أن أعرف ما الذي جعلني أفكر في الجنة والنار الآن؟
أتراني مخطئًا فيما اتخذت من قرار؟
زوجتي وابنتي أتركهما … من أجل ماذا؟
هل أحب إلهام؟
المؤكد أنها لم تُرغمني على الزواج بها، إن الذي فعلتْه بي ناهد لا أستطيع أن أقبله، حتى وإن كانت قد جاءت لي بعبير، وحتى ولو كان قد مضى على زواجنا عشر سنوات.
أهذا هو السبب الحقيقي في زواجك اليوم، أتريد أن تُقنع نفسك بهذا؟
إنه السبب، إنه السبب كتمتُه وبالغت في كتمانه؛ لأنني لا أحب أن يقال عن عبير إن أمها كانت تستقبل أباها في حجرة نومها قبل الزواج، إن عبير هي كل شيء لي، ولهذا أتترك أمها، يستطيع أي رجل أن يَختلف مع زوجته، ولكن ليس من حق أي أم أن تستقبل رجلًا في حجرتها قبل الزواج منه، وقد شاعت هذه القصة في هذه الأيام، ولو أنني طلقتها بعد سنةٍ أو اثنتين أو حتى بعد خمس سنوات لعادت القصة إلى الظهور مرةً أخرى كأعنف ما يكون الظهور. إن سهام لم تُعفِني من ذكر هذه القصة، وهي تجري معي تحقيقها حول الزواج، فالقصة شاعت وعرفها الجميع، في البيت خدم، والخدم يُحبون أن يحكوا، وأي شيءٍ أروع في الحكاية من أم وأب يدخلان إلى حجرة ابنتهما ليجدا بها الدكتور دري، والساعة تقترب من الفجر.
الحكاية شاعت، وسمعت يومذاك فيما سمعت أن الأمر كان مدبَّرًا بين ناهد وأبويها، وإنني أرجح هذا، أرجحه.
– لا بد أشوفك الليلة.
– اشمعنى الليلة؟
– كذا.
– هل هناك مناسبة خاصة؟
– اشتقت إليك.
– أنا تعبان الليلة يا ناهد.
– حتى وإن كنت اشتقت لك؟
موعد عجيب للاشتياق.
– عندي عملية.
– تعالَ بعدها.
– وموعد على العشاء.
– اعتذر.
– لا أستطيع.
– تعالَ بعد العشاء.
– سنذهب إلى المسرح.
– اعتذر.
– لا يمكن.
– تعالَ بعد المسرح.
– سأكون متعبًا جدًّا.
أراك لحظة أحسن.
أليس هذا شيئًا عجيبًا، وفعلًا ما هي إلا لحظة حتى أطبق عليَّ أبواها، تم الزواج في اليوم التالي، وكان الإسراع بالزواج تأييدًا لما نقله الخدم إلى الناس عما حدث، ولكن الوالدَين وناهد لم يكن يُهمهم إلا أن يتم الزواج.
لم تصفُ نفسي منذ ذلك اليوم، ولكن عبير جاءت، وجاءت مسرعة، وكأنها كانت مشتركة في المؤامرة مع أمها وجيرانها.
وسكت.
ومرت السنون.
وكبرت عبير.
ألا يَجدر بي أن أعيش مع سيدة أحترمها على الأقل، كيف أستطيع أن أكمل حياتي مع سيدة اغتصبت حياتي معها، وأرغمتني عليها إرغامًا.
ليس الحب ما أبحث عنه، وإنما الاحترام، والاطمئنان لبيتي، كيف أستطيع أن أطمئن على بيتي والسيدة التي فيه دبَّرتْ زواجي منها كما تدبر المؤامرات؟
ألا أخشى إذا تركت البيت، ولم تجد الرقيب أن تَرتكب من الأفعال ما يسيء إلى سمعة ابنتي؟
لقد فكرت في هذا أيضًا، وأغلب الأمر أنها لن تفعل، إنها خبيرة في المؤامرات وستحاول أن تبدو أمام عبير مجنيًّا عليها بغير سبب.
ألا أخشى أن تكرهني عبير؟
إنها تعبدني.
وأنا أعبدها، ولا أستطيع أن أقول لها عن أمها شيئًا، ستغضب عبير، ولكنها ستَصفح، ستظن وسأجعلها تظن أنني أحببت إلهام … والحب عند سنِّها هذه شيء مقدس، وستُحاول أن تبدو وكأنها فهمت كل شيء، وأنها تُقدِّر مشاعري وستصفح؛ لأنها تريد أن تصفح، عجيب شأن الناس وتفكيرهم؛ أخلاط من المشاعر والآراء تلتقي بلا معنًى، وتفترق بلا مبرر، ولكن مع كل هذا ما الذي جعلني أفكر في الروس والحرية والجنة والنار أيضًا؟ ما دخل هذا جميعه بناهد أو إلهام أو عبير أو أنا؟ أنا لا أدري.
٣
هل أحبه حقًّا؟ المؤكد أنني أحبُّ حبه لي، إن هذا الجمال الذي أراه في المرآة أعظم من أن يُحِب، وإنما يجب فقط أن يستقبل حب الناس، كان توفيق بارعًا في حبه لي، وقد أحببت حبه هذا لي وثقت به، وظن الناس أنني أحبُّه هو، كم هم مجانين هؤلاء الناس؟! كيف يتصوَّرون أن هذا الجمال يستطيع أن يُحب؟ إن جمالي خُلق ليُحبَّه الناس فقط، وحسب توفيق أنني أعطيه حقوق الزوج، ويكون مجنونًا كل من يفكر أن ينال جسمي وقلبي أيضًا، وحين وهبت لتوفيق هذا الجسم كان هناك شرط واحد وضعته لنفسي، ولم أخبر به أحدًا، وما حاجتي أن أخبر به أحدًا، وأنا وحدي التي أستطيع أن أحافظ على تنفيذه دون عون من أحد؟
لقد وهبت جسمي لتوفيق على ألا يُفسد جماله، ولهذا رفضت أن أحمل أطفالًا رفضًا باتًّا، ولم يعلم توفيق برفضي هذا حتى لا يُناقشني فيه، فهو أمر لا أفكر في مناقشته على الإطلاق.
مسكين توفيق كان في كل شهر يمرُّ بي على أطباء أمراض النسا، وكان الأطباء جميعًا يقولون ليس هناك ما يمنع الحمل، ولم يكن أحد منهم يتصوَّر أنني أنا التي أمنع الحمل، وليس غيري.
وفي يوم لا أنساه لم أتخذ ما أتخذه دائمًا من احتياط، وعلمت أنني حامل، وأوشك توفيق أن يعرف، فقد كان يَحسب المواعيد كسيدة وداعبه الأمل يومًا وبعض يوم، وكنتُ أنا قد سارعت في خفية منه إلى الطبيب، وتخلَّصت من الطفل، ومات توفيق المسكين، وهو لا يعلم عن هذه الواقعة شيئًا، كيف أطيق أن أُعبِّئ طفلًا داخل بطني الضامرة هذه، ثم أرضعه أيضًا هيهات … كيف يجرؤ طفل أن يُدمر جمالي هذا؟ إنه هبة من الله عليَّ أن أجعلها معبدًا للحب، ثم لا شيء آخر. لست أنثى كجميع النساء، إنني نوع من الجمال يحبو به الله البشرية كل حين بعيد وحين.
أعتقد أن دري لا يُهمه أن ينجب أطفالًا، وما حاجته إلى أكثر من عبير؟ وإن كان يريد أطفالًا فليأتِ بهم من غيري! أيُّ غيري؟ أيجرؤ أن ينظر إلى غيري وهو زوجي؟ إن زوجي يجب أن تكون وظيفته زوجي فقط، هكذا كان توفيق، ولا بد أن يكون دري.
ولكن دري طبيب مشهور، وما شأني أنا، ولكن لا بأس أن أكون زوجة لمشهور؛ فالشهرة مع الجمال أمر لا بأس به في حد ذاته، ولو أني ضيَّقت عليه المسالك أغلب الأمر، فإنه سيَفقد الشهرة، مجانين هؤلاء الناس؟ ألا يكفي أن يكون دري زوجي، حتى يذهب إليه جميع الناس؟ ألا بد أن يكون ماهرًا أيضًا في عمله ودقيقًا في عملياته ومحافظًا على مواعيده؟
ولكن من ناحيةٍ أخرى، لا بأس بهذه الشهرة، فهي تُرغم الرجل أن يكون عفيفًا مع النساء، فلا يتبذَّل حتى لا تسوء سمعته.
إن صلتَه بسهام لا تعجبني، إن سهام لا يمنعها شيء في سبيل أن تُثبت لنفسها أنها في مثل جمالي، مسكينة سهام لقد أفسدتُ عليها حياتها، وأنا ماذا بيدي أن أصنع؟! هكذا خُلقت بهذا الجمال! وما كان من الممكن أن تخلق اثنتان في مثل جمالي حتى وإن كانت الثانية هي أختي الشقيقة.
إن كان بين دري وسهام شيء، فلا بد أن ينقطع، وسوف أمنعه أن يذهب، لا بد أن أمنعه، فإنني واثقة أنني لا بد أمنعه؛ فأنا أعرف سهام وليس بعيدًا أن يكون بينها وبين دري شيء ما، بل لا بد أن هناك شيئًا؛ فحمدي لا يَصلُح صديقًا لدري، بل لا يصلح صديقًا لأحد أبدًا، وناهد لا تصلح صديقة لسهام؛ فأنا أعرف النوع الذي تحبُّ سهام أن تصادقه وليست ناهد من هذا النوع.
الصداقة الوحيدة — وهي ليست صداقة — التي يمكن أن تقوم هي تلك التي تربط دري بسهام، وإن لم تكن علاقة قد قامت فلا شك أن سهام ستُقيمها بعد أن يتزوَّجني دري؛ فأنا التي أنغِّص عليها بجمالي حياتها، وعدم زيارة دري كفيلة أن تقطع العلاقة إن كانت قامت أو تمنع قيامها إن حاولت سهام أن تقيمها.
ولكن من يدريني؟ ربما اتصل بها عن غير طريق الزيارة، هيهات … أيكون عنده جمالي هذا جميعًا، وينظر لغيري؟ لم يُخلَق بعدُ الرجل الذي يتزوج مثلي — إن كان لي مثل — وينظر إلى غيري، لا لم يوجد.
كانت وحدها في الغرفة، وكانت بسبيلها إلى الخروج لتشتري الأثاث الجديد لبيت الزوجية؛ فقد أصرت ألا تُقيم في بيتٍ كان فيه مع زوجة أخرى، فهي لم تكتفِ أن يُطلق ناهد، وإنما أرادته أن يُطلِّق حياته السابقة جميعًا، وكانت قد أحبَّت عبير، ولم ترَ بأسًا أن تظل معه إذا أراد ذلك، وقد رأت فيها وسيلة تجعله لا يفكر في إنجاب أطفال آخرين.
واشترى دري فيلا جديدة ليُقيم فيها، وترك شقته لزوجته وابنته، ولم يقلْ شيئًا لهذه أو لتلك، وإنما ترك البيت في موعده العادي الذي يتركه فيه كل يوم، وبعد ساعة وبعض الساعة كانت ورقة الطلاق في يد ناهد، وجُنَّ بها الجنون، ولم تجد أحدًا تُحادثه، وحاولت أن تتصل بسهام، فوجدتها في الإسكندرية، ثم اتصلت بصديقات غيرها، وما لبث الخبر أن أصبح قنبلة بين من يعرف الزوجين، ومن لا يعرفهما.
وأقام دري بفندق مينا هاوس، وذهبت إليه عبير، وقالت الطفلة المسكينة كلامًا كان واضحًا أنها لا تفهمه، وإنما لُقنته تلقينًا.
– بابي، هل طلَّقتَ مامي؟
– لا شأن لكِ بهذا يا عبير.
– وأنا إلى أين أذهب؟
– عند مامي وعندي.
– ولكن لماذا يا بابي؟
– ستعرفين في يومٍ ما يا ابنتي، في يومٍ ما ستعرفين.
– صحيح، هل ستُخبرني؟
– المؤكد أنني سأُخبرك.
– أتحبُّني يا بابي؟
– هل تشكِّين في هذا؟
– لا.
– فلماذا تسألين؟
– لا أعرف، أردت أن أسأل.
كان هذا هو السؤال الوحيد الذي صاغته عبير دون تلقين.
وسرعان ما كتب دري كتابه على إلهام، فكانت قنبلة ثانية، ثم انشغل الناس كلٌّ بخاصة شأنه، وفرغت إلهام لشراء الأثاث، وتهيأ دري لحياةٍ جديدة.
٤
كان طبيعيًّا أن تزورها أمها … وكان طبيعيًّا أيضًا أن تأتي معها الدادة آمنة.
إنها لا تستطيع أن تنظر إليها. كانت آمنة آخر إنسان تحبُّ أن تراه في لحظتها النكدة هذه.
إنها هي صندوق أسرارها، تعرف كل شيءٍ منذ ذلك اليوم الذي التقت فيه بدري.
كانت حفلة في بيت صديقتها سعاد هانم شهري … وكانت هي تلبس فستانها الأسود اللامع، وتحيط رقبتها بذلك العقد من اللؤلؤ الذي أهداه إليها أبوها خالد بك، وأحست أنَّ هيأتها ولبسها والجو الذي تثيره حولها من الحيوية والاعتزاز بالجمال والأناقة قد بلغ من دري ما تَشتهي المرأة أن تبلغه من الرجل.
وكان دري في قوامه الطويل الذي يتناسب مع امتلائه بعض الشيء ملتقًى للعيون والهمس؛ فحين تعلن الهمسة اسمه يحيط به ذلك العبق الذي يحيط بالناجحين من الرجال.
كانت ناهد في هذه الفترة من حياتها قد خرجت من موقعة عاطفية خاسرة؛ فهي تشعر أنها مهزومة، وتبحث عن انتصار يُعيد إليها نفسها، وثقتها بكيانها أنثى وامرأة.
لم يكن من الصعب أن يتعارفا … ولم يكن من الصعب أيضًا أن يُتيح لهما البيت الكبير ركنًا يخلو فيه كل منهما للآخر.
– أُحسُّ ألمًا في قدمي اليمنى.
– ليس مثل الألم الذي بقلبي.
– سلامتك.
– كيف لم أعرفك إلا اليوم؟!
– أنراكَ سريع التحرك في عملياتك الطبية كسرعتك في عملياتك العاطفية؟
– إنه مجرد اندهاش.
– فقط؟
– فقط.
– والألم في قدمي؟
– لا بد أن أفحصه.
– طبعًا.
– مكان الفحص هو العيادة.
– أعطني موعدًا.
– غدًا الساعة السادسة.
– أتحبُّ أن أدفع الفزيتة الآن.
– أظن أن معي ثمن البنزين الليلة.
– أخشى أن يدفع زبون آخر، ويَستولي على الموعد.
– لا تخافي الزبائن هنا لا يدفعون.
– هل أنت متأكد؟
– خبرة طويلة.
– اتفقنا.
لم يكن عجيبًا بعد ذلك أن تقوم الصلة بينهما، ولم يكن لدري شقة، ولم تكن العلاقة بينهما تحتاج إلى ذلك؛ فقد كانت لا تتعدى بعض قبلاتٍ متطايرة، وكان دري يحتاج إلى تظاهر بالتدلُّه والوله؛ ليحصل على هذه القبلات. وفي يوم فوجئ بها تطلبه بالتليفون على غير موعد.
– أراكِ؟
– كيف؟
– أمر عليك بالسيارة تنزلين.
– وماذا أقول لأبي وأمي؟
– ليس من المحتَّم أن يعرفا.
– إن لم يعرفا هما، فستَعرف دادة آمنة لا شك.
– ألا تَقبل دادة آمنة الرشوة؟
– لم أُجرِّبها معها.
– مغفَّلة.
– لم أكن محتاجة، فلا تقل أدبك.
– ولكنَّكِ الآن محتاجة.
– لا يُمكن، إنها تتصور أنني ملاك طاهر.
– ألستِ كذلك؟
– لو كنتُ ما طلبتك.
– حتى الطلب تعتبرينه شيئًا يستحق الكلام؟
– أنت مجرم.
– مجرم خائب، آخر ما وصلت إليه قبلة.
– اسمع يا دري، القُبلة التي تحصل عليها هي أقصى ما أستطيع أن أعطيه.
– رضينا يا ستي.
– ولو كلمتني في هذا الموضوع بعد ذلك، سأكف عن طلبك.
– في عرضك.
– فاهم؟
– فاهم.
– لو وعدتَني، وحلفتَ ألا تكلمني في هذا مرةً أخرى، سألتقي بك الليلة.
– كيف؟
– لا شأن لك، فقط احلف.
– أحلف.
– بماذا؟
– بكِ.
– قديمة العب غيرها.
– بشرفي.
– بشرفك!
– جديد وشرفِك، إنه شرف دكتور يَحترم نفسه.
– سأرى مقدار اعتزازك بشرفك.
– سترَين.
– سأُقابلكَ في البيت.
– في البيت؟
– في البيت.
وتم اللقاء، ولم ينلْ منها في البيت أكثر من القبلة أيضًا، وتعوَّد أن يذهب إلى هناك، وكانت آمنة تعرف دائمًا فلم تُطِق السكوت.
– آخرتها.
– لا أعرف يا دادة.
– أنا خائفة.
– أتخافين عليَّ؟
– من كلام الناس.
– لا تخافي.
– اسمعي، لا بد أن نصنع شيئًا.
– وماذا نصنع؟
– أنت لا تصنعي شيئًا، أنا سأصنع.
وفي ليلةٍ وبينما هو معها يتحدَّثان فوجئ بأبيها وأمها يدخلان إليهما، ومن خلفهما آمنة.
وهمَّ الوالد أن يبدأ المشاجرة المتفجِّرة، ولكنه كان أسرع منه.
– يا سعادة البك أنا أخطب منكَ ابنتك.
– تتزوَّجها الآن قبل أن تنزل.
– أمرك.
– أرسلي يا آمنة السائق يأتي بالمأذون، أو اذهبي أنت معه، ولا تعودي إلا ومعك المأذون.
– أمرك يا سعادة البك.
– وفي غدٍ نُعدُّ لإقامة الفرح.
– أمرك.
وتم الزواج على هذه الصورة، ومنذ ذلك اليوم وهو يحسُّ أن هذا الزواج فُرض عليه فرضًا، كانت الحياة بينهما مستحيلة، هو زواج بكل معنى الزواج إلا أنه فاقد للروح.
كان يجلس إلى جانبي، وكنت أحسُّ أن بيننا أزمان وبلدان، حتى وهو يُعانقني كنت أحس أنه يعانق غيري، وأحس أن ذراعيه ذراعا رجلٍ آخر. كانت القبلة التي يُقبلها لي قبل الزواج أشد حرارة من الصِّلة الزوجية وهي قمتها.
لم أحسَّ في لحظةٍ أنه تزوَّجني فعلًا، ولو أنه لم يذكر هذه الليلة مطلقًا، واعتبر ما حدث شيئًا طبيعيًّا كان من شأنه أن يحدث.
لم يكن عجيبًا ألا تُطيق ناهد النظر إلى الدادة آمنة؛ فهي التي افتعلت هذا الزواج الذي ولد ميتًا، والذي لم يكن الطلاق بالنسبة إليه إلا تسجيل وفاة ودفن المتوفَّى، وإعلان ما كان سرًّا من شأن مماته.
ولم يكن عجيبًا أيضًا أن يبحث دري عن شقة خاصة منذ اليوم التالي لهذا الزواج، فلم يكن دري يحب أن يتكرَّر هذا المشهد الذي تألف وأُخرج ومُثِّل في بيت ناهد. إن تغيير خشبة المسرح في مثل هذه المشاهد هام جدًّا، وكان لا بد له من شقة، وقد استأجرها. فقد كان على ثقةٍ أن زواجه من ناهد لا يمكن أن يستمر؛ فقد أحس منذ اللحظة الأولى أنه لم يخترْ زوجته بمحض حريته، ربما كان يخطبها إذا لم تُفرض عليه، أما وقد فُرضت، فلا زواج، إنما هو عقد.
أكان يتزوَّجها حقًّا بعد أن سمحت له بالذهاب إلى بيتها؟ نعم لم ينلْ منها إلا القبلة، ولكن ما هذه الجرأة؟! هل كل حال ربما كان يتزوجها، وربما كان الزواج كاملًا وباختياره، أما بهذه الطريقة التي تمَّ بها فهو عقد قابل للفسخ شأنه شأن أي عقد تجاري، عقد بلا اختيار، بلا حب، بلا عاطفة، فهو بلا بقاء.
٥
إنها تحب أن تأمر، وأنا لا أجد من آمره، أنا لا أعمل شيئًا إلا أن أطيع، حتى البنت سعاد لا تُطيعني، ولماذا تُطيعني وهي تعلم أنني أشتهيها وأشتهي خدرها وأعطيها ما تشاء من المال؛ لتسمحَ لي أن أشاركها الفراش؟
قد يبدو غريبًا أنه فكر في سعاد؛ فهو يخاف سهام، كما لا يخاف أحدًا أو شيئًا، فسهام هي زوجه وربة بيته وأم أولاده، وقبل هذا جميعًا هي مصدر رزقه وحياته وأمله.
هو لا يعرف كيف قَبِلتْه سهام زوجًا، ولو كان عرف ما تغيَّر الأمر كثيرًا. وهو على كل حالٍ انتهى في ذلك إلى رأي، أن سهام رفضت الكثيرين ممَّن تقدموا لها، حتى إذا شارفت الثالثة والعشرين دون زواج قبلتْه بالصدفة العمياء دون إعمال لأي تفكير، ذلك ما انتهى إليه.
أما الحقيقة فهي أنها كانت تحبُّ شابًّا في الجامعة هو مهدي، ووصل بينهما الحب إلى أقصى غاياته، وكان مهدي من الذين يحبُّون ألا يمروا بالجامعة مرورًا سريعًا، وكان السقوط عنده أيسر من النجاح، وكان في حياته يَميل إلى الأيسر لا الأحسن، فتأخر مهدي في طلبها، ونفدت أعذارها أمام أبويها، وقبلَت حمدي كما يقبل الإنسان أي شيء يعرض عليه ما دام الذي يُريده لا يمكن الحصول عليه.
وظلت هذه الحقيقة خافية على حمدي طول حياته، ولو كان عرفها ما تغير الأمر كثيرًا؛ فهو من هؤلاء الكثرة الذين يهتمون بالنتائج دون أن يهتموا بالأسباب التي أدَّت إليها.
وبعد الزواج وجد حمدي نفسه ضائعًا في لجة متلاطمة من المال، ولا مال لديه، ومن شخصية سهام الطاغية، ولا شخصية لديه، فقَبِل أن يكون تابعًا لا متبوعًا، مأمورًا لا آمرًا، طيِّعيًا كالقضيب اللدن طاوَعَ في الشكل اليد، على حدِّ تعبير شوقي أمير الشعراء.
والغريب، وإن كان هو لم لا يستغرب أنه أصبح سعيدًا بمكانه هذا، لا يُريد عنه حولًا أو منصرفًا، حتى ليَجزع إذا فكر يومًا أنه سيُضطرُّ أن يكون متبوعًا لا تابعًا، آمرًا لا مأمورًا، حبيسًا لا طيعًا.
إلا أنه في هذه الغمرة، كان يبحث لنفسه عن وجودٍ يُمارس فيه كيانه، ويشعر في ميدان هذا الوجود أنه ما يزال حيًّا غير ميت.
حاول في المحاماة فخذلتْه شرَّ ما يكون الخذلان، فهي مهنة يحتاج الناجح فيها أول ما يحتاج إلى شخصية، ويحتاج الناجح فيها إلى جهد، ويجب أن يبذل جهدًا، وإلى أن يكون صاحب رأي يقف إلى جانبه.
وما هو بصاحب رأي فكان لا بد أن تخذله المحاماة.
حاول أن يكون أنيقًا فلم يُسعِفْه قوامه الأكرش القصير.
حاول أن يكون مهتمًّا بأي شيء فلم يجد شيئًا يستطيع أن يسمعه ويدَّعي الإعجاب به دون أن يسأله سائل عما فهم إلا الموسيقى؛ فهي أنغام ذات معنى عميق لمن يفهمها، ولا معنى لها لمن لا يفهمها، وعند الشرح يستوي الجاهل فيها والعالم، ويبدو الغبي كالذكي، والفاهم كمن لا يفهم.
وفي أطواء الخفاء كان يُريد أن يشعر أنه رجل، وهذا الشعور كان لا يجرؤ على الانتفاض في عميق نفسه وهو في أحضان سهام. كان دائمًا يشعر أنه لا يفرض عليها حق الرجل على المرأة، وإنما كان يشعر أنها هي تمنحه تفضُّلًا — ضمن ما تتفضَّل به عليه — جسم المرأة منها.
فهو في أحضانها موهوب له لا واهب، متفضِّلة هي عليه بلا تفضُّل منه. كان اللقاء بينهما ليس لقاء امرأة برجل، وإنما واجب تؤدِّيه مع ما تؤدي من واجبات عليه أن يشكرها عليه كما عليه أن يشكرها على كل شيءٍ آخر.
كان يريد أن يكون رجلًا ككل رجل يَنال اللذة ويُعطيها، يُمتِّع ويستمتع، يعطي ويأخذ، فإنه معها لا تعترف له بأي عطاءٍ مهما يبذل.
والواقع أنها كانت تمنحه نفسها؛ لأنه من الطبيعي أن تمنحه نفسها، ولكن شعورها بأنه لا كيان له كان يجعلها دائمًا لا تحسُّ برجولته، كان إذا أجاد أحس أنها تقاضيه دينًا مستحقًّا، وإذا أخفق أحسَّ أنه مدين مُفلِس يحرجه الدائن، ولا يجد من حرجه منقذًا.
فهو محق أن يبحث عن هذه الرجولة في فراشٍ آخر، وكان فراش سعاد هو أقرب فراش.
ولم تكن سعاد قبيحة؛ فهي فتاة سمراء شديدة السمرة قوامها مياد هفهاف، وهي زوجة لزوج لا يَلقاها إلا في إجازتها كل أسبوع؛ فالصلة بها مأمونة لا خوف منها إلا أن تُمسك بهما سهام.
وقد استمرَّت علاقته سنتين تقريبًا، ولكنه ما زال يعجب بنفسه، كلما ذكر أول يوم تجرأ أن يَهمس بالرغبة همسته الأولى لها.
هو يحسب أن شجاعته هي التي أتاحت له ما تم بينه وبين سعاد، ولقد يُخادع نفسه، ويظن أن مركزه بوصفه البك هو الذي مهَّد له السبيل، وقد يقف أمام المرآة، وتغشى عينيه غاشية من النرجسية والرضاء من النفس، فيظن أن جماله قد أوقع سعاد في شباكه، وإلا فكيف يُبرر أن سعاد قد لبَّت أول إشارة له.
– عودِك حلو يا بنت يا سعاد.
– خدامتك يا سيدي.
– ترى أيعرف زوجك قيمته؟
– جاءته خيبة.
– العود عطشان؟!
– ولا يسقيه إلا العزيز الغالي.
– صحيح يا بنت.
– خدامتك يا سيدي.
هو معذور إذن أن تذهب به الظنون، حيث ذهبت من الرضاء عن النفس.
ولكن الحقيقة كانت أبعد ما تكون عما ذهب إليه، فكل ما حدث كان من فعل سعاد، فقد أدركت بذكائها أن هذا البك ضائع في البيت، وأنه مستعدٌّ أن يكون رهن إشارتها لو أتاحت له نفسها، ثم هو لا شك سيُغدق عليها من المال ما لا تتوقَّع وهي بعد لن تخسر شيئًا، وماذا عندها فتخسره؟!
فحين تكلم عن عودها لم يكن هو الذي يتكلم، وإنما كان الإعداد الذي أعدَّته هي؛ فهي تعرف تمامًا أن عودها جميل، وهي تعرف تمامًا كيف تجعله أعظم جمالًا، فلها وسيلتها أن يسطع النهدان منها، ولها وسيلتها أن يدقَّ الخصر، وينفر ما دونه، فكان لا بد للبك أن يقول ما قال، وما دام قد قاله، فكل شيءٍ بعد ذلك ميسور قريب.
كانت ليلة باردة، وكانت سهام قادمة من شقة دري، فظهرها وهي نائمة إلى حمدي، وكانت بينهما لغة خرساء في الفراش، فهي إن أولته ظهرها فهي إنما تخبره أنه غير مسموح له بالاقتراب منها في ليلته هذه، وهي إن اتخذت وضعًا آخر فله أن يقترب.
ولكن المهم أن إشارة البدء لم تكن تَصدر إلا منها هي وحدها.
في تلك الليلة الباردة أحس حنينًا، تأكد أنها نائمة، وتسلَّل إلى فراش سعاد، لم تكن سهام نائمة، وإنما لسببٍ لا تدريه أوهمته بنومها، وحين تسلَّل تعجبت بعض الشيء، وانتظرت قليلًا، ثم تبعته دون أن يند عنها صوت، رأته رأي العين في وضعٍ لا شك معه فيما يفعله، أو تفعله سعاد.
– يا ابن الكالب.
دون أن تَنطق، تراجعت.
ماذا أفعل؟
أين أجد زوجًا مثل حمدي؟
أو أين أجد خادمة مثل سعاد؟
وماذا حدَث؟ لقد كنت الليلة في نفس وضع سعاد مع دري، كل ما في الأمر أنني عرفتُ وهو لم يعرف إذن فكأنني لم أعرف.
ولكن ماذا يستطيع أن يفعل هو لو علم بأمري وأمر دري؟
أما أنا فأستطيع أن أجعله شحاذًا.
إن قطعت عنه المال.
وإن تركني من يحتمل أن يكون مثله.
المشكلة كلها يحلها شيء واحد.
أنا نائمة.
أنا لم أستيقظ.
أنا لم أرَ شيئًا.
أنا لم أعرف.
٦
كريمة هانم لا تترك كرسيَّها في النادي إلا حين يدعو داعٍ لا قِبَل لها برده، ولجلوسها في النادي أسباب قوية، منها أنها كانت راقصة شهيرة أحبَّها الأستاذ سامي إبراهيم المحامي، وتزوجها فتركت عالم الرقص إلى عالم سيدة البيت، ولكن الماضي الذي يصرُّ على أن يلاحق الناس لم يشأ أن يُعفيَها من قانونه الأزلي، وقد أنجبت كريمة لسامي فتاة تناهز الآن السادسة عشرة من عمرها، وقد أصرَّ ماضي الأم أن يُلاحق الفتاة أيضًا، وهكذا كانت كريمة تتشبَّث بكرسيِّها في النادي هاربة إليه من ماضيها، باحثة لنفسها عن مكان في مجتمع زوجها. والمجتمع — هذا المجتمع — لا يَرفض في صراحة، وإنما هو يتظاهر بالقبول، ثم يُشيع الهمس فحيحًا له جرس أغبر قاتم مشبوه.
وتحبُّ ماجدة أن تنسى ما تعرفه عن ماضي أمها بأن توغل في نشاط النادي موهمة أصدقاءها وصديقاتها ونفسها قبلهم وقبلهنَّ أنها فتاة طبيعية شأنها في الحياة شأن أي فتاة.
وهذه الصداقات تتوطَّد أو تَهِن وتضعف دون سبب معقول يدعو لأيٍّ من الطرفين.
وكانت ماجدة تحبُّ أن تلعب التنس، وقد بلغت فيه مدًى أهَّلَها أن تدخل بطولات، وكان أسامة يلعب التنس، وقد بلغ فيه مدًى يُؤهِّله أن يتقدم إلى البطولات.
وكانت كريمة تعلم أن أم أسامة ذات ثراء وافر، وذات اسم عريض كان أبوها يحمله.
وهي مَن هي معرفة بالرجال.
فأسامة إذن صديق وطيد الصداقة بماجدة، وكريمة تُغذِّي هذه الصداقة بكل ما تعرفه من خبرة وتمرُّس.
عرفت كريمة كل شيء عن أسرة أسامة، وعرفت أن سهام هي كل شيء في البيت، وأن الآخرين ظلال باهتة لشجرة البيت التي تُنفق عليه وتتحكم فيه.
فكان أول ما سعت إليه أن تجعل الظل أصلًا وأسامة رجلًا.
زعمت أن سامي مشغول بمكتبه وقضاياه، فهي تكلف أسامة أن يَصحب ماجدة، ويقومان بما تحتاج إليه من أعمال.
فإذا أحبَّت ماجدة أن تشتري شيئًا مما يشتريه الفتيات.
– خذي أسامة لا تَخرُجي وحدك.
ويحسُّ أسامة من هذا ومثله أنه يستطيع أن يكون إنسانًا قائمًا بذاته يعتمد عليه غيره.
وحين نال أسامة شهادة الثانوية العامة، وأصبح عنده سيارة أصبحت ماجدة لا تترك السيارة، بل إن كريمة كثيرًا ما كانت تعتبر سيارة أسامة سيارتها الخاصة، وتطلب إليه ما لا يطلبه أحد إلا من الأقرباء القريبين، وأسامة سعيد بماجدة وكريمة معًا.
والأم سهام تحبُّ دائمًا أن تُكذب عينيها وما تسمعه؛ فصِلة أسامة بماجدة في رأيها إنما هي صلة من الطبيعي أن تقوم بين شاب وشابة يحبان اللعبة نفسها، وينتميان إلى نادٍ واحد، وإلى سنٍّ واحدة.
ولكنها في عميق نفسها كانت هالعة أن تكون الصلة أكثر من ذلك، وأي مصيبة أعظم من أن يتزوج أسامة من ماجدة، إن أمها … لا … لا … هذا لن يكون، وإن بذلتُ دمي.
٧
كان الدكتور دري قد أوشك أن يترك العيادة حين قدمت إليه فريدة.
– أونكل دري.
– فريدة.
– كعب رجلي يُؤلمني.
– وجئتِ وحدك.
– هذه أول مرة أخرج فيها وحدي.
– وكيف جئت.
– أسامة لم يَخرج اليوم، وأخذت سيارته.
– وسهام، أقصد ماما سمحت لك؟
– ليست في البيت.
– أين ذهبت؟
– ولماذا أعرف؟
– هل تُحسنين قيادة السيارة في هذا الزحام؟
– ماذا جرى يا دكتور؟ أتراني طفلة أمامك، انظر جيدًا إلى من تتكلم.
ونظر، ولم يكن من قبل قد نظر، إنها الشباب في زهوة نضرته، يطلُّ منها عينان هما الجرأة، وهما الدعوة، وهما التحدِّي، وهما أيضًا ذلك الحياء، الذي يزيد النار اشتعالًا، وأنف يشير إليك أن صاحبته تريد أن تحبَّ وتبحث عن حبها، وتريد أيضًا أن تكون محبوبة، أنف في طرفه نوع من الشموخ والكبر، وفي مداه تناسُب مع وجنتين تعلوهما من قوة الشباب ضمرة، يعلو ذلك جميعًا شعر ثائر كالشباب عربيد كأيامه يستعصي على الهدوء ويتناثر كأنه لوحة فنان حديث.
– من أين هذا جميعه؟
– ألم تكن تعرفه؟
– أراه لأول مرة.
– لأنك لم تُفكِّر أن تراه.
– والشباب … زملاؤك … أصدقاؤك، ألا يرون هذا الذي أرى؟
– يرون فيَّ أكثر مما أرى في نفسي.
– ولكنهم لا يُعجبونك.
– فيهم غرور.
– ولا تحبِّين الغرور.
– قد أحبُّه لنفسي، ولكن لا أحبه لغيري.
– ولماذا تظنين أنني لست مغرورًا؟
– غرور مثلك معرفة بقدر النفس، وليس غرورًا.
– ستَجعلينني مغرورًا.
– كن ما تريد، فأنت كما أنت أحلى شيء في الدنيا.
– شيء.
– عندي أنا ليس في العالم أحسن منك.
– ولا سيارة كسيارة أسامة.
– ولهذا قلت شيء، أنت أحسن شيء في الدنيا.
– أصبحت مغرورًا فعلًا.
– وما البأس؟
– هيا بنا.
– إلى أين؟
– أرى كيف تقودين السيارة.
– وهو كذلك.
٨
قد أقبل أي شيء إلا أن يتزوَّج أسامة من هذه الماجدة، ألم يبقَ إلا كريمة الراقصة لتكون حماة أسامة، ويقول لها أولاده يا تيتا، تُرى أيُّ ألقاب الجدات ستفضلها كريمة تيتا، نينا، أنَّا، ستو؟ لا يُهمني ليكن اللقب ما تريد، إنما لن يناديها بها أولاد أسامة، وإن بذلتُ حياتي.
قامت إلى التليفون.
– دري؟
– كيف أنتِ يا سهام؟
– أريد أن أراك.
– إننا سنَلتقي غدًا، أليس كذلك؟
– أريد أن أراك حالًا.
– ماذا حدث؟
– لا بأس أن أخبرك بالتليفون.
– خيرًا.
– لا يُستبعَد أن أُصاب بالشلل.
– أعوذ بالله.
– أسامة سيُجنني.
– ما له؟
– ألا تعرف؟
– من أجل ماجدة؟
– أتراها مسألة بسيطة؟
– لا تَستحق كل هذا.
– لو تزوَّجها سأُصاب بالشلل إن لم أمت.
– يا سهام أولاد هذه الأيام لا يُمكن التحكم فيهم.
– إلا أولادي، أولادي أنا لا يخرجون من يدي أبدًا.
وحمد دري اللهَ أن التليفون لم يعكس إليها هذه الابتسامة الساخرة التي ارتسمت على وجهه، وراحت هي تُكمل.
– أولادي أنا غير كل الأولاد.
– وماذا تريدين أن تفعلي؟
– لهذا كلمتك.
– هل أستطيع أن أمنع شيئًا؟
– أنت تحب أسامة وأسامة يحبك.
– إياك أن تطلبي مني أن أنصحه.
– يا سلام، وما البأس أن أطلب هذا؟
– النصيحة عملة غير مستعمَلة في هذا الجيل، وأنا أكره أن أقف موقف الناصح على أية حال.
– اطمئن يا سيدي، المسألة غير هذا تمامًا.
– إذن أنا تحت أمرك.
– أنا أخطب منك عبير لأسامة.
– ماذا؟
– ألم تسمع؟
– سمعت.
– فما هذه الدهشة؟
– أليست مفاجأة؟
– كلُّ خبر مفاجأة قبل أن تسمعه.
– ولماذا أُضحِّي ببنتي؟
– إذا تزوجَت بنتك أسامة تكون ضحيت بها؟
– إذا لم يكن أسامة يحبها.
– الزواج يولِّد الحب.
– أو يولِّد الكره.
– ولماذا تُقدر السيء؟
– بقدر ما تُريدين السعادة لأسامة أريد السعادة لعبير.
– أنت ترفض؟
– أرفض أن تُفرَض عبير على شاب لا يحبها.
– فإذا طلبها هو؟
– أشوف رأيها.
– ولكن المبدأ غير مرفوض عندك.
– الرأي رأي عبير.
– اتفقنا.
– وشيء آخر.
– قل.
– يجب أن تُكلمي إلهام أختك وناهد أيضًا.
– إلهام أستطيع أن أكلمها، أما ناهد!
– سنرى ماذا ستفعل في الوقت المناسب.
– أراكِ غدًا.
– غدًا.
ووضعت سماعة التليفون، وما لبثت أن رفعتها.
– حمدي.
– نعم يا سهام.
– ماذا تفعل؟
– بعض دوسيهات لشركة المقاولات.
– اتركها وتعالَ.
– هل حدث شيء؟
– ليس شيئًا جديدًا، وإنما أريد أن أكلمك فيه.
– ألا تستطيعين الانتظار؟
– حين أريد أن أتكلم في موضوع لا أستطيع الانتظار.
– في ظرف ساعة سأكون في البيت.
– أريدك الآن.
– أمرك.
وقبل أن يأخذ مجلسه.
– ماذا سنفعل من أجل أسامة؟
– ما له أسامة؟
– هذه البنت التي لا يتركها ليلًا أو نهارًا.
– أهذا شيء جديد؟
– النار تأكُلني كل يوم كأنه شيء جديد.
– وماذا بيدِنا أن نفعل؟
– أنا أقلب الدنيا.
– قد تستطيعين أن تقلبي الدنيا، ولكن هل سيفيد هذا في صلة أسامة بماجدة؟
– سترى ماذا سأفعل.
– أنا تحت أمرك.
– أولًا أريد أن أخطب له عبير.
– عبير؟!
– نعم.
– وكيف عرفتِ أنه سيقبل؟
– هذا شأني.
وقبل أن يَنقضي اليوم كانت تزور إلهام.
– أريد عبير لأسامة.
– ماذا؟
– وما العجب؟
– لا عجب، ولكن ما أسمعه عن أسامة …
– لا يُهمني ما تسمعينه.
– يا سهام أخاف أن نُسيء إلى هذه البنت أكثر مما أسأنا.
– أنسيء إليها إذا طلبْناها لابننا؟
– إذا كان ابنُنا لا يريدها؟
– أنت تعرفين أنني في بيتي أنا وحدي التي أريد.
– أتستطيعين أن تقولي له أَحبَّ عبير؟
– أستطيع أن أقول له تزوَّج عبير.
– أهكذا ينشأ بيت سعيد؟
– وهل أحببتُ أنا حمدي؟
– وهل أنتِ سعيدة؟
– ما رأيكِ أنتِ؟
– ليس من الحتْم أن يتزوج ابنك من غير حب ما دمت أنت لم تتزوَّجي عن حب.
– أنا أبحث عن مصلحته.
– أنا ليس عندي أولاد، ولكن أخاف من تدخل الأمهات.
– حتى ولو كان لمصلحة الأولاد؟
– كلمة المصلحة هي الحجة التي تُشهرها الأم دائمًا، وهي دائمًا غير مُقنِعة للأولاد.
– أنا أعرف مصلحته.
– أنا لست أم عبير، ولكني أرعاها كأمٍّ وأرى نفسي مسئولة عنها، ولعله من العدل أن أبحث أنا أيضًا عن مصلحتها.
– وهل تجدين لها خيرًا من أسامة؟
– لو كان هو الذي يريدها.
– سأجعله يتقدَّم إليك.
– ستُرغمينه؟
– سيَطلبها منك.
ولم تنمْ سهام، بل انتظرت أسامة حتى وصل إلى البيت بعد مُنتصَف الليل.
– أسامة أين كنت؟
– في النادي.
– أنت الآن في السنة الأخيرة، ألا ترى أنك لا تذاكر بالقدر الكافي؟
– ماما ما لزوم هذا الكلام؟ أنا أنجح دائمًا.
– أراك تشغَل نفسك بأشياء كثيرة.
– ولكنني لا أُهمل المذاكرة.
– أنا خطبتُ لك.
– ماذا؟
– عبير بنت عمك الدكتور …
– أعرفها طبعًا، لا تحتاج إلى تعريف.
– ما رأيك؟
– ماما كيف تخطبين لي؟
– أليس هذا من حقِّي؟
– وأنا أليس لي حقوق؟
– أنا أبحث عن مصلحتك.
– وأنا أليس من حقِّي أن أبحث عن مصلحتي؟
– أتعرفها أكثر مني.
– قد أخطئ وقد أصيب، أحب أن أتحمَّل نتيجة الخطأ وأفرح بالصواب على شرط أن أكون أنا الفاعل.
– وإذا جنَّبتُك طريق الخطأ، أليس هذا خيرًا لك؟
– أمن الخير لي أن أصبح شيئًا تريدين له أنت كل شيء، حتى القميص تختارينه أنت؟
– وكل الناس تتكلَّم عن أناقتك.
– ليست أناقتي، إنها أناقتك أنتِ على جسمي أنا.
– وأنتَ الذي تتمتع بمديح الناس.
– أنا لا أتمتَّع؛ لأني لم أصنع ما يستحق المديح، أنا لم أقم باختيار شيء حتى أحسَّ بحلاوة المديح.
– المهم الآن، ماذا قلت؟
– فيم؟
– في عبير.
– ماذا تقولين أنتِ إذا رفضت؟
– رفضت! أهذا معقول؟!
– ما دمتِ تسألينَ الرأي، فلا بد أن تتوقعي الرفض أو القبول.
– أنا لا أتوقع الرفض منك مطلقًا.
– بل أنتِ لا تتوقَّعين الرفض من أحد على الإطلاق.
– وخاصة منك.
– فإذا رفضت؟
– تصدمُني صدمة عمر.
– أيُّ رفْض بالنسبة إليك صدمة عمر؟
– لا داعي لتحليلي الآن.
– تَفرضين عليَّ نفسك، وترفضين أن أفكر.
– فكِّر كما شئت.
– منذ متى؟ إنكِ أنتِ دائمًا التي تفكرين لي.
– لأني أحبك.
– أخشى أن أقول لأنكِ تُحبين نفسك.
– هل هذا الذي أفعله الآن من أجلك أم من أجل نفسي؟
– من أجل نفسِك، وإن حاولت أن تَقتنعي أنه من أجلي.
– أسامة لا تُكثِر من اللف وقل كلمتك.
– وهل لي من كلمة؟
– إذن فأنتَ موافق.
– بل رافض، وبكل شدة.
– غير معقول.
– إنما هذا هو المعقول الوحيد.
– أتكره عبير؟
– لو كنتُ أعبدها حبًّا لرفضت هذه الطريقة التي تُريدين أن تُزوِّجيني بها.
– مجرد كبرياء.
– لا بد أن أختار أنا زوجتي على الأقل، إنها ليست قميصًا أو حذاءً.
– وهل اختياري ضرر بك؟
– بل قتْل لي.
– إذن.
– هو ما سمعتِ.
– لقد استعملتَ حقك.
– ما دام حقي، فليَ أن أستعمله.
– إذن فلأستعمِل حقي.
– أنتِ حرة.
– أنا صاحبة كل ملِّيم يُصرَف في هذا البيت.
– ماذا؟
– هو ما سمعت.
– أعرف أني سمعته.
– وهل كان عندكَ شكٌّ أنك ستسمعه؟
– دهشتي أنه جاء متأخِّرًا.
– استعملته حين احتجتُ إليه.
– وترَين هذا عدلًا؟
– أنا أرى …
– لست في حاجة أن تجيبني هذا السؤال.
– أتعرف إجابته؟
– إنها غير ما تُفكِّرين فيه على أية حال.
– لا يُهم، يُهمني الآن أن أعرف رأيك.
– وهل لي رأي؟
– لكَ أن تختار.
– إنما يختار من يملك الاختيار.
– إذن فأنت موافق؟
– بشرط أن تقبل عبير.
– إذا كلمتَها ستَقبل.
– وتُريدين أن أكلمها أيضًا.
– أسامة اسمعني جيدًا، فإني أريد أن أكون واضحة.
– أنتِ فعلًا واضحة.
– ليس بالقدر الكافي، لن أُنفق عليكَ وأُبقي عليك السيارة المسجَّلة باسمي إلا إذا تزوجتَ عبير، لا يكفيني أن تُوافِق أمامي، ثم تذهب إلى خالتك من ورائي وتشكو لها ظلمي، ولا يكفيني أن توافق أمامي وتُهمل عبير حتى يكون الرفض من جانبها، موافقتك هذه لا تُساوي عندي شيئًا، إنفاقي عليك وبقاء السيارة مقابل زواجك، ولا أرضى شيئًا أقل من الزواج، ولا حتى الخطبة، الطريق الذي ستَسلكه إلى هذا الزواج شأنُكَ أنت لا شأني أنا؟
– إنذار أشبه بإنذارات الدول الكبرى للدول المحتلة.
– ولا يُهمُّني تعليقك أيضًا.
– أمرك، والمهلة؟
– أسبوع.
– أهو يكفي؟
– أكثر من الكفاية.
ذهب إلى خالته.
– طبعًا ماما خطبت عبير منك.
– المهم رأيك؟
– يُهمني جدًّا أن أتزوجها.
– هل أنت راغب فيها حقًّا؟
– مستقبلي كله متوقِّف على قبولها.
– ألا تسألها.
– ليس قبل أن تُمهِّدي لي عندها.
وحين سألت إلهام عبير.
– أبي أخبرني.
– وأنت ما رأيك؟
– أسامة لا يُرفض، ولكن أهو يرغب في هذا الزواج فعلًا أم هي رغبة تنت سهام؟
– لقد كلمني وهو يبدو ملهوفًا عليك.
– ولماذا لم يُكلمني؟ أنا معه كل يوم في النادي.
– طلب أن أمهِّد لك عنده.
•••
– عبير لقد عرفت؟
– تخطبني على طريقة الحريم؟!
– خفت أن ترفضي.
– وما البأس أن أرفض؟ إنما كان يجب أن تُواجهني أنت.
– ها أنا ذا أواجهك.
– هل أنتَ متأكِّد من شعورك؟
– وإلا فلماذا أكلمك؟
– لعلكَ تُريد أن تُرضي تنت سهام؟
– ألا تعرفين كم أنتِ جميلة؟
– مسألة الجمال لا دخل لها في الموضوع.
– ونحن أشبه بأقارب.
– كلُّ هذا لا يُهم.
– فما الذي يهم؟
– إن كنتَ لا تعرفه، فليس المفروض أن أقوله أنا لك.
– من الطبيعي أن أحبك.
– بالقدر الذي يَكفيك أن تتزوجني؟
– ربما أكثر.
– هل تشك؟
– ليست هناك مقاييس ثابتة.
– هل أنت واثقٌ من شعورك؟
– هذا لا شك فيه.
– أفكر.
– يُخيَّل إليَّ أنك فكرتِ فعلًا.
– أنا لا أرى فيك عيبًا.
– فلماذا التفكير؟
– كلمة لا بد أن تقال.
حين ركبتْ معه ماجدة اضطرَّ أن يقول.
– أنا واقع تحت ظروف لا قِبَل لي بها.
– ماما لا يَخفى عنها شيء.
– أتُقدِّر ظروفي؟
– الحقيقية هي غاضبة.
– أين هي الآن؟
– في النادي.
– ومتى ستذهب إلى البيت؟
– لماذا؟
– أريد أن أراها في البيت.
وذهبا إلى البيت، وطلبت ماجدة من أمها أن تعود إلى المنزل.
– أنتِ عرفتِ؟
– هل أنت طفل؟
– أنا طفلٌ حتى أتخرج من الجامعة.
– فهي إذن قد أرغمتك.
– وقبل أن أتخرَّج في السنة الأخيرة، وليس لي مكان أذهب إليه، ولا بد أن يتمَّ الزواج في أسبوع.
– وماذا أنت فاعل؟
– سيتمُّ الزواج.
– وفيم تريدني؟
– أرجوكِ ألا تغضبي.
– وماذا يُهمك من غضبي؟
– الكثير.
– على كل إنسان أن يبحث عن مصلحته.
– أنا أعرف مصلحتي.
– اصنعها.
– أن أتزوَّج عبير.
– مبروك عليك.
– ولكني أحب ماجدة.
– وماذا تُريدني أن أفعل؟
– لا شيء إلا أن تَعذريني.
– اسمع؛ مثلك لا يُهمه أن أعذره أو لا أعذره.
– لو كنتُ كذلك ما أصررت أن أكلمك.
– يا بني، ربنا يعمل ما فيه الخير.
– اسمحي لي أن أقبِّل يدك.
– العفو.
– أرجوك.
•••
قال له الدكتور درِّي: أسامة أنا أعرف والدتك حين تريد شيئًا لا يقف أمامها شيء، إن كنت يا بني تتزوَّج ابنتي تنفيذًا لأوامر سهام فقط، فأخبرني ولا شأن لك، إني أستطيع أن أؤثر عليها.
– مُطلقًا يا عمي.
– وماجدة؟
– صداقة تنس ونادي.
– الأمر كان يبدو أكبر من هذا؟
– وهل مثلك يهتم بالمظاهر؟
– أنت واثق مما تقول؟
– كل الثقة.
وتمَّ الزواج، وفي أسبوع.
٩
كان الحب الذي هبط فجأة على فريدة لخالتها إلهام يُثير العجب الداهش في نفس سهام، ولكنها في نفس الوقت لا تجد أي مبرِّر لمنعه، وحين تزوج أسامة من عبير طلبَت إلهام أن تجعل العروسين يُقيمان عندها في البيت الكبير الذي سيملؤه الفراغ إذا خرجت منه عبير.
وقد كان أهم شيء عند سهام أن يتزوَّج أسامة من عبير، ولا يُهم من بعد أين يقيمان، ولعل إقامتهما عند دري كانت أنسب لها؛ فهي تستطيع أن تزور البيت بغير حرج بعد أن كان تجهُّم أختها لزيارتها عند بدء زواجها من دري يجعلها تكتفي برؤية دري في الشقة الخاصة.
أما فريدة فلم تكن تجد حرجًا من زيارة خالتها كلما شاءت، ومن الطبيعي أيضًا أن تكون صديقة لعبير؛ فالمظاهر إذن كانت طبيعية، وكانت تستطيع في يُسر أن تخفي تلك العلاقة التي قامت بينها وبين الدكتور دري، وقد استطاع هو بطبِّه وبما يعطيه لها من دواء أن يَمنع تلك العلاقة أن تثمر شيئًا غير مرغوبٍ فيه.
وكانت فريدة في غاية الذكاء حين تُعامل خالتها فهي تُقدِّس جمالها كأنها إلهة من آلهة الإغريق، وهي تَمتدح ملابسها وزينتها مهما تكن هذه الزينة أو تلك الملابس.
وكانت فريدة ذكية في معاملتها لأمها؛ فهي تُطيعها طاعة مطلقة، ولا تَرتدي من الملابس إلا ما تختاره لها أمها، بل هي في خبث إذا أرادت شراء شيء أعجبَها أخبرت أمها به أولًا، فإن رضيت أمها اشترته، وإن رفضت تركته.
وكانت فريدة ذكية في صداقتها لعبير؛ فهي دائمًا تُشعرها بأنها محل حب وحنان من خالتها، ومن أمها، وأنها القِبلة التي يتجه إليها حب أبيها.
وكانت فريدة أختًا مثالية؛ فهي دائمًا مهتمة بأسامة تُشجعه أن يُلقي إليها أسراره التي كانت هي على علمٍ بها من النادي، ولكنها تبدو أمامه وكأنها تسمعها لأول مرة. وقد كان أخوها يحبها في إسراف حتى لقد أيَّدها في طلب سيارة لها يوم حصلت على الثانوية، أصرَّ أن تنال سيارة مثله.
وحين تخرَّج أسامة في كلية التجارة قدَّم لأخته معطفًا انتقتْه له ولها أمُّهما بالطبع.
وكان من الطبيعي إذن أن تكون فريدة متحمِّسة لرغبة أسامة في السفر إلى البلاد العربية ليُكوِّن نفسه بها.
وكان من الطبيعي أيضًا أن تُجنَّ أمُّه جنونًا لهذه الفكرة؛ فهي لا تتصوَّر أن يَبعُد أسامة، ويكون في بلدٍ آخر غير البلد الذي تعيش فيه، ولعلها عجبَت لنفسها يوم قبلتْ أن يعيش مع دري في بيتٍ واحد، ولعلَّ ما تعلمه عن نفسها رغبة في زيارة دري في بيته في أي وقتٍ لما سمحت لأسامة أن يقيم بعيدًا عنها بأي صورةٍ من الصور، كانت سهام تستطيع دائمًا أن تُبدي غير ما تظهر، وكانت تستطيع أن تلفَّ وتدور حول ما تشتهيه، حتى إذا أعياها اللف والدوران واجهت في عيون جريئة مُتحدية لا يعنيها أن يظهر من شعاعها ما كانت تخفيه.
كانت تُريد أن تمنع أسامة عن السفر، وكانت راغبةً في ذلك رغبةً عارمةً عاتيةً لا يقف بها عقل أو منطق أو شيء من الروية، وكانت تخشى أن تطلب إليه ذلك في صراحة، فيَزداد إصرارًا، ولكنها كانت مُطمئنة آخر الأمر إلى المال في يدها، وأنها تستطيع أن تمنعه عن السفر وقتما تشاء، ولكن شيئًا في داخلها كان يجعلها ملهوفة خائفة أن يتمكَّن أسامة بوسيلة أو بأخرى أن يُدبِّر أمرًا ويسافر، فلم تَملِك أن تمنع نفسها.
– إن كان من أجل المال؟
– وهل يُمكن أن يكون إلا من أجل المال؟
– ألا يَكفيك مالي؟
– أريد مالي أنا.
– هل منعتُ عنك شيئًا؟
– أنا عرفتُ قيمة المال حين تزوجتُ عبير.
– ألا تحبُّها؟
– هذا موضوع آخر.
– أتُريد أن تنتقم مني.
– أأنتقمُ منكِ إذا نجحتُ في حياتي؟
– تنتقم مني إذا استغنَيت عني.
– وهل أنتِ بالنسبة لي مال فقط.
– أنت كل شيء بالنسبة لي!
– لا تنسَي فريدة.
– طبعًا أقصدكَ أنت وهي.
– وأبي؟
– هل هي محاكمة؟
– أقصد أنَّنا كثيرون حولك.
– وهل يُبرر هذا سفرك؟
– يجعله معقولًا.
– وإذا طلبتُ منكَ ألا تسافر؟
– أسأل عن الأسباب حتى أقتنع.
– أنا أمُّك وأطلب إليك ألا تسافر.
– لقد تمكنتِ من هذا طوال الفترة التي كنت فيها تلميذًا أنا الآن متخرِّج.
– هل معنى التخرُّج أن تستغني عني؟
– معنى التخرُّج أن أعتمد على نفسي.
– أُخصِّص لك مصدرًا للمال.
– إن أموالكِ هي الجامعة التي لا تتصوَّرين أن أتخرَّج منها مطلقًا، وإنما دائمًا تُريدين أن أبقى طالبًا بها.
– لأني أحبُّك.
– لأنك تحبِّين أن نظلَّ محتاجين إليك.
– أجننتَ؟
– آسف لم أقصد.
– أنت حر.
– أرجو أن أكون حرًّا.
وخرج، واشتعل بها الجنون، أهذا يُمكن؟ أهذا معقول؟ لم تكن متهيِّئة للخروج، ولكنها لم تهتم، وخرجت إلى الشارع، وركبتْ سيارتها، لا تدري أين تذهب، الوقت مساءً، وظلام الليل دامس، والنور في الشوارع يَنسكِب في عينيها قطعًا من السواد، والناس قطعان من الغنم أو دُمى في سيرك، كل الناس دُمى، كل الناس تُحرِّكهم أصابع أخرى غير عقولهم، منهم من تحركه أصابع الرغبة في الغنى، أو الرغبة في الجنس الآخر، أو الرغبة في السيطرة، أين دري الآن؟ لا يُمكن أن يبقى في العيادة حتى الآن.
أنا لا أريد إلا أن أهيئ الخير لابني وبنتي وزوجي، أنا لم أصنعْ شيئًا إلا رغبة الخير لهم، وصُنْع هذا الخير بكل ما أملك من قوة ومن مال، لماذا ينفر مني أسامة؟ هو وحده الذي ينفر مني، أما فريدة وحمدي فإنهما أبدًا لا ينفران، لماذا أسامة وحده؟ لعلَّها عبير، ومَن قبْل عبير، لعلها هذه الراقصة وبنتُها الخليعة، لقد اقتلعتُه منهما بعملية جراحية عنيفة، ولكن لا بأس، لهذا يقول إنني أحب أن يظلوا محتاجين إليَّ، إنه لا يستطيع أن ينسى زواجه من عبير، وتركه لهذه الفتاة ابنة الراقصة.
ساحت بها السيارة في شوارع القاهرة، وفجأة وجدت نفسها أمام بيت أختها.
– إنه يُكلمني بثقة يا إلهام.
– وما العجب؟
– لا بد أنه حصل على المال الذي سيُسافر به.
– ربما.
– من أين؟
– وماذا يهمك؟
– أعرف.
– لماذا لا تتركينه يسافر يا سهام؟
– يُسافر يا إلهام؟ يسافر أسامة، ويقيم بعيدًا عني، أجننت؟
– بل أحسب أنك أنتِ التي جننت.
– هل من تحبُّ ابنها مجنونة؟
– بل من تَقتُل ابنها بحبها هي المجنونة.
– أنا يا إلهام … أنا؟!
ذوقي إذن من كأس لم تَذوقي منه أبدًا، لقد عشتِ تحقدين على جمالي، وتركتُ لك الأطفال لم أَنسل منهم شيئًا، ولم تترُكي الحقد علي، ذوقي اليوم من أطفالك الغصة، تُريدين اليوم أن تَحبِسي ابنك في سجونك التي صنعتِها من المال، ووضعتِ فيها زوجك ليكون أشبه بالقرد المُضحِك يتحرَّك بإشاراتك وأصابعك، ولكن أسامة رفض أن يكون مثل أبيه، أتحسبين المال كل شيء؟ إن كنتِ تملكين المال، فإن غيرك أيضًا يَملكه، قولي ولا تسكتي، أعرف حديثك هذا: إن أسامة ما يزال صغيرًا. ألم يكن صغيرًا يوم أرغمتِه على الزواج؟ إنه لا يعرف كيف يتصرَّف. فلماذا لا تَجعلينه يتعلَّم كيف يتصرف؟ ربما يمرض، وما البأس أن يمرض؟! في كل بلد أطباؤه، اتركي عنان الفتى يا سهام، اتركي أسامة يا سهام.
– اتركي أسامة يا سهام.
– أتركُه لمن؟
– لنفسه.
– إنه أهبل.
– لم تقولي هذا حين خطب عبير.
– وعبير طفلة.
– دعي الأولاد يَكبروا معتمدين على أنفسهم يا سهام.
– إلهام هل أنتِ التي أعطيت أسامة مصاريف السفر؟
– وما البأس؟
– إذن فلن أدخل بيتك مرةً أخرى، لو كان لك أولاد لفهمتِ. وابتسمت إلهام وهي ترى أختها تَنتفِض خارجة تاركةً وراءها كثيرًا من الضجيج في الشارع وحدها مرةً أخرى، تُريد أن ترى دري ولا تدري أين تجده، ليس عجيبًا أن تساعد أسامة على عصياني؛ فهي لا أولاد لها، وحقد الأخت أشد من حقد الآخرين، وما لها لا تحقد، لقد بدأنا أنا وهي في السن الذي نفكر فيه في أمور أخرى غير جمالنا، لقد بلغَت سن الحقد وبلغتُها أيضًا، فما هذه العلاقة بدري؟ إنها علاقة ممتدة لم أبدأها الآن، وإنما هي تسير؛ لأنه من الطبيعي أن تسير، ولكن أين دري؟ هو طبعًا ليس في الشقة، وماذا يُمكن أن يصنع هناك وليس بيننا موعد؟ ولكن لا بد أن أراه.
كيف يَسمح لإلهام أن تُعطي أسامة ما يحتاج من نقود ليسافر، طبعًا هي تدَّعي أنها تُنقذه مني، كأنما تحبه أكثر مما أحبه أنا، لا أحد يحب أبناءه قدر ما أحب أنا أسامة وفريدة، إنهما نبضة من قلبي، إنهما الدماء التي تجري في عروقي، إنهما كل شيءٍ لي، وأنا أيضًا كل شيءٍ لهما، كيف يفكر أسامة في عصياني؟ لا شك أن إلهام شجعته على ذلك، وليس ببعيدٍ أن عبير أيضًا شجعته، لا أحبُّ هذه العبير إنما زوجتُها له إنقاذًا من البلوى الأخرى ابنة الراقصة، كيف أرى دري؟
لماذا لا أذهب إلى الشقة وأظل أطلبه حتى أجده؟ لن أستطيع النوم الليلة إذا لم ألتقِ به، والدنيا برد، وما أظنه سيتأخَّر عن البيت. لعله يكشف في مكانٍ ما، أو لعله في زيارة لصديق، ولكن ما يلبث أن يروح.
ذهبت إلى الشقة، إن الصالة مضيئة، إذن فهو هنا، لعله مرَّ مرورًا عابرًا، إني سعيدة أن أجده، فتحت الباب، ليس بالصالة أحد، ولكن هناك شيء … شيء … شيء، إنه معطف … معطف كهذا الذي اشتريتُه لفريدة، وصرخ كيانها جميعًا، لا، واحتبست الصرخة لا تصل إلى الشفاه، أمعقول هذا؟ هي خطوة أو خطوتان وأعرف الحقيقة كاملة، ولكن هل أريد أن أعرفها؟ أحسَّت أن الأرض تميد بها وراحت تُلقي نظرها على الأشياء، لقد اشترت هذا الطاقم، هذه الكنبة وهذا الكرسي هي التي اشترتهما، هذا الكرسي الذي يحمل المعطف اللعين هي التي اشترته، وكانت سعيدة وهي تشتري أثاث الشقة، وكأنها عروس تُجهِّز نفسها للمرة الثانية، بل للمرة الأولى فهي في زواجها لم تخترِ الأثاث بحرية، وإنما كانت تختاره لها أمها، أما لهذه الشقة فهي وحدها صاحبة الاختيار، راحت تنظر إلى الأثاث في سرعة، ورأت نفسها في المرآة لا … إنها ليست هي … ليست هي تلك الغادة التي اشترت هذه المرآة، بل إنها ليست هي هذه السيدة التي دخلت منذ لحظات، وفجأة تنبَّهت، إنها ليست في المكان الذي ينبغي لها أن تكون فيه، يجب أن تكون في أي مكان … أي مكان. وليكن الجحيم، ولكن أبدًا لا يجوز لها أن تكون الآن وفي هذه اللحظة في هذا المكان.
خرجت وأغلقت الباب بهدوءٍ يَعدل الثورة التي تمور في نفسها، وهمت أن تأخذ المفتاح معها، ولكن وجدت أنه لم يُصبح لوجوده في حوزتها أي سبب، تركته، ولم تَنتظر المصعد، وإنما راحت تهرول على السلم تريد أن تبتعد، لم تكن تريد أن تبتعد عن دري، ولكن تريد أن تبتعد عن الحقيقة، قد يكون المعطف معطف فريدة، وقد لا يكون، ولكنها لا تريد أن تعرف الحقيقة أبدًا … أبدًا لا تريد أن تعرف الحقيقة، إنها تريد أن تترك للوهم والتخمين مجالًا واسعًا، ولا تريد هذه الحقيقة القاصمة القاتلة السفاكة.
إنها فقدت دري، ولعلها تستطيع أن تَفقده، ولكن ابنتها كيف تفقدها؟ وكيف تنسلخ عنها لتكن فريدة هي شريكة دري، ولكنها لا تريد أن تعرف، ولتكن غيرها، ولكنها لا تريد أن تعرف، يكفيها أنها عرفت أنها فقَدت دري وإلى الأبد.
ركبت السيارة، واندفعت مجنونة تبحث عن شيءٍ تمارس عليه جنونها، ولم تجد إلا عجلة القيادة، وسرعان ما تبيَّنت أن زحام الطريق لن يتيح لها هذا الجنون، أوقفت السيارة في شارعٍ بعيد عن شقة الخيانة، ونزلت إلى الطريق. لم تُرِد أن تعود إلى البيت قبل فريدة؛ فقد كان أخشى ما تخشاه أن تذهب إلى البيت، وتبحث عن المعطف فلا تجده، أو تنتظر فريدة فتجدها داخلة إليها وهي تلبس المعطف.
إنها لم تردْ أن تفاجئها في أحضان دري، وكانت تستطيع أن تدَّعي أنها رأت سيارتها، فسألت البواب عمَّن يسكن بالعمارة، وعرفت أن دري من بين السكان، فصعدت لترى ماذا تفعل ابنتها، لم يغبْ عن ذكائها أنها كانت ستحتاج إلى تلفيق هذه القصة؛ لتُبرر وجودها نفسه في شقة دري، ولكنها لم تُرِد أن تعرف الحقيقة، ولم ترد أن تراها، فمن الطبيعي ألا تحتال لتراها؟
وكانت تستطيع أن تنتظر قريبًا من الباب الخارجي للعمارة؛ لترى الخارجين جميعًا.
كانت تستطيع أن تعرف بوسائل كثيرة، ولكنها رفضت هذه المعرفة المنكرة، وابتعدت عنها.
وهي الآن لا تريد أن تعود إلى البيت، وستظل تمشي في الطرقات حتى تتأكَّد أن فريدة قد عادت، وأنها خلعت المعطف إذا كانت هي صاحبة المعطف الملقى على الكرسي الذي اشترتْه، هذا إذا كانت فريدة هي صاحبة المعطف، فهو على أية حال معطف جاهز، وقد تكون غيرها قد اشترت مثله، وهي لا تريد أن تزيد الشك شكًّا. فلتذهب إلى البيت، ولتخلع المعطف، وليكن كل ذلك بعيدًا عن عينَيها.
وراحت من غير هُدى تدور في الطرقات، وكأنها هي نفسها قد أصبحت دوارًا أصاب الزمان والمكان جميعًا.
حين خرج دري مع فريدة أقفل الباب، وأخرج المفتاح من جيبه؛ ليُكمل إغلاق الباب، ولكنه فوجئ بمفتاح سهام يسدُّ المنافذ على مفتاحه.
– يا نهار أسود.
وسألته فريدة في بساطة.
– ماذا؟
وأُرتِجَ عليه لحظات، ثم وجد نفسه يقول: لقد نسيت المفتاح على باب الشقة.
– بسيطة.
– ولكن كان المُمكن ألا تكون بسيطة.
– ولكن وجهك مُمتقع، وكأن أحدًا رآنا.
– رآنا … رآنا … لا … لا أظن.
– لا تظن، أيمكن أن يرانا أحد ولا نحسُّ به؟
– فعلًا … فعلًا، معك حق … هيا بنا.
ونزلا معًا، ولكنه قبل أن يخرج من باب العمارة توقف فجأة.
– اخرجي أنتِ واركبي سيارتك وامشي فورًا.
– ماذا بك؟
– لا شيء، مجرد احتياط.
– ومتى أراك؟
– كلميني.
– حسنًا.
– أو اسمعي، تعالَي غدًا.
– غدًا؟!
– غدًا، إني أريدك في شيءٍ هام غدًا.
– أمرك.
وخرجت، وانتظر قليلًا وخرج، وراح يتلفَّت حواليه، لم يجد سيارة سهام فازداد حيرة وتوجسًا وخوفًا، ولكن كان لا بد أن يذهب إلى بيته.
١٠
إذن فلا بد أن ألد، إنني منذ فترة أصبحت أتوق إلى الأولاد، لا أدري أي جديد غيَّر نفسي، وجعَلني أتوق إلى الأطفال، أهو السن، وقد علَت بي، أعلت بي السن؟ على كل حال لم أعُدْ صغيرة كما كنتُ حين رفضتُ أن ألد، ولكني الآن أريد طفلًا، طفلًا ألده أنا ولا أربِّيه لغيري، مهما أقدم لأسامة من عطف يُجسمه المال حينًا، أو يُجسمه الاهتمام حينًا آخر، فسيظل أسامة ابن سهام وليس ابني، وسأَسمعُها تُعيِّرني بأني لم ألد؛ فهي جديرة دائمًا بأن تقول أي شيء في جرأة ووقاحة لا يبلغها أحد.
ومهما أبذل من اهتمامٍ بعبير، ومهما تَقُل لي ماما إلهام، فستظل دائمًا ابنة ناهد ودري ولن تكون ابنتي، أريد لنفسي طفلًا ولن أسكت حتى أنال هذا الطفل، لعلَّ دري لا يهمه أن يكون له ولد مني، أما أنا فيُهمني، لقد أوقفت تناول الدواء منذ فترة ومع ذلك …
ويَقطع عليها دري هذا التفكير المُلح، وهو يدخل مُمتقِع الوجه لا إشراق فيه، ولا تلحظ هي ما به؛ فقد كانت في رغبتها هذه مطمورة لا تفكر في إنسانٍ آخر، وقبل أن تجيب تحيته المرتجفة.
– دري أريد طفلًا.
ولم يكن دري صالحًا لأي نقاش، ولكن كان لا بد أن يجيب.
– وماله.
– لماذا لا أنجب؟
– حين تزوَّجْنا لم تكوني راغبة.
– وأصبحتُ راغبة.
– هل ترين سنَّنا الآن تصلح؟
– هل كبرنا؟
– أرقام عمرنا تقول ذلك.
– لدرجة أننا لن نستطيع الإنجاب.
– إلهام أنا متعَب.
– أنا لا أراكَ إلا في هذه الساعة كل يوم، وتَستكثِر عليَّ أن أكلمك.
– هذا الموضوع ليس من السهل بحثه الآن.
– أريد أن أذهب إلى طبيب.
– نذهب.
– متى؟
– فقط يا إلهام قد يقول الطبيب إن سنَّنا لم تَعُد …
– دعه هو يقول.
– لا تنسَي أنني أيضًا طبيب.
– طبيب عظام.
– ولكن مُتخرِّج في كلية الطب.
– ولكنه ليس تخصُّصك.
– نذهب.
– متى؟
– متى تشائين.
– غدًا.
– غدًا نرى.
– لا نرى.
ويقطع عليهما مجيء عبير وأسامة الحديث كلاهما عابس متجهِّم، والأب مذعور في داخله، وأكثر ما يَخشاه أن يدخل في نقاشٍ آخر مع ابنته وزوجها. لم يُغفل ما هما عليه من مغاضبة، ولكن لم يُرِد أن يسأل، ولكن متى كانت عبير تنتظر السؤال؟ إنها لم توجه كلامها إليه، وإنما التفتت إلى إلهام.
– ماما إلهام اسألي البك مع من كان يجلس اليوم في النادي.
– هل أنا محجور عليَّ؟
– يا أخي إذا كنتَ تريد الزواج منها، فما الذي منعك؟
– يا ستي لقد تزوجتُكِ وانتهى الأمر.
– فما معنى جلوسك معها في النادي؟
– وتنتظرين أن أهرب منها.
– إنك أنت الذي ذهَب إلى الشلَّة التي كانت تقعد معهم.
– وما العيب في ذلك؟
– ألا تدري ما العيب؟
– ما العجيبة؟
– لماذا اخترتَ هذه الشلَّة بالذات؟
– أصدقائي وصديقاتي، ماذا في هذا؟
– لقد قلتَ بلسانك.
– ألا تعرفين ذلك؟
– أنا منتظرة أن أعرف منك.
– وها أنتِ عرفت.
– يا سعادة البك أرجوك أن تفوق لنفسك، ليس في النادي من يجهل صداقتك هذه.
– وماذا في هذا؟ أنا ألعب تنس وهي تلعب تنس.
– والتنس لا يُلعب إلا معها؟
– وهل تنتظرين أن أرفض اللعب إذا جاءت إلى الملعب؟
– وهي ما الذي يأتي بها إلى ملعب أنتَ فيه؟ ألم تعرفْ أنك تزوَّجت؟
– وهل معنى أنني تزوَّجتُ أن أخاصم الناس؟
– أيُعجبُكِ هذا الكلام يا ماما إلهام؟
– والله يا بنتي أنا لا أفهم شيئًا.
– ماما إلهام ألم تفهمي؟
– الذي أعرفه أنه ما دام تزوَّجك، فلا تخافي عليه، وهل في النادي مَن هو أجمل منك؟
– هذا في رأيكِ أنت، أما سعادة البك فله رأي آخر.
– أرجوك يا عمي دري اشتركْ معنا في الحديث.
– اترك عمك دري في حاله، أنا ذاهب لأنام.
وقام عن ثلاثتهم، ولكن أسامة ما لبث أن قام هو الآخر، وبقيَت السيدتان في نفس كل منهما كلام مُتنافِر كل التنافر؛ فإحداهما خائفة على زوجها أن تحيط به الفتاة الأخرى، وأما الثانية فمشغولة بهذا الجديد الذي يلحُّ عليها إلحاحًا شديدًا حتى ليُخيل إليها أنها لن تعرف إلى الهدوء سبيلًا إلا إذا رزقها الله بولدٍ أو بنت، وكل من السيدتين لا يُريد أن يتكلم؛ فالصمت هو اللغة الوحيدة التي يمكن أن تكون مشتركة بينهما.
حين ذهب درِّي إلى حجرته سارع إلى السرير يُريد لهذا الليل المهدم الضبابي أن يَنقشِع عن يومٍ جديد ليعرف ما الذي عرفتْه سهام؛ فالليل بالنسبة إليه طويل طويل كأنه الدهر، وهو لا يستطيع أن يتكلَّم في التليفون؛ فإن التليفون يتعذر فيه الحديث في هذا الوقت من الليل، وهو بعد لم يتحْ له الوقت الذي يحتاج إليه ليكذب ويؤلف ويعتذر ويموِّه، فلم يكن أمامه إلا أن يَنتظر.
أما أسامة فقد كانت تدور في نفسه خواطر أخرى يخشى أن يطول الحديث بينه وبين عبير، فيقول ما لا يريد أن يقول؛ فالنوم هو حصنه الحصين، وهو به قد تحصَّن.
١١
– كل علاقة لا بد أن تنتهي.
– لقد أخطأتِ الفهم.
– لا أريد أن أعرف شيئًا.
– أشرح لك.
– لا تُجهِد نفسَك.
– على الأقل لتعرفي الحقيقة.
– لا أريد أن أعرفها.
– اسمعيها.
– كنتُ أستطيع أن أرى الحقيقة بالأمس وهربت.
وساد صمتٌ واسترجع نفسه، لقد أيقنَ أنها لم تعرف شريكته، وكان هذا وحده كافيًا أن يهدأ.
– يا ليتكِ كنتِ دخلت.
– تستطيع الآن أن تقول ما تشاء.
– لو كنتِ دخلتِ لزالت كل الوساوس من ذهنك.
– دري، نحمد الله أن علاقتنا لم تَنكشِف حتى الآن، وأنا طبعًا كنت مقدِّرة أنها لا بد أن تنتهي، لا بد لنا الآن أن نرعى أولادنا.
– لا أحبُّ هذه العلاقة أن تنتهي بالصورة التي صنعتها.
– تصوَّر أنك قلتَ لي ما أعددتَه لتقوله طوال الليلة الماضية، وتصوَّر أنني صدقته، ولكني مع هذا أريد أن أنهي هذه العلاقة، لقد استمرَّت أكثر مما يجب.
– اسمعيني.
– لا يُجدي أن أسمعك، وأعتقد أنكَ أنت يجب أن تُنهي كل علاقاتك الخارجية، مجرَّد نصيحة تستطيع أن تأخذ بها أو لا تأخذ.
– ليس لي علاقات خارجية.
– إن كان لك؟
– أنتِ غاضبة.
– دري أرجوك، الموقف لا يَحتمل أي إطالة.
– لهذه الدرجة؟
– ليسَت هناك درجة، لقد كان ما رأيتُه أمس هامًّا جدًّا لكي أفيق، أنتَ لا تعرف، أو لعلك تعرف — لا أدري — ما دار في ذهني، هذا المعطف الكريه الذي رأيتُه، أشياء كثيرة طافت بذهني، أنا لن أتعرَّض لهذا مرةً أخرى مهما تكن العلاقة بيننا هامة، لن أسمح لك ولا لنفسي أن أتعرض لهذا مرةً أخرى.
– لن تتعرَّض.
– لا يكون هذا إلا بقطع علاقاتنا، وإذا تكلَّمتَ في الموضع مرةً أخرى سأقطع المكالمة.
– أمرك.
– كيف سمحتَ لإلهام أن تُساعد أسامة على السفر؟
– أسامة ليس صغيرًا يا سهام.
– إنه ابني.
– هذا لا يجعله صغيرًا.
– أنا الذي وهبتُه الحياة.
– لا يعني هذا أن تستردِّيها منه.
– أتُشجِّعه أنت أيضًا.
– ما الذي يجعلني أمنعه؟
– بنتُك.
– إنها زوجته.
– أتُسافر معه؟
– عندما يستقر ستُسافر إليه.
– إذن فقد دبَّرتم كل شيء.
– أي بأسٍ في ذلك؟
– أهذا تأثير إلهام عليك؟
– أنا مُقتنِع بهذا الرأي.
– رغم ما تعرفه عن رغبتي!
– لقد طلَب مني أسامة أن أقنعك.
– ولماذا اختارك أنت؟
– يعلم مكانتي عندك.
– ولكن أنا لا مكانة لي عندك.
– كيف تقولين هذا؟
– لو كانت لي مكانة عندك لمنعتَ أسامة من السفر.
– سهام، اسمعي ما سأقوله لك، اسمعيه جيدًا، أسامة سيُسافر سواء وافقتِ أو اعترضت، ومن الخير لك أن تجعليه يسافر وهو ابنك بدلًا من أن يسافر وهو لا يُهمه أن يكون ابنَك أو لا يكون.
– أنا أعرف ابني وأعرف كيف أمنعه من السفر، ولا شأن لأحد.
– افهميني.
– لا أريد أن أفهم شيئًا أو أسمع شيئًا، مع السلامة.
حين ذهبَت فريدة إلى شقة دري وجدتْه منتظرًا في البهو، خلعت معطفها وجلست وهي تقول: ما لك؟
– ما لي؟
– منذ الأمس وأنت إنسان آخر.
– تفكير مُعيَّن يُلحُّ عليَّ.
– ما هو؟
– إنكِ قاربت سن الزواج.
– عجيبة؟
– ما العجيبة؟
– لقد خطَبني اليوم هشام زكي.
– هشام زكي.
– شاب في النادي.
– ماذا يعمل؟
– متخرِّج من الهندسة هذا العام.
– وما صلتُه بك؟
– أهي غيرة؟
– أريد أن أطمئنَّ عليك.
– ليست هناك صلة خاصة مجرد واحد من الشلة.
– وماذا قلتِ له؟
– وهل تعقل أن أقول له شيئًا قبل أن أسألك؟
– وأنتِ ما رأيك؟
– الزواج أمر لا بد منه على كل حال.
– لا شك.
– هو شابٌّ لا بأس به.
– أعطيني فرصة أسأل عنه.
– وهو كذلك.
– وأخبري سهام، أقصد والدتَكِ، واطلبي إليها أن تجعلني أسأل عنه.
– لماذا أطلب منها هذا؟ أليس من الطبيعي أن الذي يسأل عنه يكون أبي؟
– طبعًا هذا ما كان يجب أن يحصل، إلا أن أباك لا يرى أحدًا، ولا يذهب إلى النادي؛ فالطبيعي أن أسأل أنا، أقرب صديق للأسرة.
– معقول.
– إذن ستتزوجين.
– لقد كنتَ تُقدِّر هذا كما قلت لي.
– المسألة تحتاج إلى إجراءات.
– نعم.
– وقد أعددتُ كل شيء.
– هذا ما كنتُ أتوقعه.
– ليس هذا غريبًا على ذكائك.
– موعدي مع الدكتور مجيد فؤاد باكر الساعة الثانية عشرة ظهرًا.
– هل سأتألم؟
– لا ألم مطلقًا في ظرف ساعة تعودين عذراء كما كنت، وتذهبين إلى البيت كأن شيئًا لم يحدث.
– وهو كذلك.
١٢
إذن فتلك هي الحرية، إذن فهذا ما كنتُ أسعى له حياتي كلها، ولم أصِلْ إليه إلا اليوم، كانت أمي تردُّ عنِّي الحرية كلما تنسَّمتُ منها نسمة، كانت تُذكِّرُني دائمًا أنها ولدتْني لتكون هي إرادتي ورغبتي وأملي وتحقيق هذا الأمل، فإن لم يكن أملي هو رغبتها عدَّلتْه وأصلحَتْ من شأنه، حتى أصبح أنا جميعًا رغبة من رغباتها، وأمنية من أمانيها، وهمسة من نفسها، وهاجسًا من هواجسها. تخلصتُ اليوم من كل سيطرتها، بل تخلصتُ من مصر جميعًا لأنشئ حياتي هنا، ويل نفسي من حب مصر! إنها هي التي لم أستطعِ التخلُّص منها؛ حنايا الذكريات، وخفقات الجنون، ونجاحي وفشلي، وحبي وبغضائي، ودمائي وأفكاري، وأمسي ويومي وغدي وغد أطفالي، كل عرق من عروقي معجون بترابها، أحبها كما هي وكما أشتهي أن تكون، بكل ما فيها من متاعب، وبكل ما أرجو لها من رفعة وسمو، أحب التليفون فيها لا يُجيب ولا يبدأ حديثًا، وشوارعها بما صارت إليه، وأتوبيسها مليئًا بالبشر متهالكًا، وقطارها وقد علاه الآدميون حتى لا يَبين. وأحبها وقد زالت عنها آثار الحروب هذه وعادت مرةً أخرى عروس الشرق ومنارته.
لقد استطاعت الحروب أن تُخرِّب التليفونات فيها والشوارع والحافلات والقطارات، بل وحطمت مستوى التعليم أيضًا، ولكن مصر هذه الخالدة تظلُّ منارة الثقافة العربية لا يُنازعها في ذلك منازع، ليَطبعوا الكتب حيث شاءوا أن يطبعوا، وليُترجموا من الأدب الغربي ما شاءوا أن يترجموا، وإنما ستظلُّ الثقافة المصرية والفن المصري مصدر الثقافة والفن العربيين في المشرق أجمع.
حريتي من حب مصر لم أستطعْ نزعها من نفسي، وكيف لي بهذا؟ إن نزعت من نفسي ارتباطي بمصر سأَنزع نفسي كلها لا أبقي منها شيئًا، إنها تُسيطِر عليَّ هنا أكثر مما تُسيطِر عليَّ هناك، إن لهم شعورًا نحوها عجيبًا هنا، إنهم يُكبرونها يُنفقون عليها، يحبونها ويَبغضون أبناءها؛ فقد خُيِّل إليهم أننا نبحث عن المال عندهم، وما يتخيَّلون حق؛ فإن الحروب التي خُضْناها أنضبَت جيوبنا من المال، ولكن لم تُنضِب رءوسنا من ثقافة السبعة آلاف عام، ولم تُنضِب تاريخنا من الجلال، ولم تُنضِب مستقبلنا من الأمل إن يكن مرَّ بها زمان أحمق مأفون أجدب الخير منها، فإن هذا العهد لم يستطعْ أن يُجدبَ تاريخها من الشموخ ومستقبلها من الأمل، مَن أنا حتى أحب مصر؟ ما أنا إلا طفل عابث على هامش الحياة تُحرِّك أمي خطواتي بإطاعتي لها، أو بعِصياني لرغباتها، ألهو فأُحطِّم حياة البنات، أحب هذه وأتركها، وأتزوَّج تلك وأطلقها، وأنجب من زوجتي وقبل أن أرى الطفل أترك الأم! عابث أنا حقير، ولكنني لا أحسُّ أنني شيء يستحقُّ الوجود إلا حين أذكر أنني مصري، إنني أعبد بلدي من بعد الله.
إنها الحب الذي لا يخون، وإن طلبت الفداء فلنفسي تطلبه ولأولادي ولأهلي. وتقبَلُني غنيًّا وفقيرًا، متعلمًا وجاهلًا، كريمًا وحقيرًا. تقبلني كما أنا، كما هيَّأني الله أن أكون.
إنها هي التي لم أستطعْ أن أُحرَّر منها، وأنا أسعد الناس بعبوديتي لها، أما أمي فقد تحرَّرتُ منها تمامًا، ولكن هل نلتُ حريتي حقًّا؟ ألا يستعبدني هنا صاحب المال؟ هراء! أنه يُعطي مالًا مقابل عمل، وأنا أتقاضى مالًا مقابل جهد، ويوم أضيق به أستطيع أن أتركه لغيره، وتلك هي الحرية.
لقد أصبحت حرًّا، تحررتُ حتى من آثار أمي وطلقتُ عبير، طلقتُها وهي حامل، لا أريدها، ولا أريد حتى أن أحبَّ الطفل الذي أنجبتْه رغبات أمي.
خالتي إلهام كانت تريد طفلًا، ما البأس أن تتولى شأن الطفل؟ فالطفل مني ومن ابنة زوجها، فما هو عنها ببعيد.
وأرسلتُ إلى ماجدة أن تأتي لأتزوجها، وقد جاءت مع أمها وتزوجنا.
عجيب أمري، أكانت ماجدة هي من أحب، أم تراها تُمثِّل لي شيئًا لا تُريده أمي؟ إنني بعد الزواج لم أكفَّ عن ملاحقة الفتيات والنساء، أيُّ إنسانٍ أنا؟! أبحث عن حريتي بين أطلال النفوس التي أُخرِّبها.
مسكين كل إنسان يتصل بي، أم تراني أنا المسكين؟
ماذا يضمر الغد لي ولزوجي ولابني؟ ليتني أعرف! أو لماذا أعرف؟ إن أجمل ما في الحياة أن تظلَّ غيبًا مستورًا، وأجلُّ ما في الإنسان أن أحدًا لا يعرف ما يخفيه هيكله؛ فالله وحده هو وحده الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.