أشخاص نخب العدو
ليسوا وحدات مستقلة، ولكنهم أفراد من مجموع. كل واحد منهم له مزاياه الجسدية، والعقلية، والنفسية، وله تاريخ حياة حافل بالحوادث، فتعرف إليهم كما يظهرون لك. خذ.
أم وسيم
تعبد بعد الله — وربما قبله — ولدَها وسيم، وتبغض قبل الشيطان «بني الحمصي» — قتلة أبي وسيم. شديدة العزم، شديدة الذكاء والإرادة، قوية الشكيمة، جريئة، ورعة، تخاف الله وتستنجده، وتصلي له، وتأتمُّه، كأنه صديق قديم، والصديق يبغض عدوَّ صديقه، فالله فاتك في نهاية الأمر ببيت الحمصي، حامٍ لوسيم. تبغض كل من ليس من دينها، أو حزبها أو ضيعتها. عبثًا تحاول تحويل اقتناعها، إذ إن قوة النفس قد أرهفته، فلا مساومة في معتقداتها، حريصة، حذرة، يقظة، كثيرة الجد، ذات أنفة وكبرياء، طاهرة من العجرفة، ضربة السيف لا تؤلمها، ولا تفهم كيف تؤلم سواها.
حلفت أن تخنق «هدى الحمصي» بغدائرها، ولو رجعت «هدى» غير مقصوصة الغدائر لماتت على وصفة «أم وسيم»، ثيابها جبلية، نظيفة، وكذلك أثاث بيتها، أمَّارة بحديثها، أبدًا تصيح، مدمدمة، محتجة، كثيرة التحدث مع نفسها بصوت عالٍ منذ الصغر، زادت بها هذه العادة بعد ذهاب «أبي وسيم»، فأي أرملة أحبت رجلها لا تشعر بالوحدة بعد فقده، وأي علامة للوحدة مثل تحدث الإنسان لنفسه بصوت عالٍ؟!
خفيفة الخطى على شيخوختها، نحيلة الجسم، صلبته. أبغض الأمور إليها الأكل والنوم. أقامت لأبي وسيم تمثالًا في عيني وسيم. فليس من مزية مستحبة في الدنيا لم يتحلَّ بها «أبو وسيم». أما كيف كان أبو وسيم يضربها، فأمرٌ لا تحدث به الناس.
ربما مثل «أم وسيم» أمهات قيصر، ووشنطن، ونابليون.
زليخة
هيفاء كمحدلة الطريق، صوت كأنه زمور، بهيمة بشرية، ضخمة الصدر، هائلة الخدين، منبوشة الشعر، حولاء، متدلية الشفتين، عبدة النفس بلهاء، احتل أنفها زكامٌ أبدي، فهي أبدًا تمخط بتنوريتها، ولكن في قبحها وخشونة سلوكها تناسبٌ يهمُّ بأن يكون جمالًا. قل عن زليخة ما شئت، ولكنها خفيفة الدم مهضومة.
أبو مرعي
يقول لك فتيان «وادي الأرز»، ويبتسمون: «أبو مرعي»، عمي أبو مرعي، بطل غير مجرِّب. قذيفة ديناميت لا تدري إذا كان بارودها مبلَّلًا، هائلة الجثة، أما الهمة فلا نعلمها. لماذا لا يأخذ بثأر أخيه أبي وسيم؟ وإن كانت الظروف غير مناسبة، فما باله أبدًا يبصق كلمات من نار كلها توعد، ويدمدم كلمات من دَمْدَم؟ من الذي شهد بطش أبي مرعي؟ أين كان حين «وقعة العين»، و«معركة السنديانة»، وحين تنادى الشبان في آخر الحرب، وقاتلوا مفرزة من جنود الأتراك مهزومة، أين كان أبو مرعي؟ وما هذه الواقعة في بيروت بينه وبين أربعة من «بني البترون»؟ من شهدها، وشهد البطش الذي يدعيه؟
وقد يكون شُكاته على خطأ أو على صواب، ولكن إذا لم يشهد الناس منه بطولة، فمن هذا الذي عرف عنه جبنًا؟ أبو مرعي — ككل رجل عظيم — فيه الكثير من اللغز والتناقض، غير أن المعترف به عن أبي مرعي هو أنه لبق في معاملة أبناء الحكومة. كل دعوى له أو عليه أبو مرعي يربحها، نبيل تجاه عائلته، يموِّنها، ويقوم بحاجاتها. يحمل عصا الناطور شهرًا، وينتزعها منه أبناء الحمصي شهرًا، والحرب بينه وبينهم سجال.
نار البغض لا تلتهب في نفس وسيم، وهذا نقص لا يسامحه عليه أبو مرعي. ليس فيه من عيب جسدي، إلا أنه ثقيل السمع.
الدكتور نجيب
تمشِّط الدنيا فلا تجد له مثيلًا.
صعب على الناس أن يفهموا الدكتور نجيب؛ لأنه عاش تلك الخمس والستين من حياته، وانصرف عن الدنيا، ولم تظهر نفسه عارية أمام أحد. فنحن نستنتج خصاله بما نرى من أعماله. محاولة صعبة، وقد تكون غير مضبوطة، ولكن ما الحيلة، وفي الناس مئات يدعون صداقته، وليس فيهم واحد آخاه؟ نراه في آخر مراحل العمر، تطغى إرادته القوية على الجسم المتهدم، فيسير بمشية عسكرية مغصوبة توهمك القوة، حتى تلمح كتفين تهدلا، وفكًّا يتراخى في غير إبان الحذر، فتعلم أن الرجل يقترب من مرقده الأخير. يحدثك عن مستقبله، وعما سيقوم به من الأعمال، فهو سيزيد على المستشفى الكبير الذي يرأسه جناحًا في السنة القادمة، وجناحًا بعد خمس سنوات، وعلى المختبر أشعة إكس بعد شهرين، و… و… بعد عشر سنين، وعلى ألوف الكتب التي يقتنيها ألوفًا أخرى. فتسائل نفسك، ترى، أيعتقد هذا الإنسان أنه سيعيش إلى الأبد؟ وتحاول أن ترمي عليه هذا السؤال، فتصطدم بنظرتين من عينين تصيحان «قف».
تحسبه مبشرًا حتى يتكلم، فتسمع من صوته نبرة أمرٍ طبيعية، كأنه خُلِقَ ليأمر، وشدَّدت هذه النبرة سنوات قضاها أستاذًا في جامعة، وسنواتٌ كان خلالها ضابطًا في جيش.
لعل أعظم ما قام به عجيبتان؛ الأولى: أن الجرائد العربية دعته نابغة وعبقريًّا، وكان بحق نابغة وعبقريًّا، إذ إنه كان بدون ريب أعظم طبيب، وأمهر جراح عرفته بلاد سكانها ١٨ مليونًا.
والعجيبة الثانية، أن ألسنة مواطنيه لم تنله بهجو، فقد تعالى عنهم إلى حيث لا يطاله لبيطهم. يعمل الخير بدون مباهاة، كأنما فعل المروءة كتنظيف الأسنان شيء ضروري مألوف. يعاشر سكان الذروة من المجتمع، ويجلس إلى موائد العوام، ويفعل هذا غيرَ متصنع.
ولكانت سيرة حياته ناقصة لو جاءت فوزًا مستمرًّا لم يتخلله فشل. فالذي لا يعرفه الكثيرون أنه انقطع عن ممارسة الطب سنوات خمسًا، وانزوى إلى منجم، كانت نتيجته المالية فاجعة. في برهة تلك السنوات، ابتدأ الناس يتحدثون عنه ﮐ «رجل كان». لم تعد الأيدي ترتفع للسلام عليه بالعشرات حين يسير في الشارع، ومن عرف عنه كيف كان يزدري المال، وكيف كان ينفقه بأسرع مما يكسبه — وكان يكسبه بالألوف — تصوَّر كم كانت أليمة عليه تلك السنوات. إنما هل شكا؟ هل تأوَّه؟ هل انزلق إلى عالم الذكريات؟ هل كان في لبسه وسخاء يده، ونظراته، شيءٌ يدل على فشل؟ جاءته تلك السنون في غسق العمر، وفي غسق العمر قام الدكتور بأعظم أعماله، واستردَّ مكانته العلمية والاجتماعية، وقفز في سلَّم الحياة إلى أرفع درجاته، وقد ساعدته على ذلك — ولا عار — الأقدار؛ إذ إنه في الساعة التي كان الدكتور بها يفكر كيف يسترجع مكانه، كان مواطن يحمل المسدس لينتحر، فلما أن وصل الدكتور نجيب وجد … قد أطلق الرصاص على رأسه، فاخترقت الرصاصة الصدغ الأيمن، وطارت من الصدغ الأيسر، وراح الدماغ يرشح من الجانبين. الدكتور نجيب شفاه، وشفى اسمه من صدأ بدأ يعلق عليه في هيكل الشهرة، وابتنى مستشفى، كان محجة كبار الأغنياء، الذين يبغون شراء أثمن ما في الدنيا، والمعدمين من الفقراء، الذين لا يدفعون إلا الشكر أجرة، وكان الدكتور يبهظ الأجرة على الغني، ولا يكتنز منها — على خطأ الناس في تقدير ثروته — إلا شكر الفقير. فلم يخلِّف من المال إرثًا إلَّا مكتبته وأدوات طبِّه، وضمانة حياته. أرزانة تلك التي قطبت جبينه أم هي كآبة؟ ما هذا الذي يجلل شيخنا، كأنه حزن عميق؟ أي فاجعة مرَّت به لم يأتِ خبرها الناس؟ هو لم يقصر على الطب أعماله، بل ألَّف كتبًا علمية، ونظَّم صفوف مواطنيه المهاجرين في جيش تفرَّق قبل أن يحتشد، ورجع إلى بلاده في محاولة سياسية لم يكللها النجاح. فهل استصغر ذلك العظيم محيطه، والحقل الذي اشتغل به؟ لقد احتك بشخصيات عالمية، فهل قايسها بصمت، بشخصيته فوجد في نفسه تفوُّقًا، فتأوَّه وقال: لماذا أخذت زاوية أنيرها، وكان في وسعي أن أملأ الساحة شعاعًا؟ أنا لا أدري الجواب، ولا أعرف أن في الدنيا من يدريه، ولكنَّ استنتاجي يقودني إلى الاعتقاد أن قد كان في الرجل طموح إلى الظهور بمظهر عالمي كبحته الأيام، وأن هذا الحزن الذي غاص إلى أعماق نفسه هو نتيجة اقتناعه أن حياته — على شمول اعتقاد الناس بأهميتها — كانت فاشلة باقتصارها على ميدان صغير جال فيه.
تحدثه عن لبنان وسوريا، فيستسيغ الكلمات عنهما، كنَهِم يبطش بطبق حلوى، فإذا ما وصلت من تاريخهما إلى بعد الحرب، أجفل وصمت، شأن من فقد عزيزًا لم يمضِ على وفاته وقت كافٍ، حتى يبيح لنفسه التحدث عنه. فهل كان بسبب حبه لوطنه وشدة مباهاته ذا أحلام سياسية عظمى، نكبته بها الأيام؟ اجتهاد في الاستنتاج، ولكنه محتمل.
أما المظاهر التي تطفو على نفسه، والتي يبصرها العميان، فهي ما شاع عنه: من لطف، وأنس، ولمعات غضب، وديمقراطية، وبذخ، وحب للتفاصيل متناهٍ، ونهم في المطالعة، وغرام بقهوة «سوداء كالشيطان، ملتهبة كجهنم».
بالطبع كان يكثر من محاولة تنظيف نظارتيه بمنديله.
الآغا وابنه
يتقدم العصر، كما يتقدم البقرةَ ذنبُ البقرة. ليس من أحد يدري كم أردت «الزائدة المعوية» من نفس خِفْيَة! حتى اكتشفها الأطباء، وعلموا أنها بقية مصران، كان ذا نفع في الأجيال السالفة، وأنها اليوم مصدر كثير من الآلام، والالتهاب، والفساد، والاضطراب، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع أذاها هو قطعها.
كذلك، لن يتسنى لبني الشرق الأدنى أن يعرفوا كم أنزل بهم البكوات والباشوات، والمشايخ، والمقدمون، والأَغَوات، والأمراء؛ من مكروه! ولن يقدروا أن يعدوا قتلاهم، حتى يفقهوا أن هذه الطبقة من الناس هي «زوائد»، كان لها نفع في الماضي، وأنها اليوم لا تقوم بعمل ما إلا المضرة، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع أذاها، هو قطع نفوذها.
على أن بني الشرق الأدنى سائرون نحو التفلُّت من أذى هؤلاء الطفيليين سيرًا هادئًا، سيطول زمنه؛ لأن العنف لا يرافقه، ولكن نتيجته واحدة محتومة.
«فالآغا» في هذه الحكاية طفيلي، يغزو موائد الشعب ويتصدرها؛ لأنهم لا يتفقون على من يتصدرها، وهو يعتقد أن تفوق مكانة عائلته على الناس أمر مسلم به، هكذا كانت الأمور، وهكذا يجب أن تكون. يتعلق بمكانته التي تدر عليه عيشه تعلقًا غريزيًّا كأطفال الحيوانات بأثداء أمهاتها، ويتوسل إلى ذلك بتفرقة القوم وتضخيم أحقادهم، ولا يؤلمه ضميره، فهو يلعب لعبة هذه قوانينها المشروعة. أراد أن يعد للمستقبل وطوارئه، فأرسل ابنه إلى المدارس ليتثقف؛ حتى إذا تطالَّ إلى مراكز الدولة رجل من العامة، كان ابن الآغا أحق بالوظيفة، ولكن ابن الآغا استهوته حياة المدينة وفسقها، فطيَّر البقية من أراضي أبيه، ولم يتثقف بغير آداب المواخير، وكان خلال ذلك «العوام» من «وادي الأرز» أصابوا المال في المهجر، والثقافة في الوطن، فأين هو الآغا الآن؟
هو حيث يجب أن يكون ورفاقه «الباشوات»، و«المشايخ»، و«البكوات»، و«الأمراء»، و«المقدمون»، والطفيليون جميعًا؛ في «لا مكان».
وماذا تنتظر أن يقلِّب أبدًا بين يديه إلا مسبحته الصفراء؟
راجي البيروتي
الفتى النحيل، المنرفز، القلق، الضجِر؛ راجي البيروتي، هو ابن «أبي راجي»، ولا أقول «أبو راجي البيروتي»؛ إذ إن بيروت منذ فتحها العرب إلى أن أقفلها الأرمن، لم ينشأ بها إلا «أبو راجي» واحد؛ هو رئيس البحارة، ورئيس المينا، وهادي البواخر إلى أمين مراسيها. ويظهر أن «أبو راجي» هذا نبت من نفسه، فليس في بيروت عائلة تُدعى البيروتي، سوى عائلته، وعائلته هذه هي هو وابنه، وما عاب أبا راجي أنه قصير القامة، نحيلها، فأبو راجي «قبضاي» صبوح الوجه، سموح الكف، قاضي البحارة إذا اختلفوا، دائنهم إذا أفلسوا، قائدهم إذا مشوا في أمر، محاميهم إذا نشأ بينهم وبين القانون سوء تفاهم، وهو بلا ريب أمهر بحَّار عرفته بيروت. أما كيف شيد أبو راجي قصره ذا الأربعة طوابق؟ وكيف ملك عدة مراكب شراعية؟ وكيف عاش باذخًا كالأمراء؟ فليس من الصعب تفهمه، فبنو لبنان وسوريا يعشقون الأسلحة، وفي مصر حشاشون، ورجال الأمن بعضهم متساهل، وبعضهم يغمض عينيه إذا امتلأت يده، وفي المآزق «هم رجال ونحن رجال، ولعينيك يا أبو راجي.»
وراجي طبعًا لم يُخلق من أبي راجي وحده، فأين هي أم راجي؟ سؤال إذا ألقيته على حلقة بحارة يدخنون النراجيل في مقهى «الأنيلوتي» صمتوا، فإذا ألححت، قالوا: «الموت غير نقَّاد، ولكنه في بعض الأحيان عادل، والمدعي العام لم يثبت أن جثة المرأة كانت جثة أم راجي، ولا أن جثة الفتى كانت جثة «خرطبيل الأقتمي»، ولعن الله كل من عابت — ويبصقون — ولعن الله النساء أجمعين — ويبصقون ثانيةً. وأبو راجي رجل شريف، وبخاطرك يا أفندي.»
كان راجي في الثالثة من عمره، حين فقد أمه، وأعاضه أبوه عنها بممرضة، ولكن شديد عناية الممرضة، وكثرة الدمى التي أعطته إياها المرأة اليونانية «طَمَارة»، تلك التي تسكن الطابق الأعلى مع أبيه، لم تعوض عن حنان الأم، خصوصًا وقد نبا عن راجي «أبو راجي»، ومن يدري إن لم يكن في أعماق نفس الأب شك عظيم، مع أن راجي صورة أبيه المصغرة، ولكن يكفي أن يكون الطفل من دم تلك التي عابت، «ابصق معي» حتى يكرهه أبوه، وهنالك «طمارة» الفتاة اليونانية، تشغله لياليه، وفي المرفأ بواخر، وفي عرض البحر عاصفة، وفي مخدعه عواصف، غير أن أبا راجي جواد، ولعله أراد رشوة الخفير في نفسه، حين أغدق على راجي المال، فشبَّ أنيقًا يلبس على الكاتلوك كثير السيارات، والعشراء، مسرفًا، خليعًا، يقال أن ليس في مواخر بيروت مومس تجهل ألوان بيجاماته، وهو ربيب المدارس بالطبع. كان في المدرسة كغريب يساهم في مأتم شخص لا يعرفه، غير أن راجي ذكي الفؤاد، فكان يماشي دروسه، فما وبخه أستاذ، ولا أعجب به أستاذ. أما اندفاعه في ملذاته، فكان تهربًا من بيت فقدَ الروح العائلية، ولإشباع عطش في نفسه، ولكل شيء نهاية؛ فقد تبرَّم بعيش البذخ والترف، والخنا، وملَّ عشراءه، وحياته، ومومساته، وسياراته، وحجَّر عواطفه، وطوَّح به إلى الاستخفاف بفواجع الحياة ومهازلها فاجعة أبيه؛ «فطمارة» هربت مع ظابط في الجيش فتيٍّ، وماذا تريد «طمارة» — ابصق معي — بعد من أبي راجي، وقد كنزت ثروة من نقوده وجواهره؟ وشاء تهكم الدهر أن يهربا على باخرة يقودها «أبو راجي» من المرفأ إلى عرض البحر، ولأبي راجي عيون على البواخر، فما أفاد الحبيبين تسترهما في غرفة منعزلة. أما كيف انفجر صندوق الديناميت؟ وكيف غرقت الباخرة بطمارة وبحبيبها، وبأبي راجي؟ فلغز ما حلَّه البوليس البحري، وفي بيروت اليوم بحري شيخ يدخن الأراكيل، ويعرف الكثير، ويقول لك: من هتك العرض وفاته السكين، يناله الطوربيل.
وكان بيت أبي راجي من تلك الصروح التي تنهار مع بُناتها، وكأنما قيل لراجي إن سعر المشمش ارتفع، أو إن الأمطار هطلت في الزنجبار، حين قيل له إن أباه هلك؛ فالدنيا ما عادت تخبئ لراجي دهشة أو انذعالًا، كذلك لم يبغته حجز «إسحق إبراهيم السلطي» على أملاكه؛ تسديدًا لسند ضخم ادعى أن أباه وقعه، فحينما دخل مأمور الحجز من الباب، قفز راجي من النافذة، ففي بيروت غرف كثيرة، يُستطاب النوم فيها.
وطبعًا، لم يسكت رجال أبي راجي على تسلطن إسحق إبراهيم السلطي، فكثرت الأحاجي حول ذلك المالي. من أرسل له تلك الجمجمة في البريد؟ من سمم لكلبيه الشهيرين؟ لماذا كثر دوي الديناميت — وبيته على البحر — قرب بيته؟ لماذا يكويه البحارة بنظراتهم، ويبصقون؟
إلى أن نادى إسحق راجي، وقال له: لك مني ١٠٠ ليرة شهرية، تستلمها ما حييت، فأذع الخبر بين الناس، فأنا لأبيك وفيُّ.
إذا تزوج راجي فتاة تُحسن سرجه، وتجيد ترويضه، ركض، وخلَّف جمهور الناس بعده بأميال، ولكن راجي أعقل من أن ينهز نفسه، وصعب عليك أن تجرَّه، فسيموت رجلًا «كان في وسعه أن يكون …»
وسيم الحموي
فوسيم الحموي إذن حين طلب العلم في مدينة بيروت كان على شيء من الخيلاء، برَّرته انتصاراته المدرسية، وخففت من غلوِّه أنه كان في نظر رفاقه أبناء المدينة «جبلي» فقط لا غير. فابن الضيعة، في المدينة، عليه أن يفوز بالكثير قبل أن يتخطى ذلك الحاجز، الذي يَقْفِصه في عيون أبناء المدن، إلى ذلك المستنقع الوخم، الذي يُسمى «الضيعة»، ووسيم كان طفلًا حين قُتل أبوه، فجعلت له أمه من أبيه مثلًا أعلى يباريه. أبو وسيم كان أشجع، وأذكى، وأشرف خلق الله؛ إذن فعلى وسيم أن يكون كأبيه. حينما سمعت أم وسيم أن ابن الحموي أُجريت له عملية «البحصة» في بيروت — «بحصة، هاه!» صارت أم وسيم، وانتزعت من صندوقها حجرًا كالليمونة، وقالت: «هذا الحجر أخرجه الدكتور من مبولة أبي وسيم، وهو أكبر من أكبر رأس في بيت الحمصي.»
لهذا نشأ وسيم — وأمامه أبوه المقتول، مثل أعلى يتحداه — شديدَ الثقة بنفسه، فوَّار الطموح. تأدب، فانصرف إلى النوع الخطر من الأدب، ذلك الأدب الذي يغوي صاحبه إلى أن «يعيش» أدبه، بدلًا من أن يقتصر على أن يكتبه فقط. هادئ، فإذا ثار انقلب إلى زوبعة، كثير التخيل والأحلام، لو جاءت مشاريعه الأدبية والتجارية سلسلة، لوصلت جهنم بالجنة، ودارت حول الأرض ٤٧١ مرة، وفيٌّ، يحب راجي حب الصديق، ممزوجًا بعاطفة أبوَّة، فراجي بنظر وسيم طفل قوي الجسم، رزين، غلا في ساعات الدعاب، نوره ليس بمصباح دائم الشعاع، بل هو أسهم نارية، تنفجر بدويٍّ عظيم، وتلمع في السماء لمعات جميلة متقطعة، وبين اللمعة واللمعة ظلام كثيف. فهو جواد، فتيٌّ، جموح، صبوح، ينقصه الكثير من الترويض؛ ليصلح للنزول إلى ميدان الحياة، وإنهائه الشوط في طليعة الجياد، ورث عن أمه التحدُّث لنفسه بصوت عالٍ.
إذا بلغ الهرم فقد يتزن إلى نابغة. غير أنه من أولئك الفتيان المتوهمين، الذين لا أقول يموتون باكرًا، بل يُصرعون باكرًا.
فرج الله
قد يبيَضُّ شعره، وتسقط أسنانه، فتلقاه ولا تحلم بأن تناديه «عمي فرج الله، أو: خواجة فرج الله»، ومن قال لك إنه يطلب الاحترام من الناس؟
طعَّان
طعان الحمصي، يُعجَب باثنين: عنترة العبسي، والضبع. وكأنَّ إعجابه بهذين المخلوقين أنبت في طعان الكثير من خصالهما، فله مشية عنترية، وبأسه، وله قوة الضبع «وأناقته». كان طعان يوم مقتله دون العشرين، وهي السن التي بها يثبت الجبلي بأسه، وينشر أطروحة الرجولة على الناس، بأن يبطش برجل ما. فطعان تراه إما قاصدًا إلى معركة، أو راجعًا من معركة، ولكن قلَّ من قوي أن يقف في وجهه. كان طعان «قبضاي» «وادي الأرز» غير منازَع. لم يدخل المدرسة، ويحتقر كل من دخلها؛ فهي في نظره مؤنثة الرجال. بليغ الخطاب، ويعرف من نفسه البلاغة، ويُعجب بها. كان طعان يفلح أرضه ويزرعها، حتى صارت أمه ترسل له البوليصة الشهرية من المهجر؛ إذ ذاك انقطع عن العمل. لا تصدق ادعاء اللبنانيين بشغفهم بالعمل. الشرقيون كلهم ما عدا اليابانيين لهم أمنية واحدة في الحياة؛ البطالة والراحة، ومع البطالة ينبت القال والقيل، وتزداد أقداح المسكر. وقد تضافرت هذه العناصر الثلاثة، فساقت طعان إلى حتفه. أبقِ هذا الخبر بسرِّك، فطعان كان سمجًا — رحمه الله.
رشيد
طفل في الخامسة والثلاثين من عمره. ربَّته «الماما»، وقد تتخيله في الثمانين، يلاعب صبيان الحي بالكلل، ويستنجد «بالماما» إذا خطفوا له كلته الزرقاء. عقل عصفور في جسم عجل. مغصوص الصوت، أهمُّ أعماله اليومية ثلاث «وقعات» هائلة، يأكلها في اليوم الواحد.
بالطبع، يضيف إلى أفأفته محاولة تقليم أظافره بأسنانه. يقال إن شعره يُقَص مرة بالشهر. ولكنها إشاعة، تنفيها المظاهر.
هدى الحمصي
أم طعان وسارة، هاجرت «وادي الأرز» مع زوجها بعد واقعة «السنديانة» الشهيرة، التي قُتل بها أبو وسيم، إذ نضبت الأموال في الضيعة، لكثرة مصاريف المحاكمات، وصارت العيشة جهنمًا، وهدى خائفة أبدًا من أم وسيم، تخنق هدى بغدائرها، فلما وصلت «غرانبلا»، ووجدت أن النساء هناك مقصوصات الشعر، رمت بغدائرها فرحة، كأنما هي رمت بحبال مشنقتها. قوية الجسم نحيلته، ليس فيها من الذكاء شيء. متقلبة الآراء، مدهوسة الثياب، معدومة الأنوثة. الظاهر أنها لم تُحسن رباط بعض ألبستها الحميمة، فهي دائمًا تُنهِض تنورتها.
بغضها لبيت الحموي عظيم، ولكن الهجرة لطفته، فهو جمرة صغيرة، تكاد تنطفئ تحت كومة رماد. ضعيفة قوى النفس في كل جهاتها، إذن فلا تعجبنَّ من ميعان مقاصدها، وتناقض أفعالها.
المهاجرون: (١–٦)
البشر أرقام وأصفار، وماذا تنتظر من مستعمرة لبنانية في المهجر، فيها أرقام ضخمة؛ كالدكتور نجيب، وفرج الله، وسارة، وراجي، ووسيم، وشمدص؟! أن يبقى فيها إذا استعرضتها إلا الأصفار، يشبه الواحد الآخر، كما تشبه حبة الفول حبة الفول! تراهم في ليلة العيد يتعمدون اللهو، وأين المرح الطلق الصافي من نفوس تتكالب على الرزق سبعة أيام في الأسبوع، وست عشرة ساعة في النهار! ولا تنسَ أنهم مضاربون، بعضهم لبعض أعداء كار. يتوهمون أن كل ريال يربحه الآخر مختَطف من يد مواطنه، يعرفون أنهم أغراب عن موطنهم إذا عادوا إليه، أغراب عن مهجرهم، وهم مقيمون فيه، وليس لهم من وطن صحيح إلا هذه الوحدة في الأذواق، التي تلتقي في أمور سطحية من مأكل ومشرب، ومغنى. ولا تزد على هذا، فقد يتمزق الكيس، وتتذرى حبوب الفول، وتتباعد إلى حيث يستحيل جمعها ثانيةً.
شمدص جهجاه
يغطس في الماء فلا يبتلُّ. شمدص ليس له في الدنيا عدو، ومن ليس له عدو ففي الغالب ليس له صديق. شمدص صديق الناس أجمعين، ولكنَّ لنفس شمدص حدودًا لا يتخطاها بشر، صاحب مروءة إذا كانت المروءة لا تكلف عملة. لا يقرض ولا يستدين. يصل إلى الأمور بدون أن يتخيلها. عدته تجارب اكتسبها في لبنان يوم كان يكاري على بغل شموس اسمه «زهران»، في بلدة ساحلية، يُحَمِّله الجِرارَ والأباريق الفارغة من معمل الفخار في «خلدة» إلى «صيدا». وكان يقول: «من عرف أن ينقل الفخار سالمًا على بغل شموس مثل «زهران»، فقد عرف أن يفعل أي شيء في الحياة.»
شمدص يعرف أكثر مما يُظهر، لا يدري أحد كم من المال معه، ولكنَّ ذكاءه وحرصه كفيلان بأن يكون معه أكثر مما يُري. ساذج لا يحب التصنع، فحديثه وثيابه، وكل شيء فيه طبيعي. يُعجب بالناجح؛ لهذا يحس في نفسه شيئًا من العطف على فرج الله، خُلِقَ ليكون رجلًا في جمع، ويكره أن يكون كتفه أعلى من أكتاف الجمهور. مظهره الشخصي؟ قصير، عريض الشفة العليا، ضخم السفلى، قوي الجسم، غير أنه لشدة ما نزل به من متاعب يخرس عن سردها؛ شاخ وهو في الخامسة والأربعين، مجعد الجبين، مقوس السلسلة الفقرية عند الكتفين. هو اللبناني الوحيد في مهاجر الدنيا، الذي لا يدَّعي أمام الإفرنج أنه من «بيروت»، وأن عائلته ذات أملاك واسعة في الوطن القديم، وأن رئيس الجمهورية ابن عمه، وأخواله وزراء، وأخاه «مارشال سوريا»، وأن المجلس النيابي اللبناني يعقد جلساته في مقعد أبيه، وأن أجداده باريسيون، توطنوا سوريا زمن الحروب الصليبية.
سُئل شمدص ما هي فلسفته في الحياة؟ فأجاب: «كنت أغني عتابًا» إذا شمس البغل «زهران»، وأغني عتابًا إذا عثر «زهران»، وأغني عتابًا إذا أوصلت حِمْلَ الفخار إلى المدينة سالمًا؛ ففلسفة الحياة هي أن تغنِّي «عتابًا» دائمًا. شمدص من المهاجرين الذين يرجعون إلى بلادهم بعد عشرين سنة هجرة، وليس في حديثهم ولا طريقة تفكيرهم أنهم ابتعدوا عن موطنهم أكثر من عشر دقائق.
الشمادصة هم هيكل عظام الأمم، وفلاسفتها الصامتون.
سارة
بل ستبقين يا سارة لغزًا، فليس خالقك شاعرًا يسكنك الجنَّة التي يريد، ولا مصورًا يعلق إطارك على الحائط الذي يروق له، خُلقتِ لتختالي على مسرح، فأنت بحكم حرفتك مقصورة الأزياء على ما يروق نظارتك، وأخاف عليك إن أنا كشفت نقابك الكثيف أن يرجمك أناس ويعبدك أناس، ألا فلتكن كلماتك مخنوقة، فإن الذين يفهمون يسمعونها، وإن كنت عنها صامتة، والذين أصمَّ الله أسماعهم، فلن يعوا رسالتك بل يستشيطوا، لتكن نفسك مغلَّفة بالظلام، يتخيلها كل إنسان كما يريد ويشتهي، وما أحسست «بشرقيتي» مثل هذه الساعة، فها إن داري تحفل بأم، وثكلى، وطبيب، وجمع من تجار، ومغامرين، وقرويين، ومهاجرين، وقلبي لا يضطرب إلا عليك. إن الفتيات نقمة الآباء، فاخرسي ولا تستفزيني. وخرستْ، وخرِستُ، وتطلعت إلى دخان سيكارتها، فهمَّت الكلمات أن تنفجر من بين شفتيَّ، لولا أن خارت في تلك اللحظة قواي؛ إذ تحققت أن «سارة» التي أردتها لغزًا على الناس ارتدت لغزًا عليَّ، وما عزائي في هذه البلية إلا أني وجدت في «سارة» الشرط الأول في أنوثة النساء، ألا وهو «اللغز». إذن فهي امرأة، ولو جاءت غير ما صوَّر الفنانون.
ظطام
يلثغ بالسين، والصاد، والزاي، في الثالثة عشرة من عمره؛ العمر الذي يحلم به الصبي الأوروبي بلبس البنطلون الطويل، واستعمال موسى الحلاقة. أما ظطام، فيحلم ببارودة موزر، وبفرصة يجندل بها أحدًا من بيت الحمصي. شديد القوة والبأس، ساذج، همسه صياح، وسيرة حياته عراك وضرب أحجار، وصفعات تلهب رقبته من عمه أبي مرعي، ويا ظطام، اسق الحمار، وأطعم الحمار، واحمل التبن من البيدر للقبو، فالحمار وعمه مرعي توأما مصائب، يلبسهما كما يلبس أذنيه.