المشهد الأول
(بعد عشر سنوات. بلاد غرانبلا. يرتفع الستار عن مكتب تجاري يظهر أن أصحابه تجار بالجملة؛
إذ
تناثرت في جوانب المكتب مساطر البضائع من مثل كلسات، برانيط، أحذية، أقمشة، صحون، ملاعق،
شماسي،
أصيص (أرضية) إلخ … يواجه النظارة رقعتان: الأولى عربية، كُتبت بحروف هائلة «الدين هو
المعاملة»، والثانية إنكليزية بنفس قياس الحروف العربية:
“Light gains make heavy purses.”
“Money is made on turnover and lost on leftover.”
على يمين النظارة صندوق حديدي، وفي المكتب طاولة كبرى، وثانية صغرى للماكنة الطابعة،
والآن
راجي يطبع على الماكنة بسرعة ونرفزة وغضب. على يسار النظارة كرة عظمى، هي كرة الدنيا
يلاعبها
وسيم مدمدمًا أغنية، ووسيم بعكس راجي، يظهر أن الدنيا مروَّقة معه. بين مساطر البضائع
نحو خمسين
رزمة مختلفة الأحجام، تلفها أوراق زاهية، وشرائط ملونة، كالرزم التي يتبادلها الأصدقاء
في
الأعياد. الوقت أول السهرة. خلف الكرة الأرضية مرآة كبرى.)
وسيم
(إذ هو يداعب الكرة الأرضية، ويقيس بمسطرة صغيرة)
:
أوووف! أتدري يا أستاذ أن بيننا وبين بيروت سبعة آلاف ميل! أحسب! هجرنا بيروت منذ عشر
سنوات، عشر سنوات غربة، والآن بيننا وبينها سبعة آلاف ميل. إذا ضربنا عشر سنوات طوالًا
بسبعة آلاف ميل، أتدري ما هو الجواب يا أستاذ؟ (يتقدم من المرآة،
فيتطلع إلى شعره) الجواب ١٤٣١ شعرة بيضاء، (متأوهًا) ونفس حزينة! (لا جواب من راجي).
ما بال الأستاذ مشوِّمًا١ هذه الليلة؟ (لا جواب)، (وسيم يتناول حزمة جرائد
عربية، فيفتحها مدمدمًا أغنية، ويقلب صحيفة).
هالله هالله يا دنيا! احزروا من هو حاكم طبريا اليوم (يقرأ): «قدم بيروت لترويح النفس الأستاذ الأكبر رفله وهَّاب …» (مقهقهًا) رفله وهاب صار حاكم. خبر ثانٍ، اسمع يا أستاذ:
«ستكون حفلة الشهداء هذه السنة تحت رعاية معالي وهيب باشا سعادة»، (مقهقهًا) وهيب سعادة صار باشا، وصاحب معالي … كل أولاد صفنا. كل رفاق تلك
الشجرة صاروا ذوات، إلا أنت وأنا نبيع كلسات. حفلة الشهداء! (متذكرًا) تراهم، أيذكرون من نظَّم أول حفلة للشهداء؟ ما أجمل أن تمسي بيَّاع
كلسات، بعد أن تقود المواكب! (يمزق الجريدة) أووف! لماذا
يطبعون هذه الأوراق؟! (يعود للقهقهة) رفله وهاب حاكم،
وهيب سعادة صاحب المعالي!
راجي
:
إذا كنت تفتش عن شيء يضحك، فتطلع بهذه المرآة.
وسيم
:
أحمد الله الذي أنطقك أخيرًا يا أستاذ، من الضروري أن يتطلع الإنسان بالمرآة مرة
بالنهار، ثم يضحك. (مخاطبًا المرآة) صار عمرك ٣١ سنة، ما
شأنك بالحياة؟ اخترعت آلة؟ لا. اكتشفت بحيرة؟ لا. ألَّفت كتابًا؟ لا. افتتحت مستعمرة؟
لا.
من أنت؟ لا شيء.
أنت العود بالزبيب.
أنت الشمس بعد المغيب.
أنت العِرض بتلِّ أبيب.
أنت لا شيء.
أنت حفلة خطابية.
أنت بضاعة يابانية.
أنت معاهدة دولية.
أنت لا شيء.
أنت إسفنجة معصورة.
أنت كمبيالة غير ممهورة.
أنت قنينة مكسورة.
أنت لا شيء. (يبصق على المرآة).
راجي
(مصفقًا)
:
فليحيى الخطيب، صدق الخطيب.
(يتقدم وسيم من الرزمة الملونة، يقلبها متمتمًا الأسماء التي عليها،
مخاطبًا راجي.)
وسيم
:
ليس بين الهدايا هدية لأنيس سعادة.
راجي
:
ناولني الدواة (يناوله دواة زرقاء)، الدواة الحمراء
يا ﺣ … الحمد لله عندما نعمل ميزانية السنة لا نحتاج إلا إلى الأحمر من الحبر.
وسيم
:
ما رأي الأستاذ في هدية لأنيس سعادة؟
راجي
(حانقًا)
:
أرسل له إصبع ديناميت. أرسل لهم كلهم أصابع ديناميت. هؤلاء «الأصدقاء» الذين ربيتهم في
هذه البلاد. لا تدري أي معتوه تجعل من نفسك، إذ تغدق الهدايا على هؤلاء النصابين. (متهكمًا آخذًا رزمة بعد رزمة، كأنه مناولها لأصحابها) كل عام
وأنتم بخير، هدية صغيرة لأخي نبيه النجار. كل عام وأنتم بخير، هدية صغيرة لأخي فؤاد
أبو هنا. كل عام وأنتم بخير، هدية صغيرة لأخي سعيد الشركسي. (يأخذ
غطاء الأصيص — الأرضية — فيضربه بها، ويصيح: كل عام وأنتم بخير.
وسيم
:
ألا تعتقد يا أستاذ، أنك تجعل من الحبة قبة؟! فكل هذه الهدايا لا تبلغ قيمتها المائة
ريال، ولم أَشْترِهَا على حساب المحل، بل على حسابي الخاص، وإنه لجميل أن يهدي الإنسان
أشياء ولو تافهة في عيد رأس السنة؟ ألا تعتقد يا أستاذ أن لهجتك الحادة لا تليق بليلة
رأس
السنة.
راجي
:
رأس السنة وذَنَبُها سيان. أتحسب أننا في ليلة عيد؟! انظر إلى حسابات المحل، وانظر إلى
أين صرنا بعد غربة عشر سنوات (ينتزع الورقة من الماكنة، ويقرأ
فيها)، علينا دين للبنك خمسة وعشرون ألف ريال، المحل مرهون لفرج الله العسلي
بخمسين ألف ريال؛ أي علينا ٧٥ ألف ريال، عندنا في البنك خمسة آلاف ريال، لنا على الناس
دين
٤٦ ألف ريال سترى وجه ربك قبل أن ترى منها فلسًا، وتقبض على قوس القزح قبل أن تقبض منها
ريالًا. عندنا بضائع ﺑ ٢٤ ألف ريال؛ أي إن مجموع ما علينا ٧٥ ألف ريال، ومجموع ما عندنا
٢٩
ألف ريال. كل عام وأنتم بخير.
وسيم
:
لكل حديث زمان، والليلة ليلة عيد. ليلة رقص يا بومة، ومرح، وبهجة. فاترك نعيبك إلى ليلة
ثانية.
راجي
:
ليلة رقص؟! اليوم استحق رهن فرج الله العسلي، أراهنك أنه قبل أن يطلع وجه الصباح، سيطلع
وجه فرج الله، ويقول: «ادفع، أو أحجز.»
وسيم
:
فرج الله رجل شريف …
راجي
:
كل إنسان هو رجل شريف، حتى تتمكن يداه من عنقك.
وسيم
:
نزيد له الفائدة؛ ندفع له ٢٤ بالمائة، بدلًا من ١٨ بالمائة، فيسكت إلى أن تمر هذه
الأزمة.
راجي
:
ما أشد تفاؤلك. لو كنت في سفينة نوح، لسبقت الحمامة إلى غصن الزيتون. فرج الله لا يشبعه
إلا المال، وليس عندنا من المال إلا الخمسة آلاف في البنك، وهذه (يفتح الصندوق) السبعة ريالات و١٥ سنتيم.
وسيم
:
ودوَّارنا رشيد؟! آن له أن يرجع من البر. بدون ريب جمع عشرة آلاف ريال، نرضي بها
البنك.
راجي
:
إذا رجع الدوَّار بألف ريال أركِّبك على ظهري ألف ميل.
وسيم
:
تركِّبني على ظهرك؟ «من قال لك أني أركب حمير؟»
راجي
:
غرانبلا! غرانبلا! ما الذي أغراك بهذه البلاد؟ قلت لك: تعال نهرب إلى بلاد متمدنة؛
باريس، نيويورك، لندن. لا، لا تريد إلا أميركا الوسطى غرانبلا. انظر إلى هذا المكتب،
بل إلى
هذا القفص الذي يحبسنا منذ عشرة أعوام. نعيش مع القذارة، ونتجر بالقذارة، ونعاشر القذارة،
والآن الإفلاس، وماذا أنت فاعل لحل هذه المعضلة؟ تريد أن تفرق الهدايا، وتدعو أصدقاءك
إلى
وليمة، وتذهب إلى مرقص الحاكم متنكرًا بثوب بدوي. نِعْمَ التاجر والمفكر أنت. كل أخلاقك
أخلاق بدوي، ولا أعرف أنه نبغ من البدو تجار.
وسيم
:
راجي أنت طفل، والطفل متى واجه المصاعب لا يفعل شيئًا إلا البكاء (يتباكى) راجي …
راجي
:
لا تنادني «راجي» ألم تفهم بعد؟ أتريد أن تزيد مصائبنا مصيبة أن يفتضح أمرنا لدى
البوليس؟ أتريد أن يفتك بك أبناء الحمصي؟ هؤلاء المواطنون، إذ هاجروا البلاد هاجرت معهم
أحقادهم، لا تنسَ ذلك يا غبي، ألم تتعلم بعد أن اسمي سليم الصيداوي، واسمك سلُّوم الصيداوي،
ونحن أخوان، وتجارتنا «صيداوي إخوان»! تجارتنا؟! طابق إفلاسنا أعني. (يرن التلفون، فيجاوب راجي) هلو، هاي، (متهكمًا) ها، ها، ها،
كل عام وأنتم بخير. أما بعد … أنا سلوم، وأنا سليم، وأنا كل عائلة الصيداوي، ولماذا لا
تعرفنا إلى لون عملتك قبل أن تطلب كلسات من جديد. (وسيم يختطف
التلفون من راجي).
وسيم
(بلطف)
:
سليم يكلمك يا نبيه، كل عام وأنت بخير يا نبيه، أربعين دزينة كلسات؟ تكرم. عشر دزينات
صبابيط؟
راجي
:
الصبابيط على الراس والعين (وسيم يسد فم التلفون
بكفه) يا نصَّاب.
وسيم
(على التلفون)
:
الحساب لا يهم، لا تنسَ أن تحضر العشاء عندنا هذه الليلة. (يقفل التلفون).
راجي
:
حسابه عمره سنة، ويطلب بضاعة! يطلب بضاعة في ٣١ كانون الثاني! لماذا لا تنزع الغشاوة
عن
عينيك، فترى هؤلاء المحتالين؟
وسيم
:
لأن الله خلقني ضعيف البصر، وخلقك ذا رأي صائب، وفكر ثاقب. رويدك! راجي — سليم. لا
تحاول أن تحل كل مشاكل الدنيا هذه الليلة. امرح هذه الليلة، وغدًا فكِّر.
راجي
:
من يمرح في الليل لا يفكر في النهار، والله أكاد أُجنُّ. أعطني مورفين، وكوكايين، إن
أعصابي تكاد تتقطع، أريد أن أنطح السقف. ربي إلى أية حالة وصلنا؛ غربة، وتنكر تحت اسم
مستعار، والآن إفلاس. أهمُّ في النهار مائة مرة أن أصيح بالناس: ما نحن بأخوين، لسنا
سلُّوم
وسليم الصيداوي، نحن وسيم الحموي وراجي البيروتي. ولتهبط السماء ولتُزلزَل الأرض، راجي
البيروتي صار اسمه سليم الصيداوي!
وسيم
:
ووسيم الحموي صار اسمه سلوم الصيداوي؟! هذه ليست المصيبة. المصيبة أن أصير أخًا لواحد
مثلك يا أستاذ.
راجي
:
اهزأ وداعب، أشعر كأنك حجر مطحنة في عنقي.
وسيم
:
ألا تعلم أن الغضب دليل الخوف، وأن الرجل الرجل هو من يبصق في وجه العاصفة؟
راجي
:
من بصق بوجه العاصفة ارتد بصاقه إلى وجهه.
وسيم
:
لا يقهر الحياة إلا من هزأ بمصاعبها، ابتسم في الأزمة (يقف
وقفة عسكرية) وقل لها: تعالي، أنا لك.
راجي
:
الحق معك. في الحرب العظمى جندي جاءته الأزمة متسربلة ثوب قنبلة، فابتسم لها (مقلدًا وسيم)، وصاح: تعالي، أنا لك.
وسيم
:
صحيح؟ ما اسم ذلك البطل؟
راجي
:
صار اسمه الجندي المجهول.
(يرن التلفون، فيركض إليه راجي.)
أب. أب. أب. أبا بببب. مرحبًا رشيد. أهلبْ لَبْ. لبلبلبلب. نحن بانتظارك يا رشيد،
(يقفل التلفون) كل عام وأنتم بخير، جاء رشيدك. (كمن انبثق على عقله فكر جديد) وسيم، قل لي لماذا أنت فوَّار
المرح هذه الليلة؟ رأس السنة؟ لا أصدق، رأس السنة وحدها لا تهزك بمثل هذا الفرح.
وسيم
:
ها. ها. ها. الآن بدأت تبرهن أن الذي بين كتفيك هو رأس إنسان، وليس رأس بطيخ.
راجي
:
سارة؟
وسيم
:
سارة.
الاثنان
:
سارة.
راجي
:
وهل رضيت أمها عن زواجها منك، بدون أن تعرف دينك؟! (مستعطفًا) أخبرني، ماذا جرى؟
وسيم
(يسكت ضاحكًا، فيتضرع له راجي)
:
، أتريد أن تسمع الخبر؟
راجي
:
قل لي، فكلِّي آذان.
وسيم
:
وهل كلُّك ألسنة؟
(راجي يمد لسانه، فيمثل أنه قطعه فرماه، ويتكتف مدمدمًا
كالأخرس.)
قطعت لسانك، وصرت أخرس! إذن فأخبرك بما جرى؛ تزوجنا منذ أربع ساعات — زواجًا مدنيًّا
عند القاضي. سيبقى هذا الزواج سرًّا.
راجي
(فرحًا، يقبِّله)
:
عرس كهربائي هاه! كل عام وأنتم بخير، انظم لي قصيدة، فإني أريد أن أهنئك:
والحب نقاد على كفِّه
جواهر يختار منها القباح
سأنتقل إلى اللوكندة. أنت وسارة عيشا هنا.
وسيم
:
لا. ستبقى أنت هنا كما أنت، فسارة تعيش مع أمها، وأنا أعيش هنا.
راجي
:
هاه؟! تزوجت وأنت تعيش هنا، وسارة تعيش هناك؟! هاه.
وسيم
:
هاه، وهاه، وهاه. إن مخيلتك يا أستاذ، تحتاج إلى قليل من حامض الفنيك. هذا زواج
عذري.
راجي
(مدهوشًا)
:
سمعت بالهوى العذري، والآن أتعرف إلى الزواج العذري، وكل عمري أعتقد أن الحب هو عذر
للزواج. (التلفون يرن، فيسرع إليه راجي).
(سماعة التلفون على أذنه — إلى وسيم) هذه جوليت
يا روميو. هلو سارة، الآن أخبرني سلوم بالحادثة، يعني الزواج، «علوٌّ في الحياة وفي
الزواج»، يعني كل عام وعندكم توأم بنات، (وسيم يدفعه، ويخطف
التلفون منه) هذه ليلاك، يا مجنون.
وسيم
:
هلو سارة. لا، لا، ليس من أحد هنا. سليم هنا يعني ما في أحد، ثوبي جاهز، سألبس العقال،
وأكون بدويًّا يا زينب. لا تَنْسَيْ أن البدويات يكتحلن. صبرك، فأرى ورقة الدعوة (يفتش، ويفتش، فلا يجدها) أين ورقة الدعوة يا أستاذ؟
راجي
:
تحت عينيك يا روميو، (مشيرًا إلى مغلف قريب من وسيم)
حقًّا! إن الحب أعمى.
وسيم
(يرجع إلى التلفون)
:
الساعة التاسعة، يبدأ الرقص فأسرعي، أسرعي، سأكون حاضرًا إذ تمرِّين.
(يقبلها على التلفون، ويرقص، بينما راجي يغمض عينيه، ويقفل أذنيه، ثم
يتطلع إلى السماء، ويقول):
راجي
:
الطقس جميل هذه الليلة يا وسيم!
وسيم
:
الحب، الحب يا أستاذ، أتدري ما هو الحب؟ أما تحسُّ أن في قلبك أجنحة؟
راجي
:
أحسُّ أن في قدمي مرساة.
وسيم
:
أما تحسُّ هذه الرعشة تهزُّ جوانحك؟
راجي
:
نو سنيور.
وسيم
:
وهذه البهجة تصبغ الدنيا أمام عينيك بألوان زاهية؟
راجي
:
نو سنيور.
وسيم
:
ودبيب الحياة حارٌّ في عروقك، كأنك تغتسل في شلال من شعاع؟!
راجي
:
نو سنيور.
وسيم
:
والفرح يغمر رأسك وقلبك.
راجي
:
نو سنيور، وعدا ذلك فليس لي رأس ولا قلب.
وسيم
:
اجلس هنا، سمِّر نفسك إلى هذا المقعد، واجمع، واطرح، واحسب، وانفلق. فأنا مختلٍ إلى
نفسي، فلا تعكر عليَّ عزلتي، إن الإلهام يغشاني ثانيةً، أنا في الجنة من جديد.
راجي
:
خذ البرنيطة والعصا (يتناولهما وسيم من
راجي).
وسيم
:
إن روايتي ستتم، إن طيفها يتتبعني هذه العشرة أعوام، كطفلة عاجزة، تناديني مستنجدة:
«لماذا وأدتني يا أبي؟»
راجي
:
وإن طيف ثروتي الصغيرة يتبعني، كطفلة تقول: لماذا دفنتني يا أبي؟ فأجيبها: اسألي عمك
(مشيرًا إلى وسيم)، يلعن أباك (مشيرًا إلى نفسه).
(وسيم ينصرف إلى الغرفة، التي إلى يسار النظارة. راجي ينتزع كتاب
الأغاني من بين المساطر.)
(مخاطبًا الكتاب) كل مصائبنا جاءت منك. لماذا لم يحرقوك
مع مكتبة الإسكندرية؟ (يقرأ) «دخل صعلوك على الأمير جان
فالجان، فقال: بونجور، قال الأمير: خذ بنطلوني وسترتي ورطلًا من لحيتي» (يدخل رشيد، جارًّا حقيبة هائلة هي حقيبة المساطر).
رشيد
:
م … م … م … مساء الخير.
راجي
:
أسعد الله مساء الأمير رشيد(لغرفة وسيم) يا مسيو
عبد الله بن المقفع، يا أبا القاسم غوستاف لوبون، يا أبا جوزف الأخشيدي. يا كاتب الكتَّاب
وشاعر الشعراء، ومفقوع المفاقيع.(وسيم يطل) في الباب
رسول يا مولاي، يحمل الهدايا من الرعية، (يفتح الصندوق)
فلننظف الصندوق، (إلى رشيد) ناولني أوراق الألف ريال
أولًا.
وسيم
:
مرحبًا رشيد، كم جمعت؟
رشيد
:
ج … ج … جمعت! لا، لا، لا شيء.
راجي
:
برافو، كنت أخاف أن تجمع أقل من هذا.
وسيم
(لأول مرة يعبس، ويظهر الهم)
:
كفى هزلًا كفى، كم تبلغ قائمة الديون التي أعطيته إياها؟
راجي
(يفتح الدفتر)
:
٢٥٫٣٢٠ ريالًا. من اليسار إلى اليمين: اثنان، خمسة، ٣، ٢، صفر، قبض الصفر والسفرة
الثانية يقبض الباقي.
وسيم
:
لماذا لم تقبض يا رشيد؟
رشيد
:
لأﻧ، أﻧ، أﻧ، أنَّهم ما دفعوا.
راجي
:
سبب معقول، لو دفعوا كان قبض، أمر جلي، واضح، شفاف كالوحل.
وسيم
(مفكرًا، مهمومًا، متمشيًا)
:
اترك هذه (مشيرًا إلى الحقيقة) جاهزة، أنا مسافر هذه
الليلة.
رشيد
:
البحر كبير، والعاصفة. ﺗﺸ، ﺗﺸ، ﺗﺸ، تشتد.
وسيم
:
البحر كبير هاه؟ العاصفة تشتد هاه؟! (يسمع أربع صفرات
طويلة).
راجي
:
علامة الخطر نمرو ٤.
وسيم
:
علامة الخطر نمرو أربعة هاه؟! أبقِ الشنتة مضبوبة، الليلة أسافر بعد سهرة الرقص، وأريك
يا أستاذ، كم أجمع، وكم أبيع.
رشيد
:
هاني الأرناءوطي يقول: ما لكم عليه دين.
راجي
:
حينما أردت أن أجعله يمضي الفاتورة، صاح أبو الحسن موليير (مشيرًا إلى وسيم): لا لزوم، لا لزوم.
وسيم
:
هذا غير صحيح، الآن أريك الفاتورة وعليها الإمضاء. (يفتح
السجل «هاني الأرناءوطي» «هاني الأرناءوطي»، بعد أن يفتش، ويفتش، فلا يجده) أين
وضعت اسمه يا سليم؟ لم أجده تحت الهمزة، ولا تحت الهاء، فأين هو؟
راجي
:
تحت حرف الكاف.
وسيم
:
هاني الأرناءوطي إما همزة أو هاء، فلماذا وضعته تحت حرف الكاف؟
راجي
:
لأنه كلب ابن كلب. مع الاعتذار للكلاب.
وسيم
(يطبق السجل غاضبًا)
:
رشيد، كل عام وأنتم بخير (يفتح الصندوق) خذ هذه
السبعة ريالات، والكم سنتيم عيديتك. لا يأخذ على خاطرك فشلك في هذه السفرة، فالدنيا كلها
في
أزمة هائلة.
رشيد
:
بخا، خا، خا، خاطركم (ينصرف).
راجي
:
ليتك أعطيته تشاك بالمبلغ، فقد تحتاج إلى النقد هذه الليلة.
وسيم
:
رُحْ انظر إلى دفتر التشكات، تعرف لماذا لم أعطه تشاك.
راجي
(يفتح الصندوق الحديدي، ويأخذ دفتر التشكات، ويصيح)
:
وسيم، وسيم، ماذا فعلت؟ أين الخمسة آلاف ريال؟
وسيم
:
اشتريت بها أسهمًا في معدن الذهب.
راجي
:
مِن ذلك النصاب وطسن؟
وسيم
:
من ذلك النصاب وطسن.
راجي
:
الذهب الذي فوق الأرض لم نحصل عليه، فهل نظفر بالذهب الذي تحت الأرض.
(وسيم يأخذ كتاب الأغاني، ويقلب صفحاته.)
وسيم
:
سأحاول الفوز فوق الأرض وتحتها، وكل فشل جديد يثير محاولة جديدة.
راجي
(من الكتاب)
:
«دخل جبلة بن الأيهم على يحيى بن يزيد. فقال: السلام عليكم. أجاب يحيى: أبيت اللعن، خذ
برنيطتي وبنطلوني. وذبح له الأنعام.»
وسيم
(يثور)
:
اخرس، كفاك هزءًا، كفى، تتحرق على التستر باسم مستعار، كأنني أنا ألتذُّ بأن أخسر حتى
اسمي وأستبدله باسم سليم الصيداوي. تبكي ضياع ثروة، كأنه لم يكن لي نصفها، وكأنك كسبتها
وحدك. من جمع الثروة يا راجي؟ من هزأ بالأخطار؟ من نام بين أجلاف الناس، ومشى الكيلوات
حافي
القدمين، دامي القدمين؟ هل مرَّت زوبعة خلال العشر سنوات الماضية، ولم أتقلَّب بين أشداقها
في عرض البحر؟
راجي
:
أنا لا أقول إنك لم تشقَ.
وسيم
:
من اخترع أساليب تجارية لم يعرفها أولاد العرب قبلنا؟ كم مرة قال لي الدكتور نجيب: لا
تجهد عينيك، وإلا تعمى؟ ويشهد الله أني ما زلت أجهد عيني، وأني لا أخاف العمى. أيوم الفوز
تسكت، ويوم الفشل تهزأ؟ اصفعني، قوِّسني، ولكن لا تتهكم عليَّ؛ الهزء، الهزء، إنه يحزُّني
حتى العظام.
راجي
:
أنا لا ألومك يا وسيم، ألوم ثقتك بالناس، ألوم المدرسة التي علمتك أن لا تكون لصًّا،
ولم تقل حذار؛ فالدنيا ملأى باللصوص، ألوم البيئة التي أنشأتك جوادًا على الغير، بخيلًا
على
نفسك. ألوم من ربَّاك ولم يعلمك الأنانية، وعدة النجاح هي الأنانية، ألوم الكتب التي
غمرتك
بالشرف، والمروءة، والمعروف — أدوات انتحار في دنيا فقدت الشرف والمروءة والمعروف.
وسيم
:
ولا تحسبنِّي جئت أقامر بحياتك، وبأموالك، وأموال دائنينا. (يأخذ من يده بوليصة سوكرة حياة) أنت لم ترَ هذه بعد (يفتحها)، انظر، إن حياتي مضمونة بمائة ألف دولار، أفهمت؟ (ينتشل من جيبه مسدسًا)، وإن ضغطة من سبابتي تدفع لك
ولدائنينا، أفهمت؟ الحياة جميلة وغالية، ولكني أطرحها كزجاجة مكسورة، متى دعا الداعي.
صار
دعابك لاذعًا، أحسُّ أن قد انفتح بينك وبيني وادٍ عميق.
راجي
(متغنيًا)
:
واد؟ أَعمِل زنودي جسر، وبقطعك ليَّا. (يتطلع الواحد بالآخر
لحظة، ثم يصيحان معًا: «ولا!» ويتعانقان مقهقهين).
راجي
:
يلعن دين الغضب.
وسيم
:
يلعن دين النرفزة.
راجي
(يدق على خزانة صغيرة، مخاطبًا إياها)
:
يا جابر المكسور، وصديق المخذول، في الباب إخوان، إليك يلتجئان (ينتزع قنينة) في لبنان ينتخبون ملكة للجمال. هذه ملكة القنوط
يشربان.
راجي
:
أصحيح أن بيني وبينك واديًا؟
وسيم
:
أصحيح أنني في رقبتك حجر مطحنة؟
راجي
:
ها أنا أقطع الحجر (يمثل أنه يقطع حبلًا من عنقه)
تدحرج الحجر …
وسيم
:
وسُدَّ الوادي.
ما أجمل الدنيا إذا نظرت إليها من خلال كأس …
راجي
:
حقًّا! إنها وهاجة جميلة.
وسيم
:
خطر على بالي أمر.
راجي
:
ما هو؟
وسيم
:
تعالَ نستشر الدكتور نجيب بحالتنا.
راجي
:
هذا أول رأي صائب خطر على بالك هذه السنة.
وسيم
:
تعالَ نخبره بأمورنا المالية.
راجي
:
وأمورنا — أمورك — الغرامية. تعالَ نخبره بكل شيء.
وسيم
:
أنا أثق بالدكتور نجيب.
راجي
:
أنا لا أثق إلا به، وبنفسي، (بعد تردد) لا، لا أثق
بنفسي كثيرًا، على كل حال إن أمر زواجك سيُعرف يومًا من الأيام، وهدى حماتك ستقيم الأرض
وتقعدها، ومن يدري فقد يفتضح أمرنا كذلك. تعال نخبره بحادثة وادي الأرز أيضًا.
وسيم
:
نخبره بكل شيء، أي نبيل هذا الرجل!
راجي ووسيم
:
كأس الدكتور نجيب. كأس الإفلاس.
وسيم
:
متى وصلت إلى الكأس الخامسة، انتصب أمام عيني قصران في رأس بيروت؛ أنا وسارة في قصر،
وأنت؛ وأنت ومن؟
راجي
:
أنا ونفسي.
وسيم
:
ألن تتزوج؟
راجي
:
أنا أتزوج؟ معاذ الله! الله خلقني أعزب، وسأبقى أعزب.
وسيم
:
باسم جمعية النشوء والارتقاء أشكرك. هل تريد أن يكون للقصر جنينة؟
راجي
:
طبعًا جنينة، فيها أشجار التفاح والليمون.
وسيم
:
والرمان، والخوخ.
راجي
:
وأشجار معرفة الخير والشر.
وسيم
:
وأنا عندي ولد وحيد، صبي. هاه!
راجي
:
صبي! الله يخليه، اسمه أبو الفرج، وقِّف، إذا صار عندك صبي، فأنا سأقتني كلبًا!
وسيم
:
ولماذا؟
راجي
:
ليحمي الجنينة من ولدك!
وسيم
:
رد كلبك عن ابني.
راجي
:
رد ابنك عن جنينتي.
وسيم
:
الكلب.
راجي
:
الصبي.
وسيم
:
الكلب.
راجي
:
الصبي.
(يدخل الدكتور نجيب باسمًا.)
الدكتور نجيب
:
من هو الصبي؟ ومن هو الكلب؟
راجي
:
أنا الصبي يا دكتور.
وسيم
(مصافحًا)
:
كل عام وأنت بخير يا دكتور.
راجي
:
طبعًا لا تريد أن تشاركنا بكأس، فما رأيك بفنجان قهوة صغير (مشيرًا بيديه أن الفنجان كبير جدًّا) من تلك الفناجين التي تحبها؟
الدكتور
:
لا وقت عندي حتى للقهوة؛ فقد تركت المستشفى لحظة حتى أعايدكم، وحتى (يشد أذنَي وسيم) أرى هذا المتمرد على الطب، إذا كان قد لبس
النظارتين. هل تريد أن تلبس النظارتين، أم أطيل هاتين الأذنين؟!
وسيم
:
آخ، العفو يا دكتور، سألبس النظارتين، وحق هذين الشاربين (يعمل إشارة، كأنه يحلف بشاربيه، وهو حليق)، أمهلني للسنة القادمة، بيننا
وبينها بضع ساعات.
الدكتور
:
السنة القادمة! كل صعب مؤجل، هذا آخر إنذار، لا تأجيل بعد غد؛ حالة عينيك يا سلوم ليست
من الأمور التي يستهان بها، أفهمت؟ (يقلب جفني عينيه، فيفحصهما)،
(ويهز رأسه، ويقول:) يلزمك معالجة، تعال إليَّ في المستشفى مرة كل يومين (يرن التلفون، فيسرع راجي إليه).
راجي
:
هلو. أُو يا دكتور، تلفون من المستشفى (بينما الدكتور يتكلم
على التلفون بصوت غير مسموع، راجي ووسيم يرجعان القنينة والكأسين إلى الخزانة. الدكتور
يرجع إليهما).
الدكتور
:
سألني مدير البوليس اليوم عن شخص اسمه وسيم الحموي، مطلوب من بيروت بتهمة قتل طعان
الحمصي، أخي خطيبتك يا سلوم. غريب، ما أصغر هذه الدنيا! كنت في «وادي الأرز» يوم الحادثة،
وقد كتبت أنا تقرير الموت بيدي (تلفون، راجي
يجيبه).
راجي
:
دكتور، الممرضة تقول: وصلك أربع برقيات من حين تركت.
الدكتور
:
اسألها أن تفتح التلغرافات، وتخبرني إذا كان فيها شيء مهم. (يعود إلى التطلع بعيني وسيم. راجي يغازل الممرضة على التلفون، ويظهر أنها أهانته، فيرمي
السماعة من يده كأنها جمرة، ويصيح: «دكتور الممرضة تريد أن تكلمك أنت.» فيذهب الدكتور
إلى
التلفون، بينما يرجع راجي إلى وسيم).
(راجي ووسيم يتهامسان.)
راجي
:
تعالَ نخبره الآن.
وسيم
:
أريد أن أزحزح هذا الحمل عن صدري (يرجع
الدكتور).
الدكتور
:
أين السهرة هذه الليلة؟
وسيم
:
سأذهب وسارة إلى بيت الحاكم.
الدكتور
:
صحيح! ليلة راقصة متنكرة، ماذا تلبسان؟
وسيم
:
بدويَّة وبدوي.
الدكتور
:
(يضحك) وأنت يا سليم؟
راجي
:
أنا سيدة المنزل، سأستقبل المواطنين أولاد العرب، ونحيي ليلة صخَّابة هنا.
الدكتور
(لوسيم)
:
يسرني أنك تحضر المراقص. لو أن المواطنين يرقصون، ويلعبون الغولف والبردج، لكان لنا في
هذه البلاد مقام اجتماعي.
راجي
:
مقامك الاجتماعي يغني …
الدكتور
:
لا تخالف الوصية الحادية عشرة.
وسيم
:
ما هي الوصية الحادية عشرة؟
الدكتور
:
لا تمسح جوخ.٢
(التلفون يرن، راجي يجيب خائفًا أن تكون الممرضة. قبل أن يرفع
السماعة.)
راجي
(إلى وسيم)
:
أَمِن الضروري أن أجيب على التلفون أنا دائمًا؟ (وأخيرًا،
يشجع نفسه فيرفع السماعة، ويَحُك أذنه كأنما نملة لسعتها) المستشفى يا دكتور.
(الدكتور يذهب إلى التلفون فيتكلم بصوت غير
مسموع).
أجِّلها.
وسيم
:
إن هذا الكتمان يشويني، لنفرغ له أسرارنا هذه الليلة. (يرجع
الدكتور).
راجي
:
لنا معك حديث طويل.
وسيم
:
يا حكيم، إن الناس تأتمنك على أرواحها …
الدكتور
:
اذكر الوصية الحادية عشرة.
(تلفون، يجيبه راجي بعد أن يتردد، وكأنه سمع خبرًا هائلًا.)
راجي
:
أسرع يا دكتور، امرأة كامل الأميوني تستنجد بك، زوجها انتحر في دكانه.
الدكتور
:
بخاطركم، نتحدث ساعة ثانية (يترك بسرعة، وقبل أن يخرج يكاد
يصطدم بفرج الله، الذي يقول: ليلة سعيدة يا دكتور. فلا يجيبه هذا).
راجي
:
أهلًا بفرج الله، (على حدة) وألعن خلق الله.
وسيم
:
هو! فرج الله؟!
فرج الله
:
كل عام وأنتم بخير يا أحبَّائي، (يتقدم إلى وسيم ثم إلى راجي
فيقبِّلهما:) كل عام وأنتم بخير، (راجي يغمس منديله بالويسكي، ويمسح مكان
القبلة) كامل الأميوني انتحر (يضحك ضحكة سادية)٣ فتِّش عن الدولار، يربح عشرة، ويصرف عشرين، الآخرة انتحار. (يرجع إلى القهقهة) الصحيح اشتقنا، كيف حالكم؟
راجي
:
حالنا نصفه ملعون، والنصف الثاني ألعن.
فرج الله
:
سلوم دائمًا يحب الولدنة، عساك تبقى فرح القلب يا حبيبي، (يقبله ثانيةً، فيمسح راجي
مكان القبلة ثانيةً) سلوم، ما لك كئيبًا؟ لا تخف، الأزمة خانقة في كل مكان، الناس كالشجر
تعرى وتكتسي. الدنيا فور وغور.
وسيم
:
فرج الله، قل لي، هل أتيت بسبب الرهن؟
فرج الله
:
الرهن! لا والله العظيم، بشرفي، بديني، برحمة أمي، بعرض أختي نبيهة؛ إني لا أهتم بالرهن
مطلقًا، وحياة عينيك، وحياة الخبز والملح الذي بيننا، كنت في طريقي إلى العاصمة، فقلت:
لأمرَّن بشقيقَي روحي سليم وسلوم. الصحيح أن الحالة التجارية تعسة جدًّا.
راجي
:
أأنت تشكو من الحالة التجارية أيضًا؟
فرج الله
:
أتحسب أني بمنجًى من هذه الأزمة؟ وحياة عينيك، بشرفي، بديني، برحمة أمي، بعرض أختي
نبيهة؛ إني خسران، خسران، خسران.
راجي
:
يعني بدلًا من أن يكون عندك خمسة ملايين، صاروا أربعة ملايين ونصف؟!
فرج الله
(إلى وسيم)
:
ما رأيك في هذه الحالة، يا حبيبي سلوم؟
وسيم
:
رأيي بهذه الحالة مثل رأي مدير البوليس بصاحب المحششة.
فرج الله
:
إذا سألتني رأيي أقول: يا بني، إنك شاب ذكيُّ، لم أرَ في أولاد العرب منذ أتيت هذه
البلاد لثلاثين سنة خلت فتًى دأب، وشقي، واشتغل مثلما دأبت أنت، وشقيت واشتغلت. إن قلبي
يتفتت كلما فكَّرت في أمرك، فوجدتك بعد جهاد عشر سنوات تتدحرج إلى هاوية الإفلاس. سلوم
لا
تخدع نفسك، تجارتكم في خراب.
وسيم
:
هذا صحيح.
فرج الله
:
أنت مضحكة أولاد العرب اليوم، والذين كانوا يصفقون لك بالأمس، هم اليوم
يصفِّرون.
وسيم
:
إن صفيرهم لا يهمني.
فرج الله
:
أنت طموح. إنما الدنيا للظافر، للقوي، للغنيِّ. فإن أنت فقدت الغنى والقوة، فلن تكون
ذا
شأن بين الناس، ولو طبَّلت لك الملائكة، وهللت الشياطين.
راجي
:
قرأت هذا الرأي في كتاب ثمنه خمسة قروش.
فرج الله
:
قرأته، ولكنك لم تفهمه، لو أنك فهمته، لو أن أخاك سلوم فهمه، لكنتم اليوم في غير هذه
الحالة. اليوم أنتم شباب لا تفهمون حرقة الفقر؛ إذ إن الفتوة حمقاء، تستخف بكل شيء، ولكن
متى نزلت بكم الكهولة، وكثرت زجاجات الأدوية في غرفكم، وتطلعتم إلى الشارع من زريِّ
نوافذكم، فنظرتم الأجلاف يتصدرون السيارات الفخمة؛ إذ ذاك تذكرون صديقكم فرج الله، وتقولون
آه …
وسيم
:
هل لك أن تفصح لنا عما تريد، واكفِ نفسك مئونة التمهيد؟
فرج الله
:
لقد وجدت مشتريًا لتجارتك، يدفع لك ٢٠٠ ألف ريال نقدًا.
راجي
:
ومن هو هذا المشتري القبرصي؟
فرج الله
:
اسمه؟! اسمه شركة السكورتاه.
وسيم
:
يعني تريد أن نزيد الضمانة على بضائعنا، ونحرق؟
فرج الله
:
أعني أنك تزيد الضمانة على بضائعك، ثم تقطع شريط التلفون، هكذا (يذهب إلى التلفون ويمثل)، وتصل الشريط بالبضائع، ثم تذهب إلى
مكان ما، فتنادي هذا التلفون، فيتسبب Short Circuit، ويطير
الشرر من الشريط، ويحترق المحل. اترك التنفيذ إليَّ، ليس لك إلا أن توافق على ما أقول.
في
الماضي كانوا يحرقون بالشمعة، ولكنها موضة بطلت. اليوم Short
Circuit. ما اسمه بالعربي؟
راجي
:
أي حريق من بعيد لبعيد؟
فرج الله
:
أي نعم.
راجي
:
حريق عذري، أو أفلاطوني. حب عذري. زواج عذري. حريق عذري.
وسيم
:
سمعت الكثير عن لؤمك وألاعيبك وشرورك. الآن أصدِّقها. إن هذا الفتى الماثل أمامك، الذي
تشفق عليه من التدهور إلى الإفلاس، يشفق عليك من لطمة تطحن أسنانك، إن لم تكبح رزانتي
غضبي.
فرج الله
:
على مهلك يا سلوم، والله أحبكما كأخويَّ.
راجي
:
الظاهر حضرتك وحيد.
فرج الله
:
بشرفي.
فرج الله، وراجي
:
بديني، برحمة أمي، بعرض أختي نبيهة.
فرج الله
:
إني لا أبغي إلا مصلحتكم. سلوم! انظر إلى ذلك القصر، الذي تتلألأ أنواره، وإلى الأسهم
النارية التي تصعد إلى السماء كأنها قافلة نيازك شدَّت إلى القمر الرحَّال؛ هذا قصر علوي
إخوان. أتدري ما مصدر هذه الأبهة، وهذا النور؟ (ينير عود
كبريت) هذا. من يعيِّرهم اليوم بما جرى أمس؟ من لا يبجِّل عظمتهم؟ أي فتاة لا
تحلم بالزواج من أحد الأخوة الخمسة؟! سلوم، بينك وبين الغنى شرارة نار.
راجي
(يتغنَّى)
:
بينك وبين الغنى بصَّة نار.
فرج الله
:
كان لجمع المال موسم في هذه البلاد وولَّى، يوم كنا نشتري كيلو الساعات بريال، ونبيع
الواحدة بخمسين ريالًا. أما اليوم، فأهل هذه البلاد أشطر من تجار حلب. لن تصل إلى الغنى
عن
طريق التجارة.
وسيم
:
ولا أريد أن أصل عن طريق اللصوصية.
فرج الله
:
لا تريدها! هاه؟ كلما أردت أن تمطرك الدنيا دولارات، تضع فوق رأسك مظلة، حينما ترجع إلى
البلاد هل يسألونك كيف جمعت المال، أم كم جمعت من المال؟ وإذ أنت تربح من شركة الضمان
هذه
الثروة … تسرق من؟ تسرق السارق؛ إذ إن أكبر لصوص الدنيا هي شركات الضمان. فكِّر بهذا
الأمر،
ولا تدع إباءً مزيفًا يجمح بعقلك. إن مآوي الفقراء ملأى بالمثقفين، الأذكياء، المجتهدين،
الأشراف. انظر إلى أسعد معصِّب؛ كاتب، شاعر، خطيب، يحسن أربع لغات، ويشتغل عندي بمائة
ريال
في الشهر، (يعود للقهقهة) لا تنسَ، حينما تموت، يدفنون
جثتك أنت لا جثة سواك.
وسيم
:
كفى، كفى! إن منطقك يخيفني. إن مجرد اقتراحك ارتكاب هذه الفعلة الشنعاء يهين تربيتي
ومروءتي. منطقك معقول، ولكن النفس الأبيَّة تطيع الطبع أكثر مما تطيع المنطق. لماذا لا
تحرق
وتقبض؟ ولماذا لا تتزوج أختَك نبيهة؟ في وسعي أن أقنعك أنه لا عار بزواج كهذا؟ إن كلَّ
ما
بيننا وبينك من علاقة هو هذا الرهن، نجدده، ثم ندرس علم الاجتماع، على غير الأستاذ فرج
الله.
راجي
:
ندرسه على الأستاذ أبي الفرج الأصبهاني، صاحب كتاب الأغاني.
فرج الله
:
الرهن يُجدَّد؟! (يقهقه) قد يكون هذا في كتاب أبي
الفرج، ولكنه ليس في كتاب فرج الله، متى استحق الرهن يُدفع الرهن، هذا هو القانون.
وسيم
:
قانون الناب والمخلب. إن كنت لا تحب أن تجدد الرهن نضاعف لك الفائظ.
فرج الله
:
تدفع قيمة الرهن، وإلا أحجز.
راجي
:
يا فرج الله لا تضيق أنفاسنا.
وسيم
:
إذن من أجل هذا جئت.
فرج الله
(نصف متهكم)
:
لا. جئت لأقول لكم: كل عام وأنتم بخير، ولأهنئك بزواجك بسارة.
وسيم
:
كيف عرفت بزواجي؟ فقد كتمت الخبر عن جميع الناس!
فرج الله
:
سر النجاح أن تعرف ما لا يعرفه الناس.
وسيم
:
ألا تعرف شيئًا آخر لا يعرفه الناس؟
فرج الله
:
أعرف أن البوليس يفتش عن وسيم الحموي وراجي البيروتي.
وسيم
:
هكذا أخبرنا الدكتور نجيب، وأنت لا تعرف أكثر من هذا؟!
فرج الله
(بمعنى)
:
رأس الحكمة أن لا تفشي كل ما تعرف، أسمع جلبة، لعل ضيوفك قادمون، كل عام وأنتم بخير،
الدفع الدفع أو الحجز، إنما بينك وبين الغنى (يضرب عود الكبريت،
فيشعل سيكارته) بصة نار.
وسيم
:
اخرج يا لص.
فرج الله
:
لا تغضب؛ الغضب دليل الخوف، أنت لا ترى الخطر؛ لأن الخطر ليس أمامك، بل هو راكب على
ظهرك (ينصرف).
راجي
:
لو كان هنالك طريقة أن نُحرق دون أن نحترق، وأن نقبض دون أن تدفع الشركة، لكنت أوافق
على هذا المشروع، ولكن مشاريع كهذه ليست عذرية فقط، بل فوق العذرية؛
Super عذري.
وسيم
:
أرى الغيوم السوداء تتلبد. (جلبة وضحك).
راجي
:
أقبل الضيوف.
(يدخل ستة مهاجرين، يلبس أكثرهم السترة المفضلة حتى العنق، ليس بينهم
تشابه كبير، أكبرهم رجل اسمه عباس هائل الجثة، أحدهم يضرب على الدربكة، وكلهم
يتغنون):
نحنا الأشاوسة
أولاد العرب
نحنا الأشاوسة
أولاد العرب
(ضوضاء، وسلامات، وكلام غير واضح، وكل عام وأنتم بخير … إلخ.)
وسيم
:
أهلًا وسهلًا يا إخوان. أرجو المعذرة منكم؛ إذ إني سأترككم لأحضر الليلة المتنكرة
الراقصة عند الحاكم. أخي سليم يبقى معكم، ويخدمكم، اسمحوا لي بأن أدخل، فأغيِّر
ثيابي.
مهاجر
:
بأي ثوب ستتنكر؟
وسيم
:
بثوب بدوي.
مهاجر
:
إذا لزم البدوي جمل فعباس (مشيرًا إلى صاحب الجثة
الهائلة) حاضر. (وسيم يضحك، وينصرف).
راجي
:
أين شمدص يا شباب؟
مهاجر ٢
:
شمدص يكون هنا بعد هنيهة.
مهاجر ٣
:
شمدص اعتمد الرجعة إلى البلاد. (يدخل شمدص).
شمدص
:
يا إخوان، الرائحة عاطلة.
مهاجر
:
كنا نتحدث عنك. (أصوات. هاي شمدص. سنيور تشارلي
جو).
شمدص
:
مساء الخير، يا إخوان، كل عام وأنتم بخير، إذا لزمكم خدمة للبلاد أنا حاضر؛ بإذن الله
أسافر في ١٣ الشهر.
مهاجر ٤
:
ما الذي جعلك تعتمد على السفر؟
شمدص
:
تعبت من اسم «تشارلي جو»، أحنُّ إلى مناداة الناس لي: يا شمدص جهجاه.
مهاجر ٥
:
هل ترجع حليقًا، أم تربي الشارب؟
شمدص
:
سأبقى حليقًا، لا شوارب.كلهم يتغنون:
صار اسمه تشاري
شمدص جهجاه
راجي
(على يده صينية هائلة، ملأى بالمشروبات)
:
من منكم عطشان؟
كلهم
:
هاي.
مهاجر ١
:
أنا أعطش من الإسفنجة.
مهاجر ٢
:
أنا أقدر أن أشرب معمل بيرة؛ في بطني حريقة.
مهاجر ٣
:
أنا أعطش من كيس رجل.
شمدص
:
أنا أكاد أشرب عطشي.
راجي
:
أطفئوا عطشكم (راجي في هذا المجلس متأدب، ولكنه متقزز من هذا
المرح).
مهاجر ٤
:
شمدص، بما أنك راجع إلى البلاد، (يسير به إلى مقدم
المسرح) سلم على عمي حسن، وقل له: الحال عاطل؛ فلا أقدر أن أرسل له دراهم. أعطه
هذه الساعة، وقلم الحبر. (يناوله إياهما، ويرجع بينما شمدص مشتغل
بوضعهما في جيبه، يتقدم منه مهاجر ٣).
مهاجر ٣
:
سلِّم على أبي، واعتذر عن عدم إرسال فلوس، وأعطه هذه الهدية (قلم حبر وساعة)، (يرجع فيتقدم مهاجر ٢).
مهاجر ٢
:
شمدص، أنت أدرى بالحالة هنا. فقل لخالي أبي سامي: إنشاء الله، أرسل له بوليصة بعد كم
شهر، وهذه هدية له (يسلمه ساعة، وقلم حبر).
مهاجر ١
:
الله يوصلك بخير يا شمدص، هذه هدية، اعمل معروف؛ أوصلها إلى ابن عمي سليمان. التجارة
في
كساد، فلوس ما فينا نبعث.
(يدخل مهاجر اسمه خليل، وهيئته أبله.)
خليل
:
ليلة سعيدة يا إخوان، كل عام وأنتم بخير.
الحضور
:
مساء الخير، كل عام وأنتم بخير.
شمدص
(بحنق)
:
خليل، تعالَ إلى هنا. (يتقدم) عرفت أني راجع إلى
البلاد؟
خليل
:
بلى، أخبروني.
شمدص
:
ما اسم أبيك يا خليل؟
خليل
:
أبو خليل.
شمدص
:
سأسلم لك عليه، وأقول له الحالة عاطلة، فلا ينتظر فلوس، (بحنق
يأخذ بتلابيبه) هات الساعة وقلم الحبر.
خليل
(يناوله الساعة وقلم الحبر، ويصفر مستغربًا)
:
الله يرد العين عنك يا شمدص.
راجي
:
يا شمدص، كل شيء حاضر، إلا صحن الحمص، وليس فينا من هو أشطر منك بعمل الحمص، فادخل إلى
المطبخ، فالحمص جاهز.
شمدص
:
أدخل إلى المطبخ، وأترككم هنا تشربون؟! لا، أعمله هنا. (شمدص
ينصرف، ويرجع بعد قليل وفي يده صحن حمص، ومدقة يهرس بها الحمص).
مهاجر ١
:
هل قرأتم جرائد البلاد؟ وصلني حزمة اليوم.
مهاجر ٢
:
كل جرائد البلاد قتل وضرب.
مهاجر ٣
:
ما في ألعن من الجرائد منذ ثلاثين سنة، ولم أدفع الاشتراك، أنا تصلني «بريد
الخميس».
مهاجر ٤
:
أنا صار لي في هذه البلاد ٢٠ سنة. لا دخلت محكمة، ولا أخذت شربة، ولا دفعت اشتراك
جريدة.
مهاجر ٥
:
جرائد بلادنا تحيِّر. كل كلمة يا أفندينا، أكبر من رأس البطيخ. من يفهمها؟!
مهاجر ٧
:
وماذا تفهم حضرتك، حتى تفهم الجرائد؟
مهاجر ١
:
فيها قصيدة لحسون المصايف بديعة، بديعة، بديعة.
مهاجر ٢
:
وكيف عرفت أنها بديعة؟
مهاجر ١
:
لأني ما فهمت منها ولا كلمة!
شمدص
:
أنا بحياتي لم أقرأ إلا كتاب الزير (ينتزعه من جيب بنطلونه
الخلفي، ويقرأ متغنيًا، ومشيرًا بمدقة الحمص):
يقول الزير أبو ليلى المهلهل
ألا يا بنات إن السعد جاكم
غدًا جساس أقتله بسيفي
وآخذ يا بنات بثار أباكم
فلاقوه على الخيل الضوامر
وإني سوف أهجم من وراكم
مهاجر
:
ناولني كتاب الزير (أصوات من المهاجرين: هات كتاب الزير.
أعطنا الكتاب).
شمدص
:
لا، لا، لا، اطلبوا روحي، وسيفي، وحصاني، ورمحي، ومحفظة نقودي؛ إنما لا تطلبوا مني كتاب
الزير. لنرجعه إلى المكتبة (يعيده إلى جيب بنطلونه
الخلفي).
مهاجر ٣
:
يا إخوان، تذكرون أن بيني وبين فؤاد مراهنة على عشرة ريالات. الآن جاءنا جواب المقتطف
(يقرأ):
سؤال نرجو أن تفيدونا؛ هل إسكندر ذو القرنين وُلد قبل عمر بن أبي ربيعة، أم أن عمر
بن أبي ربيعة وُلد قبل إسكندر ذي القرنين؟
نبيه غوَّاص
فؤاد الحداد
عن غرانبلا أميركا الوسطى
«جواب المقتطف: إسكندر ذو القرنين وُلد قبل عمر بن أبي ربيعة.» هات العشرة ريالات
يا فؤاد.
فؤاد
:
على الرأس والعين (يدفع له).
مهاجر ٣
:
(ملوحًا بالعشرة ريالات) على سلامة قرنيك
يا إسكندر.
فؤاد
:
إنما أراهنك على عشرين ريالًا، أني مصيب في جدال هذا الصباح: الأرض مسطحة.
مهاجر ٣
:
مربعة.
فؤاد
:
مسطحة. أتراهن على عشرين ريالًا؟
مهاجر ٣
:
أراهن على عشرين ريالًا أن الأرض مربعة.
فؤاد، ومهاجر ٣
:
لنسأل «المقتطف».
مهاجر ٢
(متضايقًا من هذا الحوار)
:
خلص صحن الفول يا شمدص.
شمدص
:
اسألوا المقتطف!(صفير متواصل.)
مهاجر ٤
:
يا إخوان، هل تسمعون الصفير؟ العاصفة تشتد!
مهاجر ٥
:
الله يساعد الذين في البحر.
مهاجر ٨
:
في كل رأس سنة عاصفة، العام الماضي غرق أربع بوابير.
راجي
:
كيف حال كامل الأميوني؟ صحيح انتحر؟!
مهاجر ٣
:
الرصاصة دخلت الصدغ الأيمن، وطارت من الصدغ الأيسر، دماغه يرشح؛ هكذا أخبرتني
الممرضة.
مهاجر ٤
:
الدكتور نجيب يعالجه. شفاه الله.
مهاجر ٥
:
كيف تريد أن يُشفى! إذا كان الرصاص اخترق رأسه.
مهاجر ٢
:
أهذه أول عجيبة قام بها الدكتور نجيب؟ سترى كيف يشفيه، سترى (شمدص يخرج).
مهاجر ٧
:
أيُّ نسمةِ خيرٍ هذا الحكيم! أمس كفل ١٤ مواطنًا من «حاصبيا»، حتى سمحوا لهم بالدخول
إلى «غرانبلا»، وهذا الصباح توسط لابن أنيس الحلبي فعيَّنوه طبيب بلدية، مع أنه كان مرشح
لهذه الوظيفة ٨٢ طبيبًا من أهالي غرانبلا.
(يرجع شمدص، فيخطف المقتطف، ويقرأ.)
شمدص
:
نرجو أن تفيدونا إذا كان الأستاذ شمدص جهجاه — أي السنيور تشارلي جو — أنهى صحن
الحمص؟
جواب المقتطف
:
صحن الحمص خلص، تفضلوا.
(أصوات: هاي، يحيَ شمدص، ثم يهجمون للداخل)، (راجي يبقى وحده يرتب
الكئوس، ثم يتطلع إلى الكراسي، ويُصفِّر صفرة طويلة، كأنه متضايق من معشر كهذا، ويشرب
كأسًا.
فيما هو يمشي يعثر بكرسي، فيخاطب الكرسي، معاتبًا: «وأنت أيضًا يا بروتوس؟»)
(تدخل هدى.)
راجي
:
أهلًا وسهلًا بخالتي هدى، أين سارة؟
هدى
:
سارة التقت بصديقة لها، وهما يتكلمان خارج المنزل، ستكون هنا بعد قليل، أنا سبقتها،
أرجو أن تكتب لي مكتوب تعزية للبلاد.
راجي
:
مكتوب تعزية؟! أهون عليَّ أن أموت من أن أكتب مكتوب تعزية، اسألي صهرك.
هدى
:
صهري يا ثرثار! من قال لك أني أزوجه ابنتي من غير أن أعرف دينه؟ لعله من الجماعة؟! إن
كان من غير ديننا، فأهون عليَّ أن أمزِّق ابنتي من أن أزوِّجه إياها!
راجي
:
هنا يتزوجون زواجًا مدنيًّا.
هدى
:
مدنيًّا؟ لعن الله المدنية إن كان الزواج يعقده كاتب عدل، كأنه كونتراتو رهن.
راجي
:
الزواج رهن يا ست هدى؟! الزواج بيع باتٌّ. هل سمعتِ ببني عذرة؟
هدى
:
بني عذرة؟! من أي ضيعة هم؟ ما هو دينهم؟ قل لي ما هو دينكم؟ في أي كتاب يصلِّي
سليم؟
راجي
:
كل حياته يصلي بكتاب «الأغاني»، وأظنه يعبد أبو الفرح الأصبهاني، (صائحًا للداخل) يا سليم، يا سليم، خالتك هدى هنا (يدخل وسيم بثوب بدوي. راجي يهرب متغنيًا «ضاقت، ولما استحكمت
حلقاتها»).
وسيم
:
مساء الخير يا خالتي هدى، أين سارة؟
هدى
:
سارة تُعَلِّك مع صديقتها خارج المنزل، ستكون هنا بعد قليل. اعمل معروف؛ اكتب لي مكتوب
تعزية، واقرأ لي هذا المكتوب. (وسيم يأخذ المكتوب من هدى،
ويقرأ).
وسيم
:
«جناب حضرة ست النساء، وزينة الأرض والسماء، خالتنا هدى — حفظها الله …»
هدى
:
آمين.
وسيم
(متابعًا)
:
«من بعد إهدائك السلام، نخبرك أن البارحة وقعت عركة بينا وبين بيت الحموي، فجُرح
أبو مرعي.»
هدى
:
الله يبشرك بالخير.
وسيم
:
وقُتل أخوه.
هدى
:
الحمد لله.
وسيم
:
ومنَّا قُتل ابن خالك جميل، عوَّضنا الله بسلامتك.
هدى
:
يا أسفي عليك يا جميل! يا سبع الرجال يا جميل!
وسيم
:
من خصوص البوليصة ٢٠٠ دولار وصلت، وحالًا صار دفعها للأفوكاتو في بيروت، وإنشاء الله
في
المكتوب القادم نخبرك أننا ربحنا الدعوى العتيقة على الجماعة. قال: إذا كنتم تريدون رصاص
في
صدور بيت الحموي، لازم يجيكم بارود من أميركا، واليوم ورد علم أن وسيم الحموي ورفيقه
البيروتي موجودين عندكم في بلاد «جرانبلا»، وأسعد بك اشتغل في بيروت لإرسال عِلْمٍ
لحكومتكم، ففتشوا على هذا اللعين، والشبان هنا مستعدون للسفر، وأخذ الثأر إذا لزم الأمر،
إنما الأحسن إرجاعه لهنا محفوظًا، حتى إذا نجا من الحكومة، فشباننا مستعدون لعمل اللازم،
وأم وسيم الآن نصف مجنونة، خرفانة، أكثر كلامها مثل كلام الأطفال، إنشاء الله ينشرح قلبها
بالزايد برؤية ابنها يتمرجح برقبته، قبل انتقالها إلى جهنم … الباقي سلام، وكلام …
هدى
:
أم وسيم الحموي، الحية الرقطاء، ابنها قاتل ابني، ابنها في جرانبلا؟! أين أنت يا ابن
اللعينة، لأخنقك بيديَّ؟ أين يدك التي احمرَّت بدم طعان؛ لأحزَّها عن جسمك يا ابن اللعينة؟
سليم، سليم، فتِّش معي عن هذا اللئيم، وإذا وجدته أزوِّجك سارة، ولو كنت من الشمس.
(تدخل سارة في لباس بدوية، وسيم وسارة لا يسلمان على بعضهما، بل تُشِعُّ
العيون، ثم تبتسم الشفاه، فتشتبك الأيدي)، (راجي يطل لابسًا البرنيطة، حاملًا العصا،
فيتنحنح.)
راجي
:
خالتي هدى، تعالَيْ أكتب لك مكتوب التعزية، (مقلدًا
وسيم) فإن الوحي يغشاني من جديد. (يتأبط ذراعها،
ويحاول الخروج بها).
هدى
:
ليس من اللائق أن نتركهما هنا وحدهما.
وسيم
:
يا خالتي هدى، ألا ترينني بأثواب العرب؟ العرب لا يخونون، ائتمني هذا العربي، ولو على
ابنتك البدوية زينب (راجي يسير بهدى متغنيًا: «الخيل، والليل،
والبيداء تجهلني، السيف …»).
هدى
:
يا ربي! في أي زمان نحن!
سارة
:
سنة ١٩٣٧ (هدى وراجي ينصرفان، سارة تهم بضم وسيم، فيدفعها هذا
بلطف).
وسيم
:
لا، لا، أنت في مضافتي، اذكري وعدي لأمك.
سارة
:
ولكني زوجتك، أنسيت؟!
وسيم
:
كيف أنسى! ولكن العربي لا يحنث بالوعود. سارة، ما أجملك هذه الليلة! وكل ليلة وكل
نهار.
سارة
:
إذا لم تسكت عن مغازلتي صفعت خدَّك بشفتيَّ.
وسيم
:
أريد أن أخبرك خبرًا هامًّا.
سارة
:
ما هو؟
وسيم
:
هو أني أحبك، وأعبدك، وأحيا لأجلك.
سارة
:
أليس لديك خبر جديد؟
وسيم
:
بلى، هو أني أهواك.
سارة
:
وغيره؟
وسيم
:
وأنك حبيبتي.
سارة، ووسيم
:
وعروستي، وقلبي، وروحي، ومالي.
سارة
:
سليم، كدت أن أخبِّر أمي بأمر زواجنا، فلماذا … أمي تقول: ربما تكون أنت من «الجماعة»،
فما معنى «الجماعة»؟ كلمة على لسان أمي كل ساعة؛ إذا أتى مكتوب من البلاد فكلُّه عن
«الجماعة»، كل النهار: «الله يقطع الجماعة». فمن هم الجماعة في البلاد؟
وسيم
:
«الجماعة» في البلاد هم من ليسوا من حزبنا، أو ديننا، أو حيِّنا، أو عائلتنا. لو لم
تأتي إلى «غرانبلا» طفلة لكنت تفهمين أي ديناميت في كلمة «الجماعة».
سارة
:
يعني في بلادنا الناس «جماعة وجماعة»؟
وسيم
:
يا ليت! في بلادنا ألف جماعة وجماعة.
سارة
:
إنما أنا وأنت جماعة واحدة، آ، سليم؟ هل قرأت المكتوب لأمي؟ أراهن أنه فيه قتل. «وادي
الأرز» ضيعة تُسكَن أم هي ساحة قتال؟
وسيم
:
هي جنة تُسْكَن لو لم تكن ساحة قتال. لو لم تكن «جماعة وجماعة».
سارة
:
لماذا اخترت التنكر بثوب البدوي عقيل والبدوية زينب؟
وسيم
:
أنت وأنا إذ نلبس ثياب العرب لسنا بمتنكرين.
سارة
:
صحيح؟ أرى العرب في السينما وفي الجرائد أضحوكة.
وسيم
:
أضحوكة سفلة صحافيي الغرب. النخوة، العرض، المروءة، النجدة؛ هل تجدين هذه الألفاظ إلا
في لغة العرب؟
سارة
:
لا.
وسيم
:
أي سارة، إني إذ أستردُّ أثواب العرب أشعر برعشة فخر.
سارة
:
لماذا خلقك الله كتلة من عواطف، وما بالك كئيبًا هذه الليلة؟ قل لي؛ من حقي أن
أعرف.
وسيم
:
أُو. ليس بي شيء، تعالي نرقص.
سارة
:
«تعالي نرقص»! إذن فأنت كباقي أولاد العرب؛ زوجتك للهو وللبيت. إن إنكارك عليَّ مصاعبك
ينطوي على احتقارك إياي، فكأني أتفه في عينيك من أن أشاركك بمصاعبك. قل لي ماذا جرى؟
إني
أشعر أن أمرًا يقلقك، فما هي الحيرة التي تغمرك؟ سليم، ما أنت بالرجل الذي أعهده، لا
تُخفِ
عنِّي شيئًا، أهذا هو الحب الذي غمر قلبينا؟ أهو عاطفة وانفعال جنسيٌّ، أم هو تفاهم روحيٌّ؟
لي الحق أن أفهم كل شيء. أرى علامة استفهام على وجهك، لماذا لا تضع رأسك على صدري، وتحدث
سارة عن همومك؟
وسيم
(بعد تردد)
:
هذه الجرائد.
سارة
:
أفيها خبر مكدر عن ذويك؟
وسيم
:
لا، ولكنها تسخر بي؛ كل جريدة تحمل أنباء العظائم؛ فهذا رجل اخترع مَكَنَة، وآخر جاد
على الدنيا بكتاب، وغيره اكتشف أو اكتسح. هذه الجرائد تسخر بي، كلماتها تحملق بوجهي،
متهكمة
تسألني: من أنت أيها النكرة، وما شأنك في الدنيا؟ أي عظيمِ أمرٍ قمت به في الحياة، فننقل
خبره إلى الناس؟ أجيبها: لا شيء، لا شيء، أنا بيَّاع، انظري (يقع،
ويبكي).
سارة
:
لا تستسلم إلى الانفعال.
وسيم
:
وكنت أمرُّ بها غير آبِهٍ، لو لم أكن ذقت طعم الظفر في فجر حياتي. سارة، إني عاهدت
الناس في مطلع العمر على الفوز، وها أنا أحنث بالعهد، أنا فاشل وخائن، خائن! رجعت إلى
سخيف
الذكريات، بل من ليس له مستقبل تعلَّق بماضيه، إن مستقبلي مضى. ربِّ! كم صرت أبغض
نفسي!
سارة
(تأخذه بيديها)
:
أي زوجي وحبيبي، قف، قف. (يقف) قف كمن يهم بالقتال،
(يفعل) اصرف بأسنانك، وليلمع الغضب في عينيك، (يفعل) ضُمَّ قبضتيك بكل ما في جسدك من قوة، (يفعل) الآن قاتل؛ قاتل الدنيا، ولا تنطرح على الأرض كهزيم.
ليس العار أن تُغلب، العار أن تهرب. أنت رجل، وككل رجل تفكر، وتصل إلى استنتاجاتك عن
طريق
الفكرة. أنا امرأة، أشعر وأشعر فقط، شيء لا أراه، ولا ألمسه، ولكني أحسُّه وأشعره؛ إني
أشعر
أنك ستكون عظيمًا. أي حبيبي، ستكون عظيمًا، ولا يهمني إن كنت اليوم مفلسًا ومغلوبًا.
البارحة حلمت حلمًا مريعًا؛ رأيتك ممتطيًا جوادًا أبيض شأن الفاتحين، وفي يمينك علم خفَّاق،
وعيناك محدقتان بقمة الجبل، والحصان يتخطى بك السفح إلى القمة، وأنا أحوم حواليك، وفي
يدي
قيثارة، أغني لك الأناشيد، وفجأة زلَّ الجواد فرعبتُ، وحدقت، فإذا أنت بالوادي مهشم الجسم
دامٍ، ولكن الجواد على حوافره الأربعة واقف، وأنت مسمَّر إلى صهوته، والعلم في يمينك
خفَّاق، وعيناك في القمة تحدقان؛ هكذا أريد أن أراك!
وسيم
:
وهكذا سأكون.
سارة
:
أَتَعِدُ؟
وسيم
:
وعدًا عربيًّا.
سارة
:
ألا تقبِّلُني الآن؟
وسيم
:
أتريدينني حنَّاثًا بالوعود؟
سارة
:
إذن لا تقبلني.
وسيم
:
أريد أن أحدِّثَكِ بسر هائل كتمته عنك حتى اليوم.
سارة
:
ما هو؟
(يرجع المهاجرون، وراجي في طليعتهم يتنحنح.)
راجي
:
سمعت سليم يقول: «أحب حتى الذبابة في فنجان قهوتك، والبراغيث في شعر هرتك، وأطرب لنباح
كلبكم.»
سارة
:
وسمعت سارة تقول: أحب حتى أخاك سلوم ينهق من عطشه، ويلبط من بطره.
شمدص
:
اقتراح يا إخوان، ما قولكم إذا رقص البدوي عقيل والبدوية زينب هنا، قبل الذهاب إلى
المأدبة؟!
أصوات
:
موافق، موافق، وسِّعوا الحلقة.(سارة ووسيم يرقصان. الباقون: أُو مَن صُوته حلو يغني):
بين داري ودارك درب
توصل بابينا
في صدري وصدرك حب
يغمر قلبينا
نرمي مع ساري الريح
أحقاد أبوينا
وفي وجه الدنيا نصيح
من يقدر لينا
نهدم وراثة البغض
من عهد أجدادنا
ونحيا لبعضنا البعض
ونبني لأولادنا
(سارة تضع ذراعها على ذراع وسيم ويخرجان. أصوات: تحيَ البدو، تحيَ
العرب، لا ترجعوا إلا بالجائزة الأولى. هدى تأتي راكضة، فمها مملوء أكلًا، وتصيح وهي
تنهض
فسطانها: «لا تسبقوني، لا تسبقوني» إذ):
(ينزل الستار)
ثم يرتفع حالًا فنرى
إننا في آخر الليل، وكل ما على المسرح مبعثر. راجي نائم يشخر. شمدص سكران، يخطب لجمهور
يظهر أنه بين السماء والأرض بكلمات نصف مفهومة.
شمدص
:
أين أولاد العرب؟ فلتحيَ أولاد العرب. فليسقط أولاد النور. فليحيا الزير أبو ليلى
المهلهل. فليسقط جساس. فليحيَى العنب والتين والصبير. فليحيَ اللقطين. فلتحيَ
شواربكم.
راجي
(يأخذ بشمدص، ويخرجه صارخًا) وليحيَ شمدص
جهجاه.
(يدخل وسيم نصف سكران، وفي يده كأس فضِّي.)
وسيم
:
هاي مسيو سلوم. يا سنيور سلوم، انظر إلى هذه. هذه الجائزة الأولى بالرقص قدمها لنا
الحاكم بيده (يرقص، ثم يقبله). كل عام وأنت بخير. أعاشك
الله إلى زمن تكنس به الأرض بلحيتك، أي سنيور سلوم (يطوي
ذراعه) جسَّ هذا، فإنه لا يزال صلبًا كسنديان لبنان. ضع يدك على هذا (مشيرًا إلى قلبه) فهو لا يزال يدق دقة عسكرية. هاي سنيور
سلوم، ليتك سمعت خطابي إذ قدموا لنا هذه الجائزة. راجي لقد ظفرت بأمنية حياتي، فقد سمعت
التصفيق كالرعد. أتذكر قولك لي: أن طموحي هو سماعي التصفيق، ومستقبل التصفيق يتلاشى،
ولكن
التصفيق يرجفك، قبل أن تتلاشى يا مغفل، ولذة الحياة هذه الرجفات. قلت لهم: ما هذه بأول
مرة
غزت البداوة الحضارة، وما هي بأول مرة يهز علم العربان فتًى من لبنان، قلت لهم … ولكن
هل
أعددت حقائبي يا أستاذ؟
راجي
:
يا مجنون، أتسافر في هذه العاصفة؟ أتريد أن تأكلك الأسماك.
وسيم
:
السمك يأكلني؟! أنا آكل السمك. (يصب في الكأس الفضِّي،
ويشرب) ما أطيب كأس الفوز في ليلة العيد (صفير بعيد
قوي) علامة الخطر هاه؟!
راجي
:
ولكنه البحر يا مجنون، أتريد أن تغرق؟
وسيم
:
إذا غرقت فجثتي تشطط برأس بيروت. لا تنس وصيتي، أحرق جثتي، وذر رمادها على تربة تلك
الشجرة التي زرعناها يوم تخرجنا. إنما ضع إعلانًا كبيرًا (يهمس
بأذنه، ثم يضحك) وألا تيبس الشجرة، أما أنت فعش، وامرح، ولا تنس أن تفتح صيدلية
في زاوية بيتك، إذ متى كبرت ستحتاج إلى أسبرين وحبوب الحياة للدكتور روس، وقطن، وقطرة
لعينيك (يهمس بأذنه، ويضحك) ستحتاج إلى ذلك أيضًا.
(صفير). صفِّري. صفِّري أخبري الناس عن العاصفة، ولا
تخبريني. أنا الذي أكل العواصف مائة مرة. انظر إلى الأمواج تجن في هجومها على الشاطئ،
متدفقة كأنها رجال «سلطان»، حاملة على العدو — أيها البحر، أيها الجواد الصاخب المزمجر،
ما
هذه بأول مرة أمتطيك وأنت جموح. كم مرة علوت ظهرك، وقد قوَّستُه عاليًا عاليًا كجبل
«الباروك»! وفتحت شدقًا عميقًا كوادي «حمانا» فالعب، وامرح، وزمجِر، وليملأ الجو زبد
أشداقك، ففارسك منع الله الخوف عن قلبه. فارسك البدوي عقيل، غير هيِّابك:
ملأنا البحر حتى ضاق عنَّا
وماء «البر» نملأه سفينا
عَنْديْنا. (ينصرف بالحقيبة).
راجي
(بصمت وجوم، يأخذ القنينة فيكسرها، ثم يتدارك نفسه، فيمسح الخمر
بمنديله، ويعصره بفمه، ويرتمي على الكرسي، نابشًا شعره صارخًا)
:
كل عام وأنتم بخير.
(ينزل الستار)
المشهد الثاني
(بعد ثلاثة أيام. المكان نفسه. شمدص وفرج الله. شمدص كالمشدوه. فرج الله في نشوة الغراب،
إذ
يمزِّق جيفة حصان نتنة).
شمدص
:
أوضح لي الأمر. أصحيح كل ما أسمع؟ ماذا جرى يا فرج الله؟!
فرج الله
:
الذي جرى أمر بسيط، أوضح من هذا الأنف الذي على وجهك. بعد أن خرج وسيم من بيت الحاكم،
جاء إلى هنا، واختطف حقيبته، وركب البابور والعاصفة في طورها السابع المخيف. بعد ست ساعات،
إذ أمعن البابور في البحر، نزلت «الفاجعة» (يضحك) فرقصت
الباخرة كأنها طابة فوتبول، وانقطع حبل دفتها، وطافت الأمواج على خزانات البخار، فانفجرت،
وتناثر ركابها ومنهم وسيم بين تلك الجبال المتلاطمة، حتى عثر وسيم على قطعة خشب، تمسك
بها
٥٨ ساعة في تلك الصحراء المائية، لا أكل، ولا شرب، ذاقوا بها أهوال الموت أحياء. كلاب
البحر
اختطفت تسعة منهم، (يضحك) إلى أن مرت بهم دارعة أميركية،
فانتشلت بقيتهم، وصاحبك وسيم منهم.
شمدص
:
أهو في خطر؟
فرج الله
:
كلنا دائمًا في خطر يا شمدص. أنت في خطر وأنا في خطر. إنما وسيم الآن أعمى، (يضحك) فقدَ بصره من وهج الشمس على البحر.
شمدص
:
وراجي؟
فرج الله
:
راجي في السجن؛ لأنه شريك وسيم قاتل طعَّان الحمصي، وطعَّان هذا هو ابن هدى وأخو سارة،
وهدى شبه مجنونة، تريد الانتقام من قاتل ابنها، وتريد الانتقام من ابنتها، التي تزوجت
وسيم
سرًّا، وراجي ووسيم سيُرسلان تحت الحفظ إلى بيروت للمحاكمة.
شمدص
:
أكاد لا أصدِّق ما أسمع. هوليوود لم تصنع مثل هذا الفيلم، الذي نشاهده.
فرج الله
:
لنعجل بأخذ قائمة البضائع، فبعد قليل، سيأتون بوسيم إلى هذه الغرفة.
شمدص
:
ولكن أَمِن اللياقة أن تضع يدك على تجارتهم، وهي في هذه الحالة؟!
فرج الله
:
… وأنت أيضًا يا شمدص؟ لماذا كل أولاد العرب يبغضونني؟ لأني نجحت حيث فشلوا؛ لأنهم
يحسدونني. الغني محسود، ولكن قل لي من يحتاج الآخر، أنا أم هم؟ يستدينون منِّي، أنا لا
أستدين. حينما يعطشون إلى المال ينادون فرج الله، وحينما يأتي موعد الدفع يشتمون فرج
الله.
شمدص
:
ولكن حالة هذين الشابَّين تستدعي الشفقة، والله أنعم عليك.
فرج الله
:
الله أنعم عليَّ، فسأحاسب الله، وليس غيره.
شمدص
:
فرج الله تبصَّر بالأمور. شابَّان غريبان: أحدهما أعمى كسيح، خلص من الموت غرقًا بنصف
روحه، والثاني سجين. ألا ترى من المروءة أن توقف الحجز، حتى تستقيم أمورهم؟
فرج الله
:
من المروءة أن أحمي حقوق فرج الله أولًا، وثانيًا، وأخيرًا. كل ما في هذه الغرفة وهذا
المحل هو ملكي، أفهمت؟ وأنت من أرسلك؟
شمدص
:
أرسلني الدكتور نجيب.
فرج الله
:
لماذا لا ينصرف الدكتور نجيب إلى الطب، ويترك الناس في أمورهم.
شمدص
:
فرج؟! بعض من يكبرون اللقمة يختنقون.
فرج الله
:
طيب، إنما في يدي أمر، يفوِّضُني بالاستيلاء على كل ما في هذا المكان، وسأستولي على كل
ما في هذا المكان.
شمدص
:
فرج! من أخبر البوليس عن وسيم وراجي؟
فرج الله
:
لعلكم تتهمونني؟! وصل لمدير البوليس مكتوب مغفل الإمضاء. هل وجدوا توقيعي عليه؟ (يضحك).
شمدص
:
مؤكد لا!
فرج الله
:
هل الخط خطي؟ (يضحك).
شمدص
:
طبعًا لا، وأراهن أنك كتبته، وعلى يديك قفازان.
فرج الله
:
أنا قلت لوسيم الحموي: اقتل ابن هدى الحمصي في «وادي الأرز»، ثم هاجر إلى غرانبلا،
وتزوج ابنتها سرًّا، ثم اسكر ليلة رأس السنة، وسافر في البحر والعاصفة تشتد؟ أنا رجوته
أن
يستدين المال مني، ويمثل أدوار حاتم طيء، والسموأل، وهارون الرشيد في هذه البلاد؟ شمدص!
لا
تتكلم كالأغبياء، فأنا أعلم أنك شاطر. فلنبدأ بالتفتيش.
(يفتح المكتبة، ويأخذ شهادتين.)
شهادة مدرسية، وشهادة مدرسية. تعجبني هذه الشهادات، فهي ماركات غباوة، وقَّعها حمار
كبير، يشهد أن حاملها جحش صغير، يصلح مطية للأذكياء. هل دخلت مدرسة يا شمدص؟
شمدص
:
لا، ولكني تتلمذت على الكثيرين من أمثالك، وتعلمت أمثلة مجانية ثمينة.
فرج الله
:
أرخص الأمور أثمنها. الابتسامة لا تكلف شيئًا فالبسها، وكلمات الإطراء مجانية، فاغمر
بها قلب عدوك، واليمين فاقسم بها مغلَّظًا، واذكر أن جمهور الناس أغبياء. متى أردت الإيقاع
بشخص لا تعبس بوجهه، بل صادقه. فأهون أن تصطاد الذباب بالعسل من أن تصطادها بالخل. كن
كالخمرة وديعة في كأسها، تغوي العين، حتى تتسرق إلى الفم، فإذا انزلقت إلى الكبد نهشتها.
المهم أن تربح المعركة، ولن تجد من يسألك: كيف ربحتها، واعلم، أنه ليس في الدنيا
صديق.
شمدص
:
أنا ليس لي في الدنيا إلا صديق واحد.
فرج الله
:
من هو؟
شمدص
:
الزير أبو ليلى المهلهل.
فرج الله
:
أنت رجل حاذق لم تطل المدرسة أذنيه. لا حاجة إلى تقويم البضائع. سآخذها كلها، وأترك
للأستاذين كل الشهادات المدرسية، ولكن هذا الصندوق لا أريد نقله مقفلًا، مخافة أن يدَّعوا
أن كان فيه الملايين، فقل للدكتور نجيب: أني أريد المفتاح.
شمدص
:
الدكتور نجيب في الغرفة الثانية، يداوي وسيم. اسأله أنت عن المفتاح.
فرج الله
:
أنت مندوبه، فاسأله أنت. (شمدص يخرج، ويرجع بالدكتور نجيب
لابسًا سترة الأطبَّاء، بينما فرج الله يقلِّب أوراق وسيم، ويضحك).
الدكتور نجيب
(إلى شمدص)
:
اذهب إلى السجن، (مشيرًا إلى النافذة) هو قريب منا
جدًّا. لقد سألت مدير السجن أن يطلق راجي ساعة بكفالتي، فإن لم يكن قد فعل بعد، فعجِّله.
(شمدص ينصرف، إلى فرج الله) أيها الضبع، المُعَسْعِسُ
في خراب هذا البيت، لا تحرج الدكتور نجيب أن يستعمل نفوذه ضدك. في حياتي كلها ما حالفت
مواطنًا ضد مواطن. لا تجعلني أبدأ بك.
فرج الله
:
ولكن حقوقي. حقوقي. أريد أن أفتح الصندوق.
الدكتور
:
سآتيك بمن يفتحه، ولكنك إذا مضيت في قساوة، تعسُّفك سببت طردك من هذه البلاد، حتى لا
تستطيع رؤيتها إلا بمنظار. بعض الأمور في هذه الدنيا لا تشتريها الملايين.
(تدخل سارة في لباس النوم.)
سارة
:
بدأ يتحرك.
الدكتور
:
طيِّب. متى استفاق، أذهب إليه. (بشدة) وأنتِ قلت
لكِ: انصرفي إلى فراشك. كفاك سهرًا، وتعبًا.
سارة
:
مورفين الدنيا كلها لا ينيمني ووسيم في هذه الحالة. (تبكي،
فيراضيها الدكتور نجيب، ويصرفها قائلًا): ما عليه شرُّ. قلت لك: ليس عليه خطر.
(يرجع شمدص وراجي. هذا في لباس السجن، وعلى ظهره وصدره نمرة
١١٣).
الدكتور
:
هل معك مفتاح الصندوق يا سليم — راجي؟
راجي
:
ها هو يا دكتور.
الدكتور
:
افتحه.
راجي
(لفرج الله)
:
ذاب الثلج، وبانت الأوساخ. سأفتحه، ولكنك يا فرج الله، لماذا لم تحجز على هذا السوط
أيضًا، (يتناول الكرباج من الحائط) انظر إليه. هذا ملكك
أيضًا، يا من اشترى ائتماننا بعملة مزيفة. أما الصندوق، (يفتحه) فهو خالٍ من المال، خلوِّ نفسك من كل مروءة.
فرج الله
:
يا راجي، أنا لا أريد إلا خيركم. إذا لم أحجز أنا حجز البنك … بشرفي.
راجي
:
(مع كل كلمة ضربة سوط) بديني، برحمة أمِّي، بعرض أختي
نبيهة، وحياة الخبز والملح الذي بيننا.
الدكتور
(يفصل بينهما)
:
، اجمد. إرم الكرباج (راجي يفعل).
راجي
:
أيها الممثل العبقري، أهنئك بنجاح دورك. إن أمهر ممثلي العالم لم يسرحوا على مسرح، بل
هم بيننا في كل يوم، يمثلون أدوارهم.
فرج الله
:
هذه بلاد تمدن وقوانين. ما نحن في «وادي القرن». لن تضربني وتنجو من الحكومة يا مفلس،
يا محتال. يا قاتل. سأريك. سأريك (ينصرف).
الدكتور
(لراجي)
:
أنت أحمق ومجنون.
شمدص
(يتناول الكرباج، ثم يقول لراجي على حدة وهو ينظف الكرباج)
:
وسَّخت الكرباج.
الدكتور
:
أفسحوا مكانًا هنا لكرسي وسيم. (الدكتور يساعدهم على الترتيب،
ثم يذهب إلى الغرفة الملاصقة، فيأتي بكرسي. ذات دولابين، يجر وسيم عليها، وسيم يصرخ
متألِمًا. العصائب تشد رأسه، ورجليه، ويده اليسرى).
وسيم
:
الله. الله. آخ. آخ. يا الله.
الدكتور
(بينما يشعل بابور سبيرتو؛ ليطهِّر الحقنة)
:
صبرك وسيم. سأعطيك حقنة مورفين، تقتل الألم.
وسيم
:
اقتل الألم. آه. ربي، إن جسمي يلتهب، كأني أسبح في بحيرة من النار.
راجي
:
صبرك وسيم. إن الألم سيضمحلُّ.
وسيم
:
أنت هنا يا راجي؟ يدك وعفوك. عفوك عن هوَّة سحبتك إليها. كنت نبيلًا في أخوَّتك. تناس
حماقتي.
راجي
:
ستمضي هذه المصاعب، ويأتي يوم نتذكرها، ونضحك.
وسيم
:
أحس أن جيوش الفناء تسير في دمي. انطفأ النور من عيني. صرت أعمى يا راجي، وأحسُّ أن
روحي تتراقص لتنطفئ. لا تدعهم يدفنونني هنا يا راجي. لا تسكنِّي مقبرة الأغراب. أيضطجع
أربعة عشر جيل في قريتي، وأدفن في مدافن الأغراب؟ أريد أن يواكبني إلى القبر ألف شجاع،
ويحرَّ وجهي تلويح ألف منديل. أريد أن أسمع الندب في مأتمي. راجي، إن لم تقوَ على إرسال
جثتي إلى هناك، فلتحرق الجثة والرماد فليذرُّ على تربة تلك الشجرة، التي زرعناها يوم
ودَّعنا المدرسة، أتذكرها يا راجي؟ ما أقبح هذه الخاتمة يا راجي. انظر إن الستار يكاد
ينزل،
والجمهور يصفِّر، وابتسامة التشفي على شفاه اللئام. ما هذه الحكاية المشوشة، التي مثلتها
على مسرح الأيام، كأن كل شيء فاتنا حين ارتفع الستار، وكانت النظارة مصغية، معجبة، فلماذا
هم الآن يصفرون؟ آه (يضرب بقبضته على مستند كرسيه). ما
هكذا كانت تنتهي رواياتك يا وسيم الحموي. سارة، سارة، أين أنت؟ (سارة تبكي في صمت، ولا تجيب). راجي، لا تقل لهم أني متُّ هكذا، قل لهم قتله
العبيد، غرق أو انتحر، ولكن لا تقل لهم أني فنيت هكذا، كقشرة بطيخ تهرأت.
راجي
:
سارة نائمة.
الدكتور
:
الآن وقت المورفين. هذه آخر حقنة. بعد اليوم يخف الألم، (يجس
ساقه) وفي أقل من شهرين تستطيع المشي، فخفف من هذه الثرثرة عن الموت، وعن دفن
الجثة. (بصوت عال) سارة، يا سارة.
(سارة تنسحب من المسرح، ثم تنادي من بعيد «نعم يا حكيم».)
تعالي ساعديني (راجي واقف واجم).
وسيم
:
أصحيح ما تحدثني يا دكتور؟ أم هو حديث الأطبَّاء لمرضاهم الميِّتين. آه. آخ.
الله.
سارة
(تقبله، وتمسد شعره)
:
ما عليك شر بإذن الله.
وسيم
:
سارة لماذا أنت هنا؟ يجب أن تكوني قريبة من أمِّك. عفوك يا سارة، لقد خدعتك. كنت
غشَّاشًا حين تزوجتك، متخفيًّا باسم زائف، ولكني لم أقصد شرًّا. كنت متفائلًا أحسب الأمور
تصلح نفسها في آخر الأمر. إن كنت أتألم من العمى؛ فلأني لن أرى وجهك يا سارة.
الدكتور
(يحقنه)
:
ستشعر أولًا بانقطاع الآلام، ثم بتخدير حتى تنام.
وسيم
:
كوني بقرب أمك، فهي بحاجة إلى العزاء.
سارة
:
سأكون بقربك وحدك. أحبَبْتُكَ سليمًا، وسأحبُّك وسيمًا، وكيف كنت، وبأي اسم دعوتَ نفسك،
وأجابِه الدنيا إلى جانبك.
الدكتور
:
كيف تشعر الآن؟
وسيم
:
زالت الآلام. شكرًا لك. آه! ما ألذَّ التفلُّت من الآلام.
الدكتور
(بلهجة فرحة)
:
إذن، فأنت وسيم الحموي.
وسيم
:
أنا حطامه!
الدكتور
:
أتدري أني صديق لأهلك؟
وسيم
:
أدري، وأمي كانت كثيرة التحدث عنك.
الدكتور
(يلتقط الشهادة)
:
وهذه الشهادة؟ جميلة هذه الشهادة. أظن أن بين أوراقي واحدة مثلها.
وسيم
:
حسبتها مدرجة لعرش، فإذا هي مزلقة لهاوية.
الدكتور
:
ربما لا أوافقك على هذا الرأي. الشهادة كسلَّم، في وسعك أن تستعمله للصعود، أو
للنزول.
وسيم
:
وأنا أسأتُ استعماله.
الدكتور
:
وهذا ما لا أوافقك عليه. كم عمرك؟
وسيم
:
٣١.
الدكتور
:
أمامك تسع سنوات حتى تتخرج من جامعة الحياة، وتعرف كيف تستعمل السلم.
وسيم
:
دكتور ما أنا بجبان. أريد أن أعرف الحقيقة، هل أنجو من هذه الحالة؟
الدكتور
:
طبعًا تنجو.
وسيم
:
أليس كلامك تطمينًا؟
الدكتور
:
لا. أنا لا أؤمن بالخداع، ولا أستعمله. كن على ثقة أنك ستُشفى — بإذن الله.
وسيم
:
وهذا العمى.
الدكتور
:
كفاف موقت. إن أعصاب عينيك كشريط كهرباء، انفصل عن مولد القوة. الكهرباء موجودة. الشريط
موجود، ولا ينقص إلا أن تمسَّ الكهرباء الشريط حتى يظهر النور.
وسيم
:
وكيف يمس؟
الدكتور
:
ارتجاج عنيف. مفاجأة. خوف. انفعال. هزة أرضية. رؤية أمِّك. حزن مفاجئ. فرح مفاجئ. حينئذ
تستعيد بصرك. إنما يلزمك اليقين. اليقين أني لا أخدعك.
وسيم
:
أنا موقن بك.
الدكتور
:
ولا أعتقد أنك ستجد في «بيروت» صعوبة في إظهار براءتك. إن تقرير الحادثة كتبته بيديَّ،
وفيه برهان الدفاع عن النفس.
وسيم
:
وهل سنرجع إلى البلاد؟
الدكتور
:
هذا أمر المدَّعي العام.
سارة
:
ولكن سأكون معك يا وسيم.
راجي
:
وأنا كذلك.
الدكتور
:
ويكون قلبي معكم.
راجي
:
ألن ترجع إلى البلاد يا دكتور؟
الدكتور
(يهز رأسه متحمسًا، ثم يغير الموضوع)
:
أنت أديب، روائي يا وسيم.
وسيم
:
كل أهل بلادنا أدباء. روائي؟ لقب أقرب إلى الهزء والسخرية منه إلى المديح.
الدكتور
:
ولماذا؟
وسيم
:
لأني أنا شبح ذلك الروائي.
الدكتور
:
لماذا أنت متشائم؟
وسيم
:
ولماذا لا أكون متشائمًا؟ أطللت في فجر العمر على جنة، حسبت أني سأخلد بها، وها أنا
اليوم في جهنم هذه الحياة — خامل الذكر، مجرم، أعمى، كسيح. إن مرارة هذا الفشل تزداد
إذ
أذكر حلاوة ذلك الفوز في صباح حياتي.
الدكتور
:
فوز بماذا؟
وسيم
:
فوز أدبي — روايات، مقالات.
الدكتور
:
ولماذا لا تكتب؟
وسيم
:
أشغال، اضطراب بال …
الدكتور
:
أتعرف لماذا لا تكتب؟
وسيم
:
قلت أني …
الدكتور
:
إنك لا تكتب؛ لأنك كسول أولًا؛ ولأنك جبان، وتخاف الفشل بمحاولات جديدة؛ ولأنك قنوع
تجترُّ ماضيك، ولا تخلق مستقبلك.
وسيم
:
في رأسي موادُّ …
الدكتور
:
في رأسك لا شيء حتى تنتجه.
وسيم
:
سأنتجه.
الدكتور
:
برافو أريدك منتجًا لا متبجحًا. كن مقاتلًا إذا خسرت يمناك، فقاتل بيسراك، واترك
التأوُّه والتحسُّر على الماضي، تلك العادة الذميمة التي تشلُّ ثلاثة أرباع قوى مواطنينا.
ها أنا أقترح عليك موضوعًا، فأعمل فيه قريحتك. اكتب لي رثائي. هل تكتب لي رثائي؟
وسيم
:
سيرة حياتك يا حكيم؟ … لا تحتاج إلى من يكتبها، بل إلى من ينسخها. فكل يوم فصل مجيد،
وكل ساعة سطر خالد. لقد كتبتها أنت، وهي رائعة في يد أي نسَّاخ.
الدكتور
:
اذكر الوصية الحادية عشرة … قل لي: ماذا تقول في الدكتور نجيب؟ «مات النطاسي»؟ «جبل
هوى؟» «يا أسى المرضى؟» كيف ترثيني؟
وسيم
(ابتدأ يغمض عينيه من فعل المورفين)
:
إذا قُدِّرَتْ لي الحياة. فسأرثيك كما لم يرثِ حامل قلم حامل مبضع. (ينام).
الدكتور
:
نام. إذا نسي الرثاء فذكريه يا سارة. راجي ارجع إلى السجن.
راجي
:
أصحيح كل ما قلت لوسيم؟ هل سيُشفى من كل شيء، حتى العمى؟
الدكتور
:
بالطبع صحيح. نزيف الدم أضعفه كثيرًا.
راجي
:
إذا لزم نقل دم، فأنا مستعد.
الدكتور نجيب
:
هذا منتظر منك. بطريقك إلى السجن مر بالمستشفى، وليفحصوا دمك. ربما نحتاج إلى نقل دم
(راجي ينصرف، تدخل هدى. يدها اليمنى قابضة على سكين بين طيات
فسطانها).
هدى
:
إذن، فأنتِ هنا يا زانية. ليتني ولدتُ عقربًا، ولم ألدك يا خائنة. تضاجعين قاتل أخيك.
هنيئًا لكما الزواج، وهذه هدية العرس مني (تهجم والسكين بيدها على
وسيم النائم، وسارة التي تلاعب شعر رأسه، فيردها الدكتور نجيب، ويقول لسارة:)
«روحي إلى الغرفة الثانية». (فتنصرف).
الدكتور نجيب
:
هدى. كُلُّك عقل وحكمة. لا تحاولي فعل الجهلة. هدِّئي روعك.
هدى
:
كيف أهدِّئ روعي، وأنا أمتع نظري برؤية هذا الخنزير. ليت لي قوة الضواري، فأمزِّقه
قطعًا. أنظرت كيف الله أعماه، وكسر رجله؟! وسينزل به بعد هذا البرص، والإكزيما، والبَلَه،
والنقرس، والعصبي، والتيفوس، والتيفوئيد، والشلل، وذات الرئة، والطرش، والخرس، والقرع،
والجدري، والسرطان.
الدكتور نجيب
:
اتركي لله أمر تدبيره، واذكري أنه زوج ابنتك. أنتِ وأنا لن نعيش على هذه الأرض طويلًا،
فاعفي عنه، وليكن لك ابنًا، هكذا قال الله في كتابه، لا تتركي في هذه الحياة حقدًا ولا
ثأرًا. اعفي عنه، وسيم لم يقتل «طعَّان». نحن قتلنا ابنك. اقرأي هذه الجرائد، وانظري
كم
تقتل الأحقاد من أبناء الأمهات في بلادنا.
هدى
:
أنا ابنة الحمصي. أنا الثكلى، وهذا قاتل ابني، وسارق ابنتي. مالك تتكلم عن العفو؟ من
تحسبني أنا. مبشر أميركاني؟ الدم بالدم. تلك كانت شريعتنا يوم كان الرجال رجالًا.
الدكتور نجيب
:
اسمعي هدى، لقد عانيت مرارة الموت مائة مرة، حتى ولدت هذه الفتاة، فواجهي قساوة الحياة
مرة واحدة؛ لتفسحي لها مجال الحياة، ابنتك صبية. أمامها عمر، وهي زوجة هذا الفتى وحبيبته،
لماذا تريدين أن تقيمي القيامة على جناية، أنا أعرف أن هذا الفتى ليس بمقترفها؟ لماذا
تريدين تشويش الحياة على هذين اﻟ …
هدى
:
إذن، فأنا حجر العثرة هاه؟! أنا الجيفة النتنة في هذه المأدبة الشيِّقَة؟! هاه؟ يا عتبي
عليك يا دكتور نجيب، تقضي عمرك تعمل الصالحات، وتريد في آخر هذه المرحلة تلويث يديك بالدفاع
عن هذا المجرم، وتبرير زواجه من تلك الحية. أتعرف أن مثل هذا الزواج هو زنا. أتعرف ما
دين
هذا الخبيث؟
الدكتور
:
لا. ما هو دينه؟
(هدى تقترب من الدكتور، وتهمس بأذنه، وتنفعل.)
صحيح؟! هذا دينه؟! يا لطيف (يتأمل متفكرًا) تعالي
نقتله.
هدى
:
برافو عليك يا دكتور، هكذا تنطق الرجال. أعطني السكين؛ لأحزَّ هذا العنق. أين أنت
يا لعينة، فتريني أنحر ابنك. أطلِّي يا امرأة مجيد الحموي.
الدكتور
(همسًا)
:
أووس. على مهلك. قد يرانا الناس (يهم بإعطائها
السكين)، إذا قتلناه بالسكين يفتضح أمرنا. تعالي، نسمم له، فلا يُكتَشَف أمرنا.
(يفتح حقيبته) خذي هذا الدواء. سمٌّ زعاف، نشقة منه
تقتل حالًا. (تأخذ القنينة، وتحاول فتحها، فيصيح بها
الدكتور) ويحك! افتحيها تحت أنفه، إذ لو طار منها عطسة تقتلك. (تتمهل هدى بالمشي نحو وسيم، وتصيح).
هدى
:
«يا لثأراتك يا طعَّان»، ليت لبيت الحمصي أنف واحد أملأه بهذا السم. خذها من يد بنت
الحمصي يا ابن الحية. (ثم تفتح القنينة تحت أنف وسيم، مدبرة
عينيها إلى الناحية الثانية).
الدكتور
:
أقفليها حالًا. أقفليها. (هدى تسد القنينة، وتعطيها إلى
الدكتور، فيسرع هذا، ويضعها في حقيبته، ويقفل الحقيبة، ويمشي نحو وسيم، ويجس
نبضه) هدى، مات. سلمت يداك.
هدى
(ينزل بها الرعب والندم)
:
مات. مات. مات. ربي، ماذا فعلت؟! وسيم ولدي لا تمت. بربك يا دكتور. أعطه دواء يرد إليه
الحياة من جديد. ربي.
الدكتور
(همسًا)
:
أوووس. لا تفضحينا. قلت لك: مات. مات. مات. مات. كيف تريدين أن يعيش مرة ثانية.
هدى
:
وسيم ابني، ولدي، حبيبي، لماذا قتلتك. عش مرة ثانية، وكن لي ولدًا، والله يبارك زواجك
بسارة، وأنت في حل من دم طعان. أحْيِه يا دكتور. كيف تركتني أفعل هذه الفعلة يا حكيم؟
أمستحيل إحياؤه؟
الدكتور
:
مستحيل. لا تفضحينا.
هدى
:
إذن، فأعطني زجاجة السم، أريد أن أنشقها، وأموت أنا أيضًا. هاتها. هاتها. قلت
لك.
(يفتح الحقيبة، ويعطيها القنينة مترددًا، هدى تأخذ القنينة.)
ماذا أجيب الله إذا سألني: لماذا قتلت روحًا يا هدى؟! بخاطرك يا دكتور. (تفتح القنينة، وتنشق، وتنشق) بخاطرك، إني أموت (تنشق، وتنشق، ثم تنشق، ثم تتطلع بالدكتور، وتصيح): هذا ليس
بسم، (الدكتور يقهقه ضاحكًا. سارة تطل) إذن، أنت كنت
تضحك مني، وسيم حيٌّ. حيٌّ. حيٌّ. شكرًا لله. ما أعذب العفو! وما أمرَّ الانتقام! سارة،
ضمِّي زوجك. ضحكت مني يا دكتور! (سارة تضم وسيم، هدى تروح
مصفِّقة، مغنية، والدكتور يقهقه، ويمسح عويناته إذ …)
(ينزل الستار)