الفصل الثالث
(نفس المكان في الفصل الأول، إنما ترى أن «العلية» قد شاخت، وترهلت، وفارقتها تلك
القوة
المعنوية؛ فالشمعدان مقلوب، والكوارة فارقتها سدتها، أم وسيم هرمت، وثقل سمعها، وابيضَّ
شعرها،
وتقوَّس ظهرها، وتراخت كلماتها، زليخة لا تزال زليخة، إنما الآن يظهر أنها في أزمة جوع.
على
العامود منبه من الساعات، التي تدق دقات متقطعة، ربما كرة كل نصف دقيقة. أم وسيم تغني):
ربي لماذا بنيَّ
غيبته عن دياره
أعياني حمل سنِّي
ومهجتي في غماره
هلَّا رجَّعت لأمٍّ
دنياها أنت هلَّا رجعت؟!
فارقت وهي لهم
استسلمت لمَ هجرت؟!
مهلًا ملاك المنون
لا تعجلنَّ عليَّ
فقبل غمض جفوني
أريد ضم بنيَّ
(الساعة ترن. فتنهض إليها أم وسيم، كأنها تبغي قتالها.)
أم وسيم
:
اخرسي. اخرسي أيتها الساعة، فأنا أعلم من دون أن أسمع ثرثرتك أن الشمس أهوت إلى المغيب.
ليت شمس حياتي غابت يوم غاب وسيم، وسيم؟! أين أنت يا بنيَّ؟ أفي عافية أنت وهناء؟ في
أي بلاد
من بلاد الدنيا مقرُّك؟ ما أقفر هذا البيت من بعدك! كان آهلًا بشخصك يا ملاك أمِّك، فصار
أوحش
من كهف مهجور. عشر سنين، وليس منك كلمة تطمِّنُها عنك. بيت الحمصي! يخاف أن يكتب، فيعرفوا
من
مكتوبه مقره. بيت الحمصي أفاعي «وادي الأرز» هم. هذا مغيب الشمس، الذي كان يسحرُكَ مَرْآهُ،
وهذه قهوتك (ترفع الغلاية)، ودواتك، وأوراقك (ترفعها أيضًا، وتقبِّلُها) فهلمَّ سطِّر فيها خواطرك. ارجِع إلى
أمك، فأنا أقاتلُ الموتَ من أجلك، فإنِّي أريد أن أحيا لأراك، ولكن الموت سيغلبني قبل
رجوعك
(تبكي، كأنما هو يخاطبها). «فنجان قهوة آخر؟» (مخاطبة السطيحة) ادخل يا وسيم، (تبكي
حتى تكاد أن تقع، ثم تزحف إلى كوة في الحائط، فتأخذ منها كتابًا قد يكون الإنجيل أو القرآن،
أو كتاب الحكمة، أو أي كتاب آخر من كتب الله، وتصلي منتحبة راكعة).
زليخة
:
يا ستِّي أمُّ وسيم.
أم وسيم
:
أيتبعني نهيقك إلى القبر؟ ماذا تريدين؟
زليخة
:
أنا جائعة.
أم وسيم
:
إن الله خلقك بطنًا خاويًا. لماذا تجوعين؟ (يدخل ظطام جريح
الرأس، تلفُّه العصائب) أنا لست بجائعة.
ظطام
:
مساء الخير يا خالتي أم وثيم (لا تسمعه ولا
تراه).
زليخة
:
صار لنا يومين بدون خبز. إن مصاريني في فمي (يخرج ظطام كمن
دبَّر خطة).
أم وسيم
:
ليت مصارينك كانت مشدودة حول عنقك. أطبقي مطحنة فمك. أتريدين أن يسمعك بيت الحمصي،
فيشمتوا بنا، ويقولوا: بيت الحموي جياع؟ (زليخة تلتقط فجلة، وتطحنها
بأسنانها، صوت فونغراف «يا ليل، يا ليل» من بعيد).
فونغراف الجماعة. (صوت قهقهة) ضحك، وغناء في بيت
الأنجاس! جعل الله أعراسكم مآتم يا خنافس الأرض.
زليخة
:
ابن الحمصي رجع من أميركا ومعه مال كثير.
أم وسيم
:
سبحانه في ملكه! يجود برزقه على أسقط خلقه.
زليخة
:
حظهم كبير. حتى نساؤهم لا تلد إلا صبيان. اليوم خُلق لملحم عباس صبي.
أم وسيم
:
خُلِقَ لنا عدو!
(يدخل ظطام وفي يده رغيفان.)
ظطام
:
خالتي أم وثيم، أمي بعثت لك هذا؛ لتذوقي خبذنا.
أم وسيم
:
رد الخبز إلى أمِّك يا ابني. عندنا من فضل الله خير كثير.
ظطام
:
ولكنه خبذ ثُخْن، أحبَّت أمي أن تذوقيه.
(أم وسيم تجيب بدمدمة حنقى.)
زليخة
:
أنا أذوقه. (ظطام يعطي رغيفًا إلى أم وسيم، فتضعه هذه في
الخزانة، ويعطي زليخة الرغيف الثاني، فتبدأ هذه بنهشه) من يومين ما أكلت. (صوت فونوغراف: يا ليل يا ليل).
ظطام
(متطلعًا إلى ناحية مصدر الصوت)
:
بيت الحمثي أثحاب كيف، صاروا (مغنيًا من النافذة: «يا ليل،
يا ليل، الله يلعن ليلكم بعزا نهاركم.» يأخذ من حول وسطه مقلاعه، وينتزع من جيبه حجرًا،
ويضرب به إلى ناحية بيت الحمصي).
أم وسيم
:
اعقل ولا، لا تحرك عش الدبابير.
ظطام
:
عش النمل أدوثه بقدميَّ. قولي لي: أكان خالي وثيم يحبني؟
أم وسيم
:
خالك وسيم يحب كل الناس. كان عمرك سنة يوم الحادثة.
ظطام
(يسحب سكينه من وسطه، ويسنه على حذائه)
:
آخ، لو خالي أبو مرعي يشتري لي بارودة موذر، في المدرثة نفخة مني ترعب أولادهم، كأنما
أمهاتهم ثَقتهم زيت خروع. لعنكم الله يا بيت الحمثي (يبصق).
أم وسيم
:
لعنكم الله في كل شريعة، وفي كل كتاب، لعنة أرددها حتى الموت، بل إني أنهض من قبري،
وأصيح: لعن الله بيت الحمصي. (تأخذ غلاية القهوة الفارغة، وتصب
منها، وترسل نظرة بلهاء إلى الخارج).
ظطام
(يخطف الرغيف من زليخة)
:
اثمعي ثنمثل رواية في المدرثة. من بطلها؟ بطلها (مشيرًا إلى
نفسه) ظطام فهد الحموي.
زليخة
:
أعطني الرغيف. أعطني الرغيف.
ظطام
:
اثمعيلي دوري «أنا ثَمْثُ على هذي البرايا.»
(يدخل الآغا بثياب، كأنها ثياب متسول. رأسه يُهز، ويداه ترجفان.)
(يرجع الرغيف إلى زليخة): مثاء الخير يا ثيدنا
الآغا.
الآغا
:
مساء الخير يا ابني. كيف جرح رأسك؟ ضربك ابن الحمصي؟
ظطام
:
ضربني ابن الحمثي؟! جرحي قطبه الحكيم ثبع قطب. جرح ابن الحمثي ١٢. من يكون الضارب أنا
ظطام أم ابن الحمثي؟
الآغا
(يقترب من أم وسيم الساهية، ويتنحنح)
:
يا أم وسيم، (رافعًا صوته) يا أم وسيم.
أم وسيم
:
وسيم، ولدي. ادخل إلى البيت. قد يضرُّك ندى المساء (ضاحكة)، بعد مقطع من قصيدة؟ صفحة من رواية؟ كملها. عجِّل. أتريد قهوة؟
الآغا
:
يا أم وسيم.
أم وسيم
(تستفيق)
:
عفوًا، فأنا أكاد لا أسمع طنين أذني. أتحسب أني مجنونة يا آغا. أليس وسيم خارجًا (تدلٍ)، هناك (تضحك)، ألا
تراه مأخوذًا بمنظر مغيب الشمس؟ يتمتم شعرًا، وفي يده قلم وورقة؟ أحالمة أنا؟ وسيم، وسيم.
لماذا لا تجيب أمك؟
الآغا
:
أنت حالمة مفتحة العينين. من يلومك إذا أصابك الجنون؟ وسيم غير معروف أين أرضه. بيت
الحمصي يتقلبون بالغنى، ويرأسون البلدية، ويضربون على النوطرة. سينتزعون العصا من أبي
مرعي
مرة أخرى. وأنا يحق لي الجنون؛ ابني خربني منذ تزوج تلك المومسة في بيروت. يا أم وسيم،
منذ
هذا الصباح لم أَذُقْ لقمة. تغيَّر الزمان (أم وسيم تركض، فتعطيه
الرغيف الذي أتى به ظطام. الآغا ينهش الرغيف)، ما أطيب الخبز على الجوع. أنت لا
تعرفين آلام الجوع يا أم وسيم.
أم وسيم
:
الحمد لله على نِعَمِه.
الآغا
:
أسمع أن جماعة بيت الحمصي يريدون أن يشتروا أرزاقكم. فإذا كنتِ في حاجة، فلماذا لا
تبيعينهم؟
أم وسيم
:
الأرض ليست أرضي. هي وقف الله على أهلي، وأنا قيِّمة عليه. من أنا لأكفر بالله، وأبيع
ملك
الله لنخالة الدنيا؟! أرضنا استلمها أبو وسيم من أبيه، ويسلمها وسيم لبنيه. هذه إرادة
الله.
الآغا
:
بخاطرك يا أم وسيم. (أم وسيم ترجع إلى قهوتها).
ظطام
:
(إلى الآغا وهو خارج) ثنمثل رواية عظيمة، أنا بطلها، أتثمع
ذنابك دوري «يا ميكروبًا فتَّاكًا، ثيفتك بك مصل من قذارة لؤمك. ذرعتَ الشرَّ فاحثد الثقاء
…»
الآغا
(مضطربًا)
:
سأراك على المسرح. ما اسم روايتك؟
ظطام
:
«المروءة والوفاء، أو عرب الجزيرة.»
الآغا
:
جدك الله يرحمه مثَّل دورًا في تلك الرواية. يا ابني، (سرًّا) أليس عند خالتك أم وسيم نقطة عرق. أو كأس نبيذ؟ أنا مريض، أحتاج إلى
بلعه.
ظطام
:
عند خالتي أم وثيم قنينة نبيذ عمرها عشر ثنين.
الآغا
:
أعطني منها جرعة.
ظطام
:
علي الذيبق والثبَع ملوك لا يقدرون أن يأخذوا منها نقطة. خالتي أم وثيم كانذتها لخالي
وثيم. اثمع لي دوري …
الآغا
:
سأراك على المسرح. (يخرج).
ظطام
:
اثمعي لي دوري يا ذليخة. ألا تحبين أن تثمعي أدب؟
زليخة
:
اتركني من الأدب (يخطف الخبز من يدها، ويهرب، فيصطدم بعمِّه
أبي مرعي، الراجع من المطحنة، الحامل على ظهره كيس طحين، فيقع الاثنان تحت كيس الطحين،
فينهض أبو مرعي غاضبًا، ويصفع ظطام شاتمًا، ويصيح به: «يا ملعون، رُحْ اربط الحمار.»
فيركض
ظطام إلى الخارج).
أبو مرعي
(يقعد تعِبًا)
:
كلما مرَّ يوم كلما استطلت طريق المطحنة، كيفك يا أم وسيم؟
أم وسيم
(في يدها الساعة الدقاقة)
:
رجع قلبي إلى الخفقان. إن الموت أرسل نذيره.
أبو مرعي
:
صار الذهاب إلى المطحنة محنة؛ أنتنوبيلات وأنتنوبيلات وأطنوبيلات، وزمامير، وغبار، وأغراب
راكبة الأنتنوبيلات. كل واحد يمد براسه من شباك الأنطوبيل، ويرمي كلمة «انفخت دولاب،
حمارك
يا عم»، «زمِّر على الكوع يا عم»، «اضرب فرام الحمار»، «ناقصك بنزين»، آخ من هذه
الأيام!
أم وسيم
:
يا زليخة، يا بقرة، أين الساعة؟ الساعة.
أبو مرعي
:
الساعة بيدك يا أم وسيم. (يأخذها من يدها، ويعلقها على العامود،
إلى زليخة) روحي إلى العين.
زليخة
:
الجرة ملآنة.
أبو مرعي
:
قلت لك روحي إلى العين. (تذهب بالجرة، يدخل ظطام
عارجًا).
ظطام
:
آ. آخ! لبطني الحمار.
أبو مرعي
:
على أي رِجل؟
ظطام
:
اليمين.
أبو مرعي
:
خليه يلبطك على الشمال بتصح. يا أم وسيم، معي خبر هام (إلى
ظطام) أغلق الباب. (ظطام يفعل) وأنا راجع من
المطحنة ناداني بحري من بيروت، وأعطاني هذا المكتوب. مكتوب من خالك وسيم. فهمت؟
أم وسيم
:
الحمد لله على هذه النعمة. اقرأوه لي.
أبو مرعي
:
أنا وأم وسيم لا نعرف القراءة. اقرأه لنا، ولكن هذا المكتوب إذا عرف به أحد، ووصل الخبر
للجماعة، يصل الخبر للحكومة، أفهمت، أفهمت؟ إذا تلفظت بكلمة أنتف ريشك، وأقطع لسانك،
وأشويه.
أفهمت؟
ظطام
:
إذا تلفظت بكلمة أقطع لثاني، واثلقه وأطعمه للكلاب. لما حرقنا بيادر بيت الحمثي، ألا
تذكر
كم ضربني الجاويش حتى أقر، وما قرِّيت؟
أبو مرعي
:
اقرأ المكتوب بلا كتر حكي. (أم وسيم تأتي بالقنديل، فتحمله
بيدها فوق رأس ظطام، وأبو مرعي إلى يمين ظطام واجم. أم وسيم منرفزة، يرقص القنديل بيدها.
ظطام يفض الغلاف، ويقرأ: «يا أمي»).
أم وسيم
:
يا تقبر أمك.
(ينزل الستار)
المشهد نفسه إلا كيس الطحين
(زليخة لأول مرة في حياتها هائجة، تركض هنا وهناك، وتصلح ثيابها، وتكلس وجهها بالبودرة
أمام
المرآة وتكتحل، ثم تفتش عن محرمتها، وترجع فتبودر أنفها، وهي فيما تفعل ذلك تعيد الأغاني،
التي
أنشدتها في الفصل الأول. ظطام يخرج من الدهليز وبيده قنينة النبيذ.)
أم وسيم
:
هات القنينة يا حرامي. هات القنينة، وإلا خنقتك.
ظطام
:
أما قلت إنك أبقيت القنينة ليوم رجوع خالي وثيم. أقول لك: خالي وثيم رجع. اثمعي الحدا.
اثمعي دوي البارود (صوت حدا وقواس من بعيد) كل أهل
الضيعة يلاقونه. حتى الجماعة هناك. تذوج ابنة هدى. معهم طفل ثبيِّ.
أم وسيم
:
أتحسبني مجنونة؟ (تضربه) صرت أضحوكة الأولاد في هذا
العمر، وسيم يتزوج من بيت الحمصي؟! اخرج من هنا يا لعين. (تأخذ
القنينة منه) اخرج، ولا تزد على بؤسي وتعاستي هزءك وتهكمك. (لنفسها) تزوج من بيت الحمصي؟!
ظطام
:
وحياة الله هذا ثحيح.
(أم وسيم: ترجع إلى الغناء «ربي، لماذا بنيَّ؟» والتكلم لنفسها ولشخص
موهوم على السطيحة في الخارج. «أتريد قهوة بعد؟ عجِّل إلى عشائك. بعد صفحة؟» ثم تضحك،
وتبكي، وتفتح كتابها، وتصلي بينما.)
زليخة
:
ظطام. مؤكد رأيت معه رفيق؟
ظطام
:
معه رفاق.
زليخة
:
أعني رفيق بيروتي، شاعر، إمبراطور الشعر. (تتنهد)
كلامه ظريف، شاب حلو.
ظطام
:
اثمه راجي!
زليخة
:
اسمه راجي؟ (تهمس بأذن ظطام كلامًا يعجب ظطام، ثم تفتح
عِبَّها، وتتناول منه ورقة، تعطيها إلى ظطام، الذي ينصرف)، (يدخل أبو
مرعي).
أبو مرعي
:
عودي إلى وعيك يا أختي، وسيم هنا. هو على البوابة. إنما يا أختي، تزوَّج ابنة هدى، وله
منها طفل. صرنا أصهار الجماعة، يا للمصيبة! استقبليهم، فهم هنا على البوابة، وسيم بصره
ضعيف، هدى معهم. كل الجماعة معهم.
أم وسيم
:
وأنت أيضًا تهزأ بي يا أبو مرعي؟ (ترجع إلى النحيب، يدخل
وسيم، سارة، على ذراعيهما طفل. هدى، راجي يتبادلان الكلام مع زليخة. شمدص جهجاه، قرويون
من بيت الحمصي والحموي، بعضهم بلباس القرويين، آخرون باللباس الإفرنجي، وسيم يمشي مشي
أعمى، وعلى عينيه نظارتان زرقاوان كثيفتان).
وسيم
:
أمي. أمي. (أم وسيم ترد وسيمًا عنها بهدوء، ثم تتطلع به غضبى،
وتصفعه).
أم وسيم
:
صرت مضحكة؟! إذن، فأنت وسيم، هاه؟!
(تقترب هدى، وتضحك لها.)
هدى، أم غلطانة؟
هدى
:
لستِ غلطانة يا أم وسيم، وهذه ابنتي سارة زوجة وسيم، وهذا (مشيرةً إلى الطفل) ابنهما — ابننا.
أم وسيم
:
وأين غدائرك (هدى مقصوصة الشعر) يا لعينة؟ لأخنقك
بها. (أبو مرعي يهمس كلمات بأذن وسيم).
وسيم
:
أمي، ماذا جرى، ألا تعرفين وسيمك؟ (يضمها) أكانت
غيبتي عنك مؤلمة إلى هذا الحد؟! استفيقي أمي، أنا وسيم (ينتزع
نظارتيه).
أم وسيم
(راجعها الرشاد، فتنفجر بكاءً)
:
بلى، أنت وسيم! (تضمه وتقبله)، كيف أخطئ معرفتك
يا حبيبي. شكرًا لله على رجوعك. كانت الأيام بعد هجرتك قاسية، قاسية. كل دقيقة كانت حبلى
بعذاب الخوف والشك، والحنين إلى مرآك يا بني. ظطام، هات النبيذ، واسكب إلى خالك وسيم.
لنشرب
كلنا نخب رجوعك. انظر إلى هذا البيت كيف تتألق حيطانه (أبو مرعي
يفتح القنينة، ويوزع الكئوس على الحضور. تتطلع به) ما بال عينيك؟!
وسيم
:
ضعف موقت. الدكتور نجيب أكَّد لي أن سيعاودني بصري.
سارة
:
(لراجي) غريب! كنت أنتظر أن يسترد وسيم نظره إذ يسمع صوت
أمه.
راجي
:
لا تقطعي الرجاء.
(صوت جرس حزن من بعيد.)
أبو مرعي
:
ظطام، رُح انظر، لماذا يقرعون جرس الحزن؟!
(ظطام يركض إلى الخارج.)
أم وسيم
(يعاودها السهو، فتنتفض من ذراعي وسيم، وتصيح:)
:
أبو مرعي إني جننت جنونًا كاملًا. كنت في الماضي أرى وسيمًا على السطيحة يكتب. أما
الآن، فقد مرت بي رؤيا مرعبة؛ رأيته هنا، ورأيت اللعينة هدى قربه، وقد قصت غدائرها،
وابنتها، وعلى ذراعَي ابنتها طفل، تقول إنه طفل وسيم، ورأيت بيت الحمصي في دارنا، وجمعًا
من
الضيعة كبير، وضممتُ وسيم، وقبلت وسيم، ورأيت كأن النور انطفأ في عينَي ولدي. آخ، يا
ربي!
أبو مرعي، متى رجع وسيم لا تقل له إن أمه جُنَّت، قبل أن تموت، لا تقل له إني متُّ مجنونة.
(هدى تقترب من أم وسيم، وتضمها).
هدى
:
إنه حلم يا أم وسيم، ولكنه حلم جميل. انظري سيعيش أبناؤنا سعداء متحابين، حيث عشنا
أعداء متقاتلين.
شمدص
(يخاطب الطفل)
:
أبوك حموي، أمك حمصية. خُلقت في المهجر، وستنشأ في الوطن، أنت أمل الغد، أنت الزير
أبو ليلى المهلهل.
أبو مرعي
(مخاطبًا الجمهور)
:
يا إخواننا بيت الحمصي، في تاريخنا صفحات دامية.
أصوات الجمهور
:
مزَّقناها، حرقناها، نسيناها.
أبو مرعي
:
وإني أريد أن أتقدم إليكم بتضحية. عصا الناطور أقدمها لكم يا إخواننا، بيت الحمصي
(يزيح الستار، ويتناول بيده ما يظنه عصا النوطرة، فتظهر بارودة
حربية، فيرجعها، ويتناول عصا النوطرة من جديد. بيت الحمصي يتهامسون. أبو مرعي يصيح برجل
واقف قربه، يظهر أنه من بيت الحموي: «أتظن يقبلون الوظيفة؟ إذا فعلوا أضاعوا لي مستقبلي.»
فيجيب رفيقه: «الحق عليك، بيت الحمصي لا يُؤْمَنُون»).
أحد بيت الحمصي
:
يا أبا مرعي، اليوم في «وادي الأرز» لا يوجد حمصي، ولا حموي، نحن عائلة واحدة.
الآغا
:
فيلحيَ الوفق والاتحاد. هذا ما كنا نسعى إليه دائمًا. الوفق والاتحاد.
أحد بيت الحمصي
:
نحن جسم واحد له ذراعان حموي: (مشيرًا إلى يساره)،
وحمصي (مشيرًا إلى يمينه). (أحد بيت الحمصي يثور، ويصيح): من قال لك إننا نقبل ببيت الحمصي يكونون على
اليمين (فيجيبه أحد بيت الحمصي): ومن قال لك نرضى بيت
الحموي على اليمين. (فيسكتهما الجمهور). (راجي يتضاحك مع زليخة خلال المشهد) أحد بيت الحمصي متابعًا:
رزقنا رزقكم، وشرفنا شرفكم، وليس في «وادي الأرز» من هو أحق بهذه العصا منكم يا عمي
أبو مرعي. (يرجعها له).
وسيم
:
ما أجمل ما أسمع. صار «وادي الأرز» جنة تُسكن. أشعر كأنما نُصب دونه ألف متراليوز، وصار
أمنع من جبل طارق، لقد خَفَّت موزينكم يا بني «وادي الأرز»، وتَصَدَّر الشيطان مجالسكم،
فقصرتم جهودكم على التَّوافِه، وعلى هدم بعضكم بعضًا، ولكني لا أصدق أنكم تُقهرون؛ إذ
إن
كهارب نفوسكم طاهرة مجوهرة، وهذه الأدران ليست في خلايا دمائكم، بل هي طفيلية على أجسامكم،
رواها بالقذارة من روى أرضكم بدم قتلاكم؛ ليبني من عظامكم سلَّمًا، يرتقي عليه إلى مراكز
الزهو والرفاهية. على أنكم لا تُقهرون؛ فلقد نزلت بنا منذ القديم المحن، والبلايا، والغزاة،
والتفرقة والأبغاض، وزالت المحن والبلايا، ودالت دولة الغزاة، ونحن الغالبون. إن الصدفة
رمت
بين يديَّ مبلغًا من المال، هو رهن إرادتكم، خسئت نفس تستعمل المال لغير خدمة الجار،
فمن
تصدع سقف بيته، أو احتاج إلى معونة، فهذا بيتي وهذه يدي. إن المدفع، والطيارة، وكل آلة
اخترعها الإنسان لها حدود لمراميها، وتخدم لمدى قوتها، ولكن الإنسان — وهو اختراع الله
— لا
حدَّ لما يقوى على فعله، إذا تكاتف مع أخيه الإنسان، فضعوا أيديكم في أيدي جيرانكم وإلى
الأمام. نخبكم يا إخوان.
(أصوات: كأس رجوعك.)
ظطام
(يرجع لاهثًا)
:
نخب الحمثي. نخب الحموي. نخب العدوِّ.
(يخرج ظطام.)
شمدص
:
نخب الزير وطمسن صاحب معدن الذهب. أصحيح يا راجي، أن معدن الذهب الذي اكتشفه طمسن،
ارتفعت أسهمه مائتي مرة؟
راجي
:
مائتي مرة! الخمسة آلاف ريال التي وظَّفها وسيم، صارت تسوى مليون!
شمدص
:
فليحيَ الزير أبو ليلى المهلهل (يأخذ الكتاب من المكتبة — جيب
بنطلونه)، معي من المعدن مائة سهم (يفتح الكتاب، ويأخذ
منه ورقة زرقاء).
ظطام
:
(يرجع لاهثًا) جرث الحذن، جرث الحذن، وثل من أميركا خبر
الدكتور نجيب.
وسيم
:
noi (أصوات: مات الدكتور نجيب،
راح الحكيم. سكوت بتأمُّل).
سارة، سارة، أمي، عاد النور إلى عيني، إنني أنظر، وأرى، (يمشي
في الجمهور) رحمك الله يا دكتور نجيب، حتى بعد موتك تقوم بالعجائب.
راجي
(لسارة)
:
صحت نبوة الدكتور نجيب. (سارة تضمه باكية ممسدة
عينيه).
أم وسيم
(ذاهلة مخاطبة السطيحة في الخارج)
:
أتريد قهوة؟
وسيم
:
أريد الكثير من القهوة. سأغمس قلمي في شعاع هذه الشمس، وأكتب صفحات طاهرة حارة كروح
الحكيم نجيب.
ظطام
(يأخذ من عبِّه ورقة)
:
خالي وثيم، نظمت في رجوعك قصيدة.
زليخة
(لراجي)
:
أنا نظمتها له. صار لي عشر سنين أشتغل بها.
ظطام
(يقف وقفة خطيب، وينشد)
:
طلَّ القمر …
راجي
(يصيح)
:
آه! يا قمر. وسيم، أعطني كولونيا، ماء زهر، أمونيا. آه! يا قمر (يقع على الأرض إذ):
(ينزل الستار)
إذا ثار تصفيق الجمهور، فليظهر الممثلون هكذا: شمدص يقرأ في كتاب الزير. أم وسيم ذاهلة
تغني: «ربي، لماذا بنيَّ؟» زليخة وراجي يتغازلان: «يطل القمر.» أولاد العرب يغنون: «نحن
الأشاوسة، أولاد العرب.» أبو مرعي يقدم عصا النوطرة لبيت الحمصي. وسيم وسارة يتطلعان
ببعضهما.
هدى تخاطب الطفل. والدكتور نجيب بعيد عن الجمهور، خلفه كأنه طيف بلباسه الطبي الأبيض
يبتسم،
وينظف نظارتيه. الآغا مشوِّم، يلاعب المسبحة، وجرس الحزن يقرع. ظطام في يده ورقة خطابه،
يهم
بإلقائه. فرج الله يعدُّ كدسة فلوس.