مقدمة في «فكرة» الكتاب أو الفكرة الفنية
بين مقالات هذا الكتاب جامعةٌ تجيز أن أكتب هذه المقدمة له، ألخص بها الفكرة الشائعة فيه بعض التلخيص، هذه الجامعة هي «الفكرة الفنية» التي استولت على نفسي أثناء كتابة الكثير من مقالاته، إن لم أقل أثناء كتابتها كلها.
ولست أريد أنني كنت أنظر إلى الحياة نظرة فنية (وإن كان هذا صحيحًا في ذاته) وإنما أردت أنني كنت أعتقد أن الحياة نفسها عمل فني، تحكمه الأصول التي تحكم بيت الشعر، ولحن الموسيقى، وصورة المصور، وتخرج — أي الحياة — في جملتها وتفصيلها من يد الفن الإلهي، كما تخرج الدمية من يد الصانع القدير في فكرتها الباطنة وتمثيلها الظاهر، أما الفرق بين نظرك إلى الكون نظرة فنية، وبين اعتقادك الفكرة الفنية في مظاهره، فهو أنك قد تنظر بعين الفن إلى شيء لا أثر للفن فيه، ولكنك إذا اعتقدت الفكرة الفنية في ذلك الشيء، نظرت إليه بتلك العين، وزدت على ذلك أن تجعل الفن نفسه منطويًا فيه.
إن الكون كله والحياة (وهي أعم من الكون في نظري) والفن ومناظر الأرض والسماء، كل أولئك مظهر للتآلف أو التنازع بين الحرية والضرورة، أو بين الجمال والمنفعة، أو بين الروح والمادة، أو بين أفراح الفن وأوزانه؛ قوى مطلقة وقوانين تحكم هذه القوى المطلقة، وكلما ائتلفت القوى والقوانين اقتربت من السمة الفنية والنظام الجميل الذي يبين بالمادة صفاء الروح، ويسبر بالقيود أغوار الحرية، وهذا الائتلاف هو دستور الفن الإلهي المحيط بكل شيء، وهو فلسفة الفلسفات في هذا الوجود.
«وهكذا فلتكن الحياة، وعلى هذا المعنى فلنفهم ضروراتها وقوانينها، فما الضرورات والقوانين إلا القالب الذي تحصر فيه الحياة عند صبها وصياغتها؛ ليكون لها حيز محدود في هذا الوجود، ولتسلم من العدم المطلق الذي تصير بها الفوضى إليه، وإلا فتصور عالمًا لا موانع فيه، ولا أثقال ثم انظرْ ماذا لعله أن يكون؟ إنه لا يكون إلا فضاء بغير فاصل، أو هيولى بغير تكوين.»
«فقوام الأمرين في نظري أن نجعل من القانون حرية، ومن القيود حلية، ومن الثورة نظامًا، ومن الواجب شوقًا وفرحًا، ومن الكاوس أو الهيولى عالمًا مقسمًا وفلكًا دائرًا، فهذا هو المثل الأعلى في الحياة، وهذا هو لب لباب فنها الإلهي الذي يلتقي فيه — كما يلتقي في فنوننا — قيد الوزن وفرح اللعب، ويتعانق على يديه الخيال الشارد والقافية المحبوسة، وتلك هي سنة الله في خلق هذا الكون، الذي جعلت قوانينه مهرًا لحريته وسببًا للشعور به، فقام على هذا النظام وسطًا بين العدمين؛ عدم الفوضى، وعدم الجور الأعمى.»
وكأني بالجمال هو غاية الحياة القصوى، التي هي أسمى من جميع ما تناله المنافع والأغراض، وما الجمال؟ إنه هو الحرية كما بينا ذلك في إحدى مقالات هذا الكتاب؛ فنحن نشتري الحرية العزيزة بالقيود الثقيلة، بل نحن لا نجد «الجمال» ولا نوجده إلا إذا ألفنا بين القيود والحرية، وأصلحنا ما بينهما من التنازع والتنافر. وإنك لتستطيع أن تتخذ من «التأليف بين القيود والحرية» ميزانًا صحيحًا لوزن الأمم والأفراد والحضارات والآراء والفنون، فكلما اقتربت الأمة أو الفرد أو الحضارة أو الرأي أو الفن إلى حسن التأليف بين أفراح الحياة وأوزانها، بين خيالها وعروضها، بين معناها وصورتها، كانت أقرب إلى السمو والنبالة والصدق؛ لأنها أقرب إلى القصد الإلهي، ووجهة الكون البادية في جميع أجزائه.
إن الفلاسفة السطحيين يعيبون على النظرة الفنية إلى الأشياء أنها نظرة إلى الظواهر، فما هي الظواهر في هذا الوجود؟ هل لهذا الوجود سطوح وأعماق؟ وهل فيه «كينونة زائفة» و«كينونة صحيحة»؟ أليس كل شيء فيه على مسافة واحدة من أعماقه أو من سطوحه؟ فالجمال البادي على وجوه الأشياء — كما يقولون — هو جمال متصل بأسباب الأبدية، اتصال أصدق الحقائق وأخفى البواطن، أو لعله — إذا أنعمنا النظر وتأملنا مليًّا — هو صورة الحقائق الأبدية الحسنى؛ إذ كان لا بد لهذه الحقائق من صورة يتجلى فيها وجودها لمن يحس ويرى.
ويقابل النظرة الفنية النظرة العلمية والنظرة الفلسفية، وكلاهما ناقص ومنحرف بعض الانحراف عن الفطرة؛ لأنهما يفترضان الخروج من الكون واعتزاله لرؤيته ورصد حقائقه، ولن ترى الكون حق رؤيته وأنت تحاول الخروج منه والانفصال عنه، إنما تدرك حقيقة الكون وأنت «بعضه» أي وأنت متأثر به مؤثر فيه متصل بكل ما فيه من سر وجهر، وسرور وألم، إنما تدرك حقيقة الكون المقدورة لك وهو جسم حي يعاطفك وتعاطفه، وتعطيه وتأخذ منه، ولن تدركها البتة وهو جثة ميتة على مائدة التشريح تُعمل فيها المبضعن وتهيئها للدفن في التراب.
وهذه هي الفكرة الجامعة الشائعة في هذا الكتاب: الدنيا جمال نصل إليه من طريق الضرورة، والدنيا روح نلمسها بيد من المادة، فالروح هي الحقيقة والمادة هي وسيلة الإحساس بها، وإنني لأشد روحانية من الروحانيين حين أتلقى بالفتور وقلة الاكتراث ما يُروى لنا من أنباء استحضار الأرواح؛ لأنني أرى في هذا العالم دلائل روحانية كافية لا حاجة معها إلى هذه البينة الساذجة، وما حاجة الإنسان إلى شهادة الشهود بوجود الشيء والشيء بقضه وقضيضه موجود بين يديه؟ وويل لهذه الدنيا إن لم يكن فيها من دلائل القوى الروحية، إلا ما يظهره لنا استحضار الأرواح.
على أنني أعجب لفهم حقائق الأشياء على ذلك الوجه الذي يجعل العالم المادي مناقضًا للعالم الروحي، كأنهما عالمان منفصلان في فضاءين منعزلين، فالصواب عندي أن العالم كله «قوى» من طبيعة الروح التي نتصورها، وما الفرق بين الظاهر والباطن منها إلا في طريقة الإدراك واستعداد الحواس.