الأدب كما يفهمه الجيل (١)١
قبل أن نخوض في تعريف الأدب الصادق، وبيان الوجه الذي يجب أن يُفهم عليه في هذا الجيل، ينبغي أن ننبه إلى اجتناب خطأ شائع؛ يضل كل تقدير ويفسد كل تعريف ولا ينفع الواقعين فيه اطلاع، ولا إدمان نظر، وليس يتأتى درس صالح لأي باب من أبواب الأدب قبل الخلاص من آفته، وانتزاع كل أثر عالق بالذهن من آثاره، ذلك الخطأ هو النظر إلى الأدب كأنه وسيلة «للتلهي والتسلية» فإنه هو أس الأخطاء جميعًا في فهم الآداب، والفارق الأكبر بين كل تقدير صحيح وتقدير معيب في نقدها وتمحيصها، فنحن إذًا لا نتكلم الآن في الأدب الصادق، والنظرة التي تجب له من أبناء هذا الجيل، وإنما نبدأ بالكلام أولًا في النظرة التي يجب أن لا ينظروا إليه بها، وهذه عندنا هي أوجز طريق إلى تعريفه الصحيح.
اعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو الذي يصرفه عن عظائم الأمور، ويوكله بعواطف البطالة والفراغ؛ لأن هذه العواطف أشبه بالتلهي وأقرب إلى الأشياء التي لا خطر لها ولا مبالاة بها، وماذا يرجى من البطالة والفراغ غير السخف والمجانة وفضول الكلام؟ واعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو الذي يرفع عن الشاعر كلفة الجد والنظر الصادق، فيصغي إليه الناس حين يصغون، كأنما يستمعون إلى طفل يلغو بمستملح الخطأ، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله، وإذا غلا في مدح أو هجاء أو جاوز الحد في صفة من الصفات، فمسخ الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ، ومثل أسواق النفوس وآمالها وفضائلها ومثالبها على خلاف وجهها المستقيم في الطبائع السليمة، غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعرًا؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلًا؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم ولا يرون بينها وبين الأولى فرقًا؛ لأن الهزل والشعر هما في عُرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد.
واعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو علة ما يطرأ على الكتابة والشعر من التزويق والبهرج الكاذب والولع بالمحسنات اللفظية والمغالطات الوهمية؛ لأن المرء يجيز لنفسه التزويق والتمويه ومداعبة الوقت حين يتلهى بشغل البطالة، ويزجي الفراغ في ما لا خطر له عنده، ولكنه لا يجيز لنفسه ذلك، ولا يميل إليه بطبعه حين يجد الجد ويأخذ في شئون الحياة، بل لعله ينفر ممن يعرض عليه هذه الهنات في تلك الساعة، ويزدريه ويخامره الشك في عقله.
فمما تقدم نرى على الإجمال أن هذا الاعتبار الفاسد هو العلة في كل ما يعرض للآداب من آفات الإسفاف، إلى الأغراض الوضيعة، والغلو والعبث وتشويه المعاني، والكلف المفرط بمحسنات الصناعة، وغيرها من ضروب التزييف، وهذه كما نعلم هي جماع ما يعتري الآداب من آفات المعنى واللفظ في اللغات والعصور كافة.
ومن شاء تحقيق ذلك والتثبت منه في تواريخ الآداب، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط الأدب العربي؟ إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه المبالغة والشطط؛ لأن كثرة الممدوحين والمادحين تدعو إلى التسابق في تعظيم شأن الممدوح، وتفخيم قدره، وتكبير صفاته والإرباء بها على صفات الممدوحين قبله؛ فلا يقنع الشاعر ولا الملك أو الأمير بالقصد في الوصف، والصدق المألوف في الثناء، ويجر ذلك إلى التفنن في معاني المدح وغير المدح؛ لأن المبالغة الساذجة لا ترضى في كل حين، ولا بد من شيء من التنويع واللباقة يسوغون به هذه المبالغات المتكررة، ومن هذا التفنن والاحتيال تنشأ المغالطة في المعاني، والتورية المتمحلة والهزل العقيم، ومتى اجتمعت المغالطة في المعاني، والتظرف في المنادمة والتسلية؛ فهما كفيلان بإتمام ما يبقى من صنوف التلفيق في اللفظ والمعنى، وضروب التوشية والتزويق المموه، وأشتات الجناس والطباق والمقابلة والطي والنشر والتفويف والتوشيع، وسائر ما تجمعه كلمة التصنع، وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي بالإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها كما ترى إلا من طريق التسلية، وتوخي إرضاء فئة خاصة.
وهكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات، إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تمليقها، والتماس مواقع أهوائها العارضة، وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة، ويقل الطبع، فيضعف ويسف إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق أوسع منه وأعلى، لاتصاله بشعور الأمم على العموم، فهكذا حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة، وغلبت عليه التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشله من سقوطه ذاك اتصاله بشعور الأمة مباشرةً دون وساطة الطوائف المتطرفة، وهذا بعينه ما أوشك أن يحدث للأدب الإنجليزي بعد عهد إليصابات، فقد كاد يلحق من ذلك العهد إلى أواسط القرن التاسع عشر بالأدب الفرنسي في العيوب الآنفة، لولا أن ثورة الشعب الإنجليزي قد تقدمت فأنقذت الأدب، ولم تدع للملوك والنبلاء سبيلًا إلى أن يتحكموا في الشعر والكتابة كل التحكم، ويجعلوهما وقفًا على أذواقهم وشهواتهم، فكان له من ذلك بعض العصمة والمناعة، وقل مثل ذلك في كل عهد انحطاط منيت به الآداب والفنون في جميع الأمم والأزمنة.
وربما اختلفت أعراض الانحطاط بعض الاختلاف بين عصر وعصر، وبين لغة ولغة، ولكنه لا اختلاف البتة في أن آداب التلهي والتسلية لم تكن قط نامية ناهضة، وأنها كانت في كل حالة من حالاتها قرينة السخف والغثاثة، فإذا بدأ الناس ينظرون إلى الأدب بعين لاهية لاعبة فقد آذنت حياتهم بالخلو من الجد، ودل ذلك على ضعف نفوسهم وحقارة الشئون التي يمارسونها؛ لأن الأدب هو ترجمان الحياة الصادق، فكما يكون الأدب تكون الحياة، إن جدًّا فجد، وإن هزلًا فهزل، على أن الأدباء قد يجدون والأمة هازلة سادرة، ولكنهم قلما يهزلون والأمة جادة متيقظة.
وآية أخرى نتم بها توضيح هذا الرأي الذي نرد به أسباب الانحطاط في الآداب إلى العلل التي يجمعها وقف الأدب على التسلية، وإرضاء فئة خاصة من الناس، وهذه الآية هي أنك متى جاوزت الطور الذي تفشو فيه تلك العلل، لم تكد تصادف إلا أدبًا صادقًا فحلًا مبرأً من التقليد وشوائب الصنعة، فأما قبل ذلك الطور فيغلب أن يكون الأدب ملكًا مشاعًا للقبيلة كلها، ولا هزل في أدب القبيلة، إنما هو فخر تتطاول به أعناقها، أو غضب تغلي به صدورها، أو غزل تترنم به كل سليقة من سلائقها، أو تاريخ يسجل أنبائها ويستوعب لها خلاصة تجاريبها وحكمتها، وأما بعد ذلك الطور فيغلب أن يكون الأدب ملكًا للأمة عامة، أو للإنسانية قاطبة، فلكل قارئ حصته منه، ولكل آونة حقها فيه، ولا أمل له في النجاح إن لم يكن مستقرًّا على قواعد الفطرة الإنسانية الباقية، لا على الأهواء العارضة، ولا المآرب الفردية الخاوية.
وها قد وصلنا إلى مفترق طريقين في تعريف الأدب، فمن هنا أدب تمليه بواعث التسلية وغلالات البطالة، وتخاطب به الأهواء العارضة، وهو الأدب الذي يحوي فيه ما توزع من ألوان الآداب السقيمة الغثة، ومن هنا أدب تمليه بواعث الحياة القوية وتخاطب به الفطرة الإنسانية عامة، وهو الأدب الصحيح العالي.
ذلك مقياس الأدب الذي نوصي به قراء هذا الجيل، وعلى هذا المقياس نعول في تمييزه وتصحيح النظر إليه.