نظرات في الحياة١
المعري رجل تكشفت له ضلالات الحياة، وتقشعت عن بصيرته غشاوة أباطيلها، ولكن هل هذا ثناء وتزكية أو هو ثلب وتنقص؟ وهل من كمال حياة الحي أن ينظر إلى الحياة نظرة المعري التي لا ترى إلا فتنة وغرورًا، ولا تجد فيها ما تحمده وتقبل عليه، أو أن ينظر إليها نظر المفتون بها المستغرق في أطوارها المندفع إلى مراميها؟
ولنشبه الحياة بامرأة يتوسمها الرجال، فأي الرجلين أصدق نظرًا إليها وأجود فطرةً وأبين عن حقيقة وصواب، الذي تعجبه وتحركه وتكشف له عن محاسن مرغوبة، ومباهج مرموقة، ويستهويه منها ما يستهوي الرجل من المرأة، أو الذي ينظر إليها فيراها جسمًا من اللحم والدم والعظام، ثم يمعن في التجرد من الهوى، فيراها جرمًا من المواد العضوية التي يوجد مثلها في نبت الأرض، وفي أخس ديدانها؟
أو فلنشبه الحياة تشبيهًا آخر فنخال أنها صورة صوَّرها عبقري مبتدع في فنه، فهل نحن مصيبون حين ننقدها ونقدرها فإذا هي أصباغ وألياف، لا تختلف عن الأصباغ التي في القناني والعلب، ولا تنماز عن الألياف التي في عروق الشجر وعيدان الخشب، أو نحن أدنى إلى الصواب حين نرى فيها اقتدار مبدعها، ونلمح في الصورة خلجات نفسه، وخواطر قريحته، وجمال معناه وما يرمز إليه؟! لكل وجهة يتجه إليها، ولكن النظر الأول أجدر بالحي وأخلق بالكائن الموجود، أما النظر الآخر فليس في الحقيقة نظرًا؛ لأن النظر يقتضي التمييز والتباين، ولا تمييز ولا تباين حين يذهب الناقدون هذا المذهب، ويسترسلون في رد الأشياء إلى ما يسمونه حقائق لها وأصولًا، فإنما هم منتهون في آخر الأمر إلى حالة يستوي فيها الأعمى والبصير والحي والميت؛ إذ هم رادون الحياة والأحياء كلها لا محالة إلى ذرات متشابهة، ثم إلى عماء لا نهاية له ثم إلى ماذا؟ ثم إلى وجود كعدم، وشيء كلا شيء، وكون لا كون فيه بغير حد ولا فاصل يحسر عنه نظر البصير، ولا يفقد منه العمى شيئًا.
وعلى أنه ما هي ضلالات الحياة وأباطيلها؟ لأكاد أقول: إنني أتأمل هذه الحياة فلا أجد فيها ما هو أحق وأصدق وأرسخ في قرار الأشياء من هذه الضلالات والأباطيل، نعم! فلا ريب أن سراب الحياة أصدق من بحرها، ووعدها أوثق من حاصلها، وأملها أقرب إلى الحس من موجودها، بل نقول: إنه لا سراب على التحقيق في الحياة، ولا يمكن أن تنخدع الحياة عن هداها، وإلا فأين ترى يكون السراب لو أنه كان! ففي خارج الحياة لا يكون لنا سراب، وفي داخلها لا يكون السراب سرابًا، وإنما هو ماء ترتوي منه العطاش، وتنطفئ به وقدة القيظ، وننتفع به ونزرع على شاطئه، فنجني أحسن الثمر وأجمل الأزهار، وخليق بمن يرتاب في صدق ما نقول أن يذكر الأمل، فيذكر أي سراب هو في نظر الحس القريب والعقل الكليل، ثم عليه أن يذكر بعد ذلك أي بحر هو للظامئين الضاربين في مفاوز الحياة الخابطين في مجاهلها الذين يملأون مزاودهم وهم يحسبونها موكاة خاوية، ويشربون ملء نفوسهم وهم يتخيلونها ملتاحة صادية، وليقل لنفسه: كيف يكون البحر إن لم يكن هذا السراب الخادع بحرًا متلاطم الأمواج بعيد القاع محييًا للنفوس مميتًا لها، كما يحيي كل بحر ويميت؟!
وإذا أخذنا في سبر حقائق الحياة بمسبار المعري، فأي باطل أبطل من المجد، وأي ضلال أضل من حب النسل؟ كل ما هنالك وهمٌ يتبعه وهمٌ وحلمٌ يفيق منه على حلم، وأشواط تبدأ وتعاد «واجتهاد لا يؤدي إلى غناء اجتهاد.»
فما جدوى هذه الغصص كلها، وما غايتها، وما الفرق بين الغاية فيها والبداية؟ أجل ذلك مما يصح أن يقال، إلا أنه ينبغي أن لا يكون الإنسان حيًّا حين يقول ذلك ويعمل بما يوجبه، أو ينبغي أن يقول لنا ما هو الصدق إن كان هذا كذبًا، وما هي الحكمة إن كان هذا غرورًا، فإن لم يكن في الحياة صدق ولا حكمة، فما ضرنا أن نؤمن بالباطل الذي لا نجد ما يبطله، ونركن إلى الغرور الذي لا نعرف ما يزيفه، وماذا علينا أن ننسى القاموس لحظة، فندعو الأشياء بغير أسمائها، ونُسمي الكذب صدقًا، والغرور حكمةً ونحن في ذلك صادقون؟
والحق أنه يجب أن يساء الظن بكل فلسفة ترفض ما يسمونه أباطيل الحياة رفضًا باتًّا، وتتباهى بالخلاص كل الخلاص من ضلالاتها وأوهامها؛ لأن الحياة تاجر يعرف قيمة بضائعه المرغوبة، فلا يبيع النافق من بضاعته دون الكاسد، ولا يرضى أن تشتري منه أنت على ما تشتهي وتُريد، ولكنه يبيعك مع كل سلعة رائجة عشرات من سلعه المهملة المزهود فيها، فإن قبلت مضى في معاملتك، وإن لم تقبل لم يبعك شيئًا، ولو أغليت له الثمن وألحفت في التوسل والرجاء، فلا يغتبطن أحد بسلامته كل السلامة من غرور هذه الإنسانية، ولا يحسبن ذلك فخرًا وفضلًا؛ فإن السلامة التامة من غرورها لا تكون إلا بالخلو التام من كمالاتها وفضائلها، ولا خيار للإنسان في هذا الأمر ولا سبيل إلى ازدراد الحلوى التي في ثمرة الحياة دون بزورها، فإما حياة — بزورها وحلواها — وإما لا حياة! على أن البزور هي بيت القصيد في معظم الأحوال؛ لأنها هي الجرثومة التي تنبت منها الحلوى وتنمو وتنتقل من زمان إلى زمان، ولو لم يختلط بعض الحياة ببعض هذا الاختلاط لما قاربنا غير حلواها السائغة الشهية، ولنبذنا الجرثومة المرة الخالدة فخسرنا خسرانًا كبيرًا.
•••
وإنما يؤتى العقل الناقد في هذه القضية من ناحية الالتباس بين إرادة الحي وإرادة الحياة، ذلك أن للحي إرادة وللحياة إرادة، وليس من الضروري أن تتفق الإرادتان في كل شيء، بل لعلهما على اختلاف دائم في كثير من الأشياء، هذه المعدة وهي أبسط أدوات الحياة في تنفيذ إرادتها وإنجاز مطالبها، ألا تكلف الإنسان السعي والجهد من حيث يُؤثر هو الدعة والعافية؟ ألا تأبى عليه القرار، ويأبى هو إلا القرار لو ملك التصرف والاختيار؟ وليست هي مع ذلك بمخطئة في إرادتها، ولكنه هو المخطئ فيما يُريد، وقس على ذلك سائر الأعضاء فيما تؤديه من وظائف لا اختيار للحي فيها، ولا سلطان له عليها، فالذين يقصرون النظر على إرادة الحي يحكمون بالبطلان والضلال على كل سعي لا يئول إلى منفعته، ولا يقبض على ثمرته بيده وينظر إلى نتيجته بعينه، أما الذين يلهمون إرادة الحياة، فإنهم يعرفون الحق من هذه الأباطيل والضلالات، ويشعرون بأنها لا تأتي من لا شيء ولا تذهب سدًى، ولا تسلط على الأفهام والغرائز عبثًا، ويعلمون أن الحي لم يُخلق ليجني ثمرة الكون كله، وأنه ليس كل ما يخسره المرء ضائعًا مفقودًا، ولا كل ما يخدعه ويغريه ضلالًا كاذبًا ووهمًا فارغًا؛ لأنه إن فقده هو جناه غيره وإن خفي اليوم فقد يظهر غدًا، ومن الوهم مثلًا أن يشغف الأب بابنه، كأنه يستفيد من هذا الشغف لنفسه، ولكن ليس من الوهم أن يتصل حبل الحياة، وأن يضمن الناس البقاء، فهكذا تنقلب الخدعة حقيقة واضحة عندما تتسع الدائرة وتمتد المسافة، وهكذا تقرأ الأشياء بلغة الفرد فتفهم على وجه، ثم تقرأ بلغة الإنسانية فتفهم على وجه آخر شديد الاختلاف عن ذلك الوجه المحدود.
ومن تمام الحكمة وأصالة الفطرة أن يفرغ الرأي في اللغتين، ويعبر فيه عن الإرادتين، وأن يجيء ذلك من طريق البداهة أو من طريق الروية على السواء، أما المعري فلم يكن لإرادته حظ كبير من فلسفته، كان فرديًّا في رأيه فرديًّا في معيشته، وليس من مجرد الاتفاق أنه كان رهين المحبسين، وأنه هو الراهب القائل فيما قال: