المرأة والرجل في الحياة العامة
لكني لا أريد أن أؤله المرأة، وليس في نيتي أن أرتقي بها إلى صف الملائكة كما يفعل بعض أنصارها المفتونين، إنما أريد أن أعرف لها حقها، ولا أجاوز بها هذا الحد فيما تدعيه ويدعى لها من المكانة الحيوية أو المكانة الاجتماعية.
إن الزكانة (أو البصيرة) صفة لدنية من صفات العقل المطبوع على الفهم لا بد منها لصحة النظر وحسن التقدير في كل شيء، وهي فيما أعتقد المميز الذي يرجح أمة على أمة وإنسانًا على إنسان فيما تتحقق به أصالة الرأي وصحة الحكم على الأشياء، وليست المميزات الأخرى من علم أو ثروة أو قوة إلا إضافات عرضية لتلك الصفة المستسرة، أو هي نتائج لها وتعبيرات ظاهرة عن معانيها الدخيلة الغامضة.
فالأمة الصالحة للحياة هي تلك الأمة التي يتعارف أبناؤها على حسن التمييز وصواب التقدير، ويجري كل شيء فيها بقسطاس مستقيم من وضع العرف المتفق عليه، لا من وضع القانون المفروض والشريعة المكتوبة، فلا يقبل فيها الشطط، ولا يسمح لأحد فيها بالحيد عن الجادة السوية المفهومة بالبداهة وسلامة الذوق، ولا يوضع أمر من أمورها في غير موضعه المجعول له بعد النظر إلى جميع الاعتبارات، والرجل الصالح للحياة هو الألمعي الأصيل الفكر والعارف الطبن الذي يهتدي إلى وجوه السداد لأول نظرة، ويطلع على مواقع الفصل في مسائل الحياة ومعضلاتها، كأنما يناجي بها على حين غرة، فيعرف بالبداهة فوق ما يعرفه غيره بالروية، وتبين له شخوص المسائل من بعيد قبل أن تتضح له ملامحها وأجزاؤها من قريب؛ ويكون برهانه المفصل في الغالب تابعًا لاعتقاده المجمل، وليس اعتقاده تابعًا لبرهانه في كل حين كما يعهد في ثراثرة المنطق وخفاف الأحلام وأصحاب العقائد السطحية والأفكار المزيفة، وهذه الزكانة أو البصيرة هي جوهر العقل المكنون ولبابه المنتقى، وأما المعارف المسببة والمعلومات المرتبة فهي كما تقدم بمنزلة الأعراض والقشور من ذلك العقل الأصيل المخبوء في قراره.
والرجولة صفة حقيقية لا فرض خيالي، ولا هي كلمة خواء بغير معنى، هي صفة تتصف بها حيوانات تسعى على هذه الأرض لا في الأرض السابعة، ولا فيما وراء جبل قاف! ولا بد لهذه الصفة من مدلول محدود نفهمه بالبداهة حين نذكره بلساننا، فنفرق بينه وبين مدلول ما يقابلها من صفات أخرى.
فإذا فهمنا هذا فنحن نقول بعد هذه التوطئة أن من نقص الزكانة ونقص الرجولة معًا أن يقوم من الرجال من يزعم أن المرأة كالرجل في كل شيء، وأن النساء يصلحن لكل ما يصلح له الرجل من شئون الحياة! ومن نقص الزكانة ونقص الرجولة معًا أن ننظر إلى الفارق العظيم الذي كان بين الرجل والمرأة منذ بدء الخليقة، فلا نفقه له أي معنى ولا نتخذ منه أي عظة، بل نلتفت إليه ببلاهة تفوق التصور ثم لا نزيد على أن نقول: إنه ظلم من بقايا العصور الهمجية الأولى لا يصح أن يبقى له أثر في هذه العصور المدنية المباركة! ظلم من الرجال للنساء وقع في ظلمات العصور الأولى، ولكن لماذا؟ وكيف؟ ألأن الرجال كالنساء في كل شيء، أم لأن النساء مختلفات عن الرجال في عدة أشياء؟ ذلك ما يغفل عنه ببغاوات الإصلاح الاجتماعي ولا يشعرون بمقدار غفلتهم، وقصر نظرهم، وسوء المنقلب الذي يئول إليه جهلهم.
إن المرأة تختلف عن الرجل في كثير من الظواهر والبواطن، تختلف عنه حتى في مادة الدم، وحتى في عدد نبضات القلب، وحتى في عوارض التنفس! دع عنك اختلافهما في سحنة الوجه، وهندام الجسم، ونغمة الصوت، وحجم الدماغ، والمرأة يحسب في تركيب جسمها ما ليس يحسب في تركيب جسم الرجل، فيحسب في تكوين جوفها حساب كائن آخر يحل فيه عدة أشهر، وفي تكوين غذائها حساب جزء منه يتحول إلى غذاء مناسب لذلك الكائن الذي حملته؛ وفي بناء أخلاقها وعواطفها حساب ما يستلزمه ذلك كله من العادات والمشارب، ثم ما لا بد أن يتبعه من الجور على الأخلاق والعواطف الأخرى التي لا لزوم لها في هذه الأغراض، ومع كل هذا يجيئنا في الزمن الأخير من يقول: إن استعداد المرأة كاستعداد الرجل في كل كبيرة وصغيرة، وإن قواها النفسية كقواه على حال سواء، وإن الفاصل الذي بينهما في الاستعداد والقوى النفسية لا وجود له في غير الوهم والادعاء، وأي حجة لهم في ذلك؟ حجتهم أن العلم لم يثبت بعد وجود فاصل كهذا؛ وأن المرأة كما يدعون مارست فعلًا أعمالًا يمارسها الرجال! كأنما العلم أثبت إلى الآن موضع أي استعداد نفساني في جسم إنسان أو حيوان؛ وكأنما اشتراك اثنين في عمل واحد أو عدة أعمال كاف للدلالة على أنهما مثيلان لا يختلفان، فيا له من جهل سخيف بمدارك العقل الإنساني، وعمه مطبق عن حدود العلم التي يفوض إليه الرأي فيها، فلو أن الناس أصبحوا حقًّا في حاجة إلى أن يبين لهم العلم الصواب في مثل هذه الأمور، لوجب أن يكونوا الآن هالكين، وأن يكونوا على الأقل عميًا عن كل حقيقة مشاهدة؛ لأن فقد البصيرة وضمور الرجولة إذا بلغا هذا المبلغ فلا معرفة ولا تمييز ولا حس ولا إدراك، وإنما هو غباء الجماد، واضمحلال الموت المنذر بقرب الفناء، ولكن الناس لم يبلغوا هذا المبلغ، ولن يبلغوه وفيهم رمق من حياة صالحة ومسكة من صواب أصيل.
إننا في عصر يميل إلى محاباة المرأة فيما يكتب عنها من آراء فلسفية كانت أو اجتماعية؛ لأن آداب الأندية توشك أن تبغي على آداب الكتابة ومباحث الفكر، فيحبس الكاتب قلمه عن كل ما يغضب المرأة ولا يوافق دعواها كما يحبس لسانه عن ذلك في أندية الأنس ومجالس السمر، ويكتب حين يبحث في مسائل الاجتماع بقلم السمير الظريف لا بقلم الناقد الأمين، ولكن الأندية شيء وأمانة الكتابة شيء آخر، لا بل يجب أن نذكر أصل آداب الأندية، فلا ننسى أن الرجل إنما يخص المرأة بالزيادة في الحفاوة والملاطفة، ويحرص على مجاملتها وتقديمها لسبب واحد؛ وذلك أن الرجل لا يكلف المرأة ما يتكلفه هو؛ وأنه يعفيها مما يطالب به أنداده وأكفاءه في القوة والواجب، ولم ذاك؟ لا لأنهما سواء، ولا لأنهما متكافئان، ولكن لأنهما غير سواء في الواجبات والتكليف وغير سواء في القوى الجسدية والنفسية؛ فآداب الأندية حكم صادق عادل لو أحسنا ردها إلى أسبابها وأخذنا منها ما تعطيه من الدلالة الواضحة، ومن المستحيل أن يكون معناها أن المرأة كالرجل في كل شيء، وأن النساء صالحات لكل ما يصلح له الرجال من أعمال المجتمع وفروض الحياة.
ولست أذهب في هذا إلى المفاضلة بين الجنسين، ولا قصدت أن أبخس قيمة المرأة، فلتكن هي أفضل من الرجل، أو فليكن هو أفضل منها، فإذا صرفت المرأة فضائلها فيما خُلقت له، وإذا حفظ الرجل فضائله التي خُلق لها، فلا ضير على المجتمع من أن يعقد إكليل الغار على رأس أي الجنسين، ولا خطر من التقديم والتأخير في عرف النظريات والآداب، ولكن الضير كل الضير، والخطر كل الخطر أن يصبح الأمر فوضى، ويُمحى الفاصل القائم بين مجال الرجولة ومجال الأنوثة كأنه غير موجود، فللمرأة مجال في أعمال الحياة غير مجال الرجل بلا ريب ولا حاجة إلى إقامة دليل؛ ولا يزعم أن المرأة هي الرجل وأن الرجل هو المرأة، إلا من ينكر الحس ويناقض البداهة ويقول القول وهو لا يفهم لفظه فضلًا عن معناه الذي ينطوي عليه.
فالبداهة والخبرة ترسمان للمرأة مجالًا هو القيام على حراسة النسل وما هو بالعمل الهين ولا بالحقير، وترسمان للرجل مجالًا هو عراك الحياة وشئون السلطان وما هو بالعمل الكبير عليه ولا هو بالنصيب الذي يحسد لأجله، فإذا نوزع في هذا المجال فإنما يُنازع في رجولته ويفتأت على حق الطبيعة فيه، ويدل ذلك على نقص الرجل والمرأة معًا، وما ظنك بمجتمع لا تكون فيه للرجولة معالم، ولا يفرق في أوضاعه بين جنسين فرقتهما الطبيعة غير طائشة ولا هازلة، ولكن جادة متدبرة متأنية؟ ذلك مجتمع ضال عن سواء السبيل هالك لا محالة.
على أني أكاد أقول: إن الرجل هو المقصود في الخلق وهو المقدم في نية الطبيعة، بذلك تشهد الغرائز الجنسية التي تشير إليها مقاصد الحب بين الرجال والنساء ونهاية العشق بين كل امرأة وكل رجل، فالمرأة تعشق الرجل لتأتي برجل على مثاله أي لتكرره وتعيد خلقه؛ ولكن الرجل لا يعشق المرأة ليأتي بامرأة على مثالها ويكررها، وإنما يعشقها ليكرر نفسه، ويأتي بولد له على مثاله هو من طريق المرأة التي تصلح لذلك في نظره وهواه، والمرأة تعشق لتسلم نفسها في نهاية الأمر فدورها في العشق هو دور التسليم دائمًا، أما الرجل فيعشق ليظفر بالمرأة فدوره في العشق هو دور الظافر دائمًا، وليس في مضامين الغرائز الجنسية — وهي أصدق مقياس لما يتناوله الاختلاف من وظائف الجنسين — ما يؤخذ منه أن المرأة أعظم من الرجل شأنًا، أو أنها مقدمة عليه في مقصد من مقاصد الطبيعة.
ولا شك أن من أسوأ العلامات في الزمن الأخير أن يصغر قدر الرجولة في نظر المرأة حتى تأنف من الإقرار للرجل بحق الانفراد دونها بشأن من شئون الحياة، وحتى تدَّعي أنها مستطيعة أن تكون امرأة ورجلًا في آن واحد، وهو لا يستطيع أن يكون رجلًا مستقلًّا بأي عمل من الأعمال، فهي اليوم تطلب لنفسها حقًّا مثل حقه في السياسة، وقيادة الجماعات، وسن القوانين، والإحصاء في العلوم والفنون، وهي اليوم تصغي إلى شقشقة الببغاوات الآدمية التي تتحدث بالحرية والمساواة، ويخيل إليها أن الحرية والمساواة جعلتا لتغيير قوانين الطبيعة ووظائف الأعضاء، وتسألها لم تريدين الاشتراك في منازعات السياسة، وتسعين لحضور مجالسها والتورط في شواغلها، فتقول لك ولِمَ لا؟ ألا تضع تلك المجالس القوانين والأنظمة التي تسري على النساء والرجال في مجتمع واحد؟ فمن حقي إذن أن أشترك في وضع تلك القوانين التي ينالني نصيب منها كما ينال الرجال! وقد يرى بعض الناس أنها حجة قاطعة أو عذر مقبول، ولكن هل هذا صحيح؟ هل صحيح أن المرأة قد أضاعت كل وسائلها التي تكفل لها النصفة من الرجال، فلم يبق لها إلا وسيلة التصويت في المجالس النيابية وإدارات الحكومة؟ هل صحيح أن المرأة فقدت سلاحها الطبيعي، فاحتاجت إلى سلاح المدنية وافتقرت إلى نجدة المنشورات واللوائح والأوراق؟
إذن لقد وصمت المرأة نفسها أقتل وصمة، واتهمت أنوثتها أسوأ تهمة، وشهدت على نفسها بالإفلاس والفشل، وأنها لم تعد تلك المرأة المقتدرة ذات السلاح الطبيعي الذي يخولها من الرجال ما لا يخوله إياها قانون ولا يكفله لها نظام، ثم ماذا تفيدها المجالس النيابية، وماذا تغني عنها القوانين؟ إن المجتمع إذا كان يظلمها فهو لا يرسلها إلى المجالس النيابية، وإذا كان يرسلها فهو ينصفها من غير التجاء منها إلى معونة التشريع، ونجدة الأحزاب، وإضاعة الوقت فيما يشغلها عن وظيفة جنسها، ولا يزيدها شيئًا هي في حاجة إليه، فالمرأة غنية عن مآزق السياسة، ومآزق السياسة غنية عن المرأة، وما يدفع بها في هذا التيار إلا نقص في كفاءتها الأنثوية وعاهة في قواها الطبيعية، فلتصلح هذا النقص ولتداو هذه العاهة، ذلك خير لها من الثرثرة الفارغة، والدعوى التي تعيبها ولا تعود عليها بفائدة.
•••
يُروى عن ثمستوكليس القائد اليوناني المشهور أنه قال لامرأته وقد أكثرت من الإلحاح عليه في رغائب شتى لولدهما؟ «أيتها المرأة؟ إن الأثينيين يحكمون اليونان وأنا أحكم الأثينيين، ولكنك أنت تحكمينني وهذا ابنك يحكمك أنت، فأوصيه خيرًا بهذا النفوذ العظيم؟!» وهذا كلام ثمستوكليس العصي العنيد، فما بالك بما يقوله سائر الرجال؟ والحق أن القائد الكبير لم يمزح حين أجاب امرأته بهذا الجواب، بل جد أصدق الجد وأصاب شاكلة الصواب، فالرجل يحكم الرجال والمرأة تحكم الرجل وتنال منه ما لا يسخو به لغيرها ولكن لمَ تناله؟ ليعود على الأبناء وينتهي إلى ما خُلقت له من حياطة النسل وحضانة المستقبل الذي ائتمنت عليه.