ولع المتنبي بالتصغير١
مما لوحظ على المتنبي ولعه بالتصغير في شعره إلى حد لم يُروَ عن شاعر غيره، وقد ذكر ذلك ابن القارح في رسالته إلى المعري فأجابه هذا بقوله: «كان الرجل مولعًا بالتصغير لا يقنع منه بخلسة المغير، ولا ملامة عليه، إنما هي عادة صارت كالطبع تغتفر مع المحاسن.» وأصاب المعري فلا ملامة في مثل هذا، وإنما هي سمات ولوازم يختلف فيها شاعر عن شاعر، كما تختلف الوجوه بالشامات والحلل بالشيات، ولا شك أنها عادة كما قال المعري، ولكن أي عادة هي؟ أمن عادات اللفظ، أم من ضروريات الوزن، أم من عبثات اللسان؟ لا، ولكنها فيما نظن عادة في الطبع والخلق وما صارت كالطبع كما قال المعري إلا لأنها من الطبع وفيها ترجمة عنه ومجاراة لنوازعه، وإليك تفصيل هذا الإجمال:
كان المتنبي يستعظم نفسه على الشعر أو على التكسب بالمدائح والزلفى من الملوك والأمراء، وكان يرى أنه خُلق لما هو أجل وأرفع من ذلك وهو الملك والقيادة، فلا يبالي أن يطول على ذوي السلطان بهذا الاعتقاد في قصائده التي يمدحهم بها، كما قال في تهنئة كافور بدار بناها فوضع نفسه موضع الند الذي يهنئه تهنئة النظير للنظير:
ثم كشف هذا المطلع ووضحه في ختام القصيدة فقال:
وكان يؤنب نفسه كلما آنس منها ركونًا إلى حياة الدعة واطمئنانًا إلى مقامه بين حاشية الأمراء وأتباعهم المحسوبين عليهم المتكلين على عطاياهم؛ فيحفزها وينخيها عن هذا المقام ويذكرها ما أعدت له من المجد والعظمة في اعتقاده فيقول معاتبًا لها غاضبًا عليها:
والحقيقة أن المتنبي جهل نفسه ولم يكن صادق النظر في أمله، فأضله الأمل الكاذب عن كنه قدرته وطبيعة عظمته؛ وأحس من نفسه السمو والنبالة، فظن أن السمو لا يكون إلا بين المواكب والمقانب، وأن النبالة لا تصح إلا لذي تاج وصولجان وعرش وإيوان، وسيف يضرب الأعناق ورمح يرتوي بالدماء، وقد كان الحال كذلك في عصره، وكان هذا مقياس المجد الذي لا مقياس غيره، فطلب الرجل الملك جادًّا في طلبه، وجعل الشعر آلته ريثما يبلغه، فبقيت الآلة الموقوتة وذهبت الغاية المطلوبة! وظل يسعى طول حياته إلى شيء، وأراد الله به شيئًا آخر، فأحسن الله إليه من حيث أراد هو أن يسيء إلى نفسه، وفرح محبوه بعد موته من حيث شمت به الأعداء في حياته، فهو اليوم أظفر ما يكون خائبًا، وأخيب ما يكون ظافرًا، ليس بملك ولا أمير ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات، فكان كلامها كلامه وحقائقها حقائقه، وساغ له أن يحتجن لنفسه ما هو من حصة الناس جميعًا، أو حصة العرب من تجارب الحياة ووقائع الأيام إن استكثرنا نصيب الإنسانية كلها على رجل واحد، فأي كلام أمير من الأمراء أو عاهل من العواهل كانت له هذه الرعاية والصيانة؟ وأي كلمة مسموعة تتخطى الأيام والقرون وتسمع من وراء القصر والقبر، كما تسمع كلمات المتنبي صاحب هذه البضاعة الكاسدة وذلك الطامع الذي كان يعد قنوعه بتجارة الكلام وعكوفه على قرض الشعر تخلفًا وتوانيًا؟ هذا هو الفخر الذي ضل عنه المتنبي واستصغره، ولو عاد اليوم ليختار حظه من الدنيا لما لام نفسه على الرضى به، ولطلبه أشد الطلب واستصغر غيره من الحظوظ ليظفر به، وما هو بمسرف إن باع أكبر مملكة من ممالك عصره واشتراه!
فلحسن حظ المتنبي أن «رياحه أتت بما لا تشتهيه سفنه» ولحسن حظ العرب أن هذه السفن جنحت بالمتنبي إلى البر الذي استقر عليه، وإلا فماذا كان يفيدهم أن تصل به إلى سلم العرش أو ساحل الغنى؟ أفكان يضيرهم أن ينقص ملوكهم ملكًا أو يُحذف من سجل فرسانهم اسم فارس؟ كلا ولكن قد كان يضير آدابهم — ولا جدال — أن يسقط من بينها ديوان المتنبي، وأن ينقص من عداد شعرائهم هذا الشاعر العظيم القليل النظير.
ولكن لماذا ظن المتنبي بنفسه ذلك الظن، وثبت عليه طول حياته، وأبى إلا أن يشرئب إلى الملك والولاية وما هو من أهلهما، ولا ممن ساعفتهم المقادير بذرائعهما؟ لماذا لم يخطر له غير هذا الخاطر، ولم يخدع من غير هذا الجانب؟ سؤال لا بد من الجواب عليه؛ وجوابه أن الرجل كان له نصيب من العظمة التي كان يصبو إليها، وسهم من الأعمال الدنيوية التي كان يأخذ نفسه بها ويروضها عليها، فلم تكن النسبة بينه وبينها بعيدة كل البعد، ولم يكن داعيًا فيها من كل وجه؛ بيد أنه كان شريكًا في تلك العظمة الدنيوية والأخلاق العملية في كل ما هو من باب الشعور والملاحظة، ولم يكن شريكًا فيها في كل ما هو من باب الإنجاز والتنفيذ، كان يشعر شعور عظماء الأعمال ويقيس الأمور بمقاييسهم، ويلزم نفسه الجد الذي يلتزمونه في حركاتهم وسكناتهم، وتساوره المطامع التي تساورهم، ولكنه لا يتمم الأمور كما يتممونها، ولا يسوس الحوادث كما يسوسونها، وكان يدرك محاسن الناس ومساويهم، وينفذ ببصره إلى خبايا ضمائرهم وبواعث أعمالهم وذبذبة نياتهم، ولكنه لا يفري فريهم، ولا يحسن أن يستفيد من تلك الأخلاق التي يعرفها بالنظر حق المعرفة، ولا أن يأخذها من حيث ينبغي أن تُؤخذ، فيعمل في الفرصة الملائمة ما ينبغي أن يعمل.
فمن هنا كان المتنبي شاعر التجارب والحكم ولم يكن عاملها ومنفذها، ولو أتيح له أن يخرج آماله وآراءه أفعالًا وحوادث لما استطاع أن يخرجها أقوالًا وعبرًا؛ لأن طالب المجد المخلوق للنجاح المهيأ للعمل يصنع التجارب ولا يقولها، ويمشي الطريق إلى الغاية ولا يترسم خطاها ويقيس أبعادها، والمجرب الناطق بالحكمة هو الذي يجلس ليمتحن قواه بعد كل صدمة، لا الذي ينهض توًّا ليستأنف الوثبة دون أن يحس في قوته موضع ألم يضطره إلى امتحانها وتفقد حالها، فكلما عجم عوده زادت حكمته، وكلما فعل ذلك دل على أن هذا العود خُلق للاختبار والجس، لا ليضرب ضربًا دراكًا مفلجًا، ولا ليكون أداة للعمل الذي يُراد منه، فلا بد من الاختيار بين الحكمة الخرساء والحكمة الناطقة، فما رأينا أحدًا جمع بينهما إلا جارت إحداهما على الأخرى.
وخلاصة القول أن المتنبي كان مطبوعًا على غرار رجال المطامع، ولكن في داخل نفسه لا في ظاهر عمله؛ كان له في خلقه وتفكيره استعداد عظماء الأعمال ولكن بغير أداة العظمة، فخرجت عظمته هذه في عالم الفنون، ولم تخرج في عالم الحوادث، وأظهر مظاهر شعوره بالعظمة في سمات شعره المبالغة في التهويل والتضخيم من جهة، وهذا الولع بالتصغير من جهة أخرى.
انظر مثلًا إلى قوله في وصف جيش:
أو قوله في وصف أسد:
أو قوله في البحيرة:
أو قوله في المجد:
وقوله في مدح عضد الدولة:
ألا ترى فيه التحرك لمناظر الفخامة والروعة باديًا والإعجاب بأبهة العظمة وشارات الصولة مجسمًا والتشدق بطنين الألقاب وخيلاء الملك مسموعًا مضخمًا؟ ولكنك بعد لا تحس منه إلا ذوقًا في التهويل واستضخام العظائم، كذوق المصور الذي يقف أمام البحر الغطم المزبد فيصوره لك رائعًا مهولًا، كما راعه وأفعم بالهول حسه ومخيلته.
اعكس هذه الصورة بعد هذا أو اقلب المجهر المكبر وانظر في الناحية الأخرى، ماذا ترى؟ ترى صورًا صغيرة ضئيلة لا تدري كيف تبالغ في تصغيرها وتهوين شأنها، ترى شعور التفخيم قد انقلب إلى شعور بالتأفف والاشمئزاز، أو أنت ترى المتنبي ذلك الذي ملئ أمام العظمة روعة وتوقيرًا قد نظر في المجهر من ناحيته الأخرى فملئ أمام الضئولة تقززًا وتحقيرًا، ترى ذلك الشعور بأبهة العظمة وفخامة القوة في نفس رجل قد انطوى على شوق للمجد لا تشتفي لوعته، وحنق على الدنيا لا تنفثئ وقدته:
فإذا ازدرى شيئًا ضئيلًا أو رجلًا حقيرًا، فذلك ازدراء يشوبه الضغن، ويضاعفه ظل العظمة الملقى عليه، فإذا الشيء شُويء وإذا الرجل رُجَيل، وإذا عادة المبالغة في الاستصغار موصولة بعادة المبالغة في التفخيم، أو هي هي ولكن تختلف ناحية النظر طردًا وعكسًا على حسب اختلاف الشيء المنظور إليه، وأكثر ما يُرى المتنبي «مصغرًا» حين يهجو مغيظًا محنقًا، أو يستخف متعاليًا محتقرًا كما يقول في كافور:
أو كما يقول فيه أيضًا:
أو يقول فيه:
أو يقول:
أو يقول هاجيًا:
وحين يقول في الشعراء الذين يزاحمونه:
أو في أهل زمانه:
وفيهم أيضًا:
أو في احتقار قوم كبني كلاب أن يسموا إلى مرتبة الملك والمقابلة بين حالهم وما تقتضيه الدولة من الفخار والتأثيل والمنعة:
أو في قوله يذم ليلة أبرمته وثقلت عليه:
وتعم هذه العادة في تعبيره عما يستصغره هذا المعنى كما في قوله:
أو كما في قوله:
وهو إذا لم يُصغر المهجو باللفظ صغره بالمعنى؛ فكان أعداؤه اللئام عنده شيئًا «قليلًا» كما قال:
وقد يلعب بهذا الإحساس الماثل في نفسه على الدوام لعب المرء بعادة مغروسة فيه فيتخذ منه نكتة نحوية كقوله على ذكر ابني عضد الدولة:
يريد أن يقول: إذا كاثر العدو عضد الدولة بابنين كابنيه، فجعل الله ابني العدو كيائين تضافان إلى كلمة «إنسان» فتزيد أنه في عدد الحروف وتنقصانه في القدر؛ وهذا غير غريب من رجل شديد الإحساس «بالصغر» واعتاد التصغير باللفظ وعُرف عنه إدمان الاطلاع على كتب النحو.
ولو شئنا لقلنا: إن شعر المتنبي كله مشغول بالتعبير عن شعوره بالعظمة ذلك الشعور الذي استحوذ على مجامع قلبه، فكل قصائده تفخيم لشعائر المجد، وفخر بالهمة التي تدفعه إلى تسنمه المقام الذي كان يحل نفسه فيه. فأما فخره فظاهر فيه هذا النزوع، وأما مدحه فما هو إلا فخر بكاف الخطاب؛ لأنه كان يثني على ممدوحه بما يريده لنفسه ويحسه من صفاته، وربما نفس على الأمراء مدحه الخالص فيشركهم فيه ويعطي نفسه قسطًا منه لا يقل عن قسط ممدوحه، وأما هجاؤه فهو فخر مقلوب إذا كان يهجو أعداءه بضد ما يفخر به أو يمدح به أولياءه فيصح أن يقال: إن شعر المتنبي كله من باب واحد هو باب الفخر، اللهم إلا أن يكون غزلًا أو وصفًا؛ وقل أن يكون شعره في الغزل والوصف مقصودًا لذاته، وإنما هو غرض يمهد به إلى غيره من المقاصد، بل هو لا ينسى عظمة شأنه حتى في غزله؛ أليس هو القائل: