فلسفة المتنبي١
قلنا في المقال السابق: إن للمتنبي مذهبًا خاصًّا في الحياة، وقد يستغرب الواقفون عند الظواهر نسبة الفلسفة إلى شاعر ولو كان من كبار الشعراء، لجهلهم حقيقة الشعر والفلسفة معًا، وظنهم أن الفلسفة لا تصدر إلا عن الفكر وحده مجردًا من الخيال والعاطفة، وأن الشعر لا يصدر إلا عن الخيال والعاطفة بحتًا مجردين من الفكر، ولقلة تفرقتهم بين الحقائق التي تقر في الروع وتنطبع في البصيرة ثم تسلك سبيلها من العقل الباطن إلى العقل الظاهر، فإذا هي موافقة له غير مستعصية على براهينه وأنماطه، وبين الحقائق الذهنية الصرف التي يدركها الفكر الظاهر ابتداءً كما تدرك المسائل الحسابية والمعلومات الإحصائية، وهي مما لا يستجيش إحساسًا ولا يحتاج إلى خيال.
والحقيقة أن الفكر والخيال والعاطفة ضرورية كلها للفلسفة والشعر مع اختلاف في النسب وتغاير في المقادير، فلا بد للفيلسوف الحق من نصيب من الخيال والعاطفة، ولكنه أقل من نصيب الشاعر، ولا بد للشاعر الحق من نصيب من الفكر، ولكنه أقل من نصيب الفيلسوف، فلا نعلم فيلسوفًا واحدًا حقيقًا بهذا الاسم كان خلوًا من السليقة الشعرية، ولا شاعرًا واحدًا يوصف بالعظمة كان خلوًا من الفكر الفلسفي، وكيف يتأتى أن تعطل وظيفة الفكر في نفس إنسان كبير القلب، متيقظ الخاطر، مكتظ الجوانح بالإحساس كالشاعر العظيم؟ إنما المفهوم المعهود أن شعراء الأمم الفحول كانوا من طلائع النهضة الفكرية، ورسل الحقائق والمذاهب في كل عصر نبغوا فيه، فمكانهم في تاريخ تقدم المعارف والآراء لا يعفيه ولا يغض منه مكانهم في تواريخ الآداب والفنون، ودعوتهم المقصودة أو اللدنية إلى تصحيح الأذواق وتقويم الأخلاق لا تضيع سدًى في جانب أناشيدهم الشجية ومعانيهم الخيالية، هكذا كان شكسبير شاعرًا ناطق الفكر حتى في أغانيه الغزلية، وهكذا كان جيتي وشيلر وهيني شعراء الألمان الأدباء الفلاسفة في استعدادهم وسيرة حياتهم، وفيما يستقرى من مجموعة أعمالهم، وهكذا كان بيرون ووردزورث وسونبرن من الشعراء المجاهدين في أغانيهم المغنين في جهادهم، وهكذا كان من قبلهم جميعًا دانتي اليجييري إمام النهضة الإيطالية، بل هكذا كان كل شاعر عظيم في أية لغة وبين أي قبيل.
ونظرة واحدة في تاريخ آدابنا العربية تبين لنا صدق هذا القول، وترد الواقفين عند الظواهر إلى رأي أصح وأكمل في فهم الملكة الشعرية وتعرف القرابة الحميمة بين السليقة والبديهة الموصولة بالفكر، فمن هم أكبر شعراء اللغة العربية في رأي الأكثرين من النقاد والقراء؟ أليسوا هم بشارًا، وأبا نواس، ودعبلًا، وابن الرومي، وأبا تمام، والبحتري، والمتنبي، والمعري، والشريف، وبقية هذه الطبقة؟ فما مزية هؤلاء الشعراء الآخرين من أضراب المجنون، وابن أبي ربيعة، وابن مناذر، والحسين بن الضحاك، وحماد عجرد، وغيرهم ممن حذا حذوهم وغنى على ليلاهم؟ أهي قلة الفكر في شعرهم أم كثرته؟ أهي اقتصارهم على المعاني الغنائية، أم طرقهم لأبواب المعاني المختلفة وتوفرهم على فنون القول المتشعبة؟ في دواوينهم جواب قاطع على هذا، وفحواه أنهم فاقوا أولئك الشعراء بأن كانوا أوسع منهم جوانب نفس، وأجمع منهم لملكات الشعر والفلسفة ومواهب الإحساس والتأمل، وأنهم أقدر على النظر فيما حولهم ممن نظروا في ناحية واحدة فحسرت أبصارهم عن غيرها، وداروا فيها طول عمرهم لا يتحولون عنها.
والمتنبي على وجه خاص أولى من عامة شعرائنا (ما عدا المعري) بالنصيب الأوفى في عالم المذاهب والآراء؛ لأن الحقائق المطبوعة لا تكاد تقر في نفسه حتى يرسلها إلى ذهنه ويكسوها ثيابًا من نسجه، ويغلب أن يوردها بعد ذلك مقرونة بأسبابها معززة بحججها على نمط لا يفرق بينه وبين أسلوب الفلاسفة في التدليل، إلا طابع السليقة وحرارة العاطفة، فتأمل قوله:
أو قوله:
أو قوله:
ولا نزيد على هذا؛ فإننا ربما نقلنا حكم المتنبي بيتًا بيتًا لو مضينا في السرد إلى النهاية، فتأمل هذه الأبيات، ألا ترى أنه قد قرن كل حكم فيها بسببه أو بتفسيره وبإقامة الدليل الذي ينفي الغرابة عنه؟ أليس العقل هنا مساوقًا للطبع متأهبًا لتعزيز حكمه، وتسويغ نظره، وتمحيض المساعدة الطيعة السمحة له؟ فمذهب المتنبي في الحياة ثمرة هذا التزاوج بين طبعه وعقله، ونتيجة القدرة على استيعاب مؤثرات الحياة جميعها أو هضمها هضمًا تغتذي به السليقة والذهن في وقت معًا، وهذه هي صيغة المذاهب التي تستنبط من أقوال الشعراء، وتحمل في أطوائها حجة الشعر والفلسفة التي تفتح لها منافذ القلوب والعقول.
•••
بعد هذا نسأل ما هو إذن ذلك المذهب الذي ذهب إليه المتنبي في الحياة؟ وينبغي قبل الشروع في بيان ذلك أن ننبه إلى الفرق بين الكلام في مصدر الحياة والكلام في سننها وصروفها، فأما الكلام في مصدر الحياة، فقد كان المتنبي حكيمًا في اجتنابه وإغلاق بابه، فأراح نفسه من الخلط والخبط، والقيل والقال، وطاوع مزاجه العملي، فنأى به عن الخوض في هذه المتاهات التي لا تفضي إلى طائل، ولا يحصل العقل من ورائها على حاصل، عالج فتح هذا الرتاج في صباه على جدة من النفس، وفراغ من الوقت، وتعطش إلى الإلمام بكل شيء، واستكناه كل سر كما يظهر من قصيدته الميمية التي نظمها في المكتب، فأتعبه فتحه ثم ما عتم أن مل هذا البحث الذي لا تسكن إليه نفسه ولا يستمرئه طبعه، فأقلع عنه ونفض يديه منه، ولعله أخذ حينًا بمذهب القائلين بأن الإنسان ربيب هذه الأرض ووليد الزمن:
ثم رأى الناس مختلفين في هذه القضية لا يتفقون «إلا على شجب والخلف في الشجب.»
وما له ولهذا الشجب العقيم وهذا التعب البور في نظره؟ فزوى وجهه عن مباحث ما وراء الطبيعة، وأبعدها إلى مؤخرة فكره، وأبقاها هناك لا يسمح لها بالبروز إلى واعيته والتحرك لإقلاق باله إلا في الفترات القليلة التي يغفي فيها طمعه وتفتر آماله، ثم تعود توًّا إلى زاوية سجنها السحيق حيث لا يزعجه اشتجارها، ولا يشغله عن دنياه ضجيجها أو سرارها.
كلا! ليس للمتنبي صبر على هذه الفلسفات! إنما هو فيلسوف الحياة سننها وصروفها، وليس فيلسوف الحياة مصادرها ومصائرها، وفلسفته في هذا الصدد بينة صريحة قريبة المنال متفقة الأجزاء لا تعقيد فيها ولا غموض، يمكنك تلخيصها في كلمات وجيزة هي: إن الحياة حرب ضروس علاقة الإنسان فيها بالإنسان علاقة المقاتل بالمقاتل، فهو يركب سنانًا من صنعه في كل قناة ينبتها الزمان، وما المودة فيها إلا حيلة من حيل الحرب، أو هدنة في حومة القتال، فاحذر الناس واستر الحذر! وإياك أن تشكو إلى أحد أو تغرك دمعة باك أو بشاشة مبتسم، إنك إن تشك إليهم بلواك تكن كالجريح الذي يشكو ألمه إلى الرخم والعقبان، وإن الذي يبكي بين يديك حين تظفر به لن يرحمك غدًا حين يظفر بك، والذي يبتسم لك ويبدي مودتك، إنما يداري الضعف والكيد بهذه المودة، ثم هو إذا تمكن من مقاتلك لن يرثي لضعفك ولن يقيل عثرتك، فاعلم أنك تنال بالخوف في الدنيا ما لا تنال بالود، وإن من أطاق التماس شيء من أشيائها غلابًا واغتصابًا لم يلتمسه سؤالًا:
فكن كالموت الذي لا يرثي للدمع ولا يروى من الدم، وقف وسط هذه المعمعة وقفة من «لا يقترب بلدًا إلا على غرر ولا يمر بخلق غير مضطغن» فإنما أنت حيث سرت بين أعداء يترقبون غفلتك، ويتحينون فرصة ضعفك، وماذا يحميك منهم غير الحيلة والبأس؟! وكيف تعيش بينهم بغير العدة والسلاح؟ أتظنك تأوي منهم إلى عدل أو رحم أو تقوى؟ لا يا صاح! إياك والاتكال على عدل الناس ورحمتهم وتقواهم! إياك وهذه الغرارة والجهل في معركة الحياة:
والأصل في طباع الناس العدوان والغصب، ثم جاء الحق والإنصاف خوفًا من عدوان العادين وغصب الغاصبين، والناس يعتدون حتى يمنعوا فيعرفوا بعد المنع ما يجوز لهم وما لا يجوز، وتأتي من ذلك الحدود والحرمات والحقوق، ولكنهم لا يمتنعون بغير مانع ولا يغفون لغير علة.
هذا هو أصل الأخلاق عند المتنبي وهذه هي سنة الحياة في نظره، حرب مستعرة لا راحة فيها ولا أمان، لا رحمة فيها ولا عدل، لا كلمة فيها لغير القوة أو الحيلة التي هي نوع من القوة، حرب قائمة دائمة في السر والعلن، وبين الأصحاب والأعداء، وفي صفوف الأقوياء والضعفاء، حرب ولكن فيم ينبغي أن تُخاض؟ أفي اللذة والسرور؟ أفي العلم والمعرفة؟ أدفاعًا عن النفس وذودًا عن المال؟ كلا لا تُخاض في شيء من ذلك، ولكن في طلب العز والقهر والسيادة، أو عملًا «بإرادة القوة» إن شئنا أن نجعل لهذا المذهب القديم صيغة من صيغ البحث الحديث، «والدنيا لمن غلب»؛ وهذه هي شريعة الحياة.
والمتنبي لا يكره اللذة والسرور؛ فهو يشتهيهما ويحض عليهما فيقول في أسلوبه المعتاد من النصيحة المبينة والحكمة المشفوعة بالحجة:
غير أنه يطلبهما بشرط؛ لأنه لا يراهما خير ما يطلب في الحياة، يطلبهما بشرط أن لا يعرضاه للذل ولا يصماه بالدنس:
بل هو لا يستطيب اللذة التي لا تصحبها الكرامة ولا يجد معها التبجيل:
لهذا لا يستنيم للذة ولا يسلمها زمامه ولا يعطيها من نفسه غير ساعة، ثم يمضي في شأنه الذي عقد العزيمة عليه:
وهو لا يجهل ما يبتغي من الدنيا، ولا يخفى عليه ما في بعد الهمة من المكاره والعذاب، وأن السيادة محفوفة بالمشقة من كل جانب، وأن صفو الحياة من نصيب العاجزين الغافلين أو الحالمين المتعللين، ينعمون في الشقاوة بجهلهم ويشقى كبار النفوس في النعيم بعقولهم، لا يجهل شيئًا من هذا الذي يبتلى به ذوو الهمم، بل يعرفه ويقوله ويكرره كما لم يكرره شاعر قبله ولا بعده، غير أنه مع كل هذا يبتغي المجد ويستقتل في طلبه، لا بل هو يبتغيه ويستقتل فيه لأجل كل هذا وهو يقفو أثره حيث كان تلذذًا بالمغامرة واستخفافًا بالعناء والنصب؛ إذ كانت نفسه تستريح إلى التعب وتتعب من الراحة، وتصح على العدو والإحضار، وتفسد على السكون والرقاد، وهو القائل:
وصدق المتنبي فيما افتخر به، ولم يُغالط ولم يُبالغ ولا توخى الإغراب في المعنى، فما من شيء في الحقيقة هو أضنى للنفس من القوة محبوسة فيها لا تجد سبيلها إلى الظهور، وليس أروح لها وأجلب لسعادتها من إطلاق ما تحويه من زيادة قوة وإرسال ما يطمو بها من زاخر عزم ولو أصابها في ذلك ما تتأذى به النفوس وتحرج له الصدور، ومن المتعب المسقم ما يعتري الجسوم لتعذر التعب المحبب إلى نفوسها وامتناع الطريق إلى الصراع الذي تهيأت له طبائعها، فتضوى وتهزل اشتياقًا إلى ما يضوي غيرها ويهزله، ويداويها الطب بما لا يشفيها فيحار فيها حيرة طبيب المتنبي الذي قال فيه:
ولك أن تعد المتنبي من طلاب اللذة إذا اعتبرت أنه — كما قال — يجد لذته «فيما النفوس تراه غاية الألم» وأن: «يرى جسمه يكسى شفوفًا تربه فيختار أن يكسى دروعًا تهده» ولكننا حينئذ نقول لغوًا وهذرًا أو نحصل الحاصل ونخلط بين المفاسد حين نقول: «إن النفوس تطلب اللذة» فإن النفس لا يمكن أن تطلب على هذا المعنى شيئًا إلا قيل إنه «لذة»! فيصبح الشيء اللذيذ مرادفًا للشيء المطلوب وليسا هما كذلك، خصوصًا إذا ذكرنا أن النفوس غير مخيرة في كل ما تطلب، وأنها تُساق أحيانًا إلى ما تعلم فيه حتفها وسقوطها فتنساق إليه على كره منها.
كذلك المال مطلوب في مذهب المتنبي وتدبيره واجب ورأيه في طلبه كرأيه في اللذة؛ أي إنه يقدم عليه المجد وينصح بادخاره؛ لأنه آلة المجد ووسيلته إليه لا لذاته:
أما العلم فالمتنبي يطلبه أيضًا، ويطري المعرفة ويرفع الحكمة ويقول في بيت واحد:
فيخيل إليك أنه يعدل العلم بالسيادة ويضعهما في موضع واحد من الجلالة والوسامة، إلا أنك لا تلبث أن تستعرض أقواله الأخرى حتى يلوح لك الموضع الذي يضع فيه العلم والحكمة، وترى أنه لا يجعلهما غاية منشودة لذاتها، وإنما يجعلهما واسطة إلى غايته من العزة والغلب والقهر، فأنت تقرأ قوله:
فتحسبه يقدم الرأي على الشجاعة عرفانًا لحق الرأي وترجيحًا له على كل ما يُدرك بالشجاعة، فلا يطول بك الشك في ذلك حتى تراه يقول على الأثر:
فكأن فضل الرأي الصائب الحكيم عنده هو كونه يبصر أيدي الكماة بتدبير عوالي المران، ويعين الشجاعة على مرادها، ثم ماذا يكون إذا اجتمعت الشجاعة والرأي لإنسان؟ يكون أنه يبلغ من العلياء كل مكان، فالعلياء هي الغاية القصوى على كل حال.
وفصل الخطاب في هذا الأمر قوله:
فالرأي والمعرفة والحكمة والكتب والأقلام؛ هذه كلها خدم المجد والسؤدد، وآلات الملك والاستعلاء، إذا وصلت بك إليها فهي حسنة ميمونة، وإذا قعدت بك عنها فهي قبيحة مشئومة «وبعض العقل عقال» وعندئذ يكون الجنون خيرًا من العقل والجهل أفضل من الحكمة! أو قل: إن الكتاب في رأي المتنبي هو الجليس المسامر الذي يؤنسك وينادمك، وليس بالسيد المطاع الذي يملك نفسك، ولا بالأستاذ الموقر الذي يسيطر على عقلك، فنعم الجليس هو كما قال، ولكن بئس السيد وبئس الأستاذ! ولا غرو أن يكون هذا رأي شاعرنا في الكتب، فإن مزاجًا كمزاجه لم يُخلق للنهم بالدرس والانكباب على الإحصاء وقضاء العمر بين الكتب والدفاتر على ديدن المستبحرين من العلماء، وإنما زاده من الدرس التبلغ وشعاره فيه: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه!» أو يصح أن يكون شعاره قوله هو نفسه:
والقوة أيضًا هي محك الأخلاق وبوتقة الفضائل، فما كان منها قويًّا أو صادرًا عن قوة فهو محمدة فاضلة وما كان منها ضعيفًا أو صادرًا عن ضعف فهو مذمة مرذولة، كن حليمًا ولكن مع القدرة إذ:
وحازمًا ولكن في غير جبن؛ فإن الجبن الذي يبدو في زي الحزم «خديعة الطبع اللئيم.»
وحييًّا؛ لأن الحياء من شيمة الأسد لا من شيمة الذئاب، فإذا ضيع عليك الحياء غنيمتك فاخلعه:
وكن صابرًا شديد العزم «لا تستغيث إلى ناصر، ولا تتضعضع من خاذل» كي تعد نفسك لحمل نوائب الدهر والاضطلاع «بأحداثه الحطم» ثم اعلم أن «سيفك الصبر فلا تُنبه» وأن الصبر نقيضه الخوف وإذن «يدخل صبر المرء في مدحه ويدخل الإشفاق في ثلبه.»
وكن كريمًا ولكن ممن يُقال فيهم:
أو ممن يُقال فيهم:
لأن الكرم إنما يحمد ممن يعطي من فيض أيده وقدرته، ومما يطفح به معين شجاعته وسعة ذرعه، يحمد ممن يترفع عن المحاكاة في كرمه «فما يفعل الفعلات إلا عذاريا» ومن السيد الفطن الفعال لما يشق على السادات، لا من وارث تجهل يمناه ما يصنع ولا «كسوب بغير السيف سآل.»
وكن صادقًا صدق من يقدم بصدقه على المخاوف، ولا يبالي أن يكون سره كعلنه:
وكن قانعًا إذا دان لك المجد واتسق لك الذكر فإنما:
أما إذا فاتك الذكر والمجد فالقناعة حوب وعار، والرضا بالقليل فاقة في اليد والفؤاد، فقل مع المتنبي:
أو قل معه:
وهذا الشاعر المفتون بالقوة كثيرًا ما يتغنى بالوفاء والأمانة والحفاظ، ويمدح هذه الخصال في جميع من يمدحهم، ولا نستغرب ذلك فالحقيقة أن الأمانة — ويدخل فيها الوفاء وحفظ العهد — من أجمل صفات القوة ولفظها في العربية يشير إلى ذلك، فإن الأمون هو القوي والحصن الأمين هو المكان الذي يأمن الإنسان في حماه لمنعته وقوته، ولفظها في اللغات الإفرنجية مشتق من الشرف والعلو، فهي من قديم الزمن صفة رفيعة كريمة.
والمتنبي كان وفيًّا بخلقه كما كان وفيًّا بكلامه ومذهبه، يدل على ذلك صفحه عن أبي العشائر الذي ألحق به بعض خدمه لاغتياله ليلًا: وقيل: إن ذلك كان برضا من سيف الدولة أو بإيعاز منه، فرماه أحدهم بسهم وناداه: «خذه وأنا غلام أبي العشائر» فغفرها له أبو الطيب وأغضى عن يد سيف الدولة في هذه المكيدة وقال متجملًا:
ومن وفائه رثاؤه لأبي شجاع في ثلاث قصائد ذلك الرثاء الذي لا يقرؤه قارئ فيخامره شك في حزنه وحفظه للجميل حتى بعد موت صاحبه، وأنه لم يهج سيف الدولة كما هجا كافورًا، بل كان يغالب حنينه إليه وأسفه على فراقه مع أنه فارق سيف الدولة مضروبًا موتورًا ولم يُفارق كافورًا إلا باختياره، دع عنك لهجه بالوفاء وقوله عن نفسه أنه خلق ألوفًا «لو رد إلى الصبا لفارق الشيب موجع القلب باكيًا» ودع أنه عُرف بقلة المداجاة والتقية في معاشرته للناس حتى لقد ترك الخضاب وأبى أن يستر شيبه «من هوى الصدق وعادته»، وعاف كل جمال مموه وأحب جمال البدويات اللاتي ما عرفن «مضغ الكلام ولا صبغ الحواجب» واشتد بغضه وتيهه على كل «جاهل متعاقل» إلى غير ذلك من الأقوال والمأثورات التي تشهد في جملتها شهادة حق أن الرجل كان مطبوعًا على الوفاء والصدق والصراحة، ولم يكن يكذب في كلامه أو عمله إلا تكلفًا واضطرارًا، فليعذر في هذا «فمدفوع إلى السقم السقيم.»
ولكي يبين لك حب أبي الطيب للصدق، انظر إلى قوله في هجاء ابن كيغلغ:
ثم إلى قوله فيه:
فهل ترى أن الهجو بحلف الأيمان الباطلة في موضعين من قصيدتين مذمة من تلك المذام التي يختلقها الشعراء اختلاقًا، أم ترى أن الشاعر أنكر خلقًا موجودًا في المهجو وقدح في عادة بغيضة إليه؟ ولقد أخطر الرجل حياته ومات ليكون فعله كقوله، وحكمه على نفسه مصدقًا لحكمه على غيره كما ذكر الرواة في سبب موته، ولا يكون هذا عمل رجل يستسهل الكذب ويرسل كلامه من طرف لسانه، على أننا لا نثبت حب أبي الطيب للصدق؛ لأنا نريد أن نحاسب الفيلسوف الخلقي برأيه ونحتم عليه العمل بمذهبه؛ فإن القول برأي شيء والعمل به شيء آخر، ولكننا رأينا التوافق بين خلقه ومذهبه واضحًا فاستطردنا لنؤدي لشاعرنا هذه الشهادة الواجبة له على قرائه.
•••
فمن هذا ومما سبق إيراده يظهر لنا جماع مذهب المتنبي في غاية الحياة وأصل الأخلاق والفضائل، فالسيادة هي غاية الحياة، والقوة هي أصل الأخلاق والفضائل والمحور الذي تدور عليه المحامد والمناقب، وهو يحيط بأمور كثيرة في شعره، ولكنه يطبعها جميعًا بهذا الطابع ويردها بلا استثناء إلى مقياسه هذا الذي لا يتغير في قصيدة عن قصيدة، ولا في بيت عن بيت، ولا يسع أحدًا بعد الأبيات المطردة والأمثلة المتواترة التي سقنا بعضها هنا والتي لم تأت عفوًا ولا فلتةً ولا انتحالًا، إلا أن يذكر نظائرها من فلسفة فردريك نيتشه نبي دين القوة في العصر الحديث، وأن يميل إلى المقابلة بين هذه الآراء المتماثلة المتفقة في مذهب الشاعر العربي، ومذهب المفكر الألماني، وهذا ما عولنا عليه.