فن المتنبي١
من حق البحث علينا بعدما أخذنا فيه من الكلام على حياة المتنبي وشعره أن نقول كلمة مجملة في مكانة الرجل من جهة الفن والطريقة النظمية، فهل المتنبي فنان؟ وهل تتسع دائرة الفن حتى تشمل المتنبي ومناقضيه من الشعراء؟
أما إن كان الفن هو صقل العبارة، وتوشية الكلام، ولطافة المدخل، وحسن الاحتيال، ودقة الذوق، ورقة الملمس، ومهارة اليد، فليس المتنبي من رجال الفن في مرتبة تُذكر، وليس له من حذق الصناعة نصيب يُعد ويُؤثر فقد خرج من عداد الفنانين بهذا التعريف كما خرج فحول الشعر الذين ينحون نحوه ويشبهونه في قلة النصيب من هاته المحسنات، وهم كثيرون.
وأما إن كان الفن يتسع لما تتسع له الحياة من اختلاف العبارات والإشارات، وتنوع الصيغ واللهجات، ويحوي من قوالب النظم بقدر ما تحويه النفوس الشاعرة من أفانين الشعور ومشارب الذوق، فليدخل المتنبي عالم الفن في مقدمة الداخلين، وليكن ثم على طليعة أمثاله من الصانعين والفنانين، يدخل ولكن من باب المتانة والصلابة، لا من باب الجمال والزينة، وليكن مقامه في رحاب الفن الفسيحات حصنًا من حصون المريخ، لا قصرًا من قصور الزهرة، ولا جوسقًا من جواسق باخوس، حصنًا يلقاك بالضخامة والجد أينما واجهته، ويستقبلك بالعدة والسلاح من حيثما طرقته، فرعوني البناية لا تلمح عليه مسحة من طلاوة اليونانية، ولا أثرًا من بذخ الكسروية.
وما لنا نأبى على الشاعر أن يبتني لنا من شعره معاقل وحصونًا؟ أترى بناية الحصون خرجت جملة من عداد الفنون؟ أليست هي من أقدم ما صنع الصانعون وأجدره بتحريك القلوب واسترعاء العيون؟ بلى، وليست بنفس تلك النفس التي لا تبهرها الحياة بألف لون من ألوانها ولا يعجبها الفن بألف قالب من قوالبه ولا يروقها الجمال إلا في زي واحد من أزيائه التي لا عداد لأشكالها وأصباغها، ولا حصر لمواقعها من النفس وآثارها.
فاعرف للمتنبي مكانه هذا طائعًا أو غير طائع، وارفع له التحية في حصنه ذاك خاضعًا أو غير خاضع، إنك لا تعرف إلا حقًّا ولا تقول إلا صدقًا، أما إن خرج الرجل من حيث وضعته طبيعته وأقرته خلائقه إلى حيث يقصف الشعراء غيره، ويسمرون ويحتالون في القول ويتظرفون، فهنالك ماذا نقول؟ هنالك اضحك منه إن شئت، واعجب له إن شئت، فالأمر موكل إليك واللوم على الحالين غير عائد عليك، فقد جنى الرجل على نفسه ونقض العهد الذي بينه وبين قارئه وفارق الشقة الحرام التي يأمن فيها على وقاره، وكيف لا تضحك منه حين تراه يحاول التخلص إلى مدح سعيد بن عبد الله فلا يفتح الله عليه إلا بأن يمسخ الناس كلهم بعرانًا ليركبهم إلى سعيد؟ أم كيف لا تغلبك ابتسامة السخر حين تراه يستطرد من الغزل إلى المدح فيتوسل إلى الأمير أن يشفع له عند حبيبته ويقول: إنه قد أيقن أن الأمير قد برز لقتال تلك الحبيبة الجافية لما رآه معتقلًا رمحه:
أم كيف لا تتمثل لك الصبيانية كلها حين تسمع قوله في مدح فارس شجاع:
وقبل ذلك قوله في التخلص — أو التملص — من الغزل إلى المدح:
أراد أن يقول إن سلوَّه عن حبيبه مستحيل، وأن ارتياع ممدوحه مستحيل، فلم يحسن أن يقول ذلك حتى وضع بينهما جبلًا تجره نملة، فكان ثالثة الأثافي حقًّا!
وقد رأينا الشيخ اليازجي يعزو الغثاثات المضحكة والمعجمات المستغلقة من شعر المتنبي إلى الحداثة ونقص المران وقلة الخبرة بالصناعة ويقول في الفصل البليغ الذي عقب به على الديوان: «أكثر ما نجدها في أوائل شعره حين لم تستحكم فيه ملكة النظم ولم تطرد له وجوه التعبير، بل ربما ركب مثل ذلك عمدًا لحينه ذاك؛ إذ المرء في أول قرعه لباب الشعر والإنشاء وتسليمه على محضر الأدب قد يدفع نفسه إلى ما هو وراء موقفها، ويكلف سجيته ما ليس في مطبوعها تأنقًا في الخطاب وتوخيًا لمواقع الإحسان والإعجاب، وربما نزع إلى تقبل بعض الكبراء من أهل خطته ومن وقع في نفسه منهم موقعًا جليلًا، فيخطو على آثاره، ويطبع على غراره تدرجًا إلى مماثلته وتبوء مثل مقامه في الصدور، وهذا إنما ينجح حيث يوافق شبهًا من الذوق وميلًا من الطبع فيلتبس بمنتحله حتى يصير مع التكرار ملكة راسخة، وما أحسب المتنبي إلا كان في صدر أمره يتوخى طريقة أبي تمام.» وكل ما ذكره الشيخ اليازجي صواب في هذا الباب؛ أي في التمحلات والمبالغات التي من قبيل قوله:
ومثل هذا كثير في أوائل شعر المتنبي، أما الغثاثات التي مصدرها قلة الفطنة إلى دقائق المناسبات، ومغامز الضحك اللطيفة، والنقص في تلك الصفات الفنية التي سردناها في صدر هذا المقال، فقد صحبته طول عمره، وظهرت في أواخر شعره كما ظهرت في أوائله؛ لأنها في طبعه ومن معدن فكره الذي لا سبيل إلى تغييره، مثال ذلك قوله في رثاء عمة عضد الدولة التي تُوفيت ببغداد وهو من آخر نظمه:
يقول لعل الأيام تخطئ في ذرع التخوم التي ينتهي عندها جوار عضد الدولة؛ فلهذا اعتدت — خطأً — على عمته البعيدة عنه! ثم يعود فيقول: إنه يخشى أن يفطن أعداء عضد الدولة إلى هذا الأمر فيهربوا إلى جواره كي لا يموتوا، وليس أسخف من هذا القول في هذا المقام، وأي فرق بينه وبين قوله في أوائل عهده بالشعر:
فكلاهما من معدن واحد، وفي هذا وذاك دليل على نوع واحد من الغفلة وقلة الفطنة إلى دقائق المناسبات ومغامز الضحك، وكأنما كان شاعرنا كذلك الميزان الكبير الذي يزن بالأطنان، فلا يحسب فيه حساب للدراهم، ولا يلتفت إلى ما يسقط من خروقه من هذه الصغائر والهنات! ومن الطبيعي مع هذا الاستعداد أن تقل الفكاهة في شعر المتنبي، وأن تخفى عليه الجوانب المضحكة من أخلاق الناس، فلا ينتبه إلى شيء منها، ولا نعثر في كل ديوانه على أكثر من قطعتين اثنتين فيهما معنى من معاني الفكاهة والسخر، إحداهما قوله حين «مر برجلين قد قتلا جرذًا وأبرزاه يعجبان الناس من كبره»:
وربما كان الأصوب أن هذه القطعة ضمنت من الخيلاء والفخر بالشجاعة وازدراء الجبن، أكثر مما ضمنت من روح الفكاهة البريئة والدعابة الذكية. أما القطعة الأخرى فهي التي نظمها في الرد على ذلك الشاعر الذي أرسل إلى سيف الدولة أبياتًا يزعم أنه ألهمها في النوم فقال المتنبي يجيبه:
وظاهر من القصة أن هذا الرد كان من إيحاء سيف الدولة ونظم بأمره وإرشاده؛ لأننا لا نظن المتنبي يستجيز لنفسه أن يرد على شاعر قصد الأمير بغير إذن منه، ولا نحسب سيف الدولة قد رفض إجازة ذلك الشاعر المتناوم إلا لما رآه في قصته من الغفلة المضحكة التي أوحت إليه بذلك الجواب المناسب لها.
وما خلا هاتين القطعتين فمن الفلتات العرضية التي تجيء هنا وهناك، ولا تنم على ملكة أصيلة، أو على التفات خاص إلى هذا الجانب من المعاني، فإذا رأينا المتنبي يضحك في شعره أحيانًا، فإنما هو ضحك غليظ خشن لا تأنس فيه مدخلًا خفيًّا ولا تحس منه غمزة لطيفة من تلك الغمزات التي يدب عليها الشعراء الساخرون، وما في شعر المتنبي من بواعث الضحك غير ما سبقت الإشارة إليه إلا ما يضحك منه هو، لا ما يضحك من الناس أو من الدنيا.
على أن مما يشرف المتنبي ويعوضه من هذا النقص أنه كان لا يتعمل ولا يتكلف، إلا في المواضع التي لا تحمد المهارة فيها، ولا يدل حذقها على خلق عظيم أو قدرة نبيلة، فأكثر ما يتعمل المتنبي في مبالغات المدح المأجور وأكثر ما يكون ذلك اضطرارًا لمرضاة الممدوحين والجري على هوى أولئك المخدوعين، وماذا عساه كان يصنع في ذلك الزمن وقد كانوا لا يرضون عن الشاعر ولا تشبع نهمتهم من المدح إلا أن يمدحهم بما لم يمدح به أحد قبلهم، وأن يعمد إلى أقصى ما بلغه الشعراء من الغلو فيضاعفه لهم؟ فكان للمتنبي بعض العذر إذا هو تعسف في المدح وتكلف في مبالغاتها وتمحلاتها، أو فيما يساوقها ويطرد مع نغمتها من دعاوي العشق وأكاذيب الغزل الممهدة لها، أما شعره في الحكمة والفخر فقد كان مثلًا في خلوص الطبع ونصوع المعنى وتماسك العبارة وسلامة الأسلوب، مما يدل على أن الرجل طُبع على الحكمة والاستقلال، ولم يُطبع على الملق والابتذال، وأنه كان يخطئ حين يعصي طبعه، ويصيب حين يطيعه ويستملي وحيه.
بل نزيد على ذلك أن الإجادة كانت من دأب المتنبي في كل شعر نظمه بغير اضطرار من ظروف العصر الذي عاش فيه، فكانت له إجادات في الغزل والوصف وغيرهما من مذاهب الشعر، كما كانت له إجادات في الحكمة والفخر، ثم كان أبرأ الشعراء من وصمة البهرجة والتزييف وأنقاهم صفحةً من تلك المحسنات التافهة التي ولع بها ضعفاء القرائح من شعراء المولدين، ولا حاجة بشاعر إلى شهادة فوق هذه الشهادة بفحولة الطبع وصدق القريحة ومناعة الذوق.
والخلاصة أن المتنبي كان فنانًا على طريقته التي تناسبه من الفن، وأنه قد ظفر من المعاني بجمال السلامة والبساطة ورواء الصحة والقوة وتناسب المتانة والكفاية، أما جمال الزينة والرشاقة ومحاسن التطرية والأناقة، فلم يكن له منها نصيب وافر.