غرائب الغرب١
جاء في هذا الكتاب — غرائب الغرب — فصل واف عن النفس الإنجليزية نقتبس منه ما يأتي: «يقل في العنصر الإنجليزي على الجملة الاستعداد لتصور الأفكار العامة، ويكره النظريات المجردة كما يكره المذاهب المقررة، فليس للإنجليزي شيء من المجردات يشغله، بل نراه أبدًا مأخوذًا بضرورة العمل، أليس معنى هذا أن حاسة العموميات ضعيف تركيبها في إنجلترا، بل إن العقل عملي لا يقبل إلا ما يلزمه وينفعه؟ يعرف كيف يضبط نفسه، ويحدد حدوده حتى إذا سار بنفسه سار سيرًا نافعًا لا سيرًا نكرًا، فعقله لا يشبه قائدًا في جيش يفكر في وضع خطط الهجوم والدفاع، بل يشبه ضابطًا يقود بعيدًا عن معمعة الحرب قسمًا من الجند الاحتياطي المساعد، فلا ترى في هذا الضابط قابلية لأن يكون في الطليعة، ولكنه يجيد في اتخاذ مركز له في النقط التي تجاوزها الجيش المهاجم وينظم فيها المقاومة.»
«العقل الإنجليزي يفكر في الأمور القريبة التي هي أكثر ما يكون ماسًّا به مباشرةً، وله من شواغله في تحصيل ثروته وتحسين زراعته ما يصده عن الحق ولا يفرغ ذهنه إلى النظر إلى الأشباح الفارغة، فهي بعيدة من الأرض جدًّا، غريبة عن الحياة الدنيا غير ملتئمة مع شروطها وضرورياتها، ولذا ترى الإنجليزي في مسائل الدين لا يتعدى أفق العالم الناظر بأحوال النفس والأخلاق الذي يبحث في المرئيات، وليس هو صوفيًّا أو مفكرًا.»
«… من غريب حال الإنجليز أن كثيرين من حملة العلم فيهم لم يتعلموا العلوم اللازمة للإلمام بالتربية العامة فهم أخصائيون لا تشوبهم شائبة، وإن من يحاول في إنجلترا أن يحدث أحد علمائهم في العلم المجرد لا يجد من يستمع لكلامه، فالعالم الطبيعي عندهم هو الذي يعرف كيف يصنع نموذجًا ميكانيكيًّا يطبق فيه العلم على العمل فقط، حتى إنك لا ترى في كتبهم الكهربائية إلا حبالًا مرسومة تعلق وتمتد، ومواسير يقطر منها ماء، وغيرها ينتفخ، وآخر ينقبض، وهكذا إنجلترا في صناعاتها لا يصدر منها إلا ما يقع تحت حسها، ولا تقص في قصصها إلا ما يماثل حالتها الطبيعية، وكذلك تاريخها ورواياتها التشخيصية وفلسفتها.» ا.ھ.
•••
وقد نقلنا هذه النبذة مما كتبه حضرة المؤلف، واقتبسه من كتب العلماء الذين وصفوا الإنجليز لتكون نموذجًا تعرف منه طريقته في الكتابة والنقد والملاحظة وجمع المعلومات والآراء لموضوعاته العديدة التي طرقها في كتابه، ولنقول أيضًا: إن المؤلف كان كأنما يصف نفسه بما أورد من أوصاف الفكر الإنجليزي والنفس الإنجليزية، ولا شك أن الأخذ بالواقع واعتبار الأمور العملية من شأن السوريين الذين منهم صاحب الكتاب، كما أنه من شأن أبناء إنجلترا التي تلقب أحيانًا بفينيقية الحديثة، فطريقته في تسجيل ما رآه وتعليق ما درسه هي الطريقة الإنجليزية التي لخصها لك فيما نقلناه آنفًا؛ أي هي الطريقة التي قوامها الملاحظة والإحصاء وجمع الحقائق إلى أشباهها وتناول الأمور من جوانبها المحسوسة، والتي يقل فيها التعليل إلا ما كان من قبيل التوسع في شرح الملاحظات والانتقال من ملاحظة إلى أخرى أدق منها وأحوج إلى التمحيص والتحري، ويندر فيها التعميم إلا ما كان من قبيل المراجعة المأمونة البعيدة عن المجازفة والتكهن، أو من قبيل الجمع الذي يغنيك عن طرق المجهولات وفرض النظريات بتقريب ما يتشابه من الحقائق بعضها إلى بعض واستخراج ما تعطيك جملتها الشاخصة أمام عينيك الماثلة بين يديك.
وهي طريقة مهما يقل القائلون في صلاحيتها للموضوعات الأخرى، فلا ريب عندنا في أنها أمثل الطرائق لوصف السياحات وتدوين الرحلات وأعودها على القارئ بالفائدة من عمل السائح والرحلة؛ لأن أنفع الرحلات ما جعلتك ترى عجائب البلدان، كما يراها كل من قصدها وزارها في أرضها، ثم تركت لك أنت مجال التعليل والتعميم، كما يناسب فكرك ويوائم نفسك، أما الرحلات التي تعلل وتعمم؛ فإنها تريك الأشياء كما تبدو لعين الرحالة وحسبما يتصوره هو ويقدره، لا الأشياء على حسب حقائقها وأوضاعها الظاهرة لجميع الناظرين إليها، فتقطع عليك طريقك وتجعل الرحالة رحلة المؤلف لنفسه، لا رحلتك أنت معه لنفسك، وتعطيك صورة من المؤلف، لا صورة مما في البلاد التي رآها واستعرض شئونها، وفي ذلك حجر على القراء وانصراف عن الغرض المقصود من كتب السياحات.
ولا يخفى أننا لا نعني بهذا القول أننا نفضل طريقة جمع الملاحظات على طريقة استنباط النظريات في كل حال، ولا أننا نجعل العقل المستعد للملاحظة أشرف وأصح من العقل المستعد للنظريات، فالذي نعتقده أن العقل لا يكون نظريًّا بحتًا ولا عمليًّا بحتًا، وإنما أصلح العقول العقل الذي تتزن فيه الملكتان، ويعتمد على الملاحظة وعلى الاستنتاج في حيث يصلح كلاهما، ولنحذر كل الحذر من أولئك الذين يغلون في القول فيدعون إلى احتذاء مثال واحد من التفكير، أو يعجبون بطراز واحد من العقول، فإن هذا هو الخطل بعينه، وهو ضيق الفكر وعمى الحقائق الذي يشبه عمى الألوان في عرف أطباء العيون.
إليك مثلًا واحدًا يبين لنا موقع التخصيص والتعميم في حركة من أكبر حركات الإنسانية وأجمعها لآثار المواهب المختلفة والأخلاق المتناقضة، ونعني بها حركة الديمقراطية وانتقاض الشعوب على ظلم المستبدين، فالإنجليز قد ثاروا ثورتهم الكبرى وشرعوا في حياتهم الدستورية قبل أن يتململ الفرنسيون في مهاد الذل الذي اطمأنوا إليه أو يحدثوا أنفسهم بالثورة على ظلم ملوكهم ونبلائهم، فكان الواجب أن يكون الإنجليز — لا الفرنسيون — هم قدوة الأمم في طلب الحرية والدستور وحاملي رايتها في طريق الإصلاح الديمقراطي والتجديد الحكومي، ولكنا رأينا الأمر على خلاف ذلك، ووجدنا كل أمة ثارت في العهد الحديث تحذو حذو فرنسا وتصبغ ثورتها بصبغة الثورة الفرنسية، وتعنون دعوتها بعناوينها، وتسمي مطالبها بأسمائها، فلماذا اختلف الأمر وصارت الثورة الفرنسية علمًا للحرية والدستور، ولم تكن كذلك الثورة الإنجليزية؟ ذلك لأن الفرنسيين اتخذوا من ثورتهم نظرية عامة، فعمت وشاعت وتعلقت بها خيالات الأمم كافة، كأنها شيء يخص كل أمة منها ولا يخص فرنسا وحدها، أما الإنجليز فقد ثاروا ثورتهم لأنفسهم ونظروا فيها إلى ما يهمهم، واقتصروا في مطالبهم على أحوالهم وشئون بيئتهم، فبقيت خاصة بهم وظنها الناس شيئًا لا يعنيهم، ولا يجوز أن يتخطى شواطئ إنجلترا إلى عقر دارهم؛ فإذا ذكرت فضل التخصيص والتثبت من المسائل القريبة في الثورة الإنجليزية، فلا تنس فضل التعميم وميط الحقائق في الثورة الفرنسية.
والخير كل الخير للإنسانية في تعدد هذه الملكات واختلاف محصولاتها وتضامن الحضارات الناشئة منها، فلو أن الأمم كانت على تباعدها وتوزع الملكات بينها تنظر إلى العالم بعين واحدة وتعيش على وتيرة واحدة، لما كانت الحضارات المتوالية إلا تكريرًا لأول حضارة ظهرت في التاريخ، أو زيادة مضافة إليها من نوع مادتها، ولكنها تختلف وتتشعب فتكثر خيراتها وتتكامل جوانبها ويتضامن قديمها وحديثها في نفع الإنسانية وتهذيبها، كما تتضامن الأصقاع ذوات المحصولات المختلفة في تبادل ثمراتها وتداول بضائعها، فحضارة تبنى على الدربة العسكرية، وحضارة تبنى على العقيدة الدينية، وحضارة تبنى على حب الطبيعة وذوق الفن، أو على براعة المعاملة والوساطة بين الأمم، أو على النظام والقانون؛ وحضارة تبنى على النظريات وأخرى على العمليات، وهكذا تشترك الأمم العاملة في حمل الأمانة، وتأخذ كل أمة نوبتها وتؤدي في العالم رسالتها، وتتلاقى هذه الجداول في عباب الإنسانية الواسع المديد فتتمازج ويصلح بعضها من بعض، فلا يقال: إن الحضارة تقوم على هذا الخلق دون ذاك، ولا أن الحياة تطيب بهذه الحالة دون تلك، بل يصح النظر ويتسع أفق الحياة وتصبح الدنيا التي تخدمها هذه الحضارات كلها كما قال المؤلف في سكان سويسرا: «ومهما يكن من أصول السويسريين ألمانًا كانوا أو إفرنسيسًا أو إيطاليين، فإن سويسرا أشبه بفسيفساء من الشعوب والعناصر تلاقت وامتزجت وتعاشرت لا تفرق بينهم إلا اللغة، وقد اختلطت دماؤهم اختلاط الماء بالراح.» وفي ذلك من الإنصاف لمواهب الفكر وخصال النفس ما يمنع الجور ويكمل النقص ويحفظ النسب بين الأشياء، فبهذه المثابة يرى الناظر في التاريخ معنى لتناول الحضارات وقيامها في الشرق والغرب من هندية، ومصرية، وأشورية، ويونانية، ورومانية، وعربية، وأزتكية، وأوروبية، وغيرها وغيرها مما لعلنا لم نسمع به ولا ينتظر أن يأتينا خبر عنه، أما بغير هذا الاختلاف والتضامن فليس وراء هذا التكرير المستمر كبير طائل.
•••
إن الكتاب الذي بين أيدينا معرض جامع لهذه الحقيقة الجليلة؛ معرض نطلع فيه على أحوال بضع عشرة أمة من أمم الغرب والشرق، تختلف في كثير من الأشياء، وتتفق في كثير من الأشياء، والمؤلف الفاضل يلم بوجوه الاختلاف والاتفاق كأحسن ما يلم بها السائح المطلع، وينتقل من ناحية إلى ناحية تنقل العارف الخبير، ويقف من حين إلى حين ليذكر ويحذر ويضاهي بين ما عند الغربيين وما عندنا من عوامل الحياة والتقدم، فيكظم ألمه تارةً ويلقي إليك تارةً أخرى بكلمات حكيمة أليمة فيقول: «إننا في درس المدنية الغربية نأخذ ما تهيأ لنا وتمثل لأنظارنا بادئ الرأي، ولو أردنا استقصاء البحث لاقتضى علينا أن نصرف السنة والسنتين لندرس حال مدينة واحدة من مدنهم فما بالك بالمملكة أو الممالك، ينفد العمر ولا تنفد مادة الكلام عن رقي الغرب، وكلما تأملنا معاهده وحللنا مادة قواه، نبكي لضعفنا وقوتهم وجهلنا وعلمهم، ونكاد ندخل في اليأس المميت من تحسين حالنا لولا أن اليأس محرم، وأن التاريخ يحدثنا أن أمما كانت أحط منا منزلةً فارتقت لما صحت عزائم بنيها على إنهاضها.»
وعلى هذه الخطة سار المؤلف في تقييد ملاحظاته والاكتفاء بما اختار من مشاهداته، فأخذ من المدنية الغربية بما تهيأ له وتمثل لنظره بادئ الرأي، ولكنه أتى في هذه الخلاصة بما لا يبلغه استقصاء غيره ممن لم يطلعوا اطلاعه، ولم يختبروا العالم اختباره، ولم يكن عندهم من أناة العلم ورحب الأمل مثل ما عنده، ولو أردنا أن نشير ولو إشارة مقتضبة إلى أبواب الكتاب التي طرقها المؤلف بابًا بابًا لطال بنا الشرح، وتجاذبنا الآراء، وحرنا فيما نأخذ وما ندع من مسائل الحياة ومظاهر الحضارة، وكيف وهذه ثلاث رحلات تستغرق أكثر من ستمائة صفحة من الغرار الكبير، تتضمن كل صفحة منها حقائق وأقوالًا في التربية والدين والعلم، والزراعة والصناعة والاقتصاد، والتاريخ والرياضة والآداب مستعينًا فيها المؤلف بما درس وما شاهد وما اختبره وهو كثير جم الموارد والروافد؟ وأصوب ما يقال على وجه الإجمال: إنها رحلات شائقة نافعة لكل قارئ بصير، ولا سيما للمشتغلين بعمارة البلاد، وتنظيم المرافق العامة، وإدارة المصالح المدنية؛ فإنهم يجدون فيها مذكرات حاضرة مهيأة لتنبيههم في كل وقت، فيستغنون بها عن عشرات الكتب وتجارب السنين، ويهتدون بها عن كثب إلى أبواب العمل ومناهج الإصلاح.
أما صاحب هذه الرحلات فهو العالم المدقق محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي بدمشق، وهو غني عن التعريف عند كثير من قراء مصر الذين يذكرون كتاباته في صحفها ومجلاتها ومقامه في هذه الديار على عهد غير بعيد. ساح في بلاد الغرب مرتين قبل الحرب ومرة بعدها، وكتب ما رآه في أثناء رحلاته الثلاث، فكانت الفائدة أجزل وأمتع، والعبرة من السياحة أقرب وأوسع، وذلك أن اختلاف الأحوال بين ما كانت عليه أوروبا قبل الحرب، وما صارت إليه بعدها قد تمم ما في هذه الرحلات من تنوع المشاهد وتقلب الأمور، فجاءت الأمثولة صحيحة وافية، وكان رائد المؤلف في كل ما كتب الإنصاف والتحقيق، فحق له على القارئ أن يثق به ويركن إليه ويشكر له ما أشكره فيه من ثمرة سعيه ومتعة نفسه بغير مشقة ولا كلفة.
ولا انتقاد لنا على الكتاب إلا في بعض المآخذ اللغوية، وقليل من الهنات الأخرى التي تدخل في هامش الموضوع، ولا تمس جوهر الكتابة، ومثالها ما جاء في وصفه لنظافة المدن الألمانية حيث يقول: «في الخريف يكنس الكناسون بمكانس ميكانيكية ما يتساقط من أوراق الأشجار في الشوارع والحدائق والمنتزهات والأماكن العامة، ويعهد بتنظيف الأرصفة في العادة إلى أصحاب الأملاك فلا يخالف القانون منهم أحد، وصاحب الملك مسئول عنك إذا مررت برصيفه وتزحلقت بقشرة برتقالة أو وقعت فاندقت عنقك …» فما ذنب القارئ المسكين يعثر هذه العثرة على تلك الشوارع المرصوفة أو تندق عنقه فيقضي نحبه على قارعة الطريق في ديار الغربة؟! وهل ينفعه التعويض الذي يناله من صاحب الملك بعد ذلك؟!
ولكنها عثرة من القلم لا تغض من قدر الكتاب، ولا تمنعنا أن نقول مرة أخرى: إنه من الكتب الغزيرة الفائدة للقراء النافعة للمتكفلين منهم على الخصوص بشئون العمارة والإدارة ونظام الدولة في هذا العصر؛ عصر التجديد والانتقال في عامة البلاد الشرقية العربية.