بين الله والطبيعة١
ينبت فيها الشجر، ويجري من تحتها النهر، وتطل عليها مشاهد العبادة من كل صوب، وتحف بها ذكريات التاريخ من كل عصر، وبين أشجارها شجرات من التين لا شجرة واحدة! وفيها حية، أو هي الحية التي قد رأيتها وربما رأى غيري غيرها، وكل هذا — لا بل بعضه — كاف لتكميل معالم فردوس عظيم وجنة عرضها السماوات والأرض، فكيف لو اجتمعت كل هذه المعالم في بقعة صغيرة لا يقول الناس: إنها الجنة التي أعدت للمتقين، ولكنهم يقولون: إنها جنينة صغيرة في بقعة نائية من الأرض؟ لا غرو يكون لها من غرابتها نفاسة تزري بالنفاسات، وتغلو بها الندرة حتى تحيل الجمال ضرورة واللهو جدًّا، ويصبح ما يطلبه الناس لمجانة الفضول ولعب الفراغ، وكأنما هو الزاد والماء لا يستغنى عنهما في الطعام والشراب.
جنينة «قصر ملا» وما أخف جمالها على النفس وما أجل وقارها! جنينة قائمة على أطلال مكتبة جمعت بالأمس صفوة النور الإلهي الذي بثه الله قديمًا في العقول، وواحة من الحياة الراهنة في ديمومة مترامية من آثار القرون الخالية، وعزلة للنفس والجسد يرسلك كل منظر من مناظرها وراء يومك من الزمان وموقع قدمك من المكان أجيالًا وأميالًا، بل دهورًا مديدة وآفاقًا في فضاء الغيب عالية بعيدة، وجمال من ذلك الجمال المتجرد الذي يزيده تجرده قداسة وطهرًا؛ لأنه لا يفترض للدنس وجودًا، ولا يحسب لنزغات الغواية حسابًا، وباقة تجمع لك الأطلال والأزهار ويتناسق فيها الخراب والعمار، وتنسم عليك بعبق اليوم المبلل بنداه، وترجع عليك بروائح الأمس المجلل في ثراه، وروضة تنبت في الأرض والسماء، أجل تنبت في الأرض والسماء، وإن لها لجذورًا في عليين أطول من جذورها الضاربة في جوف هذه الغبراء، تلك هي «جنينة قصر ملا» الصغيرة الكبيرة المنعشة الموحشة المبتذلة المصون، التي تفتح أبوابها للجميع، وتعلم أن حظيرة أسرارها لا تفتح لغير القليل.
وأنت إذا طرقت هذه الجنينة — ولك أن تقول ولا حرج عليك هذه الجنة — إذا أظلتك أشجارها وحيتك بالعطر النافح أزهارها، وإذا طلعت عليك شمسها المتوهجة المتأججة التي كأنما آلت على نفسها أن لا تدع شريكًا لها في سمائها وأن ترسل شعاعًا من أشعتها الساطية في أثر كل شية شاردة في الفضاء أو غيمة حائرة في الأفق، والتي ظهرت وأظهرت وملأت السماء والأرض ظهورًا حتى لأوشكت أن تهتك ستر الغيب، وتجلو ظلام الموت، وتمزق حجاب اللانهاية، وإذا برزت لك فيها ودائع العصور التي طويت وبليت ولم يبق منها أمامك إلا أشباحها وهياكلها، وإلا عظامها ورجامها، وإذا وطئت بقدميك كنوز المعارف وصحائف العلوم التي واراها غبار الدهور في أغوار تلك التربة المزهرة ودرستها تقلبات الأيام درس البلى والضياع، لا درس الصيانة والحفظ، ثم قدرت تقدير الآسف المغتبط الذي يودع عزيزًا ويستقبل عزيزًا كم من عصارة القرائح في عصارة كل شجرة من هذه الأشجار، وكم من نفحات الخواطر في نفحات هذه الأوراق والأنوار، وإذا نظرت لا إلى النيل في فيضانه الأحمر المثقل بالطين الذي يذكرك بالزرع والضرع والفول والبرسيم، بل إلى النيل الناضب المنزوف الذي يدب دبيب الشيخوخة ويذكرك بالقدم الخالد والتاريخ الموصول والمآثر الباقية والطلاسم الواقية، وإذا أصغيت في موات الأرض إلى نبض ذلك القلب الكبير المتواري الذي تنبثق منه الحياة زهرًا ناضرًا وثمرًا يانعًا وروحًا خضراء نامية تمت إليك بعصبية الأحياء، وتدخل معك في جامعة المباينة للعناصر الصماء، وإذا طرحت نفسك في ملتقى هذه التيارات المتعارضة التي لا تفتأ تسري إليك من اليمين والشمال، ومن الماضي والحاضر، ومن الموت والحياة، ومن الجهر والخفاء، ومن حقائق الحسن وأحلام الخيال، فأين أنت هنالك من عالمك هذا المسخر الموبوء بصغائره وضلالاته؟ أين أنت من تكاليفه المذلة وهمومه الوضيعة وشواغله الفارغة؟ لا أين يا صاح! إنك ها هنا في حمى الآلهة وجوار الخلود وباحات الحرية التي يعرفها سكان «الأولمب» وأبناء البقاء، فاعلم علمًا لا شك فيه أنك في بقعة لا تقاس بخطوط الطول والعرض ولا نظير لها إلا القليل من بقاع هذه الدنيا.
وعلى مقربة من تلك المعابد بئر المقياس القديم، مقياسها الذي كان كهنتها يهبطون إليه كل صباح ليقدروا ماء النهر بالقيراط على أهل مصر، ولينتظروا على حافته عشر ما تنبت الأرض من حب وفاكهة حقًّا خالصًا مكتوبًا في رقاب الناس لإلههم الرحيم، والمقياس باق إلى هذه الساعة لمن شاء أن يستطلع حال النهر من وفاء ونقص، وغلة الأرض من خصب ومحل، ولكن لا تجبى لخينوم اليوم حبة واحدة مما ينبت الوادي المريع، ولا تندى عليه قطرة واحدة من جبين الفلاح الصابر المطيع.
وعلى خطوات من ذلك المقياس بئر أخرى لا تقل عن بئر المقياس خطرًا، ولا تقصر عنها عراقة وأثرًا، تلك هي على عهدة الراوين بئر «أراتوسين» التي اهتدى منها إلى قياس محيط الأرض وأدرك على قاب لمحة فيها ما لا يدركه الآخرون بغير طواف الأعوام والشهور، وعرف قبل المسيح بقرنين ما أيده العلم بعد المسيح بقرون، وكأني أنظر الساعة إلى جانب البئر فأرى ذلك الشيخ المنكود منكبًّا على عمله جالسًا في شمس الشتاء كعادته، قد أقبل من شاطئ البحر إلى أقصى الصعيد حتى استقر به المطاف في جزيرة الفيل، فجلس يتشرق في ضحها، ويستمد الحرارة لجسده الهزيل من أشعتها، ويحدق في السماء تارةً، ويطرق إلى الأرض تارةً أخرى، فيعلم أن التصعيد لا يغني عن التصويب، وأن قرار الجب الغائر غير بعيد عن قبة الفلك الرفيع، ولكن ماذا أفاده ذاك؟ لم تخبره النجوم بنصيبه المخبوء من الشقاء، وهي التي خبرته بكثير من الأنباء، وقضى الله أن يفجعه في عينيه فعاف الحياة وكره الظلام وهو رسول النور، وأبى إلا أن يبخع نفسه صبرًا، وأن يؤثر بطن الأرض على ظهره الذي لا يريه شمسًا، ولا يطلع فوقه بدرًا، ولو أنذرت النجوم أحدًا بقدره لأنذرت تينك العينين اللتين طالما أرعتهما محاسنها، وكشفت لهما مواطنها، وبرزت لهما من خدورها، ورمقتهما في رواحها وبكورها.
وربما كان على قيد أذرع من ذلك المكان مجلس لجوفينال الشاعر الروماني الهجاء، مجلس لا ينسيه رومة عاصمة الدنيا يومئذ، ولا يسليه عن مغانيها وغوانيها، ومنهن كان أصل بلائه وعلة شقائه! نفته الاستطالة على إحداهن فرمت به إلى هذه الديار، فراح يصب غضبه على أهلها، ويهزأ بأربابها وأديانها، وينقم على الدنيا ومن فيها ويقول كما قال ابن الرومي بعد ذلك بمئات السنين:
وكذلك يقول من مضى ومن سيمضي على هذه الأرض إلى يوم الوقت المعلوم، وتعلو بنظرك قليلًا فيرتفع لك في أحضان الجبل الغربي دير سمعان المهدم ومعقل المسيحية في زمانها الأقدم، فيخشع بصرك وتسمو إلى السماء نفسك، وأي شيء تراه هو أولى بالخشوع وأدنى إلى السماء من وقار العبادة يجلله وقار الخراب، فويل للإنسان إن كان لا يعصمه من الدنيا إلا ذلك السفح، ولا يصيب الأمن إلا حيث تعوي الذئاب، ولا يجد الله إلا حيث لا يجد شيئًا سواه.
وربما طرق سمعك وأنت جالس في مكانك أذان المسجد الذي إلى يمينك، أو ناقوس الكنيسة التي من ورائك، فتسمع في هذا الصوت الناطق صدى هاتيك الهياكل الصامتة، وتلقي نفسك في عالم حافل من القداسة لا يفرغ منه موقع نظرة لغير العظيم الجسيم من الذكريات والخواطر.
•••
ثم ماذا؟ ثم فندق الشلال الكبير، وما أغربه في ذلك المكان، وما أبعد النقلة بينه وبين تلك المعاهد! فندق الصاخبين اللاعبين من سائحي أوروبا وسائحاتها، والملاذ الرحيب لمرضى النفوس والأبدان من أبناء هذه المدنية وبناتها، فندق الشلال الذي قال فيه بييرلوتي متهكمًا حانقًا: «… ولكن إدارة كوك آندصن التي يعلم العالم أجمع أنها إدارة مجلوة بصقال الشعر قد عالجت أن تحيي ذكرى الشلال بإطلاق اسمه على فندق ذي خمس مئات من الحجرات، فقام هذا الفندق، بفضل مساعيها، قبالة تلك الصخور التي أخرست اليوم وطالما زمجر عليها النيل في غابر القرون، فندق الشلال! هذا لعمرك قمين أن يعيد إليك ذلك الخيال، أليس كذلك؟ بلى ويلذ لك أن تقرأه على رأس الصحيفة في ورق الخطابات!»
ولكن، نعم فلا بد من «ولكن» في كثير من الأحيان، ولا سيما حين لا يجديك سواها، ولا يغني عنك أن لا تقولها.
ولكن هل الفندق من غرابة الموقع في هذا المكان بحيث يراه العائبون الحانقون؟ وهل الصلة بينه وبين هذه الأكناف مقطوعة من كل طريق؟ أليس أول ما يخطر لك ويهجس في نفسك ساعة تنظر إلى تلك الخرائب المتراكبة والدول المتعاقبة، أن الدنيا مفر لا مقر، وأنها فندق لا يزال أناس فيه في محل آخرين، وزائرون على آثار زائرين؟ فإن كان هذا شأنها وتلك تقلبات أدوارها، فليقم هذا الفندق الصغير في موضعه ذاك مثالًا آخر للفندق الكبير، وليكن على هذه العدوة طرفًا جديدًا لذلك الطرف القديم، ومقياسًا لشوط الزمان بين ما كان وما يكون، وليرنا كيف تتداول الأيام وتتصرف المقادير وتأتي أمم بعد أمم حتى يجوز أن يرى مثل هذا البناء لمثل هؤلاء البناة في مثل هذا المكان، وليبق إلى الحين المقدور حتى يجيء غدًا من يجيء فيقول كما يقال اليوم في آثار من مضوا وانقضوا: كان هنا فندق وكانت هنا صخور.
وتلتفت إلى «الجنينة» التي طال إعراضك عنها، فتلقاك بصنف آخر من الروعة، وتزحف عليك بجحفل آخر من الخواطر، كل شجرة كائن حي، كل شجرة فرع ناتئ من صميم القدرة التي أنشأت الحياة.
وإن الإنسان ليحار في أصل الحياة من أين أقبلت وإلى أين تذهب، وإن العقول لتختلف فيمن أبدع وصور وفيمن قضى وقدر، ولكنك إذا جلست في حديقة زاكية ونظرت إلى روح النمو الحي تتحرك في جثمان من الجذوع والأغصان والأوراق، فثق أنك جالس إلى جانب القدرة التي نمتك وأنشأتك وبين يديها مبدؤك ومآبك، وثق أنك وارد على ينبوع الحياة الأزلي، فبينك وبين الموات المطلق ملايين الملايين من دورات الفلك المسماة بالسنين.
ويخيل إليك وأنت ذاهب الفكر بين هذه المظاهر البارزة للحياة، وهذه المحاضر العامرة بالأرواح أن لكل نابتة تترنح أمامك خبرًا إليك، وكلمة تهمس بها في أذنك، يخيل إليك أنها تدري أنها تهم بأن تبوح أنها تومئ إلى سر قديم موغل في القدم والخفاء، ويلج بك هذا الشعور حتى ليضيق صدرك، وحتى لتهم بأن تصيح: ما بالها لا تتقدم؟ ما بالها لا تنطق؟ أو ما بالي لا أفهم ما تقول؟
وكثيرًا ما كنت أسأل نفسي حين أنصت إلى تلك الكلمة المهموسة وذلك السر الموعود، ثم أنظر إلى معابد الأديان المحدقة بي من الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ أيعبد الله في مكان خير من هذا المكان؟ أليس الله أقرب قريب من حيث تنبت الحياة ويحيا النبات؟ فلماذا لا يعبد الناس ربهم في المروج والبساتين؟ ولماذا يبنون الجدران ليسبحوا باسم الله، ولا يغرسون الشجر ليسبحوا باسمه؟
وأوشك أن أخطئ وأعدل، أو أن أعذر وأعلل، ولكني أعود فأعرف للأوائل فضل حكمتهم وحسن درايتهم ودقة تمييزهم بين خفايا القلوب ووساوس الضمائر، أعرف أن الإنسان يقف في الحدائق بين يدي الحياة، ولكنه ينبغي أن يقف في المعابد بين يدي الخلود، وفيم يفكر الإنسان بين يدي الخلود؟ في الفناء لا في الحياة، في الحياة التي تبقى حين يفنى كل حي، في شيء أكبر من الحياة الفانية، في شيء هو الحياة الدائمة الشاملة، لا الحياة المبتورة المضمحلة، فالمرء يفكر في زوال حياته حين يقف بين يدي الحياة الخالدة، وينبغي أن يكون ما حوله على نسق مما في نفسه حين يقف هذا الموقف الرهيب، والمصريون كانوا أعرف الناس بمراسم العبادة حين شادوا معابدهم على ذلك النظام وضربوا حولها بحجاب من الوحشة والظلام، والعبادة والموت قريبان، فإن كان لا بد من عبادة الله حيث تنبت الحياة ويحيا النبات، فليكن ذلك في غابة من تلك الغابات المهجورة النائية التي تفنى الأمم وهي قائمة على سوقها بين الأرض والسماء.
على أنني ربما أعود فأقول: أليست الزهرة الناضرة أصدق رمز لحياة الأرض وخلودها، وأوجزها مثال لزوال الحياة وتجديدها؟