على معبد إيزيس
أبناء هذا الوادي أبناء أعياد وأفراح، سراع الوثوب إلى الطرب، خفاف النفوس إلى الجذل، بارقة السعادة تستطيرهم، وبشاشة العيش تسكر ألبابهم وتميد بأعطافهم، لا يحتاجون من الدنيا إلى كثير مسرة ولا يكلفونها العزيز من الرضا، ولا العظيم من الحبرة، وإنما حسبها أن تليح لهم بطرف السرور فيهرعوا إلى غايته القصوى، وكفاهم منها أن تنقر لهم على الدف فيخرقوا الطبل ويسبقوا النغم إلى نشوة الرقص، فعلى الدنيا الإذن والإباحة — لا زيادة — وعليهم هم بقية العرس كله!
وكنا كلما اقترب الموكب الضاحك من جيرة المعبد، بدا لنا منه منظر عجب، ها هنا شعب يطير حول السرور طيران الفراش حول النور، وها هنا معابد تسكن فيها حركات النفس وتركد فيها نسمات الحياة، وهذه المعابد نقيض ذلك الشعب وعلى خلاف سمته وسنته ومن واد غير واديه الذي يهيم فيه، فكيف مع هذا كانت معابده التي يذكر فيها ربه، ويعكس عليها ظل العالم في نظره، ويشكر لديها ما يلقاه من أمور دنياه وحظوظ حياته؟ أليس هذا من التناقض الحقيق بالعجب؟ أليس هذا الشعب المستبشر قد كان أولى بغير هذه المعابد الكاسفة الواجمة؟
أما التناقض فلا شك أنه ملحوظ لكل ناظر، ولكن في ظاهر الأمر لا في باطنه، فالحقيقة التي يهتدي إليها المتأمل أن هذه المعابد خُلقت لهذا الشعب، وأن هذه الجهامة لازمة لتلك الطلاقة، وأن الشعب الذي يملك حسه السرور ويسهل استخفافه للطرب وانتقاله إلى المجانة، ليس يصلح له معبد فيه أثر من الطرب والبهجة، وليس ينقله من عالم اللهو إلى العالم الإلهي منظر عليه مسحة من الطلاوة والبشاشة، فلا بد له إذن من جهامة تخيم حوله على كل شيء حتى يثوب إلى مقام الخشوع والضراعة، ولا بد أن ينسى كل ما يذكره بالهزل والخفة ساعة يغشى محراب العبادة، كالطفل اللعوب لا تعلمه أن يهابك ويتحامى التأديب منك باللعب معه والتطلق في كلامك له، وإنما يتعلم ذلك بالاحتجاز والجد أو بالقطوب والجفوة.
من مثل هذا جاءت الصرامة البادية على معابد المصريين، وتطرقت الشدة إلى شعائرهم الدينية، وبلغ من حاجتهم أو من رغبتهم فيما يذكر بالحزن ساعة الصفو والرغد أنهم كانوا إذا اجتمعوا في ولائمهم وظهر السرور على وجوههم وأخذوا في الرقص والمعاقرة وأمعنوا في القصف والمسامرة، خرج عليهم العبيد بصورة جثة محنطة في ناووسها فمروا بها بين الموائد وعرضوها على الضيوف والندماء؛ لينظروا إليها ويعتبروا بها ويذكروا مصير ما هم فيه من نعيم زائل ولذة عاجلة.
ولا يفوتنا أن نقول: إن المصري إذا سر فإنما يملك السرور حسه ولا يغمر نفسه، فهو لا يألف السرور الصامت القرير ولا يعرف إلا التهليل والابتهاج، أو السكون والخواء، فلا تسر نفسه وجسمه ساكن، ولا يسكن جسمه وأمامه محرك للسرور أو مذكر به، وكيف يطيق من كان هذا طبعه أن يجمع بين التعبد وشيء من بوادر الصفو وبشائر الحياة في أماكن عبادته ومناسك دينه؟ ثم إنك إن أردت أن ترد المصري إلى طبعه وترى حقيقة المناسبة بينه وبين معابده، فانظر إليه حين يفرغ من سروره الذي يستحوذ على حواسه ويستخف أعضاء جسمه، فإنك تراه واجمًا مقفر النفس بادي الظلمة هامد العاطفة، ويذكرك أول شيء بالمعبد المصري القديم الذي نستغربه ونعجب أن يكون محل صلاته وباب دنياه الآخرة، فإذا هو هو فيما يغيم على ظاهره من الكآبة والخوف، ويرين على باطنه من الظلام والتسليم.
ولنعلم أن المعبد المصري في العصور الأولى هو قرين المقبرة، وصنو الموت، ودهليز العالم الأخير، ثم لنعلم بعد أن الموت عند قدماء المصريين هو هجعة الحس إلى حين، وراحة الجسم إلى أجل، ثم تعود الروح إلى هذا الجسد الأول كما كانت قبل بعثها من عالم الأموات.
ومرادنا بذلك أن نقول: إن الجسد جزء من الإنسان لم يكن يستغني عنه في هذه الحياة ولا فيما بعدها، ولا يجوز أن يهمل في حالة من الحالات أبدًا، فما كانت تعرف للنفس حياة بغير هذا الجسد، ولا كان يفهم لها سكون أو حركة بغير سكون الجسد أو حركته، فإذا أرادوا أن يحملوا النفس على الخشوع والتطامن، فسبيلهم أن يتقدموا إلى ذلك باستئسار الحس وإحاطة الأعضاء بما يكف من نشاطها، ويغل من حراكها، وينسيها أبرأ مرخصات الحياة، وأبعد موحيات الطرب، وأن يدخلوا العابد المصلي في برزخ بين الحياة والموت، وجسر بين الدار والقبر، وما ذاك إلا الهيكل القديم كما بناه المصريون لأنفسهم، أو كما بنته لهم الطبيعة التي لا تخطئ لها هندسة، ولو بنت بأيدي الخاطئين.
•••
في جزيرة بيلاق نماذج شتى لهذه المعابد، بل هي كلها على هذا النموذج ما خلا استثناءً واحدًا غريبًا بين جميع آثار مصر، وهو «الجوسق»، أو سرير فرعون، أو معبد طراجان، الذي لم يتم بناؤه ولن يتم أبدًا.
هذا الجوسق مزيج من الفن الإغريقي والفن المصري، يغلب فيه الأول على الثاني، أو لعله يظهر كذلك لمن يراه؛ لأنه لم يزل ناقصًا من الوجهة المصرية، فلم تسور حوله الأسوار، ولم تنقش عليه النقوش، ولم يصبغ بصبغة من الدين تلحقه بطريقة المصريين، فقام في تلك الجزيرة الفريدة المعزولة فريدًا معزولًا قليل المجامل والمناجي بين أطلالها المخربة ومحاربيها المحجبة، يخيل إليك وأنت تنظر إليه أنه قد تنحى جانبًا من بينها ليخلو بنفسه، ويستبيح لقلبه المشوق ما لا يباح في شرع رفقته، وقد يجول في روعك وأنت تدنو منه وتدور حوله أنه كان ينتظر زيارتك ويكسر الجفن نحوك، وكأنما لقيت منه تحية التهليل جوابًا وصادفت عنده ارتياحًا، أما المعابد الأخرى فقد وقعت منها التحية على صخرة لا تلين ووقفت مشيحة لا تسخو بإشارة، ولا تحفل لك بمقدم!
يقول روبرت هايشنز في كتابه سحر مصر وهو يذكر الجوسق: «ما ذهبت إلى الجزيرة إلا بدر لخاطري اسم الشاعر شلي ولا أدري لم؟ فليس لدي من سبب خاص أجمع به بين شلي وبيلاق، ولكني كلما نظرت إلى تلك الملاحة النسيمية المفاضة على الصخر، وذلك الهندام الرشيق والجمال الشاحب الشجي الذي لا يخلو من رونق الربيع الندي ولمحاته النرجسية وسحره البهيج، وكلما لمحت تلك الطلاوة الإغريقية التي امتدت بها يد يونان الصناع من «أتيكا»» إلى النوبة ذكرت شلي، نعم ذكرت شلي الفتى الذي غاص في البركة الصافية وغاص ثم غاص حتى خيل إلى الواقفين بالشط أنه غاب مغيب الأبد عن شمس النهار، شلي الشاعر المفعم بسكرة النغم الذي كان هو نفسه مثالًا حيًّا لما تغنى به من الحنين المجهول إلى شيء وراء الأفق، بعيد من فلك الحزن.»
والذين عرفوا شلي من زوار هذه الجزيرة يعرفون صدق هذه المقارنة، ولا يستغربون المشابهة بين الشاعر الحالم وسرير فرعون!
•••
وخرجت من بيتي صبيحة ذلك اليوم في جو من ذكريات التاريخ، وقرأت ليلتها أوصافًا لما سأراه في كتابات المؤرخين من مختلف العصور، وانحدرت على درج الزمان من «سترابو» إلى كمال ولوتي وهايشنز، وكلهم — إلا واحدًا أو اثنين منهم — قد عبروا الباب وقطعوا المرحلة وحلوا بساحة الماضي التي حلت بها أعمال تلك الأطلال.
وخير ما يصنع الإنسان حين يعتزم الورود على بقايا عصر مضى، أن يستملي وصفها ممن شهدوها ثم زالوا عنها وخلفوا ما كتبوا فيها أثرًا بعد عين، فإنه حينئذ يرى الأثر مضاعفًا، ويستقطر منه روح القدم خالصًا، ويبني لنفسه إلى جانب ما يشهد بعينه أثرًا ثانيًا، بل آثارًا كثارًا، يقول: هذا بناء باق فأين اليوم بناته؟ ثم يثني فيقول: وهؤلاء واصفون شهدوه وعجبوا منه واستهولوا ما بينهم وبينه من القدم فأين هم الآن؟ فيدرك غور هذا القرار ويتقصى مسافة هذا العالم ويشتف صبابة العبرة منه، ويستمتع في لحظة بخير ما في هذا الموقف من عبرة غالية، وهو أن يعيش كما يعيش الخالدون في عدة أزمان.
•••
وصعدنا إلى قمة الحرم الذي كانت أرضه حرامًا على غير الكهان والخدم، صعدنا إلى القمة الناجية في وسط اللجة الطامية، ونظرنا إلى المكان الذي كنا نرى فيه الجزيرة ومعابدها، فإذا هو كله تحت الماء؛ تحت الماء حجر التلاوة ومحاريب الصلاة، تحت الماء معبد إيزيس، ومبعث أوزيريس، ومولد هوروس، ومجمع الأرباب الذي ضم ثمانية وأربعين إلهًا في صعيد واحد، تحت الماء ما أنجب الفن، ورفعت القدرة، وخلقت الروح، وأثل العلم، وصان الزمان من ميراث عهد بعيد، تحت الماء سرى مطوي ما كان بالعلن يوم أن كان فوق الماء، وتحت الماء صور شتى للنيل وهو يبسط يديه بالهدايا والأرزاق، غابت هذه أيضًا تحت الماء وحل النيل الحي في أماكنها، فاستغنى عن الصور والرموز …!
وأيقنا ونحن نقلب الطرف بين الماء والسماء أننا نشهد حشرجة إله غريق يلفظ الروح في غير عنف ولا وجل، فزاد المكان شجوًا على شجو، وكاد يطغى الحزن على الشمس الضاحكة والموج الراقص والهواء الممراح، فيدرجها كلها في كفن من الوجوم، ولكن الترجمان جزاه الله وسامحه أنقذ الناس وقام يصفق بيديه لأصحابه السائحين، فالتفوا إليه وتحلقوا حوله وأنصتوا إليه يصغون إلى قصته التي ألقاها في هذا المكان خمسين مرة أو ستين، وأعاد وكرر وأطال وأوجز وأصاب وأخطأ وأضحك وأبكى إلى أن قال بأبلغ ما يستطيع من الأسى: «وهذه خاتمة هذا التاريخ الطويل!»
وكان معي على قمة البرج شيخ نمسوي عرفته في الطريق فقال لي: «إنك مصري فلا شك يحزنك هذا الختام الأليم، ويعز عليك هذا المجد الآفل.»
قلت: لا شك ولكن ما الحيلة؟ وأشرت إلى الخزان الذي جنى هذه الجناية، ثم أردت أن أريه وجه التأسي الذي أراه، فقلت له مستضحكًا: أو ليس للنيل كل ما قرب المصريون من القرابين، وضحوا به من الضحايا؟ فهنيئًا إذًا للنيل، هنيئًا للنيل «السعيد!» هذا القربان الجديد.