الألم واللذة١
أما إن الألم موجود في هذه الدنيا فمما لا يختلف فيه اثنان، وأما إنه كثير فوق ما تقبل النفوس فمما لا يختلف فيه إلا القليل، وأما إنه نافع أو غير نافع ومقدم للحياة أو مثبط لها فذلك ما يختلف فيه الكثيرون.
ورأيي في هذا الخلاف أن الألم ضرورة من ضرورات الحياة وحسنة من حسناتها في بعض الأحيان، وحالة لا تتخيل الحياة الإنسانية بدونها على وجهٍ من الوجوه.
أما تفصيل هذا الرأي فهو أن الشعور بالنفس يستلزم الشعور بغير النفس، فهذه اﻟ «أنا» التي تقولها وتجمل فيها خصائص حياتك ومميزات وجودك، وتعرف بها نفسك مستقلًّا عما حولك منفردًا بإحساسك، هي نصيبك من الحياة الذي لا نصيب لك غيره؛ وهي تلك «الذات» التي لا تشعر بها إلا إذا شعرت بشيءٍ مخالف لها في هذا العالم الذي يحيط بها، فأنت لا تكون شيئًا له حياة ولذات وآلام ومحاب ومكاره، إلا إذا كانت في هذه العالم أشياء أخرى غيرك، ولا تكون هذه الأشياء الأخرى معك إلا إذا كان منها ما يلائمك وما لا يلائمك، أو ما يسرك وما يؤلمك.
فإن أردت حياة لا ألم فيها، فأنت تريد إحدى حياتين؛ فإما أن تكون وحدك في هذا الوجود، وهذه حياة لا يتخيل العقل كيف تكون ولو تخيلها لما أطاق احتمالها، وكيف ونحن نرى أن الأديان الكبرى كلها تعلمنا أن الله خلق الخلق ليعرفه غيره بعد أن كان ولا شيء سواه؟ فإذا كانت النفس البشرية لا تقوى على أن تتصور إلهًا منفردًا بالوجود، فكيف تراها تطيق الحياة وحدها أو تعتد هذه الحياة المتوحدة غايتها وأمنيتها من السعادة والخلو من الألم؟
وإما أن يكون معك في الوجود غيرك على أن لا تحس به، أو على أن لا يصدمك من هذه الأشياء صادم، ولا يقابلك منها ما ترى أن بينه وبين حياتك اختلافًا وفرقًا، وهذه هي أشبه الحالات «بالنيرفانا» البوذية، أو هي الموت بذاته في صورة غير صورته المعهودة.
ولست أفترض لهاتين الحياتين حياة ثالثة إلا أن يتمنى المتمني أن تسره الأشياء الأخرى التي تصادمه في هذا الوجود، فلا يكون إلا مبتهجًا بها راضيًا عن جميع حالاتها، وهذا كالجمع بين المتناقضات؛ لأن من سره قرب شيء، ساءه البعد عنه، ومن أرضاه أن يدرك أملًا، أغضبه أن يحرمه، فإما حياة متشابهة من جميع الجوانب، فيستوي من جميع الجوانب فيها الخير والشر والحسن والقبيح، بل لا يكون فيها خير ولا شر ولا حسن ولا قبيح، بل لا يكون فيها شيء تتمناه لأنك لا تحرم فيها شيئًا، فكيف تكون هذه الحياة هي رضى النفس وأمنيتها التي نتمناها؟ وإما حياة تختلف جوانبها ففيها النقيض ونقيضه وفيها حينئذ ما يسر وما يسوء وما يلذ وما يؤلم.
وخلاصة هذه الفروض أن النازل عن الألم نازل عن ذاته أو حياته في هذا العالم، وأن العقل الإنساني لن يستطيع أن يتخيل حياة مبرأة من الآلام وإن كان يتمناها أحيانًا.
على أننا ندع ما نتخيله وننظر فيما نحن فيه، ننظر في هذا العالم المشهود الذي قُضي علينا أن نعيش بين ظواهره، فهل يوافقنا أن يخلو من الألم، وأن نتجرد نحن من كل ما للألم فضل فيه علينا وأثر باقٍ في حياتنا؟ وهل تعجبنا الحياة التي لا برد فيها ولا حر، ولا جوع ولا مرض، ولا خوف ولا رغبة؟ أيعجبنا أن نخسر كل ما ربحناه من هذه العوارض التي تؤلمنا أحيانًا، فتقسرنا قسرًا على تغيير ما نحن فيه؟ أقول: لو أن الله شاء أن يعاقبنا على هذا التمرد منا على ألم الحياة، فسلبنا كل ما جنيناه من خيره لردنا إلى عالم الذر من حيث أتينا، ولعاد بنا خشاشًا من هوام الأرض لا نشتهي ولا نألم ولا نتمنى ولا نتوهم، بل لا إخالنا نقف هنالك ولا محيص لنا من الهبوط إلى ما دون ذلك، فإن أصغر الحشرات وأخسها أرفع من أن تعيش بغير حظٍ من الألم على قدر ما تتقي ما يضرها، وتطلب ما يصلح لها، وتتحول من مكانٍ إلى مكان كلما ضاق بها موطنها، ولو أنها عوفيت من نذير الألم، لظلت حيث هي حتى تهلك فلا يطول انتظارها للهلاك الراصد لها من كل صوب.
ولو أننا رفعنا خوف الألم يومًا واحدًا من نفوس الأحياء، لبادوا جميعًا في ذلك اليوم الواحد، ذلك أن أحدًا منهم لا يبالي أن يختبط بجدارٍ أو يسقط من علٍ أو يغرق في نهر أو يلقي بنفسه في المهالك التي فيها تلفه، وهو لا يتحرك في غيبوبة الألم حركة إلا كان مشفيًا على تلف أو واقعًا فيه، فنحن إنما نحفظ حياتنا الحاضرة بذخيرة من الآلام السابقة التي عاناها أسلافنا وتعلموا منها ما تعلموا من حيطة ومقدرة، ولا نكاد نضيف شيئًا جديدًا على ما ادخروا من كنوز الحياة حتى نسلك إليه من سراديب الألم وأنفاقه المظلمة، ولولا أنني أعلم أن الحياة نفسها أكبر من الألم وأنكر أنه كل شيء فيها لقلت: إن الحياة هي قابلية الألم، وإننا كلما ازداد نصيبنا من الحياة ازداد معه قسطنا من الآلام.
وليس معنى هذا بالبداهة أنني أمنع الشكوى على المتألمين، فإن الألم الذي لا يشكي صاحبه لا فائدة فيه؛ ولا أنني آبى العطف عليهم، فإن النفس التي تتسع للآلام تتسع للعطف عليها؛ ولكنما أعني أن أجعل الحياة أكبر من ألمها، وأن أقول: إن الحياة التي نألم في سبيلها جديرة أن تكون شيئًا عظيمًا، لا أن أعكس الأمر كما يعكسه بعض الساخطين المتذمرين فأقول: إنها لحقيرة لأننا نألم في سبيلها.
وأزيد على ذلك أن صبر النفوس على ما في الحياة من ألم دليل على ما في الحياة من خير، وأن فداحة الثمن الذي نبذله في شيء دليل على مبلغه من الغلو والنفاسة، فأعظم الناس صبرًا على ألم الحياة أعظمهم اغتباطًا بسرور الحياة، وهو أفخرهم نفسًا؛ لأنه أوفاهم لنفسه ثمنًا وأجلهم لها قدرًا.
وأكاد أقول: إن الألم هو امتناع السرور، لا أن السرور هو امتناع الألم كما قد يرى بعض الباحثين، وهذا ما قصدت الوصول إليه.
•••
كنا في مجلس الآنسة «مي» الأسبوع الماضي، وكان هناك الأستاذ الفاضل فخر العراق السيد جميل صدقي الزهاوي، فاستطرد الكلام إلى آلام الحياة ومسراتها، واختلفت الآراء فقال الأستاذ الزهاوي: لا سرور في الحياة ولا لذة، وإنما اللذة عدم الألم.
قلت: هذا كقولنا إن الحياة عدم الموت، والأولى أن تعكس القضية فيقال: إن الموت عدم الحياة.
قال: ولمَ نقرن اللذة بالحياة ونجعل لهذه حكم تلك في القياس؟
قلت: إن الحياة قوة إيجابية لا قوة سلبية، وكذلك الشعور بما يوافقها هو قوة إيجابية من نوعها وليس امتناع قوة أو عدمها.
وطالبني بمثال فذكرت مثال الجوع والشبع ولذة الطعام، فقلت: إننا لا نشبع من قلة الجوع، بل نجوع من قلة الشبع، فالجوع مؤلم؛ لأنه شعور بالخلو من الغذاء، وامتلاء المعدة يدفع هذا الألم، ولذة الطعام زيادة لا دخل لها في الخلو والامتلاء؛ لأنها مع اختلافها تؤدي إلى نتيجة واحدة من الشبع وسد الحاجة.
قال الأستاذ: بل أنت إنما تلتذ الطعام الذي يشعر جسمك بالحاجة إليه، فهذه اللذة هي ارتياح الجسم لدفع تلك الحاجة عنه.
وهذا تفسير يراه الأستاذ وجيهًا، وأراه لا يخرج عن القول بأن الألم ينافي اللذة أو هما على الأقل درجتان متباعدتان من درجات الشعور، فالألم غير اللذة واللذة غير الألم، فإذا وجدت اللذة فلا ألم معها من نوعها وإذا وُجد الألم فلا لذة معه من نوعه، هذا مفهوم ولكن لا يفهم منه أن امتناع الألم هو الذي أوجد اللذة كما لا يقال: إن اختفاء الليل هو الذي أطلع النهار؛ وإن كان يصح العكس في الحالتين.
والحق أنه ليس أغرب من القول بأننا لا نشعر بغير الألم، وأننا إذا خلونا من الألم شعرنا بالسرور ثم لا وسط بين النهايتين.
فهل يمكن أن تكون الحياة قوة دافعة للألم من غير أن تكون هذه القوة الدافعة قادرة على جلب شيء يوافقها غير الذي تدفعه مما لا يوافقها؟ وهي يتأتى الدفع من شعورٍ سلبي بحت مجرد من كل إيجاب؟ وماذا يرى الأستاذ الزهاوي لو قال له قائل: إن النبوغ مثلًا هو عدم النكسة، وإن الجمال هو عدم القبح، وإن القوة هي عدم المرض، وإن الزيادة هي عدم النقصان، وإن البناء هو عدم الهدم، وهكذا وهكذا مما هو من قبيل القول بأن اللذة هي عدم الألم؟ أليست النتيجة واحدة؛ وهي أن الحياة لا تصنع شيئًا سوى أنها تنفي ما لا يلائمها، ثم لا تخطو وراء ذلك خطوة ولا تعمل عملًا.
ولقد علمت من رأي الأستاذ أنه نشوئي؛ أي أنه يؤمن بترقي الحياة، وأنها تجلب في كل دورٍ من أدوارها زيادةً عليها لم تكن لها من قبل في أدوارها الخالية؛ فأما وهذا اعتقاده فلقد كان من الحق عليه أن يؤمن بأن الحياة تطلب شيئًا غير دفع الألم عنها، وأنها خليقة أن تسر ببلوغ ما تطلبه سرورها بدفع ما تتأذى به، بل إنها لأخلق أن تسر ببلوغ الكمال أضعاف سرورها باتقاء النقص واجتناب الضرر والأذى.
ولست أجهل حق الأستاذ فيما رأى، ولكني أقول: إن في الحياة ألمًا كبيرًا، وإن سرور الحياة أكبر من ألمها، ولكن الحياة نفسها أكبر من كل ما فيها من الألم والسرور.