مدينة فاضلة أو مستشفى مجاذيب؟١
قال لي زميلي وقد أقبل على صحيفة فرنسية يقلبها: هذا حظٌّ جميل ساقه الله إلى أدباء فرنسا.
قلت: ما هو؟
قال: إن اللجنة التي تألفت هناك لتعمير المدن المخربة قد خطر لها أن تبني من بينهن مدينة في ضاحية من ضواحي باريس تقفها على المفكرين والمشتغلين بالمباحث العقلية، فلا تؤجر بيوتها لغيرهم، ولا تزيد أجرة البيت فيها على ألفي فرنك في العام، وستحجب عنها الآلات والمصانع التي تزعج ساكنيها وتكدر عليهم صفوها، وستطلق على المدينة اسم سارة برنار تكريمًا للممثلة الكبيرة وتخليدًا لذكرها.
قلت: ويحهم! أرادوا أن يجعلوا في فرنسا مدينة فاضلة كالتي ابتدعها أفلاطون في خياله، فإذا هم يجعلون فيها مستشفى مجاذيب!
قال: كيف؟ قلت: نعم! إن هذه المدينة ستجمع ما تشعب في فجاج الأرض كلها من مناحي الفكر ومذاهب النظر، وسيكون فيها صاحب الرأي ونقيضه الذي يفنده، فيتجاور فيها المحافظ والمجدد، والمؤمن والملحد، والفوضوي والحكومي، والمالي والاشتراكي، والراضي والساخط، والمتعجل والمتأني، ومن يدعو إلى الواقع، ومن يدعو إلى الخيال، ومن يشغف بالآداب ومن يمقتها ويزدريها، ويتلاقى فيها أنصار الفضيلة وأنصار الخلاعة، والموصون بالرحمة والحاضون على القوة، وسيكون هنالك من كل طائفة من هذه الطوائف شيع تتقابل في العناوين والأسماء، وتفترق في المضامين والآراء، فمن الاشتراكيين مثلًا أصدقاء وأعداء، ومن الحكوميين ملكيون وجمهوريون، ومن المؤمنين كتابيون وإلهيون؛ وهكذا من كل حزبٍ ونحلة تخطر على البال وتمر بالحدس، فإذا انطلقت كل هذه الخلافات كلامًا وأصواتًا وخرجت من الأفواه صياحًا وجدالًا، وقارنا ما يقارن الأدباء والمفكرين في غالب الأحيان من غريب الأطوار والعادات وعجيب الأوهام والخيالات، وما يملأ نفوسهم من الغرور تارة، ومن الشك تارةً أخرى، فأي بيمارستان، أي بيمارستان مفعم بالجنون إفعامًا يعلو على مدينة هؤلاء العقلاء في علو الضجة واختلاط اللهجة واضطراب الأفكار وتبلبل الألسنة وسائر ما هنالك من مقلقات الأعصاب ومنغصات الحياة؟ وماذا في بابل الكبيرة نفسها من هذه البابل الصغيرة التي لا يفهم فيها أحد أحدًا، وأهلها جميعًا متصدون للتفهيم والتعليم؟
ثم هبهم سكتوا وانصرف كلٌّ منهم إلى شأنه، ألست ترى في سكان هذه المدينة خلقًا غريبًا شاذًّا لا ترى مثله في غير المدن التي اختصت بإخوانهم المجانين؟
وفيما نحن نتحدث بهذا؛ إذ أقبل علينا أديب من أدباء العربية المشهورين يستأنف علاقة درج عليها الزمن أعوامًا ثلاثة، ويعتب عليَّ في نقد وجهتُه إليه ويقول: إنه يصافحني مصافحة المصارع للمصارع بعد المحاجزة؛ ويمزح متظرفًا فيقول: إن الأدب يتسع لي ولك، وأنا ملكٌ وأنت ملك، ولكن أليس في مملكة الأدب غير قصر عابدين؟ هنالك القبة والبستان والمنتزه ورأس التين و… و…
فضحكنا؛ وتجاوزت له عن قصور هذه المملكة كلها؛ لأنها خاويةٌ على عروشها؛ ثم استطرد العتب إلى البحث واستطرد البحث إلى الأدب وأساليب الكتابة فقال الأديب: إن البلاغة في الأقدمين سليقة موروثة لا تُكتسب بالممارسة ولا تُدرس في الكتب.
قلت: إن الذي تُسميه أنت سليقة إن هو إلا العادة التي تسربت إليك من الإدمان، ولو أنك تعودت أن تقرأ أسقم كلام وأسخفه لقل استهجانك إياه قراءةً بعد قراءة حتى تصبر عليه ثم تألفه ثم تستحسنه ثم تعجب به؛ فإذا هو أنموذج من نماذج البلاغة يُعاب غيره ويتعصب له المتعصبون، ثم سألته: أتظن أن الجاحظ كان يكتب بأسلوب في العربية أبلغ في جملته مما يكتب به اليوم الصحفيون المثقفون.
فاستضحك طويلًا ونظر إليَّ مستغربًا وسألني مستحلفًا: أهذا ظنك؟
قلت: بل هذا يقيني، وهممت أن أقول له: إن الجاحظ لم يلق من إعجاب الناس في أول أمره ما كان يلقاه بعد ذلك، وإنه كان يموه كتاباته على قراء عصره فينسبها إلى غيره لتحظى عندهم وتقع من وهمهم موقع القبول، فأين كان الذوق الذي يذوقون به البلاغة العربية قبل أن يُعرف للرجل قدره ويشتهر أمره؟
هممت بأن أذكره ذلك، ولكنه تعجل وعاد بي إلى السليقة فقال: ليكن في الجاحظ ما فيه فحسبه أنه صاحب سليقة، وهذا أصل إحسانه وسر إعجاب المعجبين به.
قلت: فمن أين أتى ابن المقفع بالبلاغة وهو أعجمي ولا عرق له في العربية؟
قال: إنه نقلها عن الرواة، ولساعةٍ واحدة من تلقين الرواة أبرك من عمرٍ ينقضي في المطالعة والحفظ.
قلت: وأين هي كتابات أولئك الرواة؟ وكيف أهملهم الناس وذكروا ابن المقفع وهم أساتذته الذين أخذ عنهم البلاغة وتعلم منهم الكتابة!
فتململ قليلًا وقال: هذا هو موضع الخلاف بيننا وما أرانا نتفق، وسأكتب وسأشرح وسأفصل إلى آخر ما قال.
وكان المصغي إلى حديثنا هذا كأنما يصغي إلى متكلم في التلفون (أو في المسرة لئلا يعتب علي الأديب مرةً أخرى)؛ إذ كان محادثي ممن أراحهم الله من همس الناس، فلا يسمعون إلا كلامًا عاليًا أو مكتوبًا، فكان يخاطبني متكلمًا وأرد عليه كاتبًا، وكان لصوته زحير وصرير كأنما يخلص إليك من بابٍ أكله الصدأ فلم يطرب له من في الحجرة! ولا إخاله ينكر ذلك عليهم أو يأسى على قلة حظه من الصوت الحسن الذي قيل: إنه زيادة الخلق التي جاء ذكرها في الآية: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ.
فلما استأذن مودعًا نظر إليَّ الزميل نظرةً فهمت مراده منها، فقلت: وهذان اثنان فقط وأنت تسمع أحدهما ولا تسمع الآخر، فكيف لو سمعت الاثنين؟ ثم كيف لو سمعت كل اثنين يتحاوران هذا الحوار في مدينة سارة برنار؟
لا غرو أن العقول أعظم الآلات لجبًا وصليلًا إذا عملت، وهل للآلات لجب أو صليل من غير صنع العقول.