توت عنخ آمون ورحلة الصحراء١
شيئان من مفاخر المصريين عرفهما لنا الغربيون ابتداءً، ثم عرفناهما نحن على السماع والمجاراة تقليدًا، وهما قبر «توت عنخ آمون، ورحلة الصحراء.»
أما قبر «توت عنخ آمون» فماذا فيه؟ جثة محنطة وقليل من التحف المذهبة التي أغلاها القدم والندرة، ثم ماذا؟ ثم إنه شهادة بعراقة النسب وعلو المحتد نتخايل بها بين الأمم، كما يتخايل النبيل المفلس بما بقي له من الألقاب الخاوية والسمعة الهاوية، ثم ماذا؟ ثم لا شيء.
ولكننا لما سمعنا صدى هذا القبر في آفاق العالم البعيدة؛ ورأينا اقتتال الصحف على أخباره، واستباق السائحين إلى زيارته، واشتغال العلماء والمنقبين بكل دقيقة وجليلة من ودائعه، خطر لنا أن هناك شيئًا في القبر غير النشب وغير النسب، فقد علمنا أن ليس في النية تفريق هذا التراث النفيس بين المشغولين بأخباره والمتلهفين على استجلاء أسراره، وأن ليس في فخره وعراقة تاريخه نصيب للسلالة الأوروبية ولا الأمريكية، فهم إذا لهجوا بذكره هذا اللهج وأقبلوا على زيارته هذا الإقبال، فلأمرٍ ما يفعلون ذلك، لأمرٍ غير حب المال والاعتداد بالآباء والأجداد يبذلون المال ويفارقون أرض الآباء والأجداد، فماذا عسى أن يكون ذلك الأمر؟ شيء مما يُعنَى به العقلاء بلا ريب، ولكن هل نُصدق أن هذا الشيء الذي يُعنَى به عقلاء القوم هو مجرد ما يسمونه حب الاستطلاع، أو هو الفضول إن أردنا أن نسميه أقبح أسمائه، ونعزي أنفسنا عن قلة نصيبنا من متعته!
نعم هو حب الاستطلاع لا أكثر ولا أقل، هو حب الاستطلاع أو هو حب الحياة إن أردنا أن نسميه أحسن أسمائه، أو أردنا أن نكتفي باسمه الحق الصحيح.
فإن من يحيا يحب أن يعيش في كل صورة من صور الحياة، ويشتهي أن يبسط ظله على كل موجود، ويمد شعوره إلى كل مكان، ويتخلل بنفسه كل نفس، وينفذ بسريرته إلى كل زاوية من زوايا هذا الكون، ويجعل لحياته مساحة واحدة هي مساحة هذا العالم الذي لا حد له ولا نهاية لأشكاله وأزمانه، من يحيا يعز عليه أن لا يجد سوقًا ينفق فيها حياته، كما يعز على الغني الذي لا يجد متاعًا يشتريه بماله؛ إذ ماذا يصنع الحي بالحياة؟ يحس كل يومٍ جديد إحساسًا جديدًا، وماذا يصنع الغني بالمال؟ ينفقه في الشراء والعطاء، فمن لم يجد ما يحسه، فليس بحي وإن طال عمره، ومن لم يجد ما يشتريه، ومن يعطيه فليس بموسر وإن غصت خزائنه، وإنما هما فقيران مصفران هذا من ذات اليد وذاك من ذات النفس، ولا فقر أدقع من فقر ذلك الحي الذي يُعطى من الحياة ما يكفيه سبعين سنة، فيأخذ منها يومًا واحدًا لا يزال يكرره ويبليه، ثم يلقي البقية في التراب قبل أن يلقيه فيه المشيعون.
إن الذين حجوا إلى قبر «توت» إنما جاءوا إليه يبتغون حياة لا حطامًا ولا عظامًا، إنما جاءوا يصلون عصرًا بعصر وعالمًا بعالم، ويستعمرون ثلاثة آلاف من الأعوام بما عندهم من زحام الشعور وجماهير الخواطر وجحافل الأحلام، إنما جاءوا ينشدون جديدًا حيًّا لا قديمًا رثًّا من دفائن القبور وبقايا الفناء.
•••
نعم ربما جنت التجارة فوائدها من تلك الرحلة، وربما زجت السياسة فيها مآربها، ولكن ما لعلماء المجامع ورواد الأندية وقراء الصحف وفوائد التجارة ومآرب السياسة؟ فليسلك التجار أي سبيل أرادوا، ولينصب الساسة فخاخهم في أي بقعةٍ شاءوا، فإن الذين أعجبتهم رحلة الصحراء لا يعنيهم ما يربح التجار وما يدبر الساسة، ولا يصغون إلى رواياتها وتجاريبها لغرضٍ من الأغراض، غير أنهم أرادوا أن يشعروا كما شعر صاحبها، ويختبروا في نفوسهم ما قد اختبره في نفسه، ويجعلوا الصحراء ملكًا من أملاك حياتهم الغنية، وجزءًا عامرًا من أجزاء خيالهم الرغيب.
لقيني قارئ من قراء الصحف غداة وردت الأنباء بتكريم الرحالة المصري فسألني مستخفًّا: لماذا هذه الرحلات المضنية في غير جدوى؟ فلم أدرِ كيف أجيبه ولم أشأ الإطالة عليه فقلت له: ولماذا القعود في الدور والجثوم في المراقد؟ إن الأصل في الحياة هو الرحلة والسياحة وما الحياة نفسها إلا سفرة في هذا الوجود، وانتقال من مكانٍ إلى مكان، ومن زمانٍ إلى زمان، فاسأل القاعدين ما بالهم لا يرحلون ولا تسأل الراحلين ما بالهم لا يقعدون!