الشعر ومزاياه١
ليس الشعر لغوًا تهذي به القرائح فتتلقاه العقول في ساع كلالها وفتورها، فلو أنه كان كذلك لما كان له هذا الشأن في حياة الناس.
إنما الشعر حقيقة الحقائق ولب اللباب والجوهر الصميم من كل ما له ظاهر في متناول الحواس والعقول، وهو ترجمان النفس والناقل الأمين عن لسانها، فإن كانت النفس تكذب فيما تحس به أو تداجي بينها وبين ضميرها، فالشعر كاذب، وكل شيء في هذا الوجود كاذب، والدنيا كلها رياء ولا موضع للحقيقة في شيءٍ من الأشياء.
وقد يخالف الشعر الحقيقة في صورته، ولكن الحر الأصيل منه لا يتعداها ولا تخالف روحه روحها؛ لأنه لا حقيقة للإنسان إلا بما ثبت في النفس واحتواه الحس، والشعر إذا عبر عن الوجدان لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يُوحى.
أما هذه الاستعارات والتشبيهات، فهي أشياء تختلف عن الواقع في ظاهرها، ولكنها في كنهها واحدة لا خلاف بينها.
فليس الجميل قمرًا، ولا الزئير رعدًا، ولا الكريم غمامًا، وليست الشمس منكدرة لغياب الحبيب، ولا الليل منجابًا لحضوره؛ ولكننا إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن الغبطة بالصورة الحسناء كالغبطة بالليلة القمراء، وأن الرهبة من زمجرة الأسود في غابها كالرهبة من جلجلة الرعود في سحابها، وأن تجدد الروض بعد انهمال المطر، كتجدد الأمل بعد بلوغ الوطر، وأن الشمس إن كانت تشرق بعد نأي الحبيب، فكأنها لا تُشرق؛ لأن عين المحب لا تنظر إلى ما يجلوه نورها، وأن الليل إذا عسعس فما هو بساتر عن عين المحب منظرًا يشتاق رؤيته بعد أن يمتعه بوجه حبيبه، فإنما هو من الدنيا حسبه، وهو الضياء الذي يبصر به قلبه.
فهذه معانٍ مترادفة في لغة النفس، وإن اختلف نطقها في الشفاه؛ إذ إنه لا محل في معجم النفوس إلا للمعاني، فأما الألفاظ فهي رموز بين الألسنة والآذان، وهل تبصر العين أو تسمع الأذن إلا بالنفس؟ وهل تبلغ الحواس خبرًا إذا كانت النفس ساهية والمدارك غير واعية؟
والشعر بهذه المثابة باب كبير من أبواب السعادة؛ لأنه ما من شيءٍ في هذه الدنيا يسر لذاته أو يحزن لذاته، وإنما تسر الأشياء أو تحزن بما تكسوها الخواطر من الهيئات وتعيرها الأذهان من الصور، فالشيء الواحد قد يكون مدعاةً للبهجة والرضا في بعض الأوقات، ثم يكون في غير ذلك الوقت مجلبةً للأسف والأسى وطريقًا إلى الشجن والجوى، والشعر وحده كفيل بأن يبدي لنا الأشياء في الصورة التي ترضاها خواطرنا، وتأنس بها أرواحنا؛ لأنه هو ناسج الصور وخالع الأجسام على المعاني النفسية وهو سلطان متربع في عرش النفس يخلع الحلل على كل سانحة تمثل بين يديه، ويغض الطرف عن كل ما لا يحب النظر إليه.
والشعر أيضًا مسلاة لمن شاء السلوى، وصدى تسمعه النفس في وحشة الوحدة، فتطمئن إليه كما يطمئن الصبي التائه إلى النداء في الوادي ليأنس برجع صوته أو يسمع من عساه يقبل لنجدته.
فقد سبقت مشيئة الفطرة بأن يعيش أبناء آدم جماهير وأممًا مجتمعة، وأن يكون منهم نوع له غرائز كامنة في طبائع أفراده يقتضيها بقاؤه ودوامه، فكان من دواعي ذلك أن يجبل أبناؤه على الألفة ويذرءوا على التعاطف وأسباب الاجتماع، وأصبح العطف عماد الحياة الإنسانية لا يهنأ امرؤ بأن ينعم منفردًا ولا يطيق أن يبتئس وحده، فما كان المعري يمدح نفسه حين قال:
ولكنه قال قولًا يصدق في شرار الناس كما يصدق في خيارهم، فلا فخر فيه لإنسانٍ على إنسان.
وأحسب لو أن الناس كلهم كانوا فجرة خسرة، وكان لا يجوز منهم إلى فردوس الأبرار إلا رجلٌ واحد، لكان هذا الرجل التقي أشد عذابًا بتقواه، وأسوأ جزاء من كل جناة الجحيم وعصاته، ولو تمثلت ذلك الرجل في الجنة لرأيته يطوف في أرجائها حائرًا ثائرًا حتى تبلى قدماه، ثم ينظر إلى ما حوله نظرة الكاره الزاهد فيطرح بنفسه في الكوثر هربًا من هذا النعيم الأعجم، أو يصيح بهم ليحملوه إلى جهنم، فيصلى النار فيها وهو واجد من يقول له: إن عذاب النار أليم خير من أن يبقى في نعيمٍ مقيم لا يرى فيه من يقول له ما أرغد هذا النعيم!
ويقيني أنه لو نزع الحسد من الناس يومًا ما لاشتراه أولو النعمة وفرقوه على الناس مجانًا ليحسدوهم على ما بهم من نعمة، فإن السعادة أنثى لا يكمل سرورها حتى تستجلي مثالها في المرآة، سواء أكان رافع تلك المرآة لها شانئًا حسودًا أم صديقًا مخلصًا، ومن أجل ذلك يرتاح العاشق إلى من يناجيه بأسرار حبيبه ونكايات عذوله، ويحيط الغني مجلسه بحاشية ينفق عليها لتقول له: إنه رب عيشةٍ راضية وهناءةٍ محسودة.
ولا تصدق أن أحدًا يبلغ به احتقار الناس ألا يبالي بهم قاطبةً، ولكنه ربما احتقر جيلًا منهم وهو ينتظر النصفة من جيل سواه أو يهزأ بالفئة التي يعاشرها ويعتقد أن هناك فئة لو لقيته ولقيها لأرضته وأرضاها، وإلا فلو أنه احتقر ما مضى من الناس وما سيجيء منهم، لما كلف نفسه مشقة أن يقول ذلك بلسانه.
كذلك خلق الإنسان عضوًا من جسمٍ تدب حياته في عروقه، فلا سبيل له إلى الانفصال عنه والتخلي عن عاطفته النوعية ما دام داخلًا في اسم الجنس الذي يشمل الإنسان بأجمعه.
فإذا كان هذا شأن التعاطف، فاعلم أن الشعر شيء لا غنى عنه، وأنه باقٍ ما بقيت الحياة وإن تغيرت أساليبه، وتناسخت أوزانه وأعاريضه؛ لأنه موجود حيثما وجدت العاطفة الإنسانية ووجدت الحاجة إلى التعبير عنها في نسقٍ جميل وأسلوبٍ بليغ، وإذا كان الناس في عهدٍ من عهودهم الماضية في حاجةٍ إلى الشعر، فهم الآن أحوج ما يكونون إليه بعد أن باتت النفوس خواء من جلال العقائد وجمالها، وخلا الجانب الذي كانت تعمره من القلوب، فلا بد أن يخلفها عليه خلف من خيالات الشعر وأحلام العواطف، وإلا كسر اليأس القلوب وحطمتها رجة الشك واضطراب الحيرة.
هذا، ولو أن ما ألمعنا إليه من تعاطف الأرواح وتآلف المشارب كان أول ما يستفاد من الشعر وآخره، لما كان الشعر جديرًا بالعناية من عصر المادة الذي نحن فيه، إلا أن ثمرة الشعر على ما بها من النعومة والجزالة، وما لها من ذكاء المشم وحلاوة الطعم، قد تشبع المعدة وتملأ الفم، وليس في وسعنا أن نحصي فوائده المادية إحصاءً يلمسه العيان، ولكن لو أمكننا أن نتتبع كل حركة إلى مصدرها الأول من النفس، لما عسر علينا حساب فضله بالدرهم والدينار، وإحصاء قواه المعنوية بما تحصى به قوتا الكهرباء والبخار.
فمما لا مشاحة فيه أن النهضات القومية التي تشحذ العزائم وتحدوها في نهج النماء والثراء لا تطلع على الأمم إلا على أعقاب النهضات الأدبية التي يتيقظ فيها الشعور، وتتحرك العواطف، وتعتلج نوايا النفوس ومنازعها، وفي هذه الفترة ينبغ أعاظم الشعراء وتظهر أنفس مبتكرات الأدب، فيكون الشعر كالناقوس المنبه للأمم والحادي الذي يأخذ بزمام ركبها.
فهذه إنكلترا مثلًا نهضت في تاريخها نهضتين بلغت في كلتيهما أسمى ما تحلم به أمة من العظمة والمجد، فكانت أولاهما في القرن السابع عشر؛ أي عقب ازدهار الأدب الإنكليزي في عهد شكسبير؛ وهو العهد الذي تحركت فيه عوامل الحياة في الأمة الإنكليزية ووضع فيه أساس إنكلترا الجديدة، وها هي الآن في إبان نهضتها الثانية تقبض على صولجان الدنيا بعد نهضة أدبية كبرى ظهرت في أثنائها أكبر الأسماء المعروفة في الأدب الإنكليزي؛ أعني بهم أمثال شلي، وبيرون، وسكوت، وكيتس، ووردزورث، وكولردج، وسوذي، وماكولي، وغيرهم ممن لم يقرضوا الشعر ولكنهم كتبوا في النقد والأدب.
وهذا شبيه بما حدث في فرنسا؛ إذ كانت جمهوريتها من بعض الوجوه نفحة من نفحات تلك النهضة الأدبية التي كان يشرف عليها لويس الرابع عشر عاهل الاستبداد وعنوان الملكية المطلقة، فمن حقق تاريخ القرن الثامن عشر في فرنسا ولم ير في ثورته يدًا لكورنيل، وراسين، وموليير، وبوالو، وشينيه، وغيرهم وغيرهم، فهو قاصر النظر، ومثله في ذلك كمثل من تقول له: إن المد والجزر من فعل القمر، فيعجب لذلك ويقول لك أين السماء من الماء.
ثم تتابعت بعد ذلك ثورات كان يقوم على رأس كل ثورة منها رجال من أهل الخيال الذين يظن بعض كُتاب التاريخ أنهم أبعد الناس عن التأثير في عالم الجد، وما يظنون هذا الظن إلا لجهلهم أن الأمم إنما تدأب في حياتها بين عاملي الحاجة والأمل، فإن كانت المادة تسيطر على جانب الحاجة من نفوسها، فالخيال هو صاحب السلطان الفرد على حيز الأمل، وهو أشد العاملين حثًّا وأعذبهما نداءً.
وجاء بسمارك في ألمانيا، فأتم تأليف وحدتها بعد أن شاعت في ولايتها مصنفات ليسنغ، وهردر، وجيتي، وشيلر، وهيني، ورفقائهم، فكان الألمانيون أمة ذات أدبٍ واحد قبل أن يكونوا أمة ذات دستورٍ واحد.
وأقرب من ذلك شاهدًا إلينا الدولتان الأموية والعباسية، بل أقرب منهما هذا الذي نشاهده من إقبال ناشئة مصر على الأدب واشتغالها بصوغ الشعر وحفظه؛ فإنه ولا شك عنوان النهضة المرجوة لمصر ودليل على تفتق الأذهان وسريان النبض في مراكز الشعور، وفي الأمة نفر ممن يتعاطون صناعة الطب الاجتماعي يزعمون أن البلد في غنى عن الأدب، لا يحتاج إلى غير مباحث الاقتصاد وما شاكلها من منتجات الثروة التي هي قوت الأمة وقوام حياتها، وهو قول كما يرى القارئ حديث في الطب يقضي بأن لا يجوز الكلام مع الممعود في غير الأطعمة الدسمة، والكينا، وسلفات الصودا! ولا غرابة فالطب تجارب!
على أن كثرة الكلام في المال ليست هي التي توجد المال متى كانت الهمم راكدة، والنفوس باردة، والعواطف منكوسة خامدة.
•••
فالشعر لا تنحصر مزيته في الفكاهة العاجلة والترفيه عن الخواطر — لا بل ولا في تهذيب الأخلاق وتلطيف الإحساسات — ولكنه يعين الأمة أيضًا في حياتها المادية والسياسية وإن لم ترد فيه كلمة عن الاقتصاد والاجتماع، فإنما هو كيف كانت موضوعاته وأبوابه مظهر من مظاهر الشعور النفساني، ولن تذهب حركة في النفس بغير أثرٍ ظاهر في العالم الخارجي.
لقد تعجل بعض الباحثين — ولا سيما من كان منهم من علماء الطبيعيات — فظنوا أن الناس فارقوا فطرتهم الأولى التي كانت تنظم الشعر واتخذوا لهم فطرة أخرى لا تُحسن إلا أن تؤلف كتب العلم! وأنهم أدركوا اليوم ما كان يحيرهم في زمان الجاهلية المظلمة من أسرار الطبيعة وخفايا نواميسها، ففقدوا الإحساس بغرائبها وعدلوا عن الترنم بمحاسنها! وإنما غشيت أصحابنا العلماء ظواهر مادية العصر، فرأوا ذلك الرأي الذي لم يمحصوه كل التمحيص، ولا نظروا فيه من جميع جوانبه، وإلا فكيف يخطر لأولئك العلماء الجهلاء أن سيأتي يوم على الإنسان يقف فيه جامدًا بين يدي هذا الوجود مهما حصل من العلم به وأحاط بأسراره؟ وحق أن علماء اليوم يعرفون من أسرار الطبيعة ما لم يعرفه العلماء الأقدمون، ولكن ما سلطان هذا التغير على الطبائع والأهواء؟ هل يؤثر ذلك في عامة الناس، بل هل يؤثر علم النباتي العارف بأجزاء الأشجار على خيشومه وبصره فلا يدعه يتنشق رائحتها ويبتهج بألوانها؟ وهل علمي بنواميس الطبيعة يعصمني من الانفعال بمؤثراتها ويذود عني الخوف مما يدعو فيها إلى الخوف، أو الطرب إلى ما يطرب من بدائع مشاهدها؟
وأحسب أن أصل هذه الغاشية التي حجبت الحقيقة عن العقول يرجع إلى العهد الذي استكشفت فيه أمريكا وظهرت للناس بمناجمها المترعة ومروجها العذراء، ثم أعقبه نشوب الثورة الفرنسية التي ألقت حمل كل طبقة على عاتقها، فتوجهت الطبقات المختلفة إلى العمل لنفسها والسعي في طلب رزقها بقوتها، ووافق ذلك اختراع الآلات التي تصنع الواحدة منها صنع الألوف من العمال، فازدادت حرب الطبقات شدة وعنفًا وحدث من جراء ذلك جميعه تهافت غير مألوف على الذهب، فما هي إلا سنواتٍ مضت في مقدمات هذه الزوبعة قد ملأت الدنيا غبارًا حتى أصبحنا لا نسمع إلا سياسة المال وعلم المال وقوة المال وعصر المال، نسي الناس كل شيء إلا أنهم في عصر المال، ونسوا أيضًا أن الإنسان لم ينفض عنه في عصر المال عنصره القديم، وأنه إن كان قد انتقل من فترةٍ إلى فترة فإنه لا يزال في مكانه من الطبيعة يهتز بنبراتها ويجري مع تياراتها، ولسوف يمضي عصر المال هذا فلا تسمع عنه الأجيال القادمة إلا كما نسمع نحن عن أخبار العصور الخالية، وكذلك لا يبقى إلى الأبد إلا الأبد نفسه.
وإخالني في غنى عن تنبيه القراء إلى أنني لا أعني بكل ما أسلفت في التنويه بفضل الشعر وبيان أثره في الحياة الاجتماعية إلا ضربًا واحدًا من الشعر هو الشعر المطبوع الأصيل، أما الشعر المقلد المموه فلا فائدة له قط، وقل أن يتجاوز أثره القرطاس الذي يكتب فيه أو المنبر الذي يلقى عليه، وشتان بين كلام هو قطعة من نفسٍ، وكلام هو رقعة من طرس.
فالشاعر المطبوع معانيه بناته، فهن من لحمه ودمه، وأما الشاعر المقلد فمعانيه ربيباته فهن غريبات عنه وإن دعاهن باسمه، وشعر هذا الشاعر كالوردة المصنوعة التي يبالغ الصانع في تنميقها ويصبغها أحسن صبغة ثم يرشها بعطر الورد، فيشم منها عبق الوردة، ويرى لها لونها ورواؤها، ولكنها عقيمة لا تنبت شجرًا ولا تخرج شهدًا، وتبقى بعد هذا الإتقان في المحاكاة زخرفًا باطلًا لا حياة فيه.
ألا وإن خير الشعر المطبوع ما ناجى العواطف على اختلافها، وبث الحياة في أجزاء النفس بأجمعها كشعر هذا الديوان.
•••
فاليوم يتلقى قراء العربية هذا الجزء الثاني من ديوان شكري فيتلقون صفحات جمعت من الشعر أفانين، ويرون في هذه الصفحات نظرة المتدبر، وسجدة العابد، ولمحة العاشق، وزفرة المتوجع، وصيحة الغاضب، ودمعة الحزين، وابتسامة السخر، وبشاشة الرضا، وعبوسة السخط، وفتور اليأس، وحرارة الرجاء، ويرون فيها إلى جنب ذلك من روح الرجولة ما يكظم تلك الأهواء ويكفكف من غلوائها، فلا تنطلق إلا بما ينبغي من التجمل والثبات.
إن شعر شكري لا ينحدر انحدار السيل في شدةٍ وصخب وانصباب، ولكنه ينبسط انبساط البحر في عمقٍ وسعة وسكون.
وقد يعسر على بعض القراء فهم شيء من شعر شكري؛ لأنهم يريدون من الشاعر أن يخلق فيهم العاطفة التي بها يفهمونه، ومن النفوس من لا يصلح لتوقيع جميع أدوار الشعر عليه، كما لا توقع أدوار «الأوركستر» على القيثار أو المزهر؛ لأن هذه الآلات الصغيرة لا تسع تلك الأنغام المتنوعة الكثيرة، فإذا سمعت إحدى هذه النفوس أنشودة الشاعر الواسع النفس، فسبيلها أن تستغرب رنة اللحن الذي ليس في معزفها وتر يهتز به.
•••
قال لي بعض المتأدبين: إن شعر شكري مشرب بالأسلوب الإفرنجي، ولا أعلم ماذا يعني هؤلاء بقولهم الأسلوب الإفرنجي والأسلوب العربي، فإن المسألة على ما أعتقد ليست مسألة تباين في الأساليب والتراكيب، ولكنها مسألة تفاوت في جوهر الطبائع واختلاف بين شعراء الإفرنج وشعراء العرب في المزاج، كاختلاف الأمتين في الملامح والسحناء، وأشبه بالحقيقة عندي أن نقسم الشعر إلى أسلوب آري وأسلوب سامي؛ لأن هذا التقسيم أدل على جهة الاختلاف بين شعر الإفرنج، وشعر العرب من كل تقسيمٍ آخر.
فالآريون أقوام نشئوا في أقطار طبيعتها هائلة وحيواناتها مخوفة ومناظرها فخمة رهيبة، فاتسع لهم مجال التخيل وكبر في أذهانهم جلال القوى الطبيعية.
والساميون أقوام نشئوا في بلاد صاحية ضاحية، ليس فيما حولهم ما يخيفهم ويذعرهم فقويت حواسهم وضعف خيالهم.
ومن ثم كان الآريون أقدر في شعرهم على وصف سرائر النفوس، وكان الساميون أقدر على تشبيه ظواهر الأشياء، وذلك لأن مرجع الأول إلى الإحساس الباطن، ومرجع هذا إلى الحس الظاهر.
السامي يشبه الإنسان بالبدر، أما الآري فيزيد عليه أنه يمثل للبدر حياة كحياة الإنسان، ويروي عنه نوادر الحب والمغازلة والانتقام كأنه بعض الأحياء، وذلك أجمع لمعاني الشعر؛ لأنه يمد في وشائج التعاطف، ويولد بين الإنسان وبين ظواهر الطبيعة ودًّا وائتناسًا يجعلهما الشعر السامي وقفًا على الأحياء، بل على الناس دون سواهم من سائر الأحياء.
وهذا الفرق بين الآري والسامي في تصور الأشياء هو السبب في اتساع الميثولوجي (الأساطير) عند الآريين وضيقها عند الساميين؛ إذ ليست الميثولوجي إلا وليدة القدرة على إلباس قوى الطبيعة وظواهرها ثوب الحياة ونسبة أعمال إليها تشبه أعمال الأحياء، وتلك طبيعة الآريين الذين امتازوا كما قلنا بقوة التشخيص والخيال على الساميين.
وهذا أيضًا هو السبب في افتقار الأدب السامي إلى الشعر القصصي ووفرة أساليب هذا النوع من الشعر في الأدب الآري، فإننا إذا راجعنا أكبر قصص الهنود والفرس وتقصينا الملاحم الغربية قديمها وحديثها وجدنا أنها تدور كلها على روايات الميثولوجي، وتستمد أصولها منها، فقد وسعت القصص منطقة الشعر، فكانت له ينبوعًا تفرعت منه أساليبه وتشعبت أغراضه ومقاصده، وحرم الشعر العربي منها فوقف به التدرج عند أبواب لا يتعداها.
أما تقسيم الشعر إلى قديم وعصري، فليس المراد به تقسيمه إلى عربي وإفرنجي، ولا يراد بالعصري مقابلته بالقديم؛ لأن العصري يشبه القديم في صفة الشعر الجوهرية؛ وهي أن كليهما يعبر عن الوجدان الصميم، ولكن المراد منه التفريق بين الشعر المطبوع وشعر التقليد الذي تدلى إليه الشعر العربي في القرون الأخيرة.
فالشاعر قد يكون عصريًّا بريئًا من التقليد، ولا يلزم من ذلك أن يكون إفرنجيًا في مسلكه.
وأيما شاعر كان واسع الخيال قوي التشخيص، فهو أقرب إلى الإفرنج في بيانه وأشبه بالآريين في مزاجه وإن كان عربيًّا أو مصريًّا، ولا سيما إذا جمع بين سعة الخيال وسعة الاطلاع على آداب الغربيين.