علم الاحترام١
نعم علم الاحترام، ولماذا لا يكون الاحترام علمًا؟ ألا يشتمل كما تشتمل العلوم كلها على مبادئ وأصول، وحقائق وفروض؟ ثم إن العلوم على تعددها تبحث في مقادير المواد والأشياء وفي نسب بعضها إلى بعض، فإن تجاوزتها إلى الناس لم ترتق إلى الموازنة بينهم ووضع قيمة صحيحة لكل منهم، أما علم الاحترام الذي نريد أن نبتكره فيبحث في أقدار الناس وما يتفاضلون به من عروض الحياة ومحاسن الشيم، فهو أشرف العلوم موضوعًا، وهو آخر ما يتلقاه الطالب منها؛ لأن الطالب يتلقى العلوم الأخرى في الكتب ويحضرها على الأساتذة، وهذا العلم لا كتاب له يحصر أبوابه وأقسامه ويضبط قواعده وأحكامه، ولا أستاذ يمليه على طالبه فيريحه من جمع متفرقه، وإنما هو مفرق بين أيدي الناس الرفيع منهم والوضيع، والمحنكين منهم والأغرار، ففي كل يد عجالة مبتورة، ومع كل خريج وصية ناقصة، وعلى الطالب الحريص على الاحترام أن يتتبع أجزاءه في مظانه ويستعين عليه بأهله، فإنه إن لم يفعل لم يكن قصاراه أن يجهل ما يحترم به الناس، بل جهل الناس ما يحترمونه به.
ولم أقصد بعلم الاحترام هذا الذي يصنعه بعضهم؛ إذ تراه يتهيب ويوجل وهو داخل على من يحترمه كأنه يقتحم غابات أفريقيا؛ أو ينتفض ويشد عرى قبائه كأنه يقابل ثلوج المنطقة القطبية، أو يهبط بيديه ثم يرفعها كأنه يحثو التراب على رأسه، أو يرخيهما على صدره كالكلب يعالج الوقوف على رجليه، فهذا علمٌ شائع قد حفظه كثيرٌ من الناس وأتقنوه، وليس بين الرجل وبين أن يتضلع منه إلا أن يحتقر نفسه فتنقاد له مبادئه وخواتيمه في أقل من قولك «ألف باء».
ولكني قصدت العلم الذي من عرفه فقد عرف الإنسان، ومن جهله فقد جهل كل شيء، والذي لا يعلمه إلا القليل، ولا يعمل به إلا الأقل من ذلك القليل.
رأيت رجلًا ذا قدمٍ في هندسة البناء راسخة وشهرة في سائر فنون الرياضة ذائعة، وكنت أسمع أخاه يقول: لو كان أخي في أيام خوفو لما بنى الهرم الأكبر أحدٌ سواه، ولو حضر بابل يوم اندك صرحها لما دكه الله! ولكنني رأيته يطأطئ هامته إلى يد صعلوك يسيل مخاطه على سباله، ويجري لعابه على لحيته؛ فيقبلها ظهرًا لبطن ثم بطنًا لظهر، فقلت هذا رجلٌ يشيد الهياكل إلا أنه يعبد الأصنام، ويعرف نسب الأعداد والأرقام ومقاييس الأجسام والأحجام، إلا أنه لا يعرف الطول من العرض ولا الخلف من القدام، في علم الاحترام.
وهذا نصيب مهندس كبير من هذا العلم، فما ظنك بالجهلة، وماذا يبلغ أن يكون جهد السوقة السفلة؟
تقول لك آداب السلوك: احترم من ينفعك، وتقول لك آداب الصدق: احترم من ينفع الناس، والقصد بين المذهبين أن تحترم من لا يسعك احتقاره سواءً في سرك أم علانيتك، أما الناس فيحترمون من يخافون شره أكثر من احترامهم من يطلبون بره، وربما شاب احترامهم لأهل البر بعض الرياء، وأما احترامهم للظلمة والطغاة فخالص لا شائبة للرياء فيه، بل هو احترام لو أكرهوا أنفسهم على تركه لما استطاعوا.
لقد هالني هذا الأمر وخفت منه على آداب المبتدئين، فعنَّ لي أن أدعو لجنة من العلماء إلى وضع كتابٍ وافٍ صريح في علم الاحترام يعصم الناس من الخلط والخبط فيه، ويحجزهم عما يتخلله من الدهان والملق، فاستقر رأيي على هذه الفكرة أيامًا، ولكنني رجعت إلى نفسي فقلت: ومن يا ترى يشرح للناس مسائل هذا الكتاب؟ وأي أستاذٍ يرضى بأن يُعلم الناس علمًا يحتقرونه به لو وزنوه حق وزنه؟ ألا يكون شأن الأساتذة في هذا الكتاب كشأن الفقيه المنافق في كتب الدين! يلقن الناس منها ما يدر عليه الرزق ويوطئ له الأعناق ويعمي عنه العيون، ويتركهم من الدين القويم في جهلٍ مقيم؟ وعن اليقين في ضلالٍ مبين.
فيئست من أن يكون للناس قسطاس صادق المعيار، أمين على الأقدار، ورأيت أن أفضل ما يصنع العلماء أن يشتغلوا بعلومهم التي انقطعوا لها، وأن يَدَعُوا كلًّا وما يهتدي إليه في علم الاحترام.