التبرعات المجهولة
لا نذكر أننا سمعنا في مصر بخبرٍ من أخبار التبرعات المجهولة إلا تلك التبرعات الصغيرة التي تُنشر في الصحف باسم «فاعل خير»، وهي لا تظهر في صحفنا إلا نادرًا ولا تتجاوز قيمة التبرع في أكثرها جنيهًا واحدًا أو جنيهات معدودة.
هذا النوع من التبرع المجهول هو الذي ينقصنا وهو خير أنواع البر وأدلها على حب الإحسان والإخلاص في صنع الجميل.
فلماذا لا يكثر بيننا هؤلاء المحسنون وهذه أبواب الخير واسعة مفتحة من كل صوب؟ وأين الرحمة التي وصفت بها النفس الشرقية وقيل: إنها خاصة من خواصها التي امتازت بها على الغربيين؟
أكاد أشك في هذه الصفة التي تبرعنا بها لأنفسنا، وأقرنا عليها الذين ينظرون إلى الفرق بين الشرقيين والغربيين كما ننظر إليه من ناحية التزاحم العنيف الذي يكثر عندهم ويقل عندنا، فنحن نُسمي كثرته هناك قسوة، ونُسمي قلته هنا رحمة وهو بغير هذه الأسماء أجدر.
وليس يمنعني من الشك في صفة الرحمة التي نوقف بها هذه الأوقاف المحبوسة على سبل الخير، وهذه التركات التي يُوصي بها تاركوها للفقراء والمساكين؛ فإنها صدقات لا تدل على عطفٍ كبير ورحمة صحيحة، ولو بحثنا في أكثرها لعلمنا أن واقفيها كانوا من أقسى خلق الله قلوبًا وأشدهم عيثًا وظلمًا واعتداءً على الأرواح ونهبًا للأموال، ومنهم من قضى حياته في ابتزاز أرزاق الفقراء حتى إذا أدبرت أيامه وحانت منيته ظن أنه مكفر عن خطاياه بمسجد يبنيه للعبادة، أو تكية يفتحها لبعض المعوزين، أو ضريح من أضرحة الأولياء يعمره بالقراءة والجرايات، تقربًا من الله والتماسًا لرضاه وخوفًا من عقابه، فهو يُرضي الله على الطريقة التي كان يُرضي بها رؤساءه حين يقدم عليهم، وهي أن يرشوهم ببعض ما ارتُشي به ويهدي إليهم بعض ما أُهدي إليه، فما هذه بصدقات، ولكنها رشى مستورة وثمن لما يرجوه باذلوها من المغفرة والمثوبة وقربان منهم «لوجه الله» ومن ذا الذي لا يتقرب إلى الله وهو قادمٌ عليه ومقبلٌ على عقابه وثوابه؟
فالأوقاف التي نراها على كثرة في مصر ليست من نتاج البر والرحمة، ولكنها من نتاج الظلم والقسوة، والدليل على ذلك أنها قلت حين قل الظالمون والقساة من الحكام، وكسدت سوقها حين كسدت سوق الرشى والهدايا وداخل الشك القلوب في أجر هذه الأوقاف والصدقات، ولو كانوا يقفونها على الفقراء رحمةً بهم وحدبًا عليهم لما قلت والفقراء كثيرون والبلاد على وفرها وغناها القديم.
على أنني لا أحب أن أسترسل في هذا الظن، ولا أرتاح إلى الشك في صفة الرحمة التي اتصف بها الشرقيون، وأريد أن أقول: إن قله الأعمال الكبرى التي يُقصد بها النفع العام والإحسان إلى الجماهير لا تتخذ حجة قاطعة على قسوة القلب وغلظة الطباع، والأقرب في حالتنا — أي حالة مصر — أن تكون آتية من غلبة الرحمة الشخصية على نفوسنا وندرة تلك الرحمة التي ترتبط بالمصالح العامة والنتائج القومية، وأعني بالرحمة الشخصية هذه العاطفة التي تعطف قلبك على أشخاص البائسين والمنكوبين حين تراهم في بأسائهم وآلامهم، أو حين تتمثل لك مصائبهم وشكاياهم، فنحن نطعم الجائع، ونكسو العاري، ونلبي المستصرخ، ونرثي للباكي الحزين، وتنبعث الرحمة من قلوبنا حين نرى هذه المناظر كما تنبعث الدموع إلى عيوننا بغير مشيئتنا وعلى غير قصدٍ منا، ولكننا لا نرحم الرحمة التي تأتي عن فكرٍ ومشيئة؛ لأننا لم نتعود العمل المجتمع إلا من زمنٍ قريب، ولم نفكر في خير الأمة ورفاهتها إلا بعد انقضاء عهد الاستبداد ورجوع الأمر إلى الأمة رويدًا رويدًا في العصر الحديث، وكيف كان يسعنا أن نفكر في خير الأمة وليس لنا من أمرها كثير ولا قليل، ولا هي شاعرة بوجودها أو عارفة بما يجب لها وما يجب عليها؟ فربما كان هذا سبب الانصراف عن إسداء البر من طريق التعليم أو تحسين المعيشة أو تقويم الأخلاق ومحاربة الآفات والأمراض، لا الجحود في العاطفة وصلابة الشعور كما قد يظن لأول وهلة، ولو أننا تعودنا أن نعالج شئون المجتمع وننظر في آفاته ومعائبه ونتمثل شقاء أفراده، أو لو أن مناظر هذا الشقاء تبرز لنا في صورة شخصية محسوسة لما بخلنا عليها بالمال الكثير والجهد العظيم ولسبقنا في ذلك الأمم التي نود أن نقتدي بها في الرأفة بالمساكين والعناية بالضعفاء.
•••
لكن ماذا نقول في التبرعات المجهولة؟ أليس الواقع أنها قليلة عندنا كثيرة عند الغربيين؟ أليست هي أولى بما اشتُهر به الشرقيون من الحياء والتقوى وأعجب من الغربيين الذين لا يستحيون حياءنا ولا يتقون الله تقوانا؟ فلماذا انعكست القضية وانقلب الوضع لولا أن في الأمر سببًا آخر يغطي على أخلاقنا ويأخذ بقيادنا في عمل كل عملٍ من أعمالنا؟
والحق أن ذلك السبب موجود غير مجحود، ذلك هو حب الظهور وهو رأس كل خطيئة وجماع كل عيب، فهو شهادة صادقة بأن أقوالنا أكثر من أعمالنا، وأعراضنا أثبت من جواهرنا، وأن الطلاء عندنا أنفس من المعدن والزيف أقوم من الصحيح، ولا يصلح هذا العيب إلا على توالي الأيام حين نألف العمل ونتعود التفريق بين نافعه وباطله، ونستقر في تقديره على مقياسٍ صالح ومعيارٍ أمين.