ماكس نوردو (٣)١
يطول بنا البحث لو أردنا الكلام على كتب نوردو كتابًا كتابًا، والتعليق على كل منها بما يخطر لنا في موضوعها، فإن نوردو مكثر وموضوعاته منوعة كثيرة النواحي، ولكنا نجتزئ بكلام وجيز على كتابين منها هما أشهر مؤلفاته وأقواها، وبهما يذكر في الغالب اسمه وتدور المناقشة حول آرائه، وهما كتاب «الاضمحلال» أو الانحطاط، وكتاب «الأكاذيب المقررة في المدنية الحاضرة».
•••
كتاب الاضمحلال أو الانحطاط هو حملة شعواء شنها نوردو على النابهين من أدباء عصره وغيرهم ممن وقع في طريقه، فقضى عليهم جميعًا بالمسخ والخداج وانتكاس الأذواق والعقول، وأضرم نارًا من النقد الجائر كنيران محكمة التفتيش، فجعل يلقي فيها ما يلقي من كتبهم ودواوينهم باسم العلم في هذه المرة لا باسم الدين، وقبس في هذا الكتاب من رأي لمبروزو قبسة قد تنير وتهدي لو بر وأنصف؛ ولكنه ما لبث أن نفخ فيها وأشعلها حتى صيرها ذلك الحريق الذي يجني من التلف ما يفسد نوره ويغض من هدايته.
أهدى نوردو الكتاب إلى لمبروزو واستمد منه فتوسع في رأيه، وأطنب وتمادى على ما في الرأي نفسه من تجوز واقتحام، فخرج عن الاعتدال المحمود وتجنب الحذر والحيطة، أما رأي لمبروزو فخلاصته أن النوابغ العبقريين يكثر بينهم انحراف التراكيب والغرابة كما دله الاستقراء، فيشاهد بينهم ذوو البدوات والأطوار، والمصابون بالعاهات وعوارض الجنون، والمبكرون في النماء قبل الأوان، والعقماء، والمفرطون في الطول، أو المفرطون في القصر؛ وغير ذلك من دلائل الشذوذ والخروج عن سواء الخلقة وسلامة البنية، وقادته هذه المشاهدات إلى القول بأن العبقرية تنتج من اختلال في المزاج واضطراب في التوازن يرتفع ببعض قوى الإنسان إلى ما فوق المألوف، فيظهر فيه الذكاء الخارق والملكات المفلقة، ويهبط ببعضها إلى ما دون المألوف، فيظهر فيه النقص والخداج والتشويه وتناقض الأهواء، ولا بأس بملاحظة هذا الرأي على علاته، وإن كان خير ما فيه لا يخرج عن تحصيل الحاصل، فكأن لمبروزو لم يزد على أن يقول: «إن كل إنسان استثنائي لا بد أن يكون إنسانًا استثنائيًّا، وكل مختلف عن عامة الناس لا بد أن يكون مختلفًا عن عامة الناس.» وهذا هو فحوى مذهبه في نظر كثير من الفضلاء فماذا في ذلك من التعليل الذي يزيدنا عرفانًا بالعبقرية أو نفاذًا إلى أسرار فضائلها وعيوبها؟
ولهذا العالم غير هذا الرأي آراء أخرى في علاقة العبقرية بجغرافية المكان وعدد سكانه يقول منها مثلًا: إن مصر لا يكثر فيها ظهور العبقريين؛ لأنها بطحاء سهلة لا جبال فيها، ويستشهد على زعمه برأي رينان في تاريخ مصر القديم؛ إذ يقول: «لا ثائر من دعاة التطور، ولا مصلح، ولا شاعر عظيم، ولا فنان، ولا باحث علمي، ولا فيلسوف، كلا ولا وزير عظيم يلقاك في تاريخ مصر القديم، ففي هذا الوادي الكئيب وادي الذل الواصب غبرت ألوف من السنين على أهل مصر وهم يزرعون الأرض، ويحملون الصخور على ظهورهم، ينشأ فيهم عمال موظفون يعيشون عيشة وادعة لا فخار عليها، وحيثما يممت لا يقع نظرك إلا على مهاد مستو من الأخلاق والعقول المتوسطة في كل مكان!»
وعلى ما في مذهب لمبروزو من التطرف جاء نوردو فغلا في تعميمه، وخلط بين تعليل الشيء وتفنيده، ونسي أن مجرد رد الشيء إلى علته لا يجيز لنا نفي فضائله وغمط آثاره، وتصرف في المذهب فقال: إن اختلال التوازن الذي وصفه لمبروزو إنما هو شأن العبقرية الفاسدة العقيمة أو التي لا ينتج منها إلا الضرر، أما العبقريات الصحيحة الصالحة فلا يشاهد عليها شيء من البداوات المنحرفة، أو النزعات المتناقضة، بل تُرى على حالة لا ينكرها العُرف، ولا يشتم منها شذوذ واختلاف.
وعلى هذه الفكرة بنى نوردو كتاب «الاضمحلال» أو الانحطاط، فأنحى فيه على طائفة كبيرة من أعلام المفكرين، وفحول الشعراء والأدباء الذين اشتهر ذكرهم في عصره والعصر الذي قبله، وقسم أدباءه، أو قل: مرضاه إلى طبقتين: طبقة عالية تخفى فيها أعراض المسخ بعض الخفاء، وأخرى واطئة لا تمتاز في شيء عن سائر المعتوهين والأمساخ، واستخرج من معاني أشعارهم ومضامين سطورهم دلائله التي خالها أعراضًا شاهدة عليهم جميعًا بالمسخ وفسولة الطبع، فمنهم فيما زعم مجانين الأنانية، ومنهم أسرى الشهوات، والمصابون بالاضطرابات المخية والنخاعية، ومنهم البله والسوداويون، والمعذبون بالصراع والوسواس، والمتهوسون في الدين أو العصبية، والمتقشفون الموكلون بتعذيب نفوسهم وتنغيص لذاتهم، والناشزون على العرف والآداب، وكثير من أمثال هذه الأدواء التي أرسلها في صفحاته بسخاء من ذلك القلم المنغمس في كتابة التفسيرات وأوراق الأدوية! وقد تتلخص كل أعراضه في ظاهرتين اثنتين؛ هما العجز عن حصر الذهن وسوء نقل الحواس والأعصاب عن مؤثرات البيئة، أو عدم الإحساس بالأشياء على حقيقتها.
ولتعليل إعجاب قراء العصر بأولئك الأدباء والمفكرين رمى نوردو الطبقات القارئة كلها وبعضًا من الطبقات الأخرى بالضعف واختبال الحس، وعزا ذلك إلى جلبة الحياة في العصور المتأخرة وضوضاء المصانع والسكك الحديدية وإجهاد النفس بالأعمال الفكرية من كتابة وقراءة تزداد بازدياد المطبوعات المطرد في الحضارة الحديثة، والعجلة الدائبة في كل عمل وإدمان معاقرة المخدرات والمنبهات وإلحاح ذلك كله إلحاحًا مؤلمًا على الأعصاب يزعجها ويفسد إحساسها، فيتركها أبدًا متفززة أو منهوكة لا يرضيها من القراءة إلا ما فيه تهدئة كاذبة لهياجها أو تحريض مفتعل لهمودها، فتفضل الوهم على الحقيقة، والنادر المختلق على الواقع المأنوس، والشعوذة على المعرفة، والنزوات الطارئة على الخوالج الطبيعية.
ولسنا نعني أن الكتاب خلا من الصواب، ولا أنه قليل القيمة في بابه؛ فإنه تضمن بغير شك صوابًا جمًّا، وأفاد في انتقاد بعض الرعونات التي كانت فاشية لعهد ظهوره فائدة لا تقدر، ولكنا نريد أن نقول: إنه حيث يكون صواب الكتاب في الحكم متينًا ظاهرًا، فهناك تبطل الحاجة إلى التحليل الطبي، ويشترك الطبيب وغير الطبيب في النقد والاشمئزاز! وحيثما اشتدت حاجة المؤلف إلى الفحص الطبي، قل الصواب وكثر الخطأ، وهذا محك كنا نعرض عليه أحكام الكتاب أثناء قراءته، فكنا لا نخطئ أن نطلع منه على مواطن العدل والجور في كل باب، ولا غرابة في ذلك؛ فإننا لا نظن القارئ في حاجة إلى استشارة طبية ليميز له الطبيب بين ما يجب أن يعجبه من الكتب والقصائد، وما يجب أن يمجه ويزهد فيه! وإذا كان الآكل لا يحتاج إلى استشارة الطبيب في كل ما يأكل من الأطعمة التي يسمع فيها رأي الطب، فأولى بغذاء العقول أن يكون أجرأ من ذلك على دولة الأطباء!
وقد يُؤخذ على نوردو في بعض المواضع شيء من التناقض الجدلي في أساس فكرته، مثال ذلك أنه كثيرًا ما عاب على الشعراء والكُتَّاب أن يجعلوا أبطال قصائدهم ورواياتهم من المرضى والممرورين كما يستدل على ذلك من أقوالهم ومواقفهم، ويعيب عليهم ذلك مع زعمه أن ضعف الأجسام والعقول كاد يكون آفة العصر كله، واعتقاده أن حسن التعبير عن أحوال البيئة أو بعبارة أخرى أن تلقي المؤثرات على حقائقها هو آية المزاج الطبيعي والعبقرية القويمة، فهل كان على أولئك الشعراء والكُتَّاب أن يجعلوا أبطالهم من الأشداء العقلاء في عصر أكثر من تصادفه فيه ملتاث العقل، مدخول الجسد كما يقول في كتابه؟ ألا إنها هي حالة من اثنتين؛ فإما أن يكون أولئك الشعراء والكُتَّاب أصحاء العبقرية، فينقلوا أمزجة أبطالهم المرضى على حقيقتها فلا تثريب عليهم، وإما أن يكونوا مرضى العبقرية، فيعكسوا أمزجة أبطالهم ويبدلوهم من الضعف قوة ومن المرض صحة، وما هم بناجين على الحالين من مبضع نوردو وتوصيفاته.
ومما يؤخذ على نوردو — وقد ينقض دعواه من أساسها — أنه استثنى جماعة من المحدثين والقدماء وأعفاهم من نقده، وذكر أسماء بعضهم فأشار إليهم بالثناء وأكبر فضلهم وضرب بهم المثل على سلامة العبقرية التي يحبذها، ولو أنك رجعت إلى تواريخ هؤلاء الذين اصطفاهم نوردو لما عسر عليك أن تجد فيهم من المغامز والعورات شبيه ما وجده هو من مغامز مجانينه وعوراتهم، فجيتي الشاعر الألماني وهو ممن استثناهم ومدحهم في هذا الكتاب وفي غيره — قال عن نفسه: «إن مزاجه يتراوح بين الفرح الشديد وغم السوداء.» وقال إنه «يلمح القاتل في أعماق نفسه.» ومن كلامه: «إنه لا بد للشاعر من أثر من تهيج الدماغ.» وهو من المبكرين في النماء، فنظم الشعر واخترع القصص في التاسعة من عمره، واشتهرت نوادره في الحب، فما مرت به فترة من طفولته إلى شيخوخته إلا على حب جديد، ورافقه هذا الشغف إلى سرير الموت، فكان آخر ما تمثل له في سكرات الموت صورة امرأة حسناء! ولم يخل من الخرافة والوهم فقد كان يجرب بخته بما يحكي ألاعيب الأطفال، ولا يخفى اهتمامه بالسحر والطلاسم ورموز الأسرار على من قرأ روايتيه الكبيرتين «ولهلم ميستر» و«فوست»، وقد ذكر لنا في الرواية الأولى قصة شاب شغف بعشق أخته، وظهر خاطر الانتحار في رواية من أول تآليفه وكثيرًا ما خامره في أيام حياته؛ وكان لا يطيق الضوضاء، فكان يروض أعصابه على احتمالها بسماع الأجراس الضخمة عن كثب، ومات بعد أن نيف على الثمانين، ولم يكن له غير ابن وحيد عوجل قبله فمات في شرخ الشباب.
وتنيسون؛ وهو عبقرية أخرى من عبقريات نوردو السليمة، قد بلغ من العمر ما بلغه جيتي، ولم يعقب غير ولد واحد، وكان معروفًا بفرط الحياء وحب العزلة، وقد وصف النقاد خير قصائده «مود» فقالوا: إنها شعر جنوني مريض، وقال تنيسون نفسه في وصف عاشق مود «إنه نفس شعرية مختبلة» واشتهر هذا الشاعر طول عمره بالخشوع الديني والنزعة الصوفية.
وشكسبير لا نعلم من سيرته الشيء الكثير، ولكن مضاهاة توقيعاته تدل على رعشة عصبية، وقراءة أغانيه تدل على ميول جنسية غريبة، وما يُروى عن أخبار نسله وسنه لا ينبئ عن وثاقة في التركيب، ولا شبع من الحياة — وما لنا ولهؤلاء البعداء عنا؟ — أليس صاحبنا نوردو قد جاوز السبعين ولم يعقب غير بنت واحدة؟ أَوَلم يقرض الشعر ويؤلف القصص وهو طالب صغير في المدرسة لم يتجاوز الثانية عشرة؟ وهل هذا على رأيه من الأدلة على تركيب عادي أو مزاج سليم؟
وإنه لمن العجيب حقًّا أن يعزب وجه الصواب عن نوردو في هذه المسألة، فينسى أن المواهب الممتازة غير العادية لا بد لها من مظاهر في الجسم غير عادية كذلك، ولو كان نوردو ممن ينكرون ارتباط الحالة العقلية بالحالة الجسمية، أو يجهلون تأثير كليهما في الآخر لفهمنا منحاه، أما وهو لا ينكر ذلك ففي أي صورة يا ترى كان يريد أن تبرز مواهب النوابغ العبقريين على أجسامهم؟ أكان يريد أن يرى لهم أضعاف ما للناس من بسطة الجسم وقوته؟ أكان من اللازم عنده أن يكون إزاء كل تفوق في العقل تفوق مثله في الجسم، فنرى العبقريين في أحجام الفيلة أو أكبر، وفي بأس المردة الذين نقرأ عنهم في الأساطير أو أشد بأسًا؟ لا نظن أحدًا يخطر بباله هذا التصور، وإنما الاختلاف الوحيد المنتظر ظهوره على مزاج الجسم من أثر اختلاف المواهب العقلية أو النفسية هو اختلاف في الأطوار والعادات وبنية الجسد، ولا بدع في ذلك ولا كان بعيدًا على نوردو أن يلتفت إليه؛ إلا أنه أراد أن يُكسب رأيه الصبغة العلمية فخالف العلم، ولو أنه قصره على النقد الأدبي لوسع الأدب كل صوابه، وضحى بالتحقيق في سبيل القوة فكان محاربًا غازيًا لا قاضيًا متورعًا، ولو أنه توخى الاعتدال لأنصف وأصاب.
ولكن لا تكون لكتابه هذه القوة التي جذبت إليه الأنظار!
•••
أما كتاب «الأكاذيب المقررة في المدنية الحاضرة» فحملة أخرى لكن على المجتمع لا على الأدباء، فضح فيها نوردو كل ما ظهر له من أكاذيب الحضارة الأوروبية؛ كأكذوبة الدين، وأكذوبة الحكم الملكي المطلق، وأكذوبة الزواج، والأكذوبة السياسية، والأكذوبة الاقتصادية وما إلى ذلك. خشيت الممالك المستبدة سطوة هذا الكتاب العاتية، فأمرت حكومة النمسا والمجر وطن نوردو بمنع دخوله إلى بلادها، وكذلك فعلت الروسيا، وكان نوردو حين أصدر كتابه هذا في الرابعة والثلاثين من عمره، فكان عظيم التفاؤل كبير الأمل في مستقبل الإنسانية، فتنبأ بمجيء عصر تُمحى فيه العيوب الشائعة في حضارة العصر، وتحل محلها حضارة قائمة على الحب والإخاء والتضامن بين الناس وقال في ختام كتابه: «إني لأنظر إلى هذه المدنية مدنية اليوم التي شعارها التشاؤم والأكاذيب والجشع فأراها تتوارى وتخلفها مدنية أخرى قائمة على الحق والسعادة، يومئذ تصبح الإنسانية حقيقة واقعة لا فكرة مجردة، فطوبى للأجيال القادمة التي سيكون من نصيبها أن تحيا في جو المستقبل الصافي مغدقة عليها أنواره المشرقة، إنها ستحيا من ذلك الإخاء الدائم في أفق من الصدق والمعرفة والصلاح والحرية …»
ومن أمثلة نقده في كتاب الأكاذيب قوله عن النظم الديمقراطية: إنها أكذوبة سخيفة؛ لأن الحكم في الأمم الديمقراطية لا يئول إلى أشرف الناس نفسًا وأعظمهم كفاءةً وأرصنهم لبًّا وأخلصهم غرضًا، ولكنه يئول إلى أصفق الناس وجهًا، وأكبرهم دعوى، وأعزهم جاهًا، وأكثرهم مالًا، وأقدرهم على شراء أصوات المنتخبين والتغرير بالجمهور، وليست حكومة الديمقراطية بحكومة الشعب كما يقولون، ولكنما هي حكومة فئة قليلة من ذوي المطامع المقتدرين على تنظيم الأحزاب، ونشر الدعوة ومخادعة الجمهور، واستجلاب الأعوان بالوعود والمكافآت والمناصب، فالديمقراطية طراز جديد من الحكم المطلق القديم، أو هي خمرة عتيقة في باطية جديدة.
وهذا كله حق لا غبار عليه غير أنه لا يقدح في أساس الديمقراطية؛ لأن أساسها تمثيل الشعب، وليس تمثيل الشعب أن يكون نوابه أفضل الناس وأعظمهم ذكاءً وعلمًا، ولكنه جمع صورة مصغرة من كل ما في الشعب من علم وجهل، ومن خير وشر، ومن فضائل ومثالب، وخير علاج للنظم الديمقراطية هو تهذيب الشعب، وضبط وسائل التمثيل، فإن كان الشعب لا يتهذب، فاللوم عليه لا على طرائق حكمه، وإن كانت وسائل التمثيل لا تضبط، فالتقصير راجع إليها لا إلى فكرة التمثيل في أساسها.
•••
يجب على المجتمع أن يعول المرأة فهي عتاده الذي يدخره للفاقة الاجتماعية والحاجة الطبيعية؛ لأن لكل من الجنسين عملًا يقوم به لصلاح النوع، فعمل الرجل اكتساب القوت؛ أي: صيانة الجيل الحاضر، وعمل المرأة إنتاج الذرية؛ أي: إعداد الجيل القادم، وهي عدا هذا القطب الذي يدور عليه الانتخاب الجنسي والجائزة التي ينالها السابق بين المتنافسين في سباق ذلك الانتخاب، ونتيجة هذا التنافس ترقية النوع وتحسينه لا محالة.
فعلى المجتمع أن يربيها في صباها، ويتعهدها بعد ذلك بالإنفاق عليها سواءً أكانت في بيت أبويها أم في سكنها، وينبغي أن يرى المجتمع من أكبر العار عليه أن تمتحن امرأة — فتية كانت أو عجوزًا وحسناء أو شوهاء — بمضانك الفاقة.
إن أمة تقام دعائمها على هذه القواعد، وتستيقن نساؤها أنهن مكفيات المئونة غنيات عن الكدح لأنفسهن والاشتغال بطلب خبزهن سواء في العزوبة والزواج، وأن مجموع الأمة يتولى تربية صغارها وحفظهم، ولا يظن الرجل فيها أنه قادر على أن يشتري من النساء بقدر ما لديه من الدراهم؛ لأن الجوع وسيطه في البيع، نقول هذه أمة يتزوج نساؤها طوع انعطافهن الصميم، ويندر أن تنظر فيها العين بكرًا بلغت أرذل العمر، أو شيخًا ما زال أعزب في الصغر والكبر وإن كان:
وفي مثل هذه الأمة يستعصم الناس، فلا يرتكب قبائح الفسوق غير صنف ممسوخ الطبائع لا يطيق حياة في غير جو النقص والرذيلة، ولا يرجى من سلائقهم الطائشة نفع كثير أو قليل لأمتهم أو لنوعهم.
ومتى بطل النظر إلى المصالح المادية في أمر الزواج، وعادت المرأة مختارة في ميلها غير مضطرة إلى بيع نفسها، وأصبح الرجال يتنافسون على إحراز ودها بذواتهم لا بأموالهم ووظائفهم، فحينئذ يصبح الزواج حقيقة نافعة، لا أكذوبة كما نشاهد في عصرنا هذا، وهنالك ترفرف روح الطبيعة السامية على الزوجين، وتبارك كل قبلة من قبلاتهما، فيوضع الولد محوطًا بهالة من حب أبويه، وتكون هدية يوم ميلاده تلك العافية التي يورثها ذريتهما زوجان كلاهما مستجمع من صفات جنسه ما يحبب فيه قرينه.
نقول نحن: ولو نفذ اقتراح نوردو لكان خير عاصم للزواج من آفات الحاجة، وأصلح مجدد للانتخاب الجنسي، وأنجع دواء لضعف النسل، ولكن هل تراه ينفذ في وقت قريب؟ لقد يلوح لنا أنه ليس بمستحيل فقد يُنفذ ولو بعد زمن طويل.
وليس ما تقدم كل أكذوبة الزواج عند نوردو؛ فإنه يعد من أكاذيبه هذا الوفاء الذي يجبر العرف كلا الزوجين على مراعاته ولو تباغضا وطال بهما العمر، ولا فائدة للنوع من هذا الوفاء؛ لأن الوفاء بلا حد ولا قيد ليس من طبائع النفس ولا هو من مألوفاتها، وإنما يصبو المرء إلى الاستيلاء على قلب الحبيب بلا شريك، فيود لو يملؤه وحده، وليس شيء أرضى لأثرتنا وأدعى لتكميل شخصيتنا من أن نبصر صورتنا مرتسمة في مرآة نفس أخرى، فذلك الذي يجعلنا نرتقب الوفاء المطلق ممن نحب ونهوى، ولو كان الوفاء في الحب من مقتضيات الطبع لوجب أن يُطلب من الزوج بقدر ما يُطلب من الزوجة، ولكنه مطمع من مطامع الأثرة، فكلما كان ذو الأثرة أقوى كان أكثر توقعًا للوفاء من غيره، والرجال أقوى الجنسين فهم يلزمون النساء ما لا يلتزمونه من الإخلاص والوفاء.
كذلك يقول نوردو، ولسنا نميل إلى مناقشته في رأيه عن سبب التفاوت بين ما يطلب من الجنسين من واجب العفة والوفاء، فإنه لا خلاف في أن القوة هي قوام الآداب التي فرضت على المرأة أن تظل أمينة لزوجها، ولم تفرض مثل هذه الأمانة على الرجل، أو هذا هو منشأ التفاوت في أيام الهمجية على الأقل، بيد أننا متى تعدينا أيام الهمجية إلى نظام الزواج الحديث في المدنية وجدنا إنصافًا كبيرًا وحكمةً بليغة في التفاوت بين واجبات الرجل وواجبات المرأة من هذه الناحية، وألفينا العدل المنزه يقضي بأن تكون المرأة أحوط لعرضها من الرجل؛ لأنها تضره بالخيانة أكثر مما يضرها، فالمرأة إذا خانت زوجها نسبت إليه نسلًا غير نسله وغشته في حبه لأبنائه وهو أمس العواطف بنفسه بعد حب حياته، أما الرجل فلا يغش زوجته مثل هذا الغش إذا اتصل بغيرها، فلا إجحاف ولا استبداد بالمرأة في التفاوت بين واجبها وواجب الرجل، وليس يحق لها أن تغضب من خيانة زوجها، كما يحق للرجل أن يغضب من خيانة زوجته.
وقد كان بودنا أن نوفي القول بإسهاب في آثار هذا الأديب العالم الخطيب، ولكننا كتبنا عنه ما فيه الكفاية للقراء في صحيفة يومية، وسنختم الكلام عليه بالكلام على كتابه هذا الذي كان فاتحة آثاره الكبيرة وخطوته، بل وثبته الأولى إلى الشهرة، فبزغت فيه مواهبه البارعة في صبيحتها، وبدت طوالع ذلك الحذق الخلاب في التحليل النفساني: حذق تجلى بعد ذاك على أتمه في كتابه «النقائض» وقيل: إنه سبق فيه علم النفس بعدة سنين، ولكتاب الأكاذيب مزية أخرى لا تُرى على هذه القوة في بقية كتبه؛ لأنه أودعه يقين الشباب وإقبال التفاؤل، ولولا هذا اليقين وجرأة في نوردو صحبته طول حياته لكان الأولى به أن يُسمى «الحقائق في سبيل التطبيق» بدلًا من «الأكاذيب المقررة»؛ لأن كثيرًا من الأكاذيب التي أوردها فيه، إنما هي حقائق يخالطها الزغل عند التجربة — كالديمقراطية مثلًا — وأين هي الحقائق الاجتماعية التي تتركها التجربة على صفائها؟ أليس من الحقائق الرياضية — وناهيك بدقتها — ما يختلف بين الأوراق والأعمال؟