القرائح الرياضية والتدين١
لصديقنا الأستاذ المازني رأي في التصوف وعلاقته بالملكة الرياضية ساقه في كلام شائق عن عمر الخيام وقدم له برأي «فتز جيرالد» الذي أخرج الخيام من زمرة المتصوفة لنبوه عن سمتهم وسخره من ريائهم، ولبغض المتصوفة لمسلكه ورميهم إياه بالكفر والزندقة، ثم زاد صديقنا فقال: «على أنه كانت له موهبة تنأى به عن التصوف، ذلك أنه كان رياضيًّا بارعًا، ومما يذكر له في هذا الباب تنقيحه التقويم السنوي تنقيحًا ظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزي بالثناء عليه، وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف في علم الجبر بالعربية. والذهن الرياضي مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر، وتعليق النتائج بأسبابها، والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف، ومن العجيب أن فتزجيرالد لم يفطن إلى دلالة هذا، ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف.»
ولصديقنا الفاضل وجهة في الرأي الذي نظر إليه، ولكنه رأي يخالف ما نعتقده ونشاهده من طبيعة الذهن الرياضي ولا نخالنا نجد ما يؤيده في الذين نعرفهم ونسمع بهم، أو نقرأ عنهم من طوائف المهندسين والمشتغلين بالعلوم الرياضية وما هو من قبيلها من العلوم، فالذي نعتقده أن الذهن الرياضي أقرب الأذهان إلى التدين والإيمان بالغيب، وأبعدها عن رد العقائد إلى علل في الأشياء الخارجية، وتلك طبيعة قد تُستغرب ويظهر عليها لأول وهلة مسحة من التهجم والمحال، ولكنها تطرد مع المعروف من طبيعة العلوم الرياضية والمعهود المخبور من أوصاف الأخصائيين فيها، وكثيرًا ما رأى الناس عندنا رجالًا من جهابذة المهندسين يميلون إلى التصديق بالرقى والتعاويذ، وينخدعون لترهات الدجالين وأباطيل السحرة والعرافين، ويتوسلون بالأولياء والأشياخ في قضاء لباناتهم كما تفعل العامة، فيعجب الناس لذلك أشد العجب، ولا يهتدون إلى التوفيق بين هذه الخلة وما يعرفون في أولئك الجهابذة من رجاحة العقل، والرسوخ في العلم، وجودة النظر في المسائل التي يطلبونهم فيها؛ ويعدونه تناقضًا وما هو بتناقض، ولكنه شيء له سببه في منطق هذه الأذهان وطرائق تفكيرها، ولو رجع كل منا إلى أيام الدراسة لاستطاع أن يلم بشيء من خصائص القريحة الرياضية فيمن يذكرهم من رفاقه الذين أظهروا تفوقًا خاصًّا في دروس الرياضة، وهي في الغالب خصائص بينة ملحوظة يمكن جمعها وتلخيصها في خلة واحدة؛ هي اشتغال بداخل الفكر عن الأشياء الخارجية، واستغراق في القضايا العقلية قد يذهل صاحبه عن شئون المعيشة وأحوال العالم، ويجدر أن نجعل شرح هذا الرأي موضوع مقالنا اليوم؛ فإنه موضوع طريف مفتوح للمساجلة.
•••
تنقسم معلومات الإنسان من وجهتها العامة إلى قسمين: حقائق خارجية، وحقائق ذهنية.
ولهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحيانًا وتتآلف العلوم التي تبحث فيها وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها، فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة، ولا يندر أن ترى من يجمع بينهما وبين الموسيقى معًا، فالفارابي مثلًا كان فيلسوفًا رياضيًّا مبتكرًا في الموسيقى، وفيثاغوراس أقدم فلاسفة ما وراء الطبيعة عند اليونان كان يبني فلسفة الكون كله على النسبة الموسيقية بين الأعداد، وقد مر بمصر قبل أيام نابغة من أفذاذ الرياضة هو ألبرت أينشتين صاحب فلسفة «النسبية» التي دهمت الناس ببدع في تعريف الوقت والفضاء، يكفي أن نذكر منها أن الخط المستقيم قد لا يكون أقرب موصل بين نقطتين، وهو فيلسوف رياضي وموسيقار بارع في العزف على القيثار.
وليس يخفى الشبه القريب بين ملامح العظماء من الفلاسفة والرياضيين وملامح العظماء من نوابغ الموسيقيين، فقد تلتبس عليك صورهم حتى لا تكاد تميز بعضهم من بعض، ولا سيما في نظرات العين وسعة الجبهة وارتفاعها، وما كان ذلك كما ترى إلا لاتصال ملكاتهم وغلبة الوجدان عليها جميعًا.
فاعتماد الرياضيين على البديهة أكثر من اعتمادهم على الحس والملاحظة، واستعانتهم بالفرض أكثر من استعانتهم بالتجربة، وموقفهم أمام المجهول موقف من يسلم به فرضًا ولا يستبعد فيه أي شيء، وهذا سر تدينهم وإخباتهم وميلهم إلى تصديق المعجزات والخفايا وما شاكلها مما يلي البديهة الغامضة، ولا تكاد تجمعه بظواهر الأشياء صلة أو يربطه بالحقائق الاستقرائية سبب، وفي عصرنا هذا لم يشتهر أحد من الرياضيين كما اشتهر أوليفر لودج الإنجليزي، وفلامريون الفرنسي، وأديسون الأمريكي، وكلهم من أعظم علماء الرياضيات، وكلهم متفان في إثبات أسرار الروح وكشف غوامض الاستهواء وإماطة الحجاب عن الغيب، حتى اشتهروا — ولا سيما الأولان منهم — بتقديم البحث في هذه الأمور على كل بحث سواه.
وقد بدأ تاريخ علم الحساب في اليونان على يد رجل جعل العلم نحلة ذات شعائر ومراسم وصلوات، فكان يأخذ تلاميذه بصنوف من الرياضات الدينية، ويستبرئ طباعهم بالصبر على كثير من العبادات الشاقة والتكاليف التي كان يقلد فيها كهنة المصريين في شعائرهم وطهاراتهم البالغة في التنطس والتعقيد؛ وكان يعد التلاميذ للفلسفة بدراسة الموسيقى، ثم لا يقبلهم في عداد مريديه المقربين حتى يبلوهم ذلك البلاء الديني العسير الذي كان يفرضه عليهم، ويترقى بهم فيه طبقة بعد طبقة، وهذا الرجل هو فيثاغوراس الذي تقدم ذكره، والذي بقيت فلسفته سرًّا من الأسرار لفرط تكتمه لها وتحرج مريديه من إذاعتها، فظلت مطوية في الصدور والأدراج المقدسة حتى نشرتها المدرسة الأفلاطونية الجديدة في الإسكندرية بعد عدة قرون.
•••
والرياضيون أقدر الناس على إيجاد النسب الذهنية المحدودة التي تدركها الواعية وتستحضرها البديهة، ولكنهم قلما يفطنون إلى النسب الدقيقة والعلاقات الموزعة التي تربط بين الأشياء الظاهرة، ولهم في ذلك طريقة تفكيرية تضحك أحيانًا لخلطها بين حقائق الذهن وحقائق العالم المحسوس، وأذكر من فكاهات هذه الطريقة أن مهندسًا مشهورًا كان في بعض الدواوين التي اشتغلت بها وقع مذكرة فكتب في توقيعه «لم كان» وهي غلطة كان يكررها كثيرًا، ولكن الكاتب الذي عرض عليه المذكرة في هذه المرة كان ضنينًا بمحصوله في النحو فلم يغتفرها له فابتسم وقال متأدبًا: «يا سيدي الباشا يحسن أن نكتبها «لم يكن»؛ لأن «لم كان» خطأ، فنظر إليه المهندس الكبير مغضبًا ورفع رأسه واضطجع في كرسيه ثم صاح به: ماذا تقول؟! ألعلك أنت الآخر من الحزب الوطني؟»
سمعنا ذلك الحوار النحوي السياسي، فاستغربنا الرابطة التي ربطت في ذلك الذهن الرياضي بين مبادئ الحزب الوطني، وتصحيح غلطة نحوية، وبعد تخمين طويل عثرنا بشبه صلة تربطهما وقلنا: لعل المهندس — سامحه الله — جمع بينهما بجامعة الحذلقة، فالحزب الوطني متحذلق؛ لأنه لا يريد أن يترك الأمور تجري في الدنيا كما تركها الله، وذلك الكاتب المسكين متحذلق؛ لأنه لم يقنع بلم كان التي درج عليها الأجداد والآباء.
•••
ونعود بعد هذا الشرح إلى الخيام لنسأل هل هو متصوف؟ ولنا سؤال نسأله قبل ذلك ما هو التصوف؟
والخيام لا يعد من المتصوفة المتعبدين، ولا من المتصوفة الذين يرمزون بالخمر والحان إلى غير معناهما الصريح، ويكنون بالوصل عن الوصول، أو باللذات عن الفيوضات الربانية؛ ولكنه إذا أريد بالتصوف روح التدين والاستهداء والغوص على أسرار الحياة، فمما لا ريب فيه أن الخيام متصوف مطبوع في سويداء قلبه على التدين، ولو جاء شعره كله طافحًا بذكر الخمر، والتغني بمتعة الجسد.
وتفسير ذلك أن العاطفة الدينية إنما تُعرف في صاحبها من اشتغال باله بأمر الدين، وامتلاء نفسه بالشوق إلى حقيقته، وليس من الضروري أن نترقب ظهور هذه العاطفة في أعمال العبادة والنسك والتسبيح لا في غيرها من مظاهر النفس الإنسانية التي لا حد لها، فقد تبدو لك عاطفة التقوى في صورة من الهوس بالإلحاد تذكرك بغيرة الغلاة من ذوي العصبية الدينية؛ وقد تبدو في صورة أخرى يوشك أن لا تفرقها من التهتك والإباحة، وكذلك كان تدين الخيام.
فانظر إلى شعر الخيام ماذا تجد فيه؟! تجد رجلًا يفتأ يعيد عليك نغمة واحدة ولا يعدو في جملة رباعيته أن يقول ما فحواه: «لقد بحثت حتى أضناني البحث فما ظفرت من الصواب بنصيب، طلبت الحق في أمر الدين فأعياني طلابه، طرقت صوامع النساك وغشيت مجالس الحكماء، فخرجت منها كما دخلت، ولم أجد في كل ما قالوه وكتبوه بغية نفسي، ولا انتفعت منهم بما يشفي غلتي ويطفئ شوقي، سألتهم الهداية ولا هداية عندهم، ولا عند غيرهم وا أسفاه! فلنسل إذن بالخمر عن ذلك السر الذي ضللنا طريق مفتاحه ففقدنا بفقده أمل الحياة، لا خير في الدنيا بلا عقيدة في الضمير، فلنتركها لأهلها، ولنغن عن حطامها وجاهها ومجدها الكاذب بكأس من خمر، ورغيف من خبز، وصفحة من كتاب، ونظرة إلى وجه جميل، ذلك بلاغ من الدنيا لمن فاته سر الدين …»
أليست هذه خلاصة إلحاد الخيام، وفحوى رباعياته، وفلسفة الحياة عنده؟ فهل هذه طبيعة رجل لا خطر للدين في قلبه، ولا مكان لأسرار الحياة من لبه؟ وهل هي طبيعة خُلقت غنية عن الدين قادرة على أن تعيش بغيره، وأن تفصل بين حقائقه وحقائق هذه الأشياء التي يحتجنها الناس ويلتذونها، ويرضيهم كل الرضى أن يستمتعوا بها مستقلة بذاتها منقطعة عما وراءها غير مكترثين لغاياتها ومضامينها، ولا سائلين عن لبابها وحكمة خلقها؟ قد يكون ذلك حكم الألفاظ على الخيام، أما السريرة فلا تحكم على الرجل هذا الحكم، ولا ترينا من صاحب الرباعيات إلا شاعرًا فيلسوفًا عناه أمر الدين أيما عناية، واستأثر الشوق إلى العقيدة بفراغ قلبه، فلما عز عليه أن يملأ ذلك الفراغ بما يرضيه ويقنعه، صغرت في عينه الحياة، ومال على الكأس يتخذ من السلوى عن الدين دينًا يجمل به وحشة الحياة ويدفع ملالتها، فإن لم يكن الخيام ممن قصدوا الرمز بالخمر إلى المعاني الإلهية كما كان يفعل المتصوفة، فقد رمز بها إلى تلك المعاني على غير شعور منه؛ فهي عنده كالحرف الذي يرمز به الرياضي إلى القوة التي لا تحصر على الورق، وكأنما كان يحتسيها ليروي بها من يقينه ما لم تروه السماء؛ وليس لمثل هذا يشرب المعاقرون الخمر حين يشربونها، وأقبل عليها يستروح نشوتها، وما هي بالنشوة التي كان يختارها ويود أن يستروحها لو وجد بديلًا منها، ولكن ما حيلة اليائس؟ إنها عوض يتعلل به ولا بد للمرء من علالة.
كذلك تبدي لنا السريرة عجائب ألوانها وأطيافها؛ وتكني لنا بلغة الأضداد عن حقائق أصدق من حقائق الألفاظ والمعاني، فرب إيمان في كلمة كافرة، ورب كفر في صلاة.