تاريخ مصر في العصر الإسلامي
توفي محمد ﷺ سنة ١١ﻫ /٦٣٢م بعد أن وحَّد كلمة العرب؛ فاستطاع خلفاؤه إنشاء دولة إسلامية مترامية الأطراف، إذ لم تنقضِ على وفاته بضع سنين حتى سقطت على يدهم إمبراطورية إيران، وتقلص نفوذ بيزنطة في الشرق الأدنى، وحاز المسلمون الانتصارات المجيدة في الشام والعراق وإيران، ثم ما لبثوا أن فطنوا إلى ما لمصر من عظيم الشأن بفضل موقعها الجغرافي والحربي، وخصوبة أرضها التي تنتج الحنطة، وتدر الخير العميم، فسيَّرا إليها جيوشهم، وتم لهم فتحها سنة ٢١ﻫ/٦٤١م.
وأصبحت مصر ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية، يحكمها ولاة يبعثهم الخلفاء من المدينة أو دمشق أو بغداد، وأصبح الإسلام دين الأغلبية في وادي النيل منذ نهاية القرن الثالث الهجري (٩م)، وظل الولاة يحكمون مصر من قبل الخلفاء إلى أن استطاع أحمد بن طولون أن ينشئ فيها سنة ٢٥٤ﻫ/٨٦٨م دولة مستقلة عن الخلافة العباسية إلى حد كبير.
والمعروف أن سنة جديدة بدأت في حكم بعض الأقاليم التابعة للخلافة حين عظم نفوذ الجند من الترك في البلاط العباسي؛ إذ بدأ الخلفاء يقطعون تلك الأقاليم أولياء عهدهم، ثم بعض قواد الجند. وطبيعي أن هؤلاء القواد الترك كانوا يؤثرون البقاء في عاصمة الخلافة خشية أن تدبر الدسائس ضدهم، وكان الخليفة نفسه يرحب ببقائهم في العاصمة مخافة أن يستقلوا بما يولونه من الأقاليم، فكان هؤلاء لا يحكمون بأنفسهم بل يوفدون إلى الأقاليم نوابًا عنهم، ويتلقون منهم ما يتبقى من الجزية والخراج بعد دفع نفقات الإدارة، فيدفعون إلى بيت مال الخلافة جزءًا منه. وبدأ هذا النظام في مصر منذ سنة ٢١٩ﻫ/٨٣٤م، وبقي إلى أن وفد أحمد بن طولون إلى مصر نائبًا عن واليها القائد التركي.
وأدرك ابن طولون أن في استطاعته الاستقلال بشئون مصر، فقد كانت حكومة العراق قد تطرق إليها الضعف، كما قام الزنج في إقليم البصرة بثورة خطيرة، وظل القتال بينهم وبين جند الخليفة نحو أربعة عشر عامًا، وقامت ثورات إقليمية أخرى في بعض أنحاء الدولة الإسلامية. وكان صاحب الأمر والنهي في الخلافة هو الموفق أخو الخليفة المعتمد الذي لم يكن له من الأمر شيء، وطبيعي أن أعباء الحكم ونفقات الجيش كانت تتطلب الأموال الطائلة؛ فكان الموفق يلح في طلب المساعدة المالية من ابن طولون، ولكن حاكم مصر لم يقدم ما كان ينتظره نائب الخليفة فدب الخلاف بينهما، وكان هذا إيذانًا بعصيان ابن طولون واستقلاله بمصر. ولم يعد دخل مصر يتسرب إلى بيت مال الخلافة في المدينة أو دمشق أو بغداد، أو إلى جيوب الولاة وأصحاب الإقطاع، بل بقيت أموال مصر فيها، وبدأ وادي النيل حياته لنفسه في مجموعة الأمم الإسلامية.
واستقلت دويلات أخرى عن الخلافة العباسية، أو أصبح سلطان الخليفة عليها سلطانًا اسميًّا فحسب، ولكن الدولة الطولونية ومعظم تلك الدويلات الأخرى لم يكن لها أساس قومي في الأقاليم التي كانت مسرحًا لنشاطها، ولم يكن قيامها صدى لحركة في الرأي العام، أو خلاف في العقيدة الدينية، أو المبادئ الاجتماعية السائدة في الدولة العباسية، ولذا فليس غريبًا أن نراها لا تعمر طويلًا. والحق أن مؤسسي تلك الدويلات لم يكن لهم أنصار كثيرون من بني جنسهم، فكانوا في أغلب الأحيان يجمعون جيوشهم من عناصر أجنبية مختلفة، وكان مثل هذا النظام لا يمكن المحافظة عليه إلا بوساطة زعماء ذوي نفوذ شخصي عظيم كالذين يؤسسون الدويلات المذكورة، وكانت هذه الدويلات تسير في طريق الاضمحلال تدريجيًّا بعد ذهاب أولئك المؤسسين.
وهكذا كان طبيعيًّا أن تضعف الدولة الطولونية، وأن يعود حكم مصر إلى العباسيين سنة ٢٩٢ﻫ/٩٠٥م، وعاد الخلفاء العباسيون يرسلون الولاة من قبلهم لحكم وادي النيل إلى سنة ٣٢٣ﻫ/٩٣٥م حين استطاع محمد بن طغج التركي الأصل أن ينظم أمور مصر التي اضطربت بعد سقوط بني طولون، وحصل هذا الوالي على لقب إخشيد، وهو لقب بعض الأمراء الإيرانيين السابقين، واستطاع أن يؤسس الدولة الإخشيدية في مصر، وأن يحصل على قسط وافر من الاستقلال، ونسج على منوال ابن طولون فاستولى على سورية، ثم ضم إلى حكمه مكة والمدينة، وأصبح مصير الحجاز متصلًا بوادي النيل لعدة قرون بعد ذلك.
وقد خلف الإخشيد اثنان من أبنائه، ولكنهما لم يحكما إلا بالاسم فقد كانت مقاليد الأمور بيد العبد الحبشي كافور، الذي كان أبوهما اشتراه بنحو ثمانية جنيهات، ثم أصبح قائدًا في الجيش فأستاذًا للأميرين، فوصيًّا عليهما، فأميرًا على مصر بعد وفاتهما، وكان آخر أمراء الأسرة الإخشيدية صبيًّا في الحادية عشرة من عمره، ورث مع العرش أخطارًا سياسية واقتصادية قضت على دولته: القرامطة في الشرق، والفواطم في الغرب، وملك النوبة في الجنوب، والقحط والوباء واضطراب الأمن في مصر نفسها.
أما الفاطميون، فقد كانوا منذ استقرارهم في إفريقية يتحدون العباسيين، ولا يعترفون لهم بالخلافة أو الرئاسة الدينية والسياسية، بل يرونها من حقهم، وهم نسل فاطمة وعلي بن أبي طالب. وكانوا غير قانعين بإفريقية، فعملوا على الاستيلاء على مصر لخيراتها الواسعة، وموقعها الجغرافي، وليستطيعوا فيها أن يوسعوا نطاق دعوتهم، ويمدوا نفوذ خلافتهم الشيعية.
على أن انتقال الفاطميين إلى مصر أطلق يد عمالهم في شمالي إفريقية، فلم يلبثوا أن استقلوا تمامًا عن الإمبراطورية، وأسسوا أسرة بني زيري في تونس، وبني حماد في الجزائر. ولكن الإمبراطورية الفاطمية كانت قد بلغت أوج عزها في عصر العزيز، حين كان يدعى له في خطبة الجمعة بالمساجد الواقعة بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي، وفي سورية والحجاز واليمن، وحين كان نفوذه يمتد إلى كل هذه الأصقاع، حتى تضاءلت الخلافة العباسية إلى جانب خلافة الفواطم، ثم بدأ الضعف يدب إلى الدولة الفاطمية على يد الخلفاء الضعفاء الذين تقلدوا أزمة الحكم بعد العزيز، وانتقل السلطان إلى يد الوزراء تدريجيًّا، حتى أتيح للوزير الفاطمي منذ سنة ٥٣١ﻫ/١١٣٦م أن يتخذ لنفسه لقب «ملك»، مثل: الملك الأفضل رضوان، والملك الصالح طلائع، والملك المنصور ضرغام. وزاد الطين بلة أن الفوضى عمت بين الجند، وتفاقم التطاحن بين أجناسهم المختلفة، ومنيت البلاد بالمنافسة بين الوزراء، ونسي كل منهم أمور البلاد ونفعها في سبيل نفعه الخاص؛ فكان ذلك كله سببًا في سقوط الفاطميين، ولا سيما حين قوي ساعد الصليبيين، وتطلعوا إلى فتح مصر، وعمل نور الدين صاحب الموصل على منعهم من ذلك حين طلب إليه بعض وزراء مصر مساعدته على وزراء آخرين. وصفوة القول أن الصليبيين ونور الدين سيَّروا الحملات العسكرية إلى وادي النيل، وتنافسوا في توطيد مركزهم فيه إلى أن استطاع شيركوه قائد جيش نور الدين أن يقتل الوزير المصري شاور، وأن يحتل مصر، ويتولى منصب الوزارة فيها سنة ٥٦٤ﻫ/١١٦٩م، ولكنه مات بعد ثلاثة أشهر، وخلفه ابن أخيه صلاح الدين، فقضى على الدولة الفاطمية، ونفذ ما أراده مولاه نور الدين فأحل اسم الخليفة العباسي المستضيء محل الخليفة الفاطمي العاضد في خطبة الجمعة، وكان الأخير على فراش الموت، وتوفي قبل أن يعرف هذا التغيير الخطير. وأسندت المناصب الدينية إلى فقهاء المذهب السني، وعادت مصر إلى هذا المذهب، ولم تكن ثمت مقاومة حتى تمت هذه العودة، «ولم ينتطح فيها عنزان» على حد قول المؤرخ أبي الفداء.
على أن هذه الدولة الواسعة التي بناها صلاح الدين، وامتدت من الدجلة إلى وادي النيل لم تلبث أن قسمت بين أولاده وإخوته، واستطاع أخوه العادل سيف الدين أن يتفق مع العزيز أحد أبناء صلاح الدين، وأن تصبح له المكانة الأولى، فيضم إلى مصر غيرها من أملاك صلاح الدين. وطلب العادل من الخليفة العباسي الناصر لدين الله تقليدًا بحكم مصر والشام، وسائر البلاد التي تحت حكمه، فجاءه هذا التقليد مع الخلع الثمينة له ولأولاده، وكبار رجال دولته، وتم تسليم ذلك في احتفال عظيم.
ومهما يكن من الأمر فإن أمراء الأيوبيين ظلوا يحكمون الأقاليم المختلفة من إمبراطوريته الكبيرة، ولكن كلًّا منهم كان يخشى الآخرين، ولا يثق بهم، فاضطروا إلى مسالمة الصليبيين حينًا، وعقد بعضهم مع الصليبيين اتفاقًا، قوامه أن يساعدوه على منافسيه لقاء ما ينزل لهم عنه من الامتيازات، وأفاد المسيحيون من ذلك كثيرًا. وحسبهم أن الملك الكامل نزل للإمبراطور فريدريك الثاني عن بيت المقدس لقاء تعهده بمساعدة الملك الكامل ضد أعدائه.
وقد وجه الصليبيون إلى مصر ثلاث حملات في عصر خلفاء صلاح الدين، ولكنهم لم يوفقوا فيها، وكان للأيوبيين الفضل في حماية وادي النيل من هذه الهجمات. وسقطت الدولة الأيوبية حين ضعف سلاطينها، وقوي شأن عبيدهم وجندهم من المماليك الذين انتهى بهم الأمر إلى القبض على مقاليد الحكم سنة ٦٤٨ﻫ/١٢٥٠م. وانقضى بسقوط الأيوبيين عهد الأسرات الوراثية الحاكمة، إذ الواقع أن الوراثة لم تكن دائمًا القاعدة المتبعة في نظام العرش عند المماليك، ولا سيما الشراكسة منهم، بل كانت دولتهم حكومة حربية أوليجاركية، البقاء فيها للأصلح، والعرش فيها لأقوى المماليك، وأعظمهم نفوذًا، وإن حدث أن أفرادًا من أسرة واحدة — كأسرة قلاوون — تعاقبوا على عرش مصر فترة من الزمن. وظل المماليك البرجية أو البحرية — وهم من الترك والمغول — يحكمون وادي النيل إلى سنة ٧٩٢ﻫ/١٣٩٠م، ثم خلفهم المماليك الشراكسة الذين استمر سلطانهم إلى سنة ٩٢٢ﻫ/١٥١٧م. وعلى الرغم من أن معظم سلاطين المماليك كانوا لا يمكثون على العرش طويلًا، وأن المنافسات بينهم كانت تؤدي إلى الحروب الأهلية، والمؤامرات، والثورات، والسلب والنهب، وأنهم لم يراعوا نظام الوراثة في الحكم، نقول: إنهم على الرغم من ذلك كله أفلحوا في إقامة إمبراطورية إسلامية عظيمة في الشرق الأدنى، ولكن تسرب الضعف إلى سلاطينهم في نهاية القرن التاسع الهجري (١٥م) بسبب بعدهم عن الشعب، واستغلالهم إياه استغلالًا معيبًا، يعود عليهم بالمال الوفير، ويترك الشعب في بؤس شديد، فضلًا عن أن الخراب المالي حل بالبلاد عندما كشف فاسكودي جاما طريقًا جديدًا للوصول إلى الهند حول رأس الرجاء الصالح، فتحولت التجارة إلى هذا الطريق، وضاعت على المماليك وعلى مصر المكوس التي كانت تفرض على التجارة التي تمر في مصر وسورية، فكان ذلك ضربة قاضية على حكم المماليك، وفاتحة لانتهاء دولتهم.
وكانت الدولة العثمانية الفتية تطمع في الاستيلاء على مصر، واستطاع السلطان سليم الأول أن ينتحل المعاذير، فأخذ على المماليك أنهم كانوا يجيرون من يلتجئ إليهم من أعدائه، وأنهم كانوا يوالون عدوه الشاه إسماعيل الصفوي، وحارب سليم الشاه إسماعيل، وانتصر عليه، ثم انقلب يزحف على مصر ففتحها سنة ٩٢٣ﻫ/١٥١٧م، وأصبحت مصر ولاية عثمانية، وانتقل مركز العالم الإسلامي منها إلى القسطنطينية.
ووضع العثمانيون لحكم مصر نظامًا يقضي بتوزيع الحكم بين الوالي العثماني، وديوان مكون من ضباط جيش الاحتلال على أن تبقى السلطة الإدارية المحلية في يد (البكوات) أمراء المماليك، وكان الغرض من هذا التوزيع منع حكام وادي النيل من الاستقلال عن الباب العالي، ولكنه لم يستمر أكثر من قرن واحد، إذ دب الضعف في الدولة العلية، وزادت سلطة المماليك في مصر. والحق أن الحكم العثماني في وادي النيل من بداية الفتح إلى نهاية القرن الثاني عشر الهجري (١٨م) كان فترة ركود، بل كان من أظلم العصور في التاريخ المصري عامةً، وليس فيه ما يستحق الذكر إلا ظهور علي بك الكبير واستقلاله بمصر سنة ١١٨٣ﻫ/١٧٦٩م.
ولم تكن مصر لتبقى بعيدة عن الثورة الفرنسية وآثارها الدولية فغزاها نابليون سنة ١٧٩٨ ميلادية، وكانت الحملة الفرنسية على مصر ثم ظهور محمد علي فاتحة التاريخ المصري الحديث، وإيذانًا باندماج وادي النيل في زمرة الأمم الحديثة بدون أن يفقد صلته بالعالم الإسلامي.
مصر والأحداث السياسية في العالم الإسلامي
ولعل من وسائل البحث في نصيب مصر في تطور الحضارة الإسلامية أن نعرض سريعًا الأحداث السياسية العظيمة التي كان لمصر فيها شأن خاص.
أما الدولة الطولونية فكانت أقدم مثل لاستقلال العنصر التركي بحكومة في قلب العالم الإسلامي، وقد تلتها أسرات تركية أخرى، ولكن ابن طولون هو الذي شق الطريق وأظهر إلى أي حد يمكن لحاكم قوي أن يصل إلى السلطان السياسي والحربي في إمبراطورية إسلامية اتسعت أرجاؤها حتى أصبح من العسير على الخلفاء الضعفاء أن يحتفظوا بنفوذهم فيها.
وأصبحت مصر في عصر الفاطميين عاصمة إمبراطورية شيعية كبيرة، على حين أن إيران لم يصبح المذهب الشيعي دين الدولة الرسمي فيها إلا بعد ذلك بنحو خمسة قرون. والحق أن دعوة القرامطة وحركتهم الثورية كانت في الشرق الأدنى إرهابية غير موفقة، ولكنها تمخضت في شمالي إفريقية عن نظام حكومي سليم على يد الفاطميين.
ولما انتقل الفاطميون إلى مصر أتيح لوادي النيل أن يكون مركزًا من المراكز الثلاثة التي انقسم إليها العالم الإسلامي في ذلك الوقت، والتي كان على رأس كل منها خليفة من الأسرات الثلاثة الرئيسية في الإسلام: خليفة عباسي في بغداد، وخليفة فاطمي علوي في مصر، وخليفة أموي في الأندلس. ولم يعد لمصر استقلالها فحسب بل أصبحت ندًّا ومنافسًا للخلافة العباسية نفسها.
أما في عصر الدولة الأيوبية، فقد استطاع صلاح الدين أن يوقع بالصليبيين الهزيمة الساحقة في واقعة حطين، ثم فتح بيت المقدس، وجعل مملكتهم في الشام تنكمش، ولو توفر له أسطول قوي لقضى عليها نهائيًّا. وقد غزا الصليبيون مصر في العصر الأيوبي، ونجحوا مرتين في الاستيلاء على دمياط: الأولى سنة ٦١٥ﻫ/١٢١٨م، وقد هزمهم بعد ذلك الملك الكامل في المكان الذي أطلق عليه بعد ذلك اسم «المنصورة» إشارةً إلى هذا النصر، وبرغم الفظائع الكثيرة التي أتاها الصليبيون في دمياط فإن السلطان الأيوبي الملك الكامل كان شديد التسامح معهم فأكرم أسراهم ومنحهم هدنة طويلة؛ حتى أنهم كتبوا إليه بعد إخلاء دمياط يعترفون بكرمه وحسن معاملته، ويذكرون له نقله المرضى والعجزة على نفقته، وأنه منع إهانة المسيحيين بالقول أو الإشارة. أما المرة الثانية التي استولى فيها الصليبيون على دمياط، فكانت في الحملة الصليبية التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا سنة ٦٤٧ﻫ/١٢٤٩م، وتقدم لويس بجيشه إلى المنصورة، ولكنه أُسر في واقعة فارسكور ومعه معظم الأشراف من رجال جيشه، ولم يفك أسرهم إلا بعد فدية عظيمة، وقد أضعف فشل هذه الحملة روح الصليبيين إلى أبعد حد.
وكان للأيوبيين وعلى رأسهم صلاح الدين الفضل في إرجاع المذهب السني إلى مكانته الأولى في الشرق الأدنى بعد أن أضعفه الفاطميون إلى أبعد حد، ومن أعظم منشآت الأيوبيين في الشام ومصر المدارس، وأول ما نشأت المدرسة بهذا الاسم كان على يد السلاجقة في إيران، وانتقلت منها إلى مصر والشام على يد الأيوبيين، وكان من أول أغراضها نشر التعاليم السنية، وتخريج الأساتذة والموظفين المخلصين للمذهب السني، والذين يعملون على محاربة التعاليم الشيعية … وفضلًا عن ذلك فإن سلاطين الأيوبيين كانوا ذوا مقدرة سياسية يحسنون المفاوضات مع المسيحيين، ويعقدون مع بعضهم الاتفاقات الحربية، والمعاهدات التجارية التي تعود على مصر بالنفع العميم.
ويلوح أن تطورًا جديدًا نشأ على يد الأيوبيين في العلاقة بين مصر والشام، فإن الأخيرة لم تعد إقليمًا يفتحه أمراء مصر الأقوياء، ويحكمونه من مصر نفسها، بل كان سلاطين الأيوبيين حكامًا على مملكة إسلامية في الشرق الأدنى قوامها مصر وسورية متحدتين، وكذلك كان الحال في عصر المماليك، والميزة الأولى للأيوبيين أنهم حموا مصر والعالم الإسلامي من هجمات الصليبيين، ولكن الذين وجهوا الضربات القاضية إلى الصليبيين هم السلاطين المماليك. فالسلطان الظاهر بيبرس البندقداري بزغ نجمه في عصر سلفه السلطان قطز حين تولى قيادة الجيش المملوكي الذي أوقع بالمغول هزيمة حاسمة في معركة «عين جالوت» بفلسطين سنة ٦٥٧ﻫ/١٢٥٩م.
وكان المغول قد أخذوا بغداد في العام السابق، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، ثم استولوا على سورية، وهددوا مصر، بل أرسلوا إلى السلطان المملوكي يطلبون منه الخضوع لهم. ولا ريب في أن هجوم المغول كان من أشد الأخطار التي هددت الشرق الأدنى والحضارة الإسلامية، فإنهم لو تم لهم الاستيلاء على القاهرة لخربوا عمائرها، ونهبوا كنوزها الفنية، وأتلفوا مخطوطاتها الثمينة، ونقلوا صناعها، ولما أتيح لوادي النيل أن يعرف ازدهار العلوم والفنون الذي كان مسرحًا له في عصر المماليك. ومما يزيد في جلال العمل الحربي الذي قام به المماليك في صد المغول أن قدوم هؤلاء إلى الشرق الأدنى كان بتفاهم مع الصليبيين، ومع ملك أرمينية، وأن المغول حين تمت لهم السيادة على الأقاليم الداخلية في سورية كانوا على وفاق مع الصليبيين الحاكمين في إقليم الساحل، فأصبح الإسلام في الشام ومصر مهددًا بأن يفقد كل سلطان سياسي، وكان المغول في الشام يضطهدون المسلمين، ويشملون المسيحيين برعايتهم.
ولم يكن بيبرس قائدًا عظيمًا فحسب، أو حاكمًا شديد العناية بتنظيم الجيش، وإنشاء البحرية، وإصلاح الثغور والحصون، وإنشاء البريد، وتعبيد الطرق، وتخفيف الضرائب، ولم يعنَ فقط بعمارة الحرم النبوي وقبة الصخرة تدعيمًا لنفوذ مصر على الأماكن المقدسة، وبشن الحروب على الصليبيين الذين أنهكتهم المنافسات، والجري وراء المنافع المادية، والذين لم يبقوا بعد صلاح الدين إلا بفضل النزاع بين خلفائه من الأمراء الأيوبيين، ولم يكن فقط صاحب الفضل في القضاء على طائفة الحشيشيين التي كانت تؤذي المسلمين والمسيحيين على السواء، لم تكن لبيبرس كل هذه المزايا فحسب، بل كان سياسيًّا عظيمًا. وحسبه فخرًا في هذا الميدان أنه نجح في تحقيق حلم أحمد بن طولون فجعل مصر عاصمة الخلافة السنية. أجل، إن ابن طولون فكَّر قبل بيبرس بأربعة قرون في هذا المشروع الخطير، فدعا الخليفة العباسي المعتمد على الله إلى القدوم إلى مصر هربًا من الموفق الذي كانت له السلطة العليا في الجيش والحكومة، والذي اغتصب السلطان حتى لم يبق للخليفة منه شيء. وطبيعي أن وجود الخليفة في وادي النيل كان من شأنه أن يزيد في نفوذ ابن طولون، ولو نجح هذا المشروع لتغيير إلى حد ما مستقبل الخلافة ومستقبل مصر، ولكن الواقع أن المعتمد لم يفلح في الهرب إلى مصر؛ إذ قبض عليه عيون أخيه الموفق، وأرجعوه إلى عاصمته شبه سجين. أما بيبرس، فإنه أراد تثبيت مركزه من الوجهة الشرعية فاستدعى من الشام سنة ٦٥٩ﻫ/١٢٦١م أميرًا من الأسرة العباسية كان قد فر من بغداد عندما فتحها التتار، وقتلوا المستعصم بالله سنة ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م.
ولنترك الآن بيبرس وانتصاراته على المغول والصليبين، وتنصيبه الخليفة العباسي في مصر، ولنعد إلى السلطانين المملوكين الآخرين اللذين كان لهما الفضل الأخير في طرد الصليبين من الشرق الأدنى: قلاوون، وخليل. أما قلاوون ٦٧٨–٦٨٩ﻫ/١٢٧٩–١٢٩٠م، فقد عقد هدنة مع الصليبيين؛ لأن المغول كانوا يتأهبون للإغارة على مصر فهزمهم قلاوون عند حمص هزيمة فاصلة سنة ٦٨٠ﻫ/١٢٨٢م، ثم تحول إلى الصليبيين فطردهم من طرابلس، ومات وهو يستعد لغزو عكا، ومع ذلك كله فقد وطد قلاوون الروابط الاقتصادية مع كثير من ملوك أوروبا وأمرائها، وأمراء اليمن وسيلان، وفي عهد الأشرف خليل سقطت عكا في يد المسلمين، وتبعها سائر أملاك الصليبين في الشام، فانقرضت دولهم فيها.
ولا يسعنا أن ننسى أن مصر في عصر المماليك كانت واسطة عقد العالم الإسلامي كله، وحسبنا أن سلطانًا كالناصر محمد بن قلاوون طبقت شهرته العالم المتمدين في ذلك الوقت، فتقرب إليه إمبراطور بيزنطة، واتصل به إمبراطور الهند، وطلب إليه أن يساعده على المغول، وبعث إليه البابا وبعض الأمراء المسيحيين في أوروبا وفودًا تخطب وده، وتطلب إليه أن يكرم المسيحيين في دولته، وتعد بأن تكرم المسلمين في أوروبا.
ولسنا نزعم أن ثورة محمد علي وعمله على الاستقلال بمصر كانا من أسباب تعقد المسألة الشرقية، وازدياد الضعف في الدولة العلية، فالحق أنهما نتيجة، أو على أقل تقدير ظاهرة لهذا الضعف الذي دب إلى الدولة منذ بدأ انهزامها أمام النمسا والروسيا بسبب ضعف السلطة المركزية، وفساد الجيش والإدارة، وتدخل الأجانب في شئون الدولة الداخلية والخارجية.
وخطت مصر في عصر إسماعيل وخلفائه خطوات واسعة في سبيل الإفادة من المدنية الغربية، ولكنها لم تفقد يومًا من الأيام صلتها بحضارة الإسلام، أو زعامتها بين الأمم الإسلامية.