١
تتمثل أولى القراءات البنيوية في قراءة الدكتور صلاح فضل لشعر أمل دنقل، وذلك في
دراسته التي قدَّمها بعنوان «إنتاج الدلالة في شِعر أمل دنقل.»
١
وتقوم دراسة الدكتور صلاح فضل لشعر أمل دنقل — كما يقول هو: «على فكرتَين أساسيتَين
من
النقد البنيوي الحديث: إحداهما ترى أن إنتاج الدلالة في الشعر يقوم على الصراع بين
البنية القصصية والغنائية، على اعتبار أن البنية القصصية تعتمِد على المحور السياقي،
وأن
البنية الغنائية تعتمِد على المحور الاستبدالي … أما الفكرة الثانية فمؤداها أن التزاوج
هو الذي يكشف عن «ميكانيزم» النص الشعري، وهو يتمثل في بروز عناصر مُتعادلة من الوجهة
الصوتية والدلالية في مواضع مُتعادلة من القصيدة، مما يكفل إنتاج دلالتها وضمان وحدتها.»
٢
ومعنى هذا، أن هذه المقاربة ستعتمد على مبدأ من مبادئ المنهج البنيوي، ويقترح الدكتور
صلاح فضل تعديلًا على المبدأين كليهما؛ ففيما يخصُّ المبدأ الأول وهو المحور الاستبدالي
والمحور السياقي، يرى الدكتور صلاح فضل أن هذَين المحورَين عندما ينتقلان إلى دراسة
الشعر
فإن مفهومهما لا ينبغي أن يقِف عند هذا الحد اللغوي البسيط، بل يمكن له أن يمتدَّ
ليشمل
مستويات عدة. وفي هذا الإطار يسوق الناقد جوانب ثلاثة تتمثل — من وجهة نظره — في
محور
الاستبدال؛ الأول: إحالة الدلائل على الجانب الصوتي الموسيقي من طريق ما كان يُسمى
بالإيحاء المُنبثق أساسًا من تحوُّل الصوت إلى معنى فيُصبح وقعُ الكلمة موسيقيًّا،
هو مناط
إيقاعها الدلالي. الثاني: استبدال الكلمة المتجاورة مع غيرها بكلمةٍ أخرى من نسَقٍ
مختلف،
فيفجأ المُتلقي ويصدِمه — ولو لم يتولَّد عن ذلك مجاز من نوعٍ ما — أنه ضمَّ المُخالِف
وكسَرَ
المُتصاحِب. الأخير: نبذ المستوى العادي للتعبير المباشر واقتناص الصور المُجسَّمة
باعتبار
كل صورةٍ بديلًا رمزيًّا عن جملةٍ نثرية أو أكثر، قد تؤدي بشكلٍ ما طرفًا من مفهومها،
وإن
لم تؤدِّ على الإطلاق دلالتها.
وأما أشكال الحركة السياقية، فهي تندرِج في البساطة والتعقيد على النحو الآتي؛ أولًا:
أبسط أشكالها أن تعتمد على حدَثٍ متكئ بدوره على خلفيةٍ زمنية مُتتالية، وتمضي في
إشباعها
للتوالي المُتدرِّج لهذا الحدث على نحوٍ قصصي بسيط، ويُلاحظ أن هذا أيضًا أفقر الأشكال.
ثانيًا: لكن الغالِب أن تتألف من حركاتٍ مختلفة، تعتمد على تكنيك المَشاهد المُتباعِدة
نسبيًّا، وإن كان يَحكُمها إيقاع واضح وهدف مركزي مُتبلور يضمَن اتساقَ تأليفها.
أخيرًا: أنه
أحيانًا لا تتضح وحدة هذا الإيقاع حتى مع التأمُّل العقلي، وتُتْرَك للتأثير الناجم
عنها
بشكلٍ مُبهم.
وقد أدَّت هذه الاقتراحات التي قدَّمها الدكتور صلاح فضل على هذَين المِحورَين إلى
إجراء
تعديلٍ على النموذج الذي قدَّمه «جريماس» لمستوى المضمون المعادل لمستوى التعبير؛
إذ ربط
العنصر الدرامي بالمحور الاستبدالي، مُقللًا من ارتباط العنصر القصصي بهذا المحور.
٣
وبهذه التعديلات والاقتراحات التي قدَّمها الدكتور صلاح فضل على بعض الإجراءات
البنيوية، دخل إلى العالَم الشِّعري لأمل دنقل بقراءة دواوينه الأربعة: البكاء بين
يدي
زرقاء اليمامة، وتعليق على ما حدث، ومقتل القمر، والعهد الآتي.
٤
ويُبرِز الناقد أهم المفاعلات الدرامية في شعر أمل دنقل. وهذه المفاعلات هي ما يمكن
أن
يُطلَق عليها «تكنيك وأنماط» التبادل والتقاطع بأشكالهما المختلفة. ويقوم التبادل
بين
العناصر الماثلة في آنٍ واحد أو بين الحاضر والماضي. أما التقاطُع فإن أحد الطرفَين
فيه
لا يحلُّ محل الآخر مثل التبادُل، بل يتعامد عليه ويُقيم معه إشكاليةً مُتشابكة.
وهو بدوره قد
يتمثل في جزيئات تصويرية، أو في لوحاتٍ كاملة يتم نَسجُها في ضفيرةٍ متقاطعة.
ولإثبات ذلك يسوق الدكتور صلاح فضل نماذج عشوائية من ديوان أمل دنقل «تعليق على ما
حدث» مُجتزئًا فقراتٍ من بعض قصائده المتنوعة. ففي قصيدة «فقرات من كتاب الموتى»
يقول أمل دنقل:
٥
كلَّ صباحٍ ..
أفتحُ الصنبورَ في إرهاقْ،
مُغتسلًا في مائِه الرقراقْ،
فيسقط الماءُ على يدي .. دَمًا!
…
وعندما ..
أجلسُ للطعامِ .. مُرْغَمًا،
أُبصِرُ في دوائرِ الأطباقْ
جَمَا جِمَا ..
جَمَا جِمَا ..
مفغورةَ الأفواهِ والأحداقْ!
لقد اعتمد الناقد في قراءته لهذه المقطوعة على العناصر المتبادلة التي
تُفجر الصراع داخل النص، وهو في هذا يقول: «فالتبادل بين الماء والطعام من جانب،
والدم
والجماجم من جانب آخر — وكلها ماثِلة في لحظة آنِية — هو الذي يفجر الصراع الدرامي
بين
مستويات الحياة اللاهية والواعية في الموقف الشعري.»
٦ أي أن الناقد استغل عنصر التبادل بين المفردات في مَجاميعها المختلفة؛
٧ لإظهار المُفارقة بين وقائع الحياة المختلفة، وهذا هو الإبداع السليم؛ أن
تتغلغل مظاهر الحياة في نسيجه لكنها ليست كما هي، بل مُلتفَّة بعباءة الجماليات الفنية
التي يُخالف منطقها منطق الواقع المعيش.
وثمة تبادل من نوع آخر بين الحاضر والماضي التاريخي على أساسٍ من التعادل الرمزي
بين
الزمنَين، وهو ما طبَّقه الدكتور صلاح فضل في قراءته لمقطوعةٍ من قصيدة «الحِدَادُ
يليق
بقطر الندى» التي يقول فيها أمل دنقل:
٨
قَطْرُ النَّدى .. يا خالْ،
مُهْرٌ بلا خيَّالْ.
… …
قَطْرُ النَّدى .. يا عينْ،
أميرةُ الوجهينْ.
فهذه المقطوعة تقيم — كما يقول الناقد: «تعادُلًا تبادُليًّا بين خمارويه
(الحاكم المُتْرَف الذي قتلَه غلمانه وهو في فراشه) وقطر الندى بِنته من صُلبه وامتداده
الحيوي، وبين الحُكام الذين ضيَّعوا مصر في نكسة ١٩٦٧م.» وتجعل من الزفاف الالتحام
العضوي
برمْز العالَم العربي وهو الخليفة. كما يؤدي الأسْرُ إلى الحيلولة دون إتمام هذا
الالتحام. ويُصبح فكُّ الأسْر مرهونًا بتغيير الواقع اللاهي الغافل، ويُفجر هذا التبادل
بين
الماضي والحاضر دراما النكسة المُوجَّهة على مستوى الشعر. هذا عن التبادل.
٩
أما عن تقاطُع العناصر الذي يقوم على التعامُد فيما بينهما وليس إحلال أحدهما مكان
الآخر كما في التبادل، فقد ساق الدكتور صلاح فضل نماذج عدة تُبين مُستوياته. وأول
هذه
النماذج قول أمَل دنقل في قصيدته «فقرات من كتاب الموت»:
١٠
تُوقِفني المرأة ..
في استنادها المثير
على عمود الضوءِ:
(كانت ملصقاتُ «الفَتْحِ» و«الجَبْهَة» ..
تملأُ خلف ظهرها العمودا!)
ومن الواضح أن المقطوعة الشعرية تقوم على طرفَين؛ الأول: الشاعر/الشهيد،
والأخير: المرأة. ومن ثَمَّ فلا يمكن أن يحلَّ أحدهما محل الآخر، وإلا لم تكن هناك
مقطوعة
شعرية لافتقاد أحد طرفي الصراع؛ ولذلك يقول الدكتور صلاح فضل: «فالتعامُد بين هذَين
الطرفَين لا يعتمد على حلول أحدهما محل الآخر مما يُعادله أو يُشبهه، وإنما يقوم
على نوعٍ
من تنافي التجاور؛ إذ يستحيل تقاطُعهما إلى مَولد الصراع الدرامي.»
١١
وإذا كان هذا النوع من التقاطُع قد ظهر في جزيئات تصويرية بسيطة، فهو يظهر في مواضع
أخرى في لوحاتٍ فنية كاملة، وهو ما سمَّاه الناقد بالتقاطُع المُركَّب بين الفقرات
الكبرى،
ومثال ذلك قول أمل دنقل في قصيدة «الحِداد يليق بقطر الندى»:
١٢
جوقة
:
قطْرُ النَّدى .. يا مِصْر.
قطْرُ النَّدى في الأسْر.
قطْرُ النَّدى ..
قطْرُ النَّدى ..
الصوت والجوقة
:
.. كان «خمارويه» راقدًا على بحيرةِ الزئبقْ،
في نومهِ القيلُولةْ.
فمَنْ تُرَى ينقذُ هذه الأميرةَ المغلولةْ؟
مَنْ يا تُرَى ينقذها؟
مَنْ يا تُرَى ينقذها؟
بالسيف ..
أو .. بالحيلةْ؟!
فالصراع هنا قائم على التقابل الإيقاعي بين الجوقة والصوت، ولم يتم حله
إلا عن طريق اندماج الطرفَين موسيقيًّا وتصويريًّا. أي أن الشاعر استطاع هنا أن يستخدم
آليتَين من آليات التعبير لبيان تفجير هذا الصراع الدرامي بين الأصوات؛ الأولى: الإيقاع،
والأخيرة: تعدُّد الأصوات داخل المقطوعة الشعرية، بل داخل النص كله. وهذا الالتباس
بين
تعدُّد الأصوات والموسيقى إحدى السمات المهمة التي تُميزُ شعر أمل دنقل عن غيره من
الشعراء، وذلك لاعتماده على المحور السياقي الدرامي المتفجر.
ثم يُبرز الدكتور صلاح فضل أثر التلاحم بين المحورَين: الاستبدالي والسياقي داخل
النسيج
الشعري بقوله: «وكلَّما تألَّفَتِ القصيدة من مجموعة من الحركات وأمكن تعانُق المستويَين:
الاستبدالي والسياقي فيها، حققت على ما يبدو أكبر قدرٍ من قوة الأداء الشعري؛ لأنها
تُحدِث
حينئذٍ هذا التماس المنتِج للبنية العميقة، أما إذا سارت على نمطٍ سياقي بسيط أو
تخلَّصت
تمامًا منه، فإنها لا تنجح حينئذٍ في الوصول إلى هذا المستوى.»
١٣
•••
ولم يكتفِ الدكتور صلاح فضل بهذه الفقرات المجتزأة من القصائد، بل شرع في تطبيق مبادئ
المنهج البنيوي على قصيدةٍ بأكملها، بغية تأصيل هذه المبادئ، وترسيخها، والتأكد من
صلاحيتها في الدراسة. وقد اختار لذلك مجموعة «العهد الآتي» لأنها — كما يقول: «تُمثل
نقلةً ناضجة تتكشَّف فيها وسائل الشاعر في الأداء وتتلاحم جديلته بقوة.» ويخصُّ الناقد
قصيدة
«الحزن لا يعرف القراءة» لاستيفاء هذا الغرض (التلاحم بين المحورين) مُقسمًا إيَّاها
إلى
خمسة مشاهد. يقول دنقل في المشهد الأول حاكيًا:
١٤
تأكلُني دوائر الغُبَار.
أدُورُ في طاحونةِ الصمتِ، أَذُوبُ في مكانيَ المُخْتَار.
شيئًا فشيئًا .. يختفي وجهي وراءَ الأقنعة.
أعمدةُ البَرْقِ التي تُطل من نوافذِ القطار،
كأنها سِرْبُ إوَزٍّ أسودُ الأعناق،
يطلقُ في سكينتي صرختَه المروِّعة،
ويختفي .. مُتابِعًا رحلتَه مع التيار!
ويُسْتَشَفُّ من تعليق الدكتور صلاح فضل على هذا المشهد أنه مبني على
ضربٍ من المفارقة بين الثبات الموهوم غير الحقيقي والحركة السالبة؛ حيث تصنع سكينة
الشاعر الظاهرية مع دوران الأشياء من حوله حالةً من المفارقة، تتولَّد عنها حالته
النفسية
الكئيبة. وقد نهضت الصورة الشعرية المحكمة ببيان ذلك على نحوٍ قوي.
وبما أن الشاعر اتكأ في هذا المشهد الحاكي على المحور السياقي مع تأسيسه على بنية
المفارقة، فقد اعتمد هذا المشهد في نسيجه الداخلي على تلاحُم مبدأين من مبادئ المنهج
البنيوي؛ الأول: المحور السياقي، الأخير: جدلية الثنائيات، فضلًا عن الصورة التي
رمزت
لكل معاناة الشاعر ومُكابدته «أعمدة البرق كسرب إوز أسود الأعناق … أو صاروخ يُروع
الشاعر
بصرخته ويختفي.» ووقوع الشاعر على هذه الألفاظ دون غيرها، ووضعها في سبيكةٍ مجازية،
تُشبع
رغبته الاستبدالية، ومن ثَم فإن هذا المشهد يُمثل أعلى درجة للنضج في تطبيق مبادئ
المنهج
البنيوي. وفي المشهد الثاني يقول أمل دنقل:
١٥
توقَّفي أيتُها الأشْرطةُ البيضاء؛
فقد نرى الخيطَ الذي خلَّفَهُ الثعبانُ فوق الصحراء،
وقد نرى عظامَ مَنْ ماتوا من الظمأ،
وقد نرى .. وقد نرى ..
لكنما الأشياء ..
يَدُبُّ فيها نبضُها الوحْشِيُّ، نبضُها المكبوتْ.
تذروُ على وجهي دقيقَ دفئها ..
ومِزَقًا من ورقاتِ التُّوتْ.
تشرعُ في العيونِ صولجانَها المكسوَّ بالصدأ،
وفي المقاهي ترفعُ الصوتَ، وتحكي عن فضائحِ البيوتْ!
في آخر العمرِ، تصيرُ الأُذْنُ عادةً ..
سلَّةَ مهملاتْ …!
ومن الملحوظ أن هذا المقطع لم يعتمد على المحور السياقي لتوقف
الطابع القصصي، بل اعتمد على محور الاستبدال، وتحقيقًا لهذا اتكأ الشاعر على إمكانات
لغوية عدة، منها الاعتماد — كما يقول الدكتور صلاح فضل: «على شحذ الإيقاعات الغنائية
والتصويرية. فتكرار الفقرات «فقد نرى .. وقد نرى وقد نرى»، والانتظام في استخدام
القافية، سواء كانت ألفًا ممدودة مثل (بيضاء، صحراء، أشياء)، أو قريبة منها (الظمأ،
الصدأ)، أو تاء تسبِقها واو المد (مكبوتْ، توتْ، بيوتْ) أو تلك القافية الأخيرة التي
تكاد
تجمع بينهما (مهملات). كل ذلك يدعم الجانب الغنائي في المقطع»
١٦ مما يدلُّ على تأخير المحور السياقي وتعزيز المحور الاستبدالي. وأما في
المشهد الثالث، فيقول أمل دنقل:
«جوارب السيدة المُرتخية
ظلَّت تثيرُ السخرية،
وهي تسيرُ في الطريق.
وحين شدَّتها تمزَّقتْ ..
فانفجر الضِّحْكُ، ووارتْ وجهها مُستخذِية.
وهكذا أسقطها الصائدُ في شباك سيَّارته المفتوحة،
فارتبكتْ وهي تُسَوِّي شَعْرَهَا الطليق،
وأشرقتْ بالبسماتِ الباكية!»
وهكذا، فقد اكتسب هذا المقطع قوة درامية مُفعمة بالحزن، وقد نتج هذا
الطابع الدرامي عن توتُّر حاد بين أطرافه المتعددة؛ فجوارب السيدة المرتخية تعادل
الفقر،
والسخرية تعبير عن قسوة المجتمع، وشدُّها هو الجهد الذي يُبْذَل للارتقاء، لكن هذا
الارتقاء لم يحدث، فهو محكوم عليه بالإخفاق، مما يؤدي إلى التمزُّق. وتفاقُم السخرية
بانفجار الضحك هو نتيجة هذا الإخفاق، والخزي مداه. أما الصياد، فهو المُنقذ المدمِّر،
والارتباك علامة الحيرة في سلوك هذا الطريق «البغي» وتنازع القِيَم، والبسمة المختلطة
بالبكاء تعبير عن ذروة الانتقام من النفس ومن الآخرين معًا، انتقامًا دراميًّا مُفعمًا
بالمتعة والألم؛ ولذلك كان المحور السياقي هو الأكثر ظهورًا من الاستبدالي الذي توارى
إلى حدٍّ بعيد، وفي المشهد الرابع يقول أمل دنقل:
١٧
رءوسُنا تسقطُ .. لا يسندُها ..
إلا حوافُّ الياقةِ المُنتصبة!
فارْحَمْ عذابي أيُّها الألم ..
واسند حُطامِيَ المنهار.
ويُقيم هذا المشهد تعادلًا مع ما سبقَه باعتماده على المحور الاستبدالي
مُستبعدًا المحور السياقي؛ ليُشكل لُحمة قوية بين أجزاء القصيدة؛ فمشاهدها تتراوح
بين
الاعتماد على المحورَين الاستبدالي والسياقي، مما أحدث تفجيرًا دراميًّا مفعمًا
بالحزن.
ومع ذلك، يقلل الدكتور صلاح فضل من الخاتمة التي ختم بها الشاعر قصيدته، فيقول: «ولعل
هذا ناجم من تأثُّره بثقل الموروث التقليدي، فنراه يصرُّ على خاتمةٍ مباشرة صريحة
في وقعها
الأخير أو نزعها الأخير، تبدو وكأنها خاتم الشعر العربي يَطبع به قصيدته بتلخيص حِكمتها
في كلماتٍ مدعية أخيرة.»
ويجمل الدكتور صلاح فضل رأيه إزاء هذه المجموعة «العهد الآتي» في إقامتها على
الامتزاج بين محوري الاستبدال والتعاقُب بقوله: «فإذا ما انتقلنا مع أمل دنقل إلى
«العهد
الآتي» لاحظنا عُمق الروح الاستبدالي الذي هو أقرب إلى جوهر الشعر في الهيكل العام
للديوان وتفاصيله الجزئية؛ فابتداءً من العنوان هناك مفارقة التقابل بين العهود:
القديم
والجديد والآتي. وهذا يُجسد طموح الشاعر إلى استرداد دوره، ويُصبح توقه إلى أن يكون
نبيَّ
عصره، وأن تتقدَّس كلماته، هو المحور الكامن وراء جميع مواقفه واختياراته، فهو بعث
للنبوءة في الشعر بمنطق القرن العشرين.»
١٨
ثم ينتقل الدكتور صلاح فضل إلى شرح فكرة التزاوج والتمثيل لها فيقول: «نجد أنها تعني
(أي فكرة التزاوج) بروز عناصر متعادلة من الوجهة الصوتية والدلالية في مواقع مُتعادلة
من
القصيدة. ولا يقتصر مفهوم التعادل على مجرد التشابُه، بل يندرج تحت مقولةٍ أخرى هي
إمكانية التبادل، كما أن المواقع ليست مقصورةً على الموقع النَّحْوي في الجملة القصيرة،
بل تشمل أوضاع البنية الكلية للقصيدة. وهذا التزاوُج باعتباره البنية الأم للصِّيَغ
الشعرية
يتم رصدُه على عدة مستويات لغوية، من أهمها: النَّحْوِي الدلالي، ويلتقي في تأثيره
مع
عاملٍ آخر حاسم في تشكيل هذه البنية، وهو ما يُطلَق عليه «الرحم التقليدي» المُنْتِج
للصيغة الشعرية، ويتمثَّل في مجموعة التكرارات التي تفرضها بنية القصيدة التقليدية
من وزن وقافية.»
١٩
وقد اختار الدكتور صلاح فضل قصيدة «السويس»
٢٠ للتمثيل لهذه الفكرة. وتتكون القصيدة من قسمَين مُرقمين «١-٢»، ويُمثل كل قسم
منها كتلة متميزة تتبع نسقًا تركيبيًّا مختلفًا عن نظيره. ويُقرر الناقد أن اكتشاف
فكرة
التزاوج داخل كل كتلةٍ يتمُّ من خلال ثلاثة مستويات: المستوى الأول يعتمد على تكرار
نمط
العلاقات الأفقية بين العناصر المُكوِّنة لكل وحدة، وهي علاقات نحْوية في حقيقتها،
لكنها
ذات طبيعة صوتية هي التي يُعْتَدُّ بتأثيرها. أما المستوى الثاني، فيتمثل في العلاقات
الرأسية بين هذه العناصر المُتقابلة، وهي ذات طابع دلالي جزئي. أما المستوى الأخير
فيعتمد على التزاوج بين الوحدتَين الرئيسيتين، مما يؤدي إلى بروز الدلالة الكلية
للقصيدة.
ويستكمل الدكتور صلاح فضل دراسته عن القصيدة التي يتألف قسمها الأول من ثلاث وحدات
تخضع لنمَط مُتكرر وتدخل عليه تنويعات مُثرية. ويتألف نمط الوحدة الأولى من العناصر
التالية: فعل ماضٍ، ضمير فاعل مُتكرر، متعلقات من المنصوبات والمجرورات. ولكي يكسر
الشاعر هذه الرتابة أدخل تنويعات تخضع بدورها لنوعٍ من النظام الدقيق، فبعد أن تتوالى
ثلاثة أفعال على نفس النمط:
عرفتُ هذه المدينةَ الدخَانيَّة؛
مقهى فمقهى .. شارعًا فشارعًا.
رأيتُ فيها «اليشمكَ» الأسودَ والبراقِعا،
وزُرْتُ أوكارَ البِغَاءِ واللصوصيَّة!
يأتي الفعل الرابع مسبوقًا بالجار والمجرور:
على مقاعدِ المحطةِ الحديديَّة ..
نمتُ على حقائبي في الليلةِ الأولى.
ثم يتحول الفاعل إلى اسمٍ آخر ويظل الفعل ماضيًا:
وانقشعَ الضبابُ في الفجرِ .. فكشَّفَ البيوتَ والمصانعَا،
والسفنَ التي تسيرُ في القناةِ؛ كالإوزِّ ..
والصائدينَ العائدينَ في الزوارقِ البُخاريَّة!
أما الوحدة الثانية، فتبدأ بالفعل «رأيتُ» الذي يُقيم تزاوجًا تامًّا مع
أفعال الوحدة الأولى، أي: يُكرر بالضبط نمطها الصرفي، ولكنها لا تلبث أن تمضي في
اتجاهٍ
آخر؛ إذ تستغرق في وصف المفعولين:
«رأيتُ عمالَ «السماد» يهبطون من قطار «المَحْجَرِ» العتيقْ.
يعتصِبون بالمناديلِ الترابية.
يدندنون بالمواويلِ الحزينةِ الجنوبيَّة،
ويصبحُ الشارعُ .. دربًا .. فزقاقًا .. فمضيقْ،
فيدخلون في كهوفِ الشَّجَنِ العميقْ،
وفي بحارِ الوهمِ: يصطادون أسماكَ سليمان الخرافيَّة!»
ولأن هذه الوحدة ليست سوى جملةٍ حالية كبرى تستحضر الذكرى وتُمثل الرؤية
المحسوسة، فإنها خروج واضح على النمَط بالرغم من أنها تابعة للفعل الرئيسي المُزاوج
«رأيتُ»، فهي في منطقة المضارعات، لكنها مجرورة إلى منطقة الماضي. ولكن تكرارها وقوة
حضورها يجعلانها انتهاكًا للنسَق السائد، مما يدفع الشاعر إلى وضع الوحدة بأكملها
بين
قوسين. ثم تعود الوحدة الثالثة لتثبيت النمط بقوة وتركيز شديدَين:
عرفتُ هذه المدينة.
سكرتُ في حاناتِها.
جُرِحْتُ في مُشاحناتِها.
صاحبْتُ موسيقارَها العجوزَ في «تواشيحِ» الغناءْ.
…
وفي سكونِ الليلِ؛ في طريقِ «بور توفيق»،
بكيتُ حاجتي إلى صديقْ.
وفي أثيرِ الشوقِ، كدتُ أن أصيرَ .. ذبذبةْ!
أما القسم الثاني من القصيدة الذي يُرقِّمه الشاعر برقم «٢» تمييزًا له عن
القسم الأول، وتحديدًا للمنعطف الذي يأخذه، فهو يبدأ بالظرف «والآن»؛ ليضع المُكرَّر
في
عملية التزاوج الأفقي، وهي مُستندة لاسمٍ ظاهر في أبياتها العشرة الأولى، لا يخرج
عن ذلك
سوى البيت الثالث الذي يَستند لضمير المُتكلم «أذكُر مجلسي اللاهي على مقاهي الأربعين.»
مما
يجعله لونًا من التوطئة للنمَط المُكرر بالإضافة للفعل والفاعل من جارٍّ ومجرور.
فيتوالى
تزاوج تام في مثل:
ويسقطُ الأطفالُ في حاراتِها،
فتقبضُ الأيدي على خيوطِ «طائراتِها»،
وترتخي — هامدةً — في بِرْكةِ الدِّمَاء.
وتأكلُ الحرائِق ..
بيوتَها البيضاءَ والحدائِق ..
ونلاحظ أن الخروج عن النمط في البيت الأخير يُعد بدوره تمهيدًا للانتقال
إلى ما يُشبه الوحدة الجديدة التي يتغير فيها فاعل المضارع فيُصبح ضمير المُتكلمين
أولًا
ليتخلص بعد ذلك من صيغة الجمع، ويعود إلى صيغة المتكلم المفرد التي بدأت بها
القصيدة:
ونحن ها هنا .. نعضُّ في لجامِ الانتظارْ!
نُصغِي إلى أبنائِها .. ونحن نحشو فَمَنَا ببيضةِ الإفطارْ!
فتسقطُ الأيدي عن الأطباقِ والملاعِقْ.
أسقطُ من طوابقِ القاهرةِ الشواهقْ.
أُبصرُ في الشارعِ أوجهَ المهاجرين.
أعانقُ الحنينَ في عيونهم .. والذكرياتْ.
أعانقُ المحنةَ والثباتْ.
وتظل صِيَغ هذه الأبيات أمينةً للنمط المذكور، لكن التزاوج الأفقي فيها لا
يقتصر على التركيب الصرفي والنَّحْوي، بل يشمل ما يُطلَق عليه «الرحم التقليدي» المُتمثل
في الوزن والقافية، ويشمل شيئًا أدقَّ من ذلك، وهو الإيقاع الصوتي المتعادل للمكونات
الموسيقية لمجموعات الحروف المُستعملة التي تبرُز بشكلٍ مُنظم في مواقع متعادلة.
ثم ينتقل الدكتور صلاح فضل إلى العلاقات الرأسية، فيقول: «فإذا انتقلنا إلى المستوى
الثاني الذي يتصل بالعلاقات الرأسية بين العناصر المُتقابلة، وجدْنا صلةً دلالية
حميمة بين
كل الأفعال المُكونة له ما دامت تنتمي لنفس النمط؛ فالأفعال (عرفتُ، رأيتُ، زرتُ،
نمتُ)
تُمثل ثنائياتٍ مُتزاوجة دلاليًّا بين المعرفة والرؤية من جانب، والزيارة والنوم
من جانب
آخر، وحين تغير الفاعل أصبحت الأفعال (انقشع، كشف) وهمًا ثنائيًّا مُتكاملًا دلاليًّا
أيضًا. وفي الوحدة الثانية لا يُصبح التعادُل بين العناصر المكونة قائمًا على التشابُه
أو
التقابُل الدلالي، بل يعتمد على التوالي/الحركة (يهبطون، يعتصبون، يُدندنون، يدخلون،
يصطادون) وتُساعده بعض العناصر المُتقابلة الأخرى مثل (المناديل الترابية، المواويل
الحزينة الجنوبية، أسماك سليمان الخرافية).»
وفي الوحدة الثالثة. تأخذ المعرفة أبعادًا درامية؛ إذ تتوالى أفعالها متصاعدة (سحبتُ،
سرتُ) و(بكيتُ: كدتُ أن أصير ذبذبة = تذبذبتُ.) وتمضي الأفعال في القسم الثاني في
مجموعات ثنائية أيضًا بين (تحصدها النيران: لا تلين)، (يقتسمون الخبز الدامي: يقتسمون
الصمت الحزين)، (يفتح الرصاص: يسقط الأطفال) … إلخ.
وأخيرًا، تبرز لنا من التقابُل بين هذَين القسمَين المفارقة التي يُقيمها الشِّعر
بين
الخطتَين: إحداهما تنتمي إلى الماضي والذكريات الحلوة والتجارب الساخنة الأليفة التي
تربطه على الصعيد الشخصي بهذه المدينة، والثانية تتمثَّل في هذا الحاضر الأليم، الذي
تأكل
فيه الحرائق بيوتها البيضاء. وتأتي هذه المفارقة لتُعزز مفارقة أخرى هي بيت القصيد،
وهي
التي تقوم بين مكانَين أو عالَمين في نفس اللحظة الحاضرة: عالم السويس بدماره وتضحياته،
وعالم القاهرة بحياتها الرتيبة اللاهية، ويؤدي احتكاك هذين العالَمين إلى الشرارة
الأخيرة في القصيدة المُتمثلة في هذا التساؤل:
هل تأكلُ الحرائق
بيوتها البيضاءَ والحدائق،
بينا تظلُّ هذه «القاهرةُ» الكبيرة
آمنةً … قريرة؟!
تضيء فيها الواجهاتُ في الحوانيت، وترقص النساء ..
على عظامِ الشهداءْ؟!
لكن غيبة الفاعل الشخصي في هذا الموقع الأخير تُومئ إلى تعميم التجربة
وقُربها من التعبير المباشر في اللحظة التي كان «الميكانيزم» الخاص بها قد أوشك على
النجاح في إنتاج دلالتها دون حاجةٍ لهذه النهايات الصريحة الحكيمة.
٢١
•••
وبعد هذه القراءة البنيوية التي قدَّمها الدكتور صلاح فضل لشعر أمل دنقل، يحق لي مراجعة
قراءتها، وإبداء ما تميَّزت به من سِمات مميزة وغيرها، شريطة أن يتمَّ هذا في إطارٍ
نقدي
مُحايد.
أما السمات التي ميزت قراءة الدكتور صلاح فضل، فتتمثل في الآتي:
- أولًا: استمدَّ الدكتور صلاح فضل منهج القراءة من النص نفسه، ولم يفرضه عليه
من الخارج، فلكلِّ نصٍّ — بما ينطوي عليه من جماليات فنية — منهج مُعين يصلح
لدراسته. وهذا هو أهم ما يميز الناقد الأدبي، في أنه يدَعُ للنص الكلمة
العُليا في اختيار منهج دراسته. ويؤكد الدكتور صلاح فضل ذلك بقوله:
«حسبنا أن نقِف عند هذا القدْر في تأصيل المنهج والإشارة إلى إمكانية
تطبيقه، مُطمئنين إلى أن كل قصيدة تُولِّد شفرتها الخاصة، بحيث تتمثَّل
الرسالة الفريدة لها في بِنيتها ذاتها.»٢٢
- ثانيًا: لم يعتمد الدكتور صلاح فضل في قراءته على كل المبادئ الإجرائية
للمنهج البنيوي، بل اعتمد على مبدأين فقط: الاستعانة بالمحور
الاستبدالي والسياقي من ناحية، وفكرة تزاوج العناصر اللغوية من ناحية
أخرى. وهذا صحيح، فلا يمكن استخدام الإجراءات التطبيقية كلها لأي منهج
في دراسة نصٍّ ما؛ لأن جماليات النص هي التي تُرجِّح الاستعانة بإجراء
تطبيقي مُعين وتستبعِد آخر.
- ثالثًا: وُفِّقَ الدكتور صلاح فضل في تطبيق المبادئ البنيوية على شعر أمل
دنقل من خلال تنوُّع مساحة التطبيق؛ وذلك باعتماده على مقطوعات شعرية
مُتفرقة مرةً وبدراسة قصيدة كاملة مرةً أخرى. وهو ما يؤكد صلاحية هذا
المنهج ومشروعية تطبيقه؛ إذ لو اقتصر الأمر على مقطوعات مُتفرقة فحسب،
لكان أدعى إلى الظنِّ أنَّ الناقد يجتزئ من الشعر ما يُناسِب منهجه.
- رابعًا: فتحَ الدكتور صلاح فضل مجالات واسعة لدراساتٍ مختلفة ومُتميزة بتعديلاته
المهمة التي أدخلها على المحور الاستبدالي، وأهمها: التبادل بين الحقول
الدلالية؛ إذ إن المحور الاستبدالي يقوم في الأصل على اختيار مفردةٍ
بعينها من بدائل أخرى كثيرة تنتمي للحقل الدلالي نفسه. لكن أن توضع
لفظةٌ مُعيَّنة من حقلٍ دلالي مُعين بجوار لفظةٍ أخرى من حقلٍ دلالي آخر مثل
الماء (حقل المشروبات) بجوار الطعام (حقل المأكولات)، وأن تنشأ بينهما
علاقة هي علاقة التكامُل المُسببة في استمرار الحياة، فهذا هو الجديد
المُبْدَع.
- خامسًا: لم يقع الدكتور صلاح فضل في براثن الجداول الرياضية التي تُعتم النص
في أحيانٍ كثيرة أكثر مما تكشف عنه. وهو الإجراء الذي هُوجمت به البنيوية
هجومًا شديدًا،٢٣ بينما جاءت قراءته على نحو إبداعي متميز.
- سادسًا: استطاع الدكتور صلاح فضل أن يفسر النص تفسيرًا داخليًّا وصولًا إلى
المعنى الخارجي. وهذا هو الاتجاه الصحيح في النقد؛ أن يتحرَّك الناقد من
الداخل إلى الخارج، وأن يترك للسبيكة اللغوية التي تنتظم النسيج
الداخلي للنص فرصةً لتُفصح عن المعنى، ولا يدخل إلى عالم النص بمعانٍ
مُسبقة. وهذا الاتجاه هو ما تؤمن به البنيوية وتؤكده.
- سابعًا: استغل الدكتور صلاح فضل فكرة التطعيم بين عناصر الفنون الأدبية حين
اعتمد على الطابع الدرامي في قراءته لشعر أمل دنقل. ومن المُسَلَّم به
أنَّ شعر الحداثة كان قد انفتح على بقية الفنون الأخرى، مثل: القصة
والرواية والمسرحية، بل على الفنون التشكيلية، مثل: الرسم
والنحت.
- أخيرًا: لم يغلق الدكتور صلاح فضل النص على ذاته كما تدعو البنيوية اللغوية،
بل فسر النص — وبخاصة تعليقه على قصيدة «الحداد يليق بقطر الندى» — من
خلال الواقع السياسي المُتردي الذي اكتنف هزيمة ١٩٦٧م. أي أنه استعان
بالعامل الخارجي في تفسير النص الشعري.
وهذا الاتجاه هو ما ذهب إليه لوسيان جولدمان من إضفاء الطابع الاجتماعي على المنهج
البنيوي. وفي هذا الجانب يقول الدكتور صلاح فضل: «عيب البنيوية أنها تهدف إلى خلع
الأعمال الأدبية عن جذورها وقتلها، وهذا ليس صحيحًا، فلا يُوجَد ناقد يحترم عمله
ويُدرك
طبيعته لا يأخذ في اعتباره السياقات المُتعددة للنصوص الأدبية، لكنه يُصبح مطالبًا
بألا
يسرف في الاعتماد على هذه السياقات، فلا يرى إلا من منظورها، يُصبح مُطالبًا بأن
يُوظف
السياق لفهم النص، بدلًا من أن يوظف النص لفهم السياق وشرحه.»
٢٤
أما ما أضافه الدكتور صلاح فضل على المنهج البنيوي، فيتمثل في الآتي:
- أولًا: أنه أضاف ثلاثة اقتراحات تخصُّ المحور الاستبدالي في الدراسة. أخيرًا:
استبدل الدكتور صلاح فضل المستوى الدرامي بالمستوى القصصي رابطًا بين
المستوى الأول ومحور الاستبدال، أي أنه أجرى تعديلًا على مخطط «جريماس»
اللغوي الفرنسي الشهير.
وأما ما ألحظه على هذه القراءة، فيتمثل في الآتي؛ أولًا: لم يقدم
الناقد ما يؤكد تعديله الأول على المحور الاستبدالي، وهو الربط بين
الصوت والمعنى، رغم أنه ساق ما يؤكد التعديلَين الآخرين. ورغم وجود
كلماتٍ تتميز برنينٍ صوتي مثل «جما جمَا، الرقراق» وغيرها من الكلمات
الأُخرى. صحيح أنه أقرَّ في نهاية الدراسة أن التحليل لم يأخذ مداه،
ولم يستنفد جميع إمكانياته بعد، ومع ذلك كان من الممكن أن يؤكد تعديله
هذا ولو بنموذجٍ واحدٍ بعيدًا عن الاستفاضة.
- ثانيًا: شيوع بعض الألفاظ غير العربية مثل «تكنيك» و«ميكانيزم» مما يُحدِث
إرباكًا لدى المُتلقي العربي قليل الخبرة بالألفاظ غير العربية.
وفي الحقيقة أن هذا طابع يُميز كتابات الحداثيين على وجه العموم،
وليست مُقتصرة على هذه الدراسة فحسب. ولو كتب الدكتور صلاح فضل هذه
المصطلحات بلُغتها لكان أهونَ على القارئ المُتلقي؛ لأنه في هذه الحالة
سيلجأ إلى المعاجم المُتخصِّصة للتعرُّف على مثل هذه المصطلحات.
- أخيرًا: لم يهتم الدكتور صلاح فضل بعلاقة الشكل بالمضمون عندما شرع في شرح
فكرة التزاوج في قصيدة «السويس»، بل اكتفى بسرد الأنماط اللغوية
المتزاوجة داخل القصيدة، بعيدًا عما تحمله هذه الأنماط من مضمون
بتغيرها من وحدةٍ لأخرى، ومن قسم لآخَر.
٢
وثاني هذه القراءات البنيوية هي المُقاربة التي قدَّمها الدكتور كمال أبو ديب لشعر
عبد
العزيز المقالح وسعدي يوسف. وقد اعتمد الدكتور أبو ديب في هذه الدراسة على مبدأ مُهم
من
مبادئ المنهج البنيوي وهو «علاقات الحضور والغياب».
٢٥ وقد استعان الناقد بقصيدة «مرثية رجل صادق» للشاعر اليمني عبد العزيز
المقالح؛ لإبراز ما عزم على دراسته في شعر الحداثة، وهو العلاقة بين مستويي الحضور
والغياب. يقول المقالح في المقطع الأول من القصيدة:
٢٦
آن للقلبِ أنْ يكتبَ الموت؛
أن يتباهى بأحزانِه،
وخطاياه،
أن يتوارى عن الثلج.
أن يدخلَ الكفنَ؛ المهد.
أن يتسلقَ جذعَ المنية.
أن يتوحَّد.
مكتظة بالخطيئةِ دائرةُ الخَلْق.
مكتظة غابةُ الناس.
لا شيءَ يُمسكُ هذا الحصانَ الجريحْ.
وفي تعليق الدكتور أبو ديب على هذا المقطع يقول: «لنأخُذ المقطع الأول
مثلًا ونبحث فيه عن المرئي= المرثي. وسنكشف سريعًا أن صورة المرئي مفقودة تمامًا.
إن
المرئي ليس حاضرًا، بل غائبًا. ونحن لسنا أمام لغةٍ تُبرز المرئي ناتئًا، ناصعًا
في
حضوره، بل أمام لغة تُغَيِّبُ المرئي وتُوجِّه الضوء إلى مساحة من الوعي والتصور،
بعيدة
عنه، أو خارجية عليه، بوصفه البؤرة التجريبية التي يفيض منها النص، ومعنى هذا أن
اللغةَ
مرتبطة بالمرئي بشكلٍ أو بآخر.»
٢٧
ونتيجة لهذا التغييب الذي تفيض به المقطوعة الشعرية كان لا بد أن يطرح المُتلقي أسئلة
عدة، كما يقول الدكتور أبو ديب: «ما الموضوع أو النقطة أو الفكرة التي يدور عليها
هذا
المقطع أو يُبرزها؟ هل هي: «لقد آن وقتُ الرحيلِ إلى الموت»؟ وإذا كانت كذلك، فهل
تُبرز
هذه «الفكرة» المرثيَّ في إهابٍ من الحضور الناصع مُضاءً بضوء ساطع كاشف؟ إن إعادة
النظر
سريعًا تكفي لتقديم إجابة بالنفي.
وفي المقطع الثاني يقول المقالح:
سيدي الموت:
نحن رعاياك،
تكون البدايةُ خيطًا مِن الوعد؛
خيطًا من الوعدِ والشوق،
خيطًا من الوعدِ والشَّوْقِ والمجد.
تخدعُنا لغةُ الأرضِ.
نسقط في فجوةٍ لا حروفَ بها،
ونُعاني من الكلمات.
تكونُ النهايةُ خيطًا من الحزنْ؛
خيطًا من الحُزْنِ والخوف،
خيطًا من الدمِ والموتِ والكلمات.
لك المجدُ يا سيدَ الكائناتْ.
لك المجدُ يا مَنْ تُهَدْهِدُ صدر الجنائزِ،
تنهشُ وجهَ الصقورِ.»
ويعلق الدكتور كمال أبو ديب على هذا المقطع، فيقول: «في المقطع الثاني،
تقترِب القصيدة، من بلورة «فكرة» أو «نقطة» أكثر جلاءً عن طريق مخاطبة الموت وإنشاء
علاقةٍ ما (البداية وعد، والنهاية مأساة)؛ (فالموت هو البداية والنهاية)؛ (الموت
سيد
الكل). وهذا البعد التأمُّلي المتافيزيقي للمقطع الأول، لكنه لا يزيد درجة تبلور
المرئي
في النص، ولا يصِل به إلى درجة أعلى من الحضور. إن النص ما يزال يتابع تشكُّلَه في
مساحة
انفعالية، شعورية، تصورية، لا يقع المرئي في الوسط منه، ولا تضيء المرئي، بل تضيء
الذات
المُتَأمِّلة وموقفها من الموت. وهذا معناه أن المرئي ما يزال غائبًا، نائيًا عن
محرق
التركيز في النص.»
٢٩
ويمكن أن نسْتَخْلص من تعليق الناقد ثلاثة عناصر؛ الأول: أن هذا المقطع استطاع أن
يتقدم خطوةً نحو تحديد الموضوع، ألا وهو مخاطبة الموت. الثاني: أن هذا المقطع — رغم
اقترابه من تحديد الموضوع — لا تزال تُهيمن عليه دائرة الغياب. الأخير: أن المساحة
الوحيدة المُضَاءة في هذا المقطع هي منطقة الذات المتأمِّلة (الشاعر)، أما المرئي
(الرجل
الصادق) فما يزال في طور الغياب. واتساقًا مع العنصر الثالث، فثمة ضرب من الصراع
بين
الذات المُتكلِّمة والذات المرئية. ولا يُذكي هذا الصراع إلا اللغة الشعرية ذاتها؛
لأنها
قائمة على الغياب؛ فكلما رغبت الذات المتكلمة في الإفصاح عن المرئي «الرجل الصادق»
منعها الاستخدام الفني للُّغة بابتعادها عن الشفافية والمباشرة. فضلًا عن وقوع كل
من
الذات المتكلمة (الشاعر) والمرئي (الرجل الصادق) في منطقتَين مُتضادتَين بين الإضاءة
الحذرة
والعتمة المُتناهية. ويمكن القول: إن ثمة علاقة جدلية بين لغة الحضور ولغة الغياب
في
المقطع. ويقول المقالح في المقطع الثالث:
آنَ للجسدِ المُتشققِ أن يتيمَّمْ،
أن يستوي للصلاة.
هنا الأبديةُ؛
— هذا هو البابُ —
مفتوحة للنخيلِ الفلاة،
وللخيل تدنو الهضاب،
ارتجل للمدينةِ قبرًا،
وللنهر قبرًا،
وللحُلْمِ قبرًا،
وكُنْ واحدًا بعد أن ضاع صوتُك.
ضيَّعكَ الأقربون.
وحاولك الأبعدون.
اقتربْ من نهايتها،
يا اشتعالَ الأقاليمِ في زمن البدو؛
يا نجمةً في بيارقِ أيلول،
يا فارسًا يترجلُ قبْلَ الأوانْ.
ويتحول هذا المقطع — على حد قول الدكتور أبو ديب — في اتجاهٍ مُغاير
لتنامي النص حتى الآن: الأبدية (النهاية)، في مقابل المقطع الأول الذي انطلق من البدء:
أوان الرحيل. غير أن المقطع الثالث لا يُتابع تركيزه على الأبدية، بل يأخذ يإحضار
المرئي
إلى مساحة الصورة واللغة. والإنشاء الذي يبدأ المرئي بالحضور عبره وفي نسيجه إنشاء
تشكيلي مُتعدِّد المحاور والسمات؛ فهو أقرب إلى ضربات ريشةِ فنَّان سريعة تقبض على
نقطة
جوهرية تتصل بالمرئي دون أن تُبرِزه إبرازًا يصل إلى حد الحضور الناصع. وضمن هذا
النسيج
نفسه تتشكل لغة الغياب من مجموعةٍ من التكوينات الدلالية، التي لا تتجسَّد في فكرة
واحدة
مُتنامية مُكتملة ناصعة الحضور، بل تشع بإشعاعات خفية، مؤلَّفةٍ من مُكوِّنات متفاوتة
الدلالة، مُتضاربة، لا تصل إلى حالة الحضور الكلي، بل تتسرَّب إلى لغة الغياب.
ويُفهَم من هذا الكلام أن الناقد أراد أن يتقدم خطوة واسعة نحو لغة الغياب في أهم
عناصرها خصوصيةً وهو الصورة الشعرية. وتحقيقًا لهذا الهدف، يعلق على هاتَين الصورتَين
«مفتوحة للنخيل الفلاة» و«للخيل تدنو الهضاب» بقوله: «ترِد هاتان الصورتان في سياق
الحديث عن الأبدية: «هنا الأبدية .. هذا هو الباب.» لكن، ما الذي تقوله هاتان الصورتان
عن الأبدية على وجه التحديد؟ إنهما في موقع صفات من الأبدية، لكن أي صفات تنسب الصورتان
للأبدية، وما تخصُّصه فيها؟ لا شك أن لكِلتا الجملتَين معناهما المباشر «الفلاة مفتوحة
للنخيل .. إذا شاء أن يدخل، أو قابِلة لأن تُزرع بالنخيل، والهضاب تدنو من أجل الخيل.»
لكن كيف تترابط هاتان الفكرتان؟ وكيف تتكاملان؟ وكيف تُصبحان في تكامُلهما قولًا
ذا دلالة
مُحددة عن الأبدية؟ أعني: ما مصدر الحضور الذي تخلقه هاتان الفكرتان في انحلالهما
في
الحقل الدلالي المُتشكل من الأبدية؟ وإلى أي مدى تزيدان حضور «المرثي» في النص وتُسهمان
في نقله إلى محرق التركيز؟»
٣٠ وبمثل هذه الأسئلة نُواجه التكوينات اللغوية النهائية في المقطع:
يا اشتعالَ الأقاليمِ في زمن البدو.
يا نَجْمَةً في بيارقِ أيلول.
يا فارسًا يترجلُ قبلَ الأوانْ.
ويعلق الدكتور كمال أبو ديب على هذه التشكيلات قائلًا: «من الجَلِيِّ
أن لكلٍّ من هذه التشكيلات «معنى» قائمًا بذاته، لكن على تفاوت في درجة الإفصاح وفورية
تكوين المعنى واندراجه ضمن الشبكة الدلالية للنص وتغذيته … فمثلًا، إن التصوُّر في
«نجمة
في بيارق» ذو معنى؛ لكن حين تُضاف هذه البيارق إلى «أيلول» يبدأ المعنى في الدخول
في
عالم الغياب وتَغيم الدلالة. هل البيارق لأيلول الخريفي، بالترابطات المألوفة التي
يُثيرها؟ وما دلالة ذلك؟ ولماذا يكون لأيلول بيارق؟ هل أيلول زمن دال في سياق غير
سياق
الفصول والمواسم ودوراتها؟ وما دلالته؟ وما السياق الذي يدل فيه؟»
ولا بد هنا من التدخُّل الفاعل للمُتلقي لاستكمال الدلالة، أو لتوليد الدلالة. ومما
يزيد
الأمر تعقيدًا أنه ليس ثمة من قرينةٍ تُحيلُ إلى نمط السياق الدال الذي نحتاج إلى
موضعة
٣١ التعبير فيه من أجل أن يكتسب دلالته. ويُصبح البحث عن السياق المانح للدلالة
عشوائيًّا إلى حدٍّ بعيد. وقد يحدُث أو لا يحدُث، أنَّ المُتلقي يملك بالصدفة معرفةً
خارجية
تاريخية الطابع، تتضمَّن المادة المعلوماتية
٣٢ التالية: (١) أن الشاعر يَمني. (٢) أن في تاريخ اليمن المعاصر حدثًا حاسمًا
هو الثورة على حُكم الإمام وتدمير الإمامة وإقامة الجمهورية. (٣) أن هذه الثورة حدثت
في
شهر أيلول، وأن المقالح أحد الشعراء الذين دعموا الثورة. وإذا حدث أن معرفة المُتلقي
ضمَّت
هذه المادة المعلوماتية كلها، استطاع التشكيل «يا نجمة في بيارق أيلول» أن يفصح عن
دلالة محددة: «أنت بطل من أبطال الثورة».
٣٣
وفي تعليق الناقد على صورة الشاعر «يا اشتعال الأقاليم في زمن البدو.» يقول: «ويبدو
أن
تدخُّل المُتلقي يتطلَّب معرفة من أنماطٍ متعددة، سياسية وجغرافية وتاريخية وسيرية
لكي يُموضِع
٣٤ التعبير المناقَش في سياق الصراع الثقافي-الحضاري العريق بين الصحراء
والعالم المُتحضر في الجزيرة العربية، أي بين قطبيها الصحراوي-البدوي، والحضري-اليمني،
ثم في سياق الصراع العسكري-السياسي الذي حدث بعد قيام ثورة أيلول
اليمنية.»
ورغم تدخُّل القارئ المُتلقي بأفق توقُّعاته ومعرفته بالواقع الحيوي لفك شفرات النص،
يستطرد الناقد قائلًا: «وحتى حين يحدُث ذلك، فإن الدلالة ما تزال احتمالية، تتأرجح
بين
أن تكون أو لا تكون؛ أي إنها أَدْخَلُ إلى عالَم الغياب منها في عالم الحضور.»
٣٥
ولا أدري لماذا يُصرُّ الدكتور أبو ديب على تغييب الدلالة والدخول في عالم الغياب
اللغوي، رغم محاولات المُتلقي وتدخُّله في فكِّ رموز النص الشعري. لقد أقر الدكتور
أبو ديب
في الفقرات السابقة أنَّ المُتلقي لو امتلك مادةً معرفية حول الرمز، استطاع إلى حدٍّ
بعيد أن
يصل إلى مدلوله، حتى لو خالف ذلك قصد الشاعر؛ لأن المناهج الحداثية تؤمِن باستبعاد
قصدية
المؤلِّف، ومع ذلك، ورغم تدخُّلِ الناقد نفسه في فكِّ رموز الصورة «يا نجمة في بيارق
أيلول»، يجزم الدكتور أبو ديب باحتمالية الدلالة ودخولها في لغة الغياب. ويقول المقالح
في المقطع الرابع:
يا وحيدَ المسافاتِ والجُرْح.
يا آخر الطاهرين،
افتقدناكَ.
أرملةُ الفجر تجلسُ في الحُزْنِ،
تسألُ عنكَ،
ولا تتقبلُ فيك العزاء.
هي الآن تَخبزُ للجائعين رمادًا،
وتكتبُ:
ما أقبح الأمس!
ما أقبح اليوم!
ما أقبح اﻟ …
يا وحيدَ المسافاتِ والجُرْح،
أرملةُ الفجرِ تجلسُ في طبقٍ فوقَ مائدةِ الليل،
تكتبُ:
إنا فتحنا لك الصبح قبرًا
فتحنا الظلام لأهلك قبرًا
وصارتْ بلادُك مرثيةً وقصيدة.
ويعلق الدكتور أبو ديب قائلًا: «ويختلف هذا المقطع عن سابقه في أنه
يُفتتح بالتوجُّه إلى المرئي، ويَصفه بلغةٍ أشدَّ نصاعةً ووضوحًا من لُغة المقاطع
التي
سبقته، كما يتَّسِم بشيءٍ آخر، هو ورود مجموعة من الألفاظ التي تنتمي إلى حقول دلالية
مرتبطة بسياق الرثاء، مثل: «الطاهرين»، «افتقدناك»، «الحزن»، «أرملة»، «قبرًا»، «مرثية».
ورغم
ذلك، فإن اللغة تُدخِلُ المَرثيَّ في سياق الغياب. فإذا كان التعبيران «يا آخر الطاهرين»
و«افتقدناك» ناصِعَي الدلالة، فإن قوله «يا وحيد المسافات والجرح» هو أقل نصاعةً
ووضوحًا.»
٣٦
ويسوق الدكتور أبو ديب أسئلةً عدة تُظهِر هذه اللغة الالتباسية، فيقول: «ما دلالة
وحيد
المسافات على وجه التحديد؟ وما علاقتها بالحصان الجريح الذي لا يُمسكه شيء في المقطع
الأول؟ ثم كيف يُوصَف المرثي بأنه «وحيد الجرح» في صيغة الحاضر؟ أم أن الصيغة تحمل
الدلالة على الماضي: «لقد كنتَ وحيد الجرح»؟ وسرعان ما تتطوَّر هذه اللغة الالتباسية،
مُعمِّقةً التباسَها ومُخففةً درجة النصاعة والجلاء فيها حتى لتكاد تعدمها، وداخلةً
في لغة
الغياب. فمَنْ أرملة الفجر التي تجلس في الحزن؟ ولماذا لا تتقبَّل العزاء؟ وما دلالة
أنها
تخبز للجائعين رمادًا، في سياق موت المرثي وعدم تقبلها للعزاء فيه؟ إنها لا تُقدِّم
للجائعين طعامًا فعليًّا. هذا جلي؛ لكن، ما دلالة ذلك على وجه التحديد، منسوبًا إلى
أرملة الفجر، في سياق رثاء المرثي؟ هل كان المرثي هو مصدر الطعام الحقيقي للجائعين،
وحين مات انعدم هذا المصدر؟ أم أن الدلالة الرمزية للفجر، في الوعي الإنساني العام،
والسياق الحضاري الخاص، تُصبح هي موضع التركيز، فيرى الفجر نفسه الآن مُصابًا بفقدان
المرثي، وتبقى هكذا له أرملة؟»
٣٧
ويستطرد الدكتور أبو ديب قائلًا: «وتزداد درجة الغياب حين تأتي الجملة الاحتمالية
«ما
أقبح الأمس .. ما أقبح اليوم .. ما أقبح اﻟ …» برغم أن ورود الغد مكان النقاط الثلاث
هو
الاحتمال الأرجح. ثم يزداد الغياب حين تعود صورة أرملة الفجر إلى الظهور لكن بدرجةٍ
أعلى
من التعقيد والتشابك والالتباس «أرملة الفجر تجلس في طبقٍ فوق مائدة الليل» وهي صورة
مُدهشة شعريًّا باهرة الغنى والثراء الحسِّي، وبارعة على مستوى تشكيلها التخيُّلي-التصوري.
فهي تدفع بالإشارات السابقة إلى الطعام والجائعين إلى ذروة من الحدَّة والتوتر عن
طريق
تشكيل مجال بصري-لغوي، كل جزئية فيه تتكون من مواد مرتبطة؛ لأكل: «طبق» … «مائدة»
… «أرملة الفجر تجلس في الطبق»، «الطبق فوق مائدة الليل»، «الليل يُقيم مأدبة، على
مائدةٍ منها
طبق تجلس فيه أرملة الفجر» التي تُصبح مادة للالتهام، وهكذا.
٣٨
غير أن هذه الصورة التركيبية (التي تتشكَّل في سلسلةٍ من الانزياحات التصويرية بؤرتها
الاستعارة، وتفعل، في الوقت نفسه، من خلال التضادَّات البارزة فيها والخفية) لا تُخفِّف
درجة الغياب بل تزيدها حدَّة، وخصوصًا حين تنعقد استعارة جديدة تنقل أرملة الفجر
من
جلوسها في الطبق إلى فعل الكتابة فتكتب: «إنا فتحنا لك الصبح قبرًا .. فتحنا الظلام
لأهلك
قبرًا .. وصارت بلادك مرثيةً وقصيدة.» مانحة نفسها دلالة جديدة؛ إذ تُصبح الصوت الناطق
باسم
«نحن» مجهولين، غائبين، وتنتقِل إلى دور الفاعلية: «فتحنا القبر» من الدور «الضمني»
السابق الذي كانت فيه أقرب إلى المفعولية.
٣٩
وما يريد أن يقوله الدكتور أبو ديب: إن هذا المقطع رغم بدئه بلغة الحضور، تظل سمة
الغياب تُهيمن عليه بفعل اللغة المُتشابكة التي لا تكاد تُبرز المرثي في صورته الحاضرة
حتى
تُقدم صورةً شعرية أو مقطعًا شائكًا لغويًّا تُرجعه مرةً أخرى إلى الغياب.
وفي نهاية المقاربة يُقدِّم الدكتور كمال أبو ديب أسئلةً عدة دون أن يُجيب عنها،
مما يُدخل
النص في دائرة الغياب واحتمالية المعنى. يقول الدكتور أبو ديب: «أسئلة عدة تبقى تدور
في
البال، حتى بعد اكتمال النص، دون أن يصِل بها النص إلى إجابات حاسمة تُلغي تعدُّد
الاحتمالات وتثبت دلالةً واحدة؛ بل إن النص لا يحل إشكاليةً أساسية قائمة فيه منذ
البدء،
تتشكَّل مع الجملة الأولى: «آن للقلب أن …» هي التالية: هل النص مرثية للذات؟ مرثية
يصوغها الشاعر (الرجل الصادق) لذاته في زمن الكذب والنفاق، ولا يكتب منها إلا «المقاطع
الأولى» لأن المقاطع الأخيرة لا يمكن أن يكتبها هو «وهو ميت»؟ أم أنَّ النص مرثية
لرجلٍ
صادق آخر، مات حقيقةً أو مجازًا، في زمن الكذب والنفاق؟»
٤٠
ويمتدح الدكتور أبو ديب هذه السمة الغيابية للنص بقوله: «إن النص، كما قلت، لا يحلُّ
هذه المشكلة، وذلك بعض سِرِّ ثرائه وبَهائه، وفاعليته التي عن طريقها يدخل لُغة الغياب،
مُبتعدًا عن التشكُّل في إطارٍ من تسطُّح لغة الحضور ونصاعتها الحادة. والنص بهذا
الثراء؛
بهذا الغياب، والاحتمالات المُتنافرة، قادر على تجسيد تجربة وجودية، جوهر ما يُميزها
هو
إبهاميتها، وسرِّيتها، واحتماليتها، واللايقينية التي تُغلفها، وانتماؤها حقًّا إلى
عالَم
الغياب، واستحالة تقديم أجوبة نهائية للتساؤلات عنها، وإعطائها دلالات ثابتة نهائية.»
٤١
•••
ولم يكتفِ الدكتور كمال أبو ديب بدراسة نموذجٍ واحد فحسب، بل أكد ذلك بنموذج آخر،
وهو
في هذا يقول: «غير أنني سأكتفي بهذا القدْر من المناقشة، أي: مناقشة نص المقالح؛
لأنتقل
إلى نصوصٍ أخرى تزيد بلورة المفهوم الجديد الذي أسعى إلى إبرازه في هذا البحث وتصِل
به
إلى أعلى درجة من النقاء والتحديد أستطيع الوصول به إليها في السياق الحالي.»
٤٢
وكان اختيار الدكتور كمال أبو ديب للشاعر العراقي سعدي يوسف في قصيدته «قصيدة الهموم
الشخصية»
٤٣ التي يُقسمها الشاعر إلى مقاطع عدة تبدأ بالمقطع الآتي:
ثلاثية الصباح «١»
في صباحٍ بعيدٍ سأنهضُ
محتميًا بالطريق الذي ينحني هادئًا مثل قشرةِ بطيخةٍ.
سوف أمنحُ نفسي إجازةَ يومٍ،
وأُطلقُ عينيَّ من قاعةِ القصدِ.
«لا شيء لي.» هكذا سوف أهتف.
«لا شيء لي» سوف أهتفُ حتى لقُبَّرةٍ عابرةْ.
ثم ماذا إذا ما مضى اليوم؟
ماذا سأفعلُ بالنَّظرِ الطَّلْق؛
بالمنظرِ الطَّلْق،
بالناضرِ الطَّلْق،
باللحظةِ السَّافرةْ؟
•••
في مياه جنوبية يهطلُ التوت، أبيضَ، أحمرَ، أسودَ …
خضراء، خضراء .. إنِّي أريدُكِ خضراء «يدخلُ لوركا!»
وخضراء كانت أصابعُنا، الريحُ خضراء، والغصنُ أخضر …
أفواهُنا في الظهيرةِ حمرٌ، هو التوتُ يهطلُ، والظِّلُّ يهطلُ،
أغصانُ رمانةٍ مُثْقَلاتٌ بزورقِنا. سمكٌ دائح في القرار.
القريب. النساءُ ينادينَ مستوحداتٍ بحنَّائِهنَّ. الضفائرُ
ملساءُ مِنْ غرين الشمسِ. نسمعُ هَجْس السلاحف.
في بغتةٍ تختفي كالحصاةِ حبيبةُ توتٍ … تو … تو …
تركضُ السلحفاةُ بها نحو قاعٍ شفيف.
وكما هو واضح، فإن الشاعر بنى نصَّه على طريقة الحركات المكوَّنة من مقاطع،
وقد رقَّم الحركة الأولى بالرقم «١» وهي مكونة من مقطعَين. وفي تعليق الدكتور كمال
أبو ديب
على المقطع الأول يقول: «يبدأ النص بالعادي، البرهي، المُحدَّد تحديدًا دقيقًا. بلغةٍ
تقريرية مباشرة «في صباحٍ بعيد سأنهض» خالقًا لنفسه محورَ تنامٍ على مستوى اليومي
العادي. بيد أن هذه الصيغة، التي تمتلك درجةً عالية من الحضور، تتصدَّع جزئيًّا عن
طريق
الصفة «بعيد» فوصْفُ الصباح بأنه بعيدٌ لا ينتمي إلى مستوى البرهي العادي تمامًا،
ولا
يتجانس كليةً مع اللهجة العازمة على الفعل الآني، بل يبدأ بالدخول في إطار القَصِيِّ
المُبهَم. ويتعمَّق هذا الشرخ مع ورود الفعل «سأنهض»؛ لأن السين، تحديدًا، جزء من
لغة القُرب
الزماني، ليُشير إلى المستقبل القريب،
٤٤ أي أنها طبيعيًّا تشعر بقُرب الصباح بعد أن كان قد وُصِفَ بأنه بعيد. وبذلك
تَخْلُقُ الجملة الأولى في النص، وهي جملة تقريرية لها صيغةٌ يقينية جازمة، المفارقة
التي تنفي التقريرية والجزم الصارمَين. وتبدأ الحركة من الحاضر إلى الغائب حتى في
هذا
البيت الذي يبدو عاديًّا تمامًا.»
٤٥
ثم يدخل الدكتور أبو ديب في تحليل البيت التالي بقوله: وفي البيت الثاني تأتي صورة
مادية، حسِّية، خالصة «الطريق ينحني مثل قشرة بطيخة» مُعمقة بُعدَ العادي، اليومي،
ومُركِّزة
على الشكل الخارجي فقط، ونافيةً أية خصائص أخرى للطريق سوى شكله المنحني.
وتبدو العملية التصويرية ألصق بالشعرية القديمة وأبعد عن الطبيعة الغالبة في شعرية
الحداثة. ولذلك أهميته الخاصة في دراسة حركة القصيدة المعاصرة من المناخ الميتافيزيقي
الذهني الفكري إلى مناخ المادي، اليومي المحسوس، الشيئي.»
٤٦
ثم يُعقِّب الدكتور كمال أبو ديب على هذه الصورة قائلًا: «وما يعنيني منها الآن هو
أن
الصورة — على وجه التحديد نتيجة لتقنيتها التقليدية الشكلية الصرف، وعادية المادة
التي
تتشكل منها، بل تفاهتها «الطريق/قشر البطيخة» — تمتلك وظيفةً جوهرية، هي تعميق تنامي
محور اليومي، العادي، الشيئي. وسلب الأشياء دلالتها الإشارية أو الرمزية أو الأسطورية؛
الميتافيزيقية.»
٤٧
ثم يمضي الدكتور أبو ديب في تعميقه لسياق الحضور والغياب داخل المقطوعة بقوله:
«فالعبارة «سوف أمنح نفسي إجازة يوم» تنتمي إلى مستوى العادي، اليومي، الجزئي، الرتيب.
لكن العبارة التي تليها تُخرِجُ النص إلى مستوًى آخر مُغاير له، ينتمي إلى عالَم
الغياب
«وأُطلِق عيني من قاعة القصد.» ما الذي تَعنيه العبارة على وجه التحديد؟ ما قاعة
القصد؟
وما يعنيه وجود العين فيها؟ ومن ثَمَّ ما دلالة إطلاقه لعينَيه منها؟ هل قاعة القصد
مكان
فيزيائي مُحدد؟ أم أنه يجعل للقصد قاعة بلُغةٍ مجازية لافتة هي نموذج لِما كان يُسمِّيه
النقاد القدماء «الاستعارة البعيدة» ولِما كان يبتكر أبو تمَّام في استعارته الصادمة؟
وفي
كلتا الحالتَين ما الدلالة الدقيقة لإطلاق العين من قاعة القصد؟»
٤٨
وعلى هذه الوتيرة، يمضي الدكتور كمال أبو ديب لإظهار المفارقة بين لغةِ الغياب ولغة
الحضور، وينتهي من ذلك إلى المعنى النهائي للمقطوعة بقوله: «غير أن العامل الرئيسي
لدخول النص في عالَم الغياب هو التساؤل الحادُّ الذي يطرحه حول معنى الوجود الإنساني
كلِّه، والانتقال من اللحظة الراهنة، معروفة الدلالة، إلى اللازَمني المجهول. فالمشكلة
ليست مشكلة هذا اليوم على وجه التحديد؛ إنها معضلة وجودٍ بأكمله، يوم بعد يوم بعد
يوم …
وهي ليست مشكلة إرادة الفعل، بل مشكلة جدوى الفعل، وهي ليست مشكلة الارتباط بالقصد
والرتابة والانفلات منهما، بل مشكلة معنى الحرية وجدواها.»
٤٩
ثم يدخل الدكتور كمال أبو ديب إلى تحليل المقطع الثاني من الحركة الأولى، ويرى أن
هذا
المقطع يرصد التفصيلات بدقَّة بالِغة، فهو مؤلَّف من سلسةٍ من المرئيات التي تتوالى
بنصاعةٍ
مادية بارزة، مُزدهية بألوانٍ أساسية فاقعة، تصل بحِسِّية النص إلى درجة لوحةٍ خالصة
الألوان
«يهطل التوت أبيض، أحمر، أسود، .. خضراء، خضراء .. إنِّي أريدُكِ خضراء … خضراء كانت
أصابعنا، الريح خضراء، والغصن أخضر، أفواهنا في الظهيرةِ حمر، هو التوت يهطل، يهطل.»
غير أن التنامي يسير في اللحظة نفسها، وضمن نسيج النص ذاته في محورٍ ثانٍ مُتداخل
مع هذا
المحور الأول، هو محور لغة الغياب. وعلى هذا المحور تتَّجِه اللغة إلى تجاوز الحسية.
وتخفيف توهُّجها ونصاعتها، وذلك بتداخُل اللامادي، النائي، الغامض بالمادي، الحاضر
حضورًا
ناصعًا، وتحويله وتغييره.
٥٠
ويرصد الدكتور كمال أبو ديب أول مكونات هذا المحور بقوله: «وأول المكونات التي تتركَّب
على هذا المحور ضمير الغائب المؤنث في «أريدُكِ» فالذات هنا غائبة غيابًا كليًّا
لا
تُسمَّى ولا تُحدَّد. وليس ثمة من قرينة لتحديدها في السياق؛ وهي تُقْحَمُ من عالم
غائب
لم يكن له حضور في النص حتى الآن، وينتهي حضوره في النص فور ائتلافه. وثاني هذه
المكونات ما يرد بين قوسَين «يدخل لوركا»؛ فدخول لوركا المفاجئ يستحضر عالمًا غائبًا،
أو
يخلق عالمًا غائبًا. ما علاقة لوركا بهطول التوت الملوَّن؟ وبالمياه الجنوبية؟ ولوركا
يُشكِّل حقلًا من الرموز والترابطات والاستتارات غيوبيًّا، حلميًّا، عصيًّا على التحديد
الدقيق، ولذلك فهو يستحضر عالم الغياب، أو يُدْخِلُ النص في لغة الغياب.»
٥١
وعن دور اللغة في خلق هذا الغياب يقول الدكتور أبو ديب: «كما تُسهم اللغة المجازية
في
خلق هذا الغياب «خضراء كانت أصابعنا، الريح خضراء.» ويُمثل هذا الجزء التصوُّري من
النص
تداخُل محورَين آخرَين: الحقيقي والمجازي … وتستمر القصيدة في تنمية التشابُك والتداخُل
بين
هذَين المحورَين عن طريق الإقحام الصوري الخالق، المُتمثل في «أغصان رمانة مُثقلات
بزورقنا»
وهي صورة تزيد إيلاج النص في لغة الغياب واللامحدودية عن طريقتَين؛ الأولى: التكوين
السريالي المُتمثل في ظهور الزورَق على أغصان الرمانة. والأخيرة: وصف الأغصان بصبغة
تخصُّ
النساء «مُثقلات» تُمهد في الواقع لظهور النساء الفعلي في النص.»
٥٢
وتسهم جميع التفصيلات التالية «سمك دائخ في القرار القريب، النساء يُنادين مستوحداتٍ
بحنائهن. الضفائر ملساء من غرين الشمس» في تعميق هذا التشابك. لكن الجُمَل التي تلي
تخطف
حركة النص فجأةً لترفعها إلى لغة الغياب الخالصة، على مستوى التصوُّر الكُلي، وعلى
مستوى
البؤر الدلالية الجزئية: «هجس السلاحف»، «وفي بغتة تختفي كالحصاة حُبيبةُ توت …»
وصور
الماء والحصى الشفيف تفيض بدرجةٍ عالية من الغياب، خصوصًا حين يبدأ الصدى بالتردُّد
«تووت
… تو … تو …» وحين تركض السلحفاة بها نحو قاع شفيف؛ إذ إن الصدى، صوتيًّا، هو غياب،
وتخفيف لحدة الحضور. والشفافية بصريًّا، هي تغييب وتخفيف لحدة الحضور
٥٣«في الوقت نفسه الذي يُمثل فيه كلا الصدى والشفافية تخفيفًا لحدة الغياب
أيضًا؛ فهما، بهذه الطبيعة، توسُّط بين الغياب والحضور.» وهكذا يتشابك الغياب والحضور
صوتيًّا وبصريًّا ويتناميان.
٥٤
ويلمح الدكتور كمال أبو ديب سمة بنيوية ليست خاصة بهذا المقطع فحسب، بل هي شائعة
في
شعر سعدي يوسف على وجه العموم، وهي الحركة من الحضور الناصع إلى الغياب الشفَّاف؛
من
نصاعة الحضور إلى شفافية الغياب. وهو يُعلل ذلك بقوله: «فلقد بدأ المقطع بصورة شفَّافة،
خفية تنساب جزئياتها دون نتوء، لتتلاشى خطوط كلٍّ منها في الخطوط الأخرى، وتنحلَّ
فيها،
مُشكِّلةً نسيجًا غلاليًّا شفَّافًا من الغياب، وناقلة النص من تركيب الجزيئات المنفصمة
المعزولة إلى تكوين الوجود المنصهر الكلي المتناغم.»
٥٥
ثم ينتقل الدكتور كمال أبو ديب من الجزء إلى الكل، وهو أحد المبادئ الإجرائية للمنهج
البنيوي، وذلك حينما يُعلق على هذه الحركة المكونة من جزأين في قصيدة سعدي يوسف،
قائلًا:
«ومع اكتمال الحركة «١» من «ثلاثية الصباح» بجزأيها، يمكن أن تُرصَدَ سمات تتشكَّل
على
مستوى البنية الكلية؛ أولاها: التعارُض بين لهجة الجزأين؛ في الأول يسود ضمير المُتكلم
المفرد، وفي الثاني يبرز ضمير المتكلم الجمع أنا/نحن؛ الأول منظر بري، والثاني منظر
مائي، الأول خالٍ من الشجر «إلا إذا عُدَّت قشرة البطيخة منه، وهي حاضرة تصويريًّا
فقط،
في صيغة المُشبَّه به لا فعليًّا.» والثاني يحفل بالشجر؛ الأول يدور حول الذات. ولا
شيء
فيه سوى الأنا، والثاني يحتشد بذواتٍ أخرى «نحن، النساء، السلاحف، السمك، لوركا،
هي»،
الأول يدور حول القول: اللغة، والثاني حول الفعل دون قولٍ أو لغة، الأول ناصع الحضور،
تجزيئي، والثاني انصهاري لُحمته وسداه لغة الغياب، الأول يبدأ بصورة النهوض المادية
الواضحة، والثاني ينتهي بالانسحاب إلى قاعٍ مائي شفيف، الأول يبدأ بقرارٍ واضح وعزيمة
على
الفعل في مُستقبلٍ ما، الثاني ينتهي بفعل الأشياء ويأخذها إلى القاع … إلخ. إننا
هنا أمام
نصٍّ يتشابك فيه محوران: الحضور الناصع والغياب الشفيف، وتتشكل حركته الأساسية حول
محور
الحضور والغياب.»
٥٦
ويبدو من كلام الدكتور كمال أبو ديب الأخير أنه اعتمد في تحليل هذا النص على إجراءٍ
تطبيقي من أهم إجراءات المنهج البنيوي وهو جدلية الثنائيات التي سيطرت على تشكيل
المقطعَين الشعريَّين المكونَين للحركة الأولى. فقد تبلورت في صورةٍ أشمل من خلال
الثنائية
الكبرى، وهي جدلية الحضور والغياب التي حاول الدكتور أبو ديب التدليل عليها، أو
إثباتها من خلال هذا الجزء من النص.
•••
وبعد هذا النموذج التطبيقي للدكتور كمال أبو ديب، يمكن استخلاص خواص هذه القراءة
ومميزاتها على النحو الآتي:
- أولًا: استطاع الدكتور كمال أبو ديب أن يُبرهن على صحة استخدام المبادئ
الإجرائية للمنهج البنيوي (لغة الغياب والحضور) في اكتشاف
الدلالة.
- ثانيًا: لم يقتصر الناقد على هذا الإجراء البنيوي (لغة الغياب والحضور، وهو
المَعنيُّ به في دراسته هذه) فحسب، بل اعتمد — ربما دون قصد — على مبدأ
بنيوي آخر، هو علاقة الأجزاء بعضها ببعض، من خلال مُقارنته لمقطوعتَي
سعدي يوسف بما قامتا عليه من ثُنائيات مُتضادة.
- ثالثًا: لم يُدْخِل الدكتور كمال أبو ديب نفسه في رسم جداول رياضية أو رسومات
توضيحية كما فعل في دراسته البنيوية للشعر الجاهلي؛٥٧ مما جرَّ عليه مشكلاتٍ من قِبَل بعض النقَّاد،٥٨ بل جاء تحليله بلغةٍ نقدية ثرية ومفهومة.
- رابعًا: اقترب الدكتور كمال أبو ديب في سياق تحليله للغة الغياب كثيرًا من
الإمكانات اللغوية وخاصة في تحليله لبعض الصور الشعرية.
- خامسًا: أبرزَ الدكتور أبو ديب أهمية دور المُتلقي في تفسير النص، شريطة أن
يتسلَّح بمادة معرفية كافية، يستعين بها على دراسة النص. وبذلك فتح
الدكتور كمال أبو ديب مشروعية الاستعانة بالخارج في تفسير النسيج
الداخلي للنص. إذ لم يعُد النص بنيةً لغوية مغلقة على نفسها. وفي علاقة
لغة الغياب بالخارج يقول الدكتور كمال أبو ديب: «تزداد لغة الغياب
بروزًا وانتشارًا كلما ازدادت درجة الانهيار والتفتُّت على مستوى المشروع
السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي لحركة التحرُّر في الوطن العربي، وكلما
تصاعدت درجة الاختلاط والالتباس في المُعطيات السياسية-الاجتماعية،
وكلما تنامت درجة الهلامية والانسيابية في التركيب الطبقي للمجتمع
العربي، كلما٥٩ ترافق تنامي لغة الغياب درجة عالية من الخلخلة في أنظمة
القِيَم، والبنية العقدية السائدة، ومن التفكك الاجتماعي، وتغير أنماط
الحياة الاقتصادية والعلاقات القائمة بين الأنماط الإنتاجية في المجتمع.»٦٠
ولكن ثمة ثلاث ملحوظات مُهمة على هذا التطبيق؛ الأولى: هي أن الدكتور كمال أبو ديب
دائمًا ما يضع المعنى في دائرة الاحتمالات، حتى بعد تدخُّل المُتلقي ومحاولته فك
رموز
النص وفضَّ غموضه، وكأن سياق الغياب وعملية الغموض من السمات اللغوية المُحبَّبة
لدَيه في
تحليله للنصوص الشعرية. ومن ذلك حديثه عن صورة عبد العزيز المقالح «يا نجمةً في بيارق
أيلول»، فبرغم إقراره أنه إذا توفر لدى المُتلقي مادة معرفية كافية عن الثورة اليمنية
استطاع أن يفسر الصورة، ويصل إلى أن التشكيل «يا نجمة في بيارق أيلول» يفصح عن دلالةٍ
محددة: «أنت بطل من أبطال الثورة»، ينهي حديثه باحتمالية المعنى.
والحقيقة أن الدكتور كمال أبو ديب مُولَع بكل ما تفرزه الحداثة سواء كان هذا صحيًّا
للشعر العربي المعاصر، أو يعمل على إبهامه وغموضه؛ ولذلك يسعى لأن يضع لكل مظهر حداثي
—
حتى وإن كان طارئًا — منهجًا يؤصِّله ويؤطره. وهذا الاتجاه الأيديولوجي لديه نابع
من فهمه
هو لمصطلح الحداثة الذي يقول عنه: «الحداثة انقطاع معرفي: ذلك أن مصادرها المعرفية
لا
تكمن في المصادر المعرفية للتراث … الحداثة تمتاح من الكشوف المعرفية الجديدة في
عالَمٍ
انقطعَ معرفيًّا عن العالم الكلاسيكي في القرن التاسع عشر، وبدأ رحلته التي تبدو
دون
نهايات، وترفض أن تُنْتَصَب على مسارها حواجز أو سدود. الحداثة بهذا المعنى، رحلة
اختراق وانتهاك لا تني، ومشروع كشفٍ وريادة لا يهدأ. الحداثة هي جوهريًّا روح البحث
والاكتناه في عالَم بدأ فجأة جديدًا بكل ما فيه، وهو بحاجةٍ أبدية إلى الاكتناه والكشف.
والحداثة، ضمنيًّا، هي رفض للإنجاز، أو للقرار، أو للوصول. لكن من أجل أن تُكسِب
الحداثة نفسها قُدرة على الحركة، لا بدَّ لها أن تؤمن بإمكانية الوصول. هكذا تكتسب
الحداثة
توتُّرها الداخلي الدائم. إنها اشتراط لإمكانية الوصول من أجل أن تكون حركتها مُتناغمة
في
نفسها، مُخلصة لذاتها. ذلك أن الوصول هو التشكُّل؛ هو الصيغة الجاهزة؛ هو التحول
إلى
القواعد؛ هو توليد إمكانية السلطة. والحداثة في جوهرها هي التعبير الأسمى عن نزوع
الإنسان إلى رفض السلطة.»
٦١
ولا ندري بعد ذلك، من أين بدأت الحداثة؟ وما الذي تُريده؟، كل ما نُدركه أن الحداثة
—
من خلال مفهوم الدكتور أبو ديب — هي شيء سقط من السماء على الثقافة العربية، فهي
لم
تُسبَق بثقافةٍ عربية أصيلة، تضرب بجذورها في أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان.
وهي بعد
ذلك ليس لها هدف، ولا تريد أن تصِل إلى نقطة ثابتة.
وربما اتَّضح بعد ذلك إعجاب الدكتور أبو ديب بلُغة الغياب، وإقراره بعدم الوصول إلى
دلالةٍ مُعينة، واحتمالية المعنى التي لا تنتهي. وكأن الإبداع وُلِدَ من اللاشيء،
وجاء
إلى اللاشيء، وسينتهي إلى اللاشيء. وربما كان هذا المفهوم هو الذي شجَّع بعض الشعراء
على
الخروج عن تقنيات الإبداع السليم الهادف.
٦٢
أما الملحوظة الثانية، فتتمثَّل في وقوع الدكتور كمال أبو ديب في بعض الأخطاء اللغوية؛
ففي جانب الصرف يأتي بمصدر الفعل الثلاثي «وضع» بدالِّ «موضعة»، ثم يشتقُّ منه صيغة
«تمفعل». والصحيح «وَضْع» (وضع، يضع، وضعًا).
ومما يتصل بالجانب الصرفي كذلك، النسَب إلى الجمع في دالِّ «معلوماتية»، وهذا لا يجوز
صرفيًّا.
وفيما يخصُّ جانب النحو، تكرار أداة الشرط «كلَّما» في جواب الشرط، وكذلك استخدامه
لحرف
«السين» على أنها تفيد القُرب الزماني، في حين أنها تُخلِّص الفعل الحاضر إلى التوسُّع
في زمن
المستقبل، كما قال ابن هشام.
وتتمثَّل الملحوظة الأخيرة، في أن الدكتور كمال أبو ديب، عندما يُقِر بإمكانية وصول
الناقد إلى تحديد المعنى في النصوص التي اختارها، ثم يؤمِن بدخول اللغة في تلك النصوص
في
دائرة الغياب، فهو — بهذا الصنيع — يلوي عنق النصوص لمنهجه النقدي بما يتضمَّنه من
إجراءاتٍ تطبيقية؛ أي أنه يفرض منهجًا معينًا على نصوصٍ لا تتناسب تشكيلاتها الجمالية
مع هذا المنهج.
والصحيح في هذا المجال — من وجهة نظري — يتمثل في مسلَكين؛ الأول: إذا أُعجِب الناقد
بنصٍّ
شِعري ما، وتفاعل مع جمالياته، ورغب في دراسته، فعليه أن يختار المنهج النقدي الذي
يتناسب من جماليات هذا النص.
الأخير: إذا أراد الناقد أن يُقدِّم دراسةً لمنهجٍ ما — اختاره هو — قبل عملية الدراسة،
فعليه أن يبحث عن نصٍّ تتناسب جمالياته مع هذا المنهج. وأعتقد أن المسلكَين يُكمِل
أحدهما
الآخر، أو أنهما وجهان لعملةٍ واحدة.
٦٣
٣
أما النموذج الثالث الذي أقترحه للقراءة البنيوية، فهو قراءة الدكتورة يُمنى العيد
«حكمت صباغ الخطيب» لقصيدة «جدارية فائق حسن» للشاعر العراقي سعدي يوسف.
٦٤ وقد جاءت هذه الدراسة تحت عنوان: «الموقع الفكري وأثره في توليد دلالات النص».
٦٥ وقد صدَّرت الناقدة دراستها بالنص كاملًا:
(١) تطيرُ الحماماتُ في ساحةِ الطيرانِ. البنادقُ تتبعُها،
وتطيرُ الحماماتُ. تسقطُ دافئةً فوق أذرُعِ مَن جلسوا.
وجهُ الصبيِّ الذي ليس يُؤْكَلُ ميتًا، ووجهُ النبيِّ.
في الرصيف يبيعون أذرُعَهم. للحمامةِ وجهان:
الذي تتأكَّله خطوة في السماءِ الغريبةْ.
وإذ يقفُ الناسُ في ساحةِ الطيرانِ جلوسًا، يبيعون
أذرعَهم: سيدي قد بنيتُ العماراتِ … أعرفُ
كلَّ مداخلِها، وصبغتُ الملاهيَ … أعرفُ ما يجذبُ الراقصينَ
إليها، ورمَّمْتُ مُستشفياتِ المدينةِ … أعرفُ
حتى مشارحَها، سيدي … لِمَ لا تشتري؟ إنَّ كَفِّي
غريبة.
– أجسُّ ذراعَك؟
– يا سيدي جسَّها …
– أمس .. أين اشتغلتَ.
(٢) تطيرُ الحماماتُ في ساحةِ الطيرانِ .. وعينا المقاولِ
تتجهانِ إلى الأذْرُعِ المُستفزةِ. يدخلُ شخصانِ
سيارةَ النقلِ .. ثم يدور المحركُ، ينفثُ في ساحةِ
الطيرانِ دخانًا ثقيلًا … ويتركُ بين الحمائمِ والشجرِ
المُتيبسِ رائحةً من شواءٍ غريبة.
يقولُ المقاولُ: نرجعُ بعد الغروب.
تقولُ الحمامةُ: أهجعُ بعد الغروب.
يقولُ المُغَنِّي: بلادي .. لماذا يظلُّ الغروب؟
(٣) تطيرُ الحماماتُ في ساحةِ الطيرانِ. تريدُ جدارًا لها،
ليس تبلغُ منه البنادقُ، أو شجرًا للهديلِ القديمِ ..
ارتفعنا معًا في سماءِ الحمائمِ، صُغنَا مِنَ الحجرِ
المتألقِ وجهَ الجدار، انتقيناه جزءًا فجزءًا،
وقُلنَا لسعفِ النخيلِ وللسُّنبلِ الرَّطْبِ: هذا أوانُ
الدموع التي تضحك الشمس فيها وهذا أوان
الرحيلِ إلى المُدنِ المُقْبِلَة.
ولكنَّنا يا بلادَ البنادقِ كنَّا صغارًا، فلم نلتفت
لإلهِ الجنودِ، ولم نلتفت للحقائبِ مثقلة … نحن
كنَّا صغارًا … أقمنا جدارًا ونِمنا على مَضض،
والحماماتُ خافقة في الهزيعِ الأخيرِ. لماذا تظلِّين
خافقةً؟ قد بنينا ملاذًا لنا، وغصونًا تنامينَ فيها، ونحن
هنا في الرصيف؛ المقاول يأتي ..
ويأتي إلهُ الجنود .. وتهوي على الوطن المقصلة.
(٤) تطيرُ الحماماتُ مذبوحة. دَمُهَا الأسودُ النَّزْرُ يسقطُ
فوقَ الجدارِ الذي قد بنيناهُ، يسقطُ مختلطًا بالرصاصِ.
وفي ساحةِ الطيرانِ تدورُ المدافعُ محمولةً … شاحناتُ
المقاولِ كانت تُطاردُنا والمدافعُ محمولة … يا بلادَ البنادقِ
إن الحماماتِ مذبوحة، والجدارَ الذي قد بَنَيناهُ
بيتًا وغصْنًا، ينِزُّ دَمًا أسودًا، ويهزُّ يدًا مُثقَلة.
يقولُ المقاولُ: جئنا لنبقى.
تقولُ الحمامةُ: هل قال حقًّا؟
يقولُ النقابيُّ: إن السواعدَ أبقى.
تعِبْنا: زمانًا نلُمُّ دماء الحمائمِ، نرسُمُ في السِّرِّ أجنحة،
ثم نُطْلِقُها في القُرَى .. يا زمانَ الجذورِ الذي ما انقطعتَ
وما انقطعتْ عنك تلك الجذورُ هنا، نحن في ساحةِ الطيران
وقوفٌ أمامَ الجدار، نُرمِّمُهُ قطعةً قطعةً، حجرًا حجرًا،
ونُمَسِّدُ أذرُعَنا .. يا زمانَ الجذورِ انتظَرْنَا طويلًا،
وها نحن نبني على هاجسِ الروحِ مملكةً فاضلة.
ويبقى لنا أن نُحبَّ وأن لا نحبَّ. كرِهْنا كثيرًا، كرِهنا حقيقتَنا
والوجوهَ الأليفة .. حتى الجدارُ الذي قد بنيناهُ يومًا كرهناه،
يبقى لنا أن نُحبَّ وأن لا نحبَّ. انتهينا إلى البدءِ، يا وطنًا
ظلَّ ينزفُ أبناءَهُ بين «…» والماءِ والعجلاتِ السريعة
يا وطني .. لمْ يَعُدْ لي سوى أن أُحبَّ، وأن لا أُحبَّ، وبينهما
الطلقةُ الماثلة.
تباركتَ يا وطني .. إنَّ كلَّ الوجوهِ التي غُيِّبَت بين «…»
والماءِ والعجلاتِ السريعة .. ما غادرتْكَ، وما غادرتْ
منكَ غير عذاباتِها .. وطني: زهرةً للقتيلِ، وأخرى
لطفلِ القتيلِ، وثالثةً للمقيمينَ تحت الجدار ..
(٥) تطيرُ الحماماتُ في ساحةِ الطيرانِ. ارتفعنا معًا ..
في سماءِ الحمائمِ. قُلْنَا لسعفِ النخيلِ وللسُنبلِ الرَّطبِ:
هذا أوانُ الدموعِ التي تضحكُ الشمسُ فيها، وهذا
أوانُ الرحيلِ إلى المدنِ الفاضلة.
يقولُ المناضلُ: إنَّا سنبني المدينة.
تقولُ الحمامةُ: لكنَّنِي في المدينة.
تقولُ المسيرةُ: دربي إلى شرفاتِ المدينة.
وبعيدًا عن العناوين الجانبية الكثيرة الموجودة داخل الدراسة، نُركز على
ما يُهمنا من هذه القراءة، وهو بنية القصيدة التي قسَّمَتْها الناقدة الى حركتَين
أساسيتَين؛ الأولى: حركة الطيران، والأخيرة: حركة البنادق بوصفها حركةً مُضادة للحركة
الأولى.
وبعد أن أوضحت الناقدة هاتَين الحركتَين، درستهما دراسةً مفصَّلة من خلال عناصر عدة؛
الأول: هو عالم الحركتَين. الثاني: الحيز الذي يشغله عالم كل حركة. الثالث: حركة
مكونات
عالم الحركتَين. الأخير: سيرورة بعض مُكونات عالم الحركتَين. ثم قدَّمت أخيرًا عنصرًا
مُهمًّا، يُمثل الهدف الرئيسي من الدراسة كلها، وهو المنطق الذي يحكم القصيدة في
علاقتها
بالواقع الاجتماعي.
وعن الحركة الأولى تقول الناقدة: «تبدو الحركة الأولى في الجملة الأولى من القصيدة
هي
الحركة الأصل. الجملة هذه «تطير الحمامات في ساحة الطيران» مصاغة
٦٦ باقتصادٍ كُلي، وببساطة هي بساطة الإبلاغ المُحكَم. كأنها مجرد إخبار لا تريد
أن تقول سوى هذا العادي، البسيط المُلاصق لواقعه، ولا تُريد أن تُوحي إلا بهذا القائم
والحاضر المُستمر «صيغة تطير تُفيد معنى الحاضر المُستمر» الذي لم يتكرَّر بعدُ،
أي الذي
يستمر، لا بتكراره، بل بصيغته: إن فعل تطير الذي تبدأ به القصيدة حركتها، هو فعل
تُمارسه
الحمامات بوصفه فعلًا عاديًّا، في مكانه العادي «ساحة الطيران» وبالتالي فهو مُستمر
بحُكم
عاديته هذه. الطيران هنا ما زال مجرد تحليقٍ في هذا الفضاء القائم بين الأرض والسماء.
والعبارة التي تبدأ بها القصيدة لم تكتسِب بعدُ أية شحنةٍ رمزية. إنها مُلاصِقة لواقعها
كأنها مجرد لقطة فوتوغرافية لسربٍ من الحمام يُحَلِّقُ في ساحة الطيران ممارِسًا
هوايته.
اللغة هنا إبلاغ ولا مسافة بين الدالِّ والمدلول، لا انزياح عن المعنى الاصطلاحي
للتعبير،
ولا فجوة للحُلم الشعري.»
٦٧
وعن الحركة الثانية تقول الناقدة: «تبدو الحركة الثانية، حركة البنادق، حركة فعل
دخيل، البنادق لا تطير ومع هذا تدخل ساحة الطيران، «تتبع» الحمامات. توحي حركة البنادق
بإيقاعٍ ضدي ليس مصدره الفعل «تتبع». حين نقول مثلًا يتبع زيد عمرًا، إنما نعني:
سار
وراءه ليلحَق به، وهذا لا يفيد بالضرورة قصدًا ضديًّا في حركة فعل اللحاق. الإيقاع
الضدي
هنا مصدره الفاعل «البنادق». البنادق، كما قُلنا لا تطير، ومع ذلك تتبع الحمامات
في حركة
طيرانها. مع هذا الفاعل وفي هذا التركيب تتغير دلالة فعل «تتبع». يصير الهدف من فعل
«تتبع» هو معناه: تتبع = تقتل.
كما يتغير الاتجاه الظاهري لهذه الحركة الثانية الذي هو دخول في ساحة الطيران واتجاه
نحو التحليق. وينكشف عن حقيقته باعتباره اتجاهًا عكس التحليق. نوضح ذلك في الرسم
الآتي:
هكذا تبرز هوية الفاعل «البنادق» بوصفها أمرًا مُهمًّا في تحديد طبيعة العلاقة بين
الحركتَين باعتبارها علاقة اعتداء لا تلبث أن تتَّخِذ طابعًا صداميًّا على امتداد
القصيدة.»
٦٨
وعن علاقة الإبداع بالبنية العُليا/الثقافة في المجتمع، تقول الناقدة: «هل نتكلَّم
على
فكر في النص الأدبي؟ نعم نتكلَّم على فكرٍ لا يتكوَّن فقط بالممارسة الأدبية، بل
أيضًا في
البنية الثقافية في المجتمع. بما فيها اللغة التي ليست قصرًا على الأدب أو على النص
الأدبي. وفي الممارسات الحياتية
٦٩ الاجتماعية المختلفة، وإلا أقَمْنا الحواجز بين مختلف حقول النشاط الفكري.
هذه الحقول التي تتداخَل فيما بينها، وتتعاظم قُدرتها على الإفادة بعضها من بعض.»
٧٠
وأما العنصر الأول، فهو مكونات عالَم الحركتَين. وفي مكونات عالم الحركة الأولى تقول
الدكتورة يُمنى العيد: يتكوَّن عالم الحركة الأولى من: الحمامات – الناس – نحن –
المغني –
النقابي – المناضل – المسيرة. وتتركَّز فاعلية هذه المكونات، بشكلٍ أساسي، حول معاني
التحليق والبناء. وهي بمعانيها هذه، ومع تمايُز هذه المعاني، فاعلية إيجابية. يُعبر
عن هذه
الفاعلية الأفعال الآتية:
ثم تعلق الناقدة على هذه الفاعلية قائلة: «تُفيد هذه الفاعلية معنى الزمن الحاضر،
أي
معنى الاستمرار، لا بما جاء فيها من أفعالٍ بصيغة المضارع وحسب، بل بدلالة ما جاء
منها
بصيغة الماضي أيضًا. فالأفعال: ارتفعنا، أقمْنا، بنَينا، رممت، صُغنا .. تدل على
إنجاز عمل.
والإنجاز هذا حالة قائمة مُستمرة. إنه نشاط بشري أنتج عملًا ماديًّا قائمًا. هذا
المُنْجَز، والذي تدل عليه صيغة الأفعال المضارعة، يمنح الحركة الأولى طابع الصمود
والمقاومة. إنها حركة بناء ومواجهة، حركة صمود وتجاوز. فهي في صمودها لا تقِف عند
حدود
المقاومة (لا تكتفي بأن بنت)، بل تنمو، تعلو، تستمر في صيرورتها «ستبني» التي تصعُب،
بحكم دخول الحركة الثانية، والتي تتكسَّر، بحُكم فعل الحركة الثانية، فتتكرر أو يتكرر
فعلها ليأتي تكرارها هو هو نموها.»
٧١
وفي العلاقة التي تربط منطق هذه الحركة بالواقع، تقول الناقدة: «إن العلاقات التي
تنتظم هذه المُكونات وهذه الأفعال، والتي تشكل بانتظامها الجسم اللغوي لعالَم الحركة
الأولى، تنهض من رؤية الشاعر للأساسي في الواقع، في العالَم الذي يعيش ويُحاور. صحيح
أن
هذه العلاقات تنتظم بفنية مُعينة، هي فنية تميُّز الشاعر وتميُّز هذه القصيدة، إلا
أن بنية
انتظام هذه العلاقات تتمحور
٧٢ حول منطقٍ مُعين يحكمها. هذا المنطق هو على علاقةٍ ما بالواقع أو بِنيته التي
ليست واحدةً على مدى التاريخ، وليست هي واحدة في الفكر الناظر إليها، والتي تشكل
مقاربتها معابر وأشكالًا مُتعددة.»
٧٣
وفي مكونات عالم الحركة الثانية تقول الناقدة: «يتكون عالم الحركة الثانية من:
البنادق – المقاول – إله الجنود. وتتركز فاعلية هذه المُكونات بشكلٍ أساسي حول معاني
اللحاق ﺑ أو التوجُّه نحو. تستهدف هذه الفاعلية الاعتداء والقتل. يُعبر عن هذه الفاعلية
الأفعال الآتية:
نُلاحظ أن هذه الأفعال لا تحمل معنى فاعليتها الحقيقية التي تُمارسها في القصيدة.
إنها
تخفي هدفها الذي هو في القصيدة الاعتداء والقتل. ذلك أن هذه الأفعال تفيد معنى الاتجاه
ولا تظهر فاعليتها الحقيقية إلا بتحقيق هذا الاتجاه لأهدافه.»
٧٤
ثم تُقارن الناقدة بين أفعال كلٍّ من الحركتَين وما تُحققه من أفعال على النحو
التالي:
|
الفعل |
ما يحققه الفعل |
الحركة الأولى |
تطير |
الطيران |
ارتفعنا |
الارتفاع |
نطلقها |
انطلاقها |
أقمنا |
الإقامة |
نلاحظ هنا أن الفعل يعني تمامًا ما يُحققه. إن لهذه الأفعال هويةً لا تحتمل التمويه
وأن
فاعليتها تدلُّ على هويتها، بعكس أفعال الحركة الثانية:
|
الفعل |
ما يحققه الفعل |
الحركة الثانية |
تتبع |
القتل |
تتجهان |
شراء الأذرع |
تهوي |
القتل |
تطارد |
القتل |
إن هذه الأفعال لا تُفيد عن معنى حقيقة فاعليتها، لأن هذه الحقيقة قائمة فيما تُحقِّقه
هذه الأفعال بوصفها فاعليةً وليس في هويتها؛ لذلك فهي تتصِف بإمكانية التمويه، دلالتها
هي
الاتجاه. والاتجاه، بوصفه دلالة، يُخفي ما تحمل أفعاله من أهداف.
٧٥
وفي العلاقة بين الفن والواقع، تقول الدكتورة يُمنى: «تتحدَّد حركة الانبناء اللغوي
بوصفه ضرورةً للمنطق الذي يرى
٧٦ إلى هوية هاتَين الحركتَين. إن إهمال المنطق الذي يُشير إلى موقع الفكر الناظر
في الواقع الاجتماعي والرائي إلى بنيته والذي هو حاضر في العمل الأدبي بوصفه أثرًا
فنيًّا متميزًا يؤدي إلى المزالق الآتية؛ أولًا: إلى النظر في القصيدة، وكأن المنطق
الذي يحكم بنيتها هو فقط منطق اللغة. ثانيًا: إلى إغفال عنصر «المضمون» في حضوره
في
حركة الانبناء، أي في حركة علاقته مع بقية عناصر القصيدة التي تؤلِّف لا بمجموعها،
بل
بحركة العلاقة فيما بينها، بِنيةَ القصيدة. ثالثًا: إلى النظر، في هذه القصيدة مثلًا،
إلى
علاقة الحركة الأولى بالحركة الثانية بوصفها علاقة سببية، بحيث تظهر الحركة الأولى
مجرد
أثر للحركة الثانية، تصير معه هذه الأخيرة هي الحركة الأصل. نُوضح ذلك فنقول: إنه
في
التحليل السابق بيَّنا أن الحركة الأولى لا تظهر في الغالب وفي كثير من صور عالمها
الشعرية إلا بأثر العلاقة بينها وبين الحركة الثانية. فصُوَر الحمامات التي «تريد
جدارًا
لها»، «أو شجرًا للهديل القديم»، والتي تطير «مذبوحة» … وصورة «ارتفعنا معًا في سماء
الحمائم» و«أقمنا جدارًا ونِمنا على مضض» و«تعبنا زمانًا نلمُّ دماء الحمائم، نرسُم
في السر
أجنحةً ثم نطلقها في القرى» … هي صور تظهر في القصيدة في نطاق العلاقة الصدامية بين
الحركة الأولى والحركة الثانية، هذه الصور ليست أثرًا تولده الحركة الثانية، بل هي
أثر
تولده فاعلية الحركة الأولى في علاقتها الصدامية مع الحركة الثانية. ثمَّة فارق بين
أن
تكون هذه الصور أثرًا تُولِّده الحركة الثانية، وبين أن تكون أثرًا تُولِّده الحركة
الأولى في
نطاق العلاقة بينها وبين الحركة الثانية، وحسب طبيعة هذه العلاقة «التي هي هنا صدامية».
إنَّ إخفاء هذا الفارق يكمُن في النظر إلى هذه العلاقة بوصفِها علاقةً سببية تبدو
معها صور
عالم الحركة الأولى (المُسبَّب) أثرًا لفاعلية الحركة الثانية (السبب). إن خطورة
هذه
النظرة الشكلية–الميكانيكية للعلاقة بين الحركتَين في القصيدة لا تقف عند هذه الحدود،
أي عند حدود عدم رؤية هذا الفارق الذي أوضحنا، بل تتعدَّاها إلى استنتاجاتٍ يؤدي
إليها
منطق هذه النظرة وتدخل في أُسس النظرة الجمالية للفن والأدب.»
٧٧
وتنتقد الدكتورة يُمنى العيد البنيوية اللغوية التي تنظر إلى النص على أنه بنية لغوية
مُنفصلة عن الخارج قائلة: «هذه النظرة لا ترى في القصيدة إلا لُغتها، وهي لا ترى
في اللغة
إلا شكلًا خاويًا. وهي في الواقع نظرة أيديولوجية تُمَوِّه مصدر الجمال، تُمَوِّه
معنى
اللغة، تَقطَعها عن علاقتها بالفكر الذي يُرى بها وعن هذا الذي يراه بها! تقطعها
عن
تاريخها، عن الحضن الذي تُولَد فيه والذي هو المجتمع. حين لا نرى في اللغة سوى هذا
الشكل
المعزول عن مواقع الفكر فيه نترك الباب مفتوحًا لتأويلٍ فوضوي لا يخلو من غاية التأسيس
لمِثل هذه النظرات الجمالية في الفن والأدب.
ويتمثَّل العنصر الثاني في الحيز الذي يشغله عالم كلٍّ من الحركتَين.» وفي سيطرة الحركة
الثانية على المقطعين الأول والثاني تقول الناقدة: «ففي المقطع الأول والثاني تشغل
الحركة الثانية الحيز الأكبر من جسم القصيدة. وهو حيز يقتضيه الهجوم الواسع الذي
تقوم
به هذه الحركة، فتتبع الحركة الأولى وتتجه نحو مكوناتها. تبدأ الحركة الثانية فاعليتها
هذه الهجومية قبل أن تُمعِن الحركة الأولى في فاعليتها الأساسية، أي قبل أن تُنوَّع
وتُشكَّل على فاعلية الطيران والتحليق، قبل أن تنمو هذه الفاعلية بعيدًا عن هذه
الصدامية التي ولَّدتها العلاقة بين الحركتَين.
يتمُّ الهجوم باتجاه الحمامات، وباتجاه الذين جلسوا في الرصيف يبيعون أذرُعهم. يقوم
بالهجوم مكونات عالم الحركة الثانية: المقاول ومعاونوه «شخصان يدخلان سيارة
نقل».
إن احتلال الحركة الثانية هذا الحيز الواسع، وحتى الكُلي، في هذَين المقطعين، يتلاءم
وهدف فاعليتها: إنها تنشر حضورها على هذه المساحة الواسعة من زمن القصيدة، وتَحُول
دون
الحركة الأولى ودون ممارستها لفاعليتها في صفائها.»
٧٨
أما عن الحيز الذي تشغله الحركة الأولى، فتقول الدكتورة يُمنى العيد: «وفي المقطع
الثالث والرابع تشغل الحركة الأولى الحيز الأكبر، ولكنها تشغله لا بفاعليتها الصافية،
بل بفاعليتها المُنعطفة، المُتحولة إلى حركة مقاومة وصمود. إن ما يتمثَّل في هذَين
المقطعَين
هو — في الواقع — العلاقة بين فاعلية الحركة الأولى وفاعلية الحركة الثانية في طابعها
الصدامي الذي أوضحناه. إن احتلال الحركة الأولى هذا الحيز في المقطعَين الثالث والرابع،
يدلُّ على استمرارها، رغم هجوم مكونات الحركة الثانية الواسع، ورغم الهدف الذي يحمله
هذا
الهجوم. إن حضور الحركة الأولى في هذا الحيز الواسع، وبعد هذا الهجوم، يُشير إلى
موقع
الفكر الذي منه ينظر الشاعر إلى العلاقة بين الحركتَين.»
٧٩
وفي العلاقة بين الحركتَين تقول الناقدة: «تبدو العلاقة بين الحركتين — التي هي أيضًا
حركة — هي القوة التي تنهض بها القصيدة. هي الحد الذي يلتقي عنده عالَم الحركتَين،
فيُنتج
هذا الالتقاء صدامًا وتنمو الحركة. وهي المحور الذي تتبنين
٨٠ فيه عناصر القصيدة فتنهض بنيتها وتتكامل.»
٨١
وتوازي الدكتورة يُمنى العيد بين الطابع الصدامي الموجود بين الحركتَين بالطابع الصدامي
الموجود في الواقع المعيش، فتقول: «ليست القصيدة قولًا شعريًّا للحركة الأولى، بل
هي
قول لهذا الواقع الصدامي بينها وبين الحركة الثانية، والذي هو واقع صدامي في المجتمع.
تكشف القصيدة عن بنيةٍ لها، تطول في آليتها، بنية الواقع الاجتماعي التي يرى إليها
الشاعر
٨٢ أو التي يضيئها الشاعر. يُضيئها حين يقولها شعرًا، يُضيئها حين يتمثَّل زمنها،
يضيئها حين ينفذ إلى الأساسي فيها ويكشف آليته … ولعلَّنا نستطيع أن نقول في هذا
الصدد:
إن قيمة العمل الفني هي في أن يتميَّز في النفاذ إلى هذه الأحشاء لتبقى هذه الأحشاء
أحشاءه بوصفه فنًّا، فلا يسقط في المعادلات المُسطَّحة، أو في معادلات مع النشاطات
الفكرية الأخرى.»
ويتمثل العنصر الثالث في حركة مكونات عالم الحركتَين. وهنا تقول الدكتورة يُمنى العيد:
«ذكرنا أن حركة الحمامات تُشكِّل الحركة الأولى في القصيدة، وأن حركة البنادق تُشكِّل
الحركة الثانية فيها. غير أن كل حركةٍ من هاتَين الحركتَين تضمُّ أكثر من حركةٍ فيها.
ننظر في
حركة الحمامات فنرى أنها تضم: حركة الحمامات، عموديًّا في اتجاهَين: الأرض والسماء،
وحركة الذين يبيعون أذرُعهم، عموديًّا في اتجاهَين: الجلوس والوقوف. وحركة ضمير المُتكلِّم
«نحن/نا»، عموديًّا في اتجاهين: الأرض والفضاء.
أما حركة البنادق فهي تضم: حركة البنادق، في اتجاهٍ واحدٍ غير مُحدَّد بذاته (نحو
الحمامات). حركة المقاول، في اتجاهٍ واحد غير مُحدد بذاته (نحو الأذرع). حركة إله
الجنود،
في اتجاهٍ واحد غير مُحدد بذاته (نحو عالم الحمامات).»
٨٣
ثم تربط الناقدة بين حركة الحمامات وحركة مكونات عالمها، فتقول: «تتحدَّد العلاقة
بين
حركة الحمامات والحركات الأخرى لمكونات عالمها بوصفها علاقة تداخُل لا صدامية فيها:
حين
تسقط الحمامات تسقط فوق أذرُع من جلسوا في الرصيف. تدخل في حركة أذرُعهم، وحين تعاود
حركتها، يدخلون في حركة الطيران التي هي حركتها. يقول الشاعر: «ارتفعنا معًا في سماء
الحمائم.» في اتجاهها العمودي نحو الأرض تلتقي حركة الحمامات بالحركات الأخرى المكونة
لعالمها. تتوحَّد الحركات كلها في فاعلية النهوض والطيران. تقوى في توحُّدها وتستمر
في
التحليق.»
وفي علاقة حركة البنادق بالحركات الأخرى المكونة لعالمها تقول الناقدة: «تتحدَّد
العلاقة بين حركة البنادق والحركات الأخرى لمكونات عالمها بوصفها علاقة توازٍ؛ فحين
تتبع البنادق الحمامات، تتَّجِه أيضًا عينا المقاول إلى الأذرُع المُستفزة، كما يأتي
إله
الجنود. حركة البنادق ذات اتجاهٍ واحد، وكذلك حركة المقاول وحركة إله الجنود. الحركات
هذه تتوازى، تلتقي لا في تداخُلها، بل في هدفها. وفي تداخُل هذه العلاقات بين الأجزاء
والكليَّات ومشاركتها في بناء القصيدة، تقول الدكتورة يُمنى العيد: «تَظهر دلالة
العلاقة
بين حركة الحمامات والحركات الأخرى لمكونات عالمها من جهة، وتَظهر دلالة العلاقة
بين
حركة البنادق والحركات الأخرى لمُكونات عالمها من جهةٍ ثانية، في ضوء العلاقة بين
الحركة
الأولى والثانية، أي بين حركة الحمامات وحركة البنادق. فعلى هذا المُحور تتحدَّد
طبيعة
العلاقات بين مكونات عالَم كل حركة من حركتي القصيدة.»
٨٤
وأخيرًا يأتي العنصر الرابع الذي يُمثل سيرورة بعض مكونات عالم الحركتَين. وهنا تقول
الدكتورة يُمنى العيد: «تتجلَّى الآلية التي تحكم بنية القصيدة في سيرورة مكونات
عالَم
الحركتَين. فنحن نلاحظ أن بعض المقاطع في القصيدة تنتهي بما يُشبه اللازمة: «يقول
المقاول: نرجع بعد الغروب. تقول الحمامات: أهجع بعد الغروب. يقول المُغني: بلادي
لماذا
الغروب.» «يقول المقاول: جئنا لنبقى. تقول الحمامات: هل قال حقًّا. يقول النقابي:
إن
السواعد أبقى.» «يقول المناضل: إنا سنبني المدينة. تقول الحمامات: لكنني في المدينة.
تقول المسيرة: دربي إلى شرفات المدينة».»
ثم تعلق الناقدة على هذه الأقوال الثلاثة قائلة: «نرى أنَّ هناك ثلاثة أقوال تُشكِّل
بمجموعها وحدةً أو لازمة تتكرَّر في كل مقطعٍ من المقاطع الثلاثة في القصيدة. ونرى
أن قائل
القول في هذه الوحدات يتغيَّر أحيانًا «المقاول والمغني»، ولا يتغير أحيانًا أُخرى
«الحمامات»».
وترصد الناقدة تحليلًا خاصًّا لكل قول: «إن قائل القول الأول «المقاول» يتغيَّر في
اللازمة الثالثة، أي في نهاية المقطع الأخير من القصيدة. والواقع أن قائل القول ليس
هو
الذي يتغيَّر، بل إن القول ينتقل من المقاول إلى المُناضل. يغيب المقاول في القصيدة،
يحضر
المناضل فيها ويصير القول له. ينتقل القول من مُكونٍ من مكونات الحركة الثانية إلى
مُكون
من مكونات الحركة الأولى. ويصبح القول بالضرورة وجهًا من أوجه فاعليتها التي هي الطيران
والبناء. يبدو قول المناضل: «إنا سنبني المدينة» صوتًا في هذه السيمفونية التي تقول
شيئًا واحدًا بأصواتٍ مختلفة تنتمي كلها إلى عالَم الحركة الأولى أو إلى عالم الحُلم
فيها. وليس هذا الانتقال إلا استكمالًا لحضور عالم الحركة الأولى بمختلف مُكوناته،
أو
بمختلف هذه المكونات كما تراها عين الشاعر في سيرورتها في القصيدة.»
٨٥
وفي القول الثاني تقول الناقدة: «إن قائل القول الثاني «الحمامة» لا يتغير: الحمامة
رمز أساسي وشمولي في القصيدة، وهي تقول بهذا الصوت الذي يُعانق الحاضر والمُستقبل.
كأنها،
في ثباتها، صوت التاريخ الواثق من حركته، أو كأنها صوت الزمن المُستمر أبدًا هكذا.
وحين
يستشرف المناضل المستقبل، ويقوَى عزمُه على البناء «إنا سنبني المدينة.» تقول الحمامة
إنها في المدينة: «لكنني في المدينة.» تستدرِك قول المُناضل وتؤكد حضور هذا المُستقبل
في
الحاضر، وترى أن الزمن الآتي هو زمنها الآن.»
أما عن القول الثالث، فتقول الناقدة: «إن قائل القول الثالث هو في اللازمات الثلاث
من
مُكونات الحركة الأولى، وهو وحدَه الذي يتغيَّر أو يتطوَّر من «المُغني» الفرد إلى
«النَّقابي»
أو الجماعة فإلى «المسيرة». أي إلى هذا الحشد الجماهيري الواسع. من الموقف الفردي
الرومنطقي إلى الموقف الجماعي الواسع.»
وتصل الناقدة من هذا التحليل إلى إثبات بقاء الحركة الأولى؛ حركة الحمامات بكل
مكوناتها: «هكذا لا يبقى قول في نهاية القصيدة إلا لمُكونات الحركة الأولى كما هي
في
تطوُّرها وفي رؤية الشاعر لها. أي كما هي في المنطق الذي يحكم القصيدة.»
وتخلُص الدكتورة يُمنى العيد من هذه القراءة البنيوية لقصيدة سعدي يوسف إلى إثبات
العلاقة بين الفن والواقع، فتقول: «إن التناقُض الذي تحمله القصيدة، بوصفه تناقضًا
تناحُريًّا بين حركتيها، والذي يقوله الشاعر الناظر في الواقع، قصيدةً أو شعرًا في
قصيدة، هو صراع بين قوتَين اجتماعيتَين، هما: الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية
الأخرى
التي هي حليفتها.»
٨٦
•••
وتتلخص ملحوظاتي على هذه القراءة البنيوية في النقاط الآتية؛ أولًا: فسَّرت الدكتورة
يُمنى العيد النص من خلال علاقته بالواقع الاجتماعي والفكري. وهي تتبنى في هذا الإطار
الواقع الاجتماعي الذي أضفاه «جولدمان» على البنيوية اللغوية.
٨٧ أي أنها تقترب في دراستها من الفلسفة الماركسية التي كانت تنظُر إلى الأدب
من خلال علاقته بالواقع. وتأكيدًا لذلك، تربط الناقدة بين المنطق الذي يحكم حركة
اللغة
داخل النص، والمنطق الذي يُشير إلى موقع الفكر الناظر في الواقع الاجتماعي، مؤمنةً
بأن
إهمال المنطق الأخير — عند تفسير النص — يؤدي إلى كثيرٍ من المزالق.
وهنا تقول الدكتورة يُمنى العيد: «هذه النظرية (أي التي تفصل بين النص والواقع
الاجتماعي والفكري) لا ترى في القصيدة إلا لُغتها، وهي لا ترى في اللغة إلا شكلًا
خاويًا. وهي في الواقع نظرة أيديولوجية تُموِّه مصدر الجمال، تُموِّه معنى اللغة،
تقطعها
عن علاقتها بالفكر الذي يُرى بها، وعن هذا الذي يراه بها! تقطعها عند تاريخها، عن
الحضن
الذي تولد فيه والذي هو المجتمع. حين لا نرى في اللغة سوى هذا الشكل المعزول عن مواقع
الفكر فيه، نترك الباب مفتوحًا لتأويلٍ فوضويٍّ لا يخلو من غاية التأسيس لمِثل هذه
النظرات
الجمالية في الفن والأدب.»
٨٨
وهنا ينتقد الدكتور عبد العزيز حمودة الدكتورة يُمنى العيد، إذ يقول: «وربما تكون
دراسة حكمت الخطيب (يُمنى العيد) حول البنيوية، أكثر الدراسات العربية تجسيدًا لهذه
الحيرة والارتباك بين طرفي الثنائية. فهي أيضًا تُحاول تحقيق تزاوج مُستحيل بين نقيضَين،
وهي محاولة لا يملك الإنسان أمام فشلها إلا أن يتعاطف مع الباحثة في مُهمَّتها المُستحيلة.»
٨٩
ويقصد الدكتور حمودة بطرفي الثنائية؛ أي دراسة النص في إطار مرجع خارجي أو دراسته
في
إطار طبيعته اللغوية الداخلية، مُنفصلًا عن مرجعيته الخارجية. والارتباك الذي يقصده
هنا،
هو قوله: إن الماركسيِّين البنيويِّين وضعوا أنفسهم في مأزق، إذ كيف يفسرون النص
الأدبي
بنيويًّا «في إطار الداخل» في حين أن فلسفتهم قائمة على العلاقة بين الفن
والواقع.
ومن المُفيد هنا أن أذكر ما ردَّدته الدكتورة يُمنى العيد في هذا المجال، تقول: «إن
النص
ليس داخلًا معزولًا عن خارج هو مرجعه. «الخارج» هو حضور في النص ينهض به عالمًا
مُستقلًّا … وعليه فإن النظر في العلاقات الداخلية في النص ليس مرحلةً أولى تليها
مرحلة
ثانية، يتم فيها الربط بين هذه العلاقات بعد كشفها وبين ما أُسمِّيه «الخارج» في
النص. بل
إن النظر في هذه العلاقات الداخلية هو أيضًا، وفي الوقت نفسه، التطوُّر في حضور هذه
العلاقات في النص.»
٩٠
ولستُ أدري ما الذي يريده الدكتور عبد العزيز حمودة؟ لقد رفض الدكتور حمودة من قبل
على
كثيرٍ من صفحات كتابه «المرايا المحدبة» البنيوية اللغوية، ونظر إليها بوصفها سجنًا
تحبس
النص في سجن اللغة.
٩١
ونفهم من ذلك أن الدكتور حمودة لا يريد أن يُفسَّر النصُّ تفسيرًا لغويًّا منغلقًا
على ذات اللغة. وعندما تقرأ الدكتورة يُمنى العيد النص من خلال علاقته بالواقع المعيش
الذي نشأ فيه، يرفض الدكتور عبد العزيز حمودة هذا الاتجاه أيضًا مُتهمًا محاولتها
بالتلفيق.
والحقيقة أن الدكتورة يُمنى العيد لم تخلط بين النص والواقع. ولم تقل قطُّ إن النص
مجرد
نقلٍ حرفي للواقع، وهو ما كان يمكن أن يُتخوَّف منه حينئذٍ، بل أعطت النص حقه في
الاستقلال.
تقول في تعليقها على نصِّ سعدي يوسف «تحت جدارية فائقة الحسن»: «إن رؤية الأساسي
في
الواقع في هذا الصراع، أو رؤيته في شكلٍ من أشكال تمَظهُره، من هذا الموقع الفكري
أو من
موقع فكري آخر، لا يعني تماثُلًا في بنية القصيدة. على تعدُّدها. وفقًا لهذه الرؤية
أو
لهذه المواقع. فنحن هنا لا نُقيم معادلةً بين هذه الرؤية أو هذا الموقع الفكري من
جهة،
وبين بنية القصيدة من جهةٍ أخرى، كما أننا لا نُقيم بين بنية القصيدة وبين الواقع.
إنما
نُحاول أن نرى إلى هذه الآلية التي تحكم بنية القصيدة، وتكشف العلاقة بين المنطق
الذي
يَحكمها وبين المنطق الذي يحكم بنية الواقع، والذي هو منطق يرى إليه الشاعر من موقع
فكري
مُعين. ومن ثم نرى كيف وإلى أي مدًى تحمل هذه العلاقة رؤية الأساسي في الواقع!»
٩٢ وليس ثمة عيب أن يستعين الناقد بالخارج في تفسير النص الشعري — رغم
استقلاليته — إذا فرض النص عليه ذلك.
والحقيقة أن رفْض الدكتور عبد العزيز حمودة لآراء الدكتورة يُمنى العيد، ليس مُوجهًا
إلى شخصها، لكنه موجه إلى البنيوية على وجه العموم، بل إلى المناهج النقدية برمَّتها،
وهو
ما شُغِل به في كتابيه: المرايا المُحدبة، والخروج من التيه.
ثانيًا: اعتمدت الدكتورة يُمنى العيد على جدلية الثنائيات، وهي أحد الإجراءات المُهمة
في المنهج البنيوي، مثل دراستها للحركتَين المُتناقِضتَين داخل القصيدة، وهما حركة
«الحمامات» وحركة «البنادق»، وكذلك دراستها للوحدات الصغرى وعلاقتها بالوحدات الكبرى
عندما تناولت مُكونات كل حركةٍ من جهة، وحركة هذه المكونات، وعلاقتها بحركة الحركتَين
الكُبريَين من جهة أخرى، وعلاقة هذا كله ببنية النص ذاته، ثم علاقة النص نفسه بالبنية
الاجتماعية والفكرية، واعتمدت في إيضاح ذلك على بعض الرسوم.
ثالثًا: استعانت الناقدة ببعض الإمكانات اللغوية في إبراز الدلالة، مثل اعتمادها —
على سبيل المثال — على موقع الفاعل في دراستها لسيرورة بعض مكونات عالَم الحركتَين.
وأثر
هذا الفاعل دلاليًّا مثل (المقاول والمناضل، والحمامة، والمغني، والنقابي، والمسيرة.)
وكذلك دلالة الأفعال فيما إذا كانت تدلُّ على معناها الأصلي دون تمويه، أو تُحقق
معاني
أخرى، وبخاصة أنها دعَّمت هذا الاتجاه بالمقارنة بين الوجهَين. وأخيرًا تفريقها بين
الجماليات اللغوية للحركتَين «تطير الحمامات في ساحة الطيران، والبنادق تتبعها».
وتأتي مخالفتي للدكتورة يُمنى العيد في نقطتَين؛ الأولى: استخدامها غير الدقيق لبعض
الصِّيَغ الصرفية، مثل (تمفصل، تمظهر، تمحور)؛ إذ إن وزن فعلل لا يأتي إلا من فعل
رباعي.
وهو أيضًا ما لُحِظ على الدكتور كمال أبو ديب. ويبدو أن هذه الصيغ تغلب على اللهجة
الشامية، بل لقد تأثر بها بعض النقاد المصريين.
٩٣ وكذلك استخدامها لحروف جرٍّ مع أفعال ليست من لوازمها، مثل استخدامها مع
الفعل رأى حرف الجر إلى. وأيضًا في تعليق الجواب في بعض الجمل والفقرات وبخاصة عندما
تبدأ جُملتها بالمصدر المُؤول بأن والفعل مثل (أن تبدأ، أن تقوم، أن تأتي).
٩٤
وتتمثل النقطة الأخيرة في وقوع بعض تعليقاتها في ضربٍ من الالتباس وصعوبة الفهم،
مثل
قولها: «إن قُدرة هذه العبارة «تطير الحمامات في ساحة الطيران» على الترميز قائمة
في
غياب هذا الترميز وفي حضور القصيدة ككل. تُوهِم هذه العبارة ببساطتها، بالتصاقها
بواقعها،
بمدلولها الذي تحمل، حتى الشفافية والالتباس، ولكنها، في حضورها في القصيدة تشي
بمخزونها وتفضح بساطتها.»
٩٥
•••
وخلاصة القول: إن النقاد العرب استطاعوا أن يُطوِّعوا المنهج البنيوي لقراءة النص
العربي؛ إذ رفضوا البنيوية اللغوية القائمة على انغلاق النص على ذات اللغة، واستعانوا
ببعض المرجعيات الخارجية التي يمكن أن تُفيد عملية التفسير، شريطة ألَّا تكون تلك
المرجعيات هدفًا في حدِّ ذاتها، بل آليات مساعدة في عملية التلقي.