١
تتمثَّل أولى القراءات السيميولوجية في الدراسة التي قدَّمها الدكتور عبد القادر
الرباعي
في «معنى المعنى. تجليات في الشعر المعاصر».
١ وقد قام الناقد في هذا النموذج بدراسة دالِّ «الليل» بتجلِّياته السيميولوجية
في الشعر المُعاصر، مُستشهدًا لإثبات ذلك بشاعرَين من شعراء الحداثة، هما: الشاعر
محمود
درويش والشاعر صلاح عبد الصبور.
ويقدم الدكتور الرباعي في بداية دراسته التطبيقية مدخلًا تنظيريًّا يُوضح فيه طبيعة
معنى المعنى/المدلول ووظيفته لدى علماء اللغة وبخاصة «أوجدن» و«ريتشاردز». وفي هذا
الجانب يقول الدكتور الرباعي: «تُبنى مشكلة معنى المعنى — كما أشار «ريتشاردز»
و«أوجدن» — على أساس استخدام الكلمة في النص. فهما يريان أن هذه الكلمة داخل سياقها
يمكن
أن تكون واحدةً من كلمتَين، هما؛ الأولى: كلمة الإشارة التي تعني في موضع استخدامها
تعزيز
الدلالة على أمورٍ ذات مرجعية مُعينة أو تنظيمها أو الربط بينها. الأخيرة: الكلمة
الانفعالية وهي الكلمة التي تُعبر عن المواقف، أو تُثير المشاعر.
ويُشيران أيضًا إلى أن هاتَين الوظيفتَين المُتغايرتَين تَبرزان على صعيدَين، هما:
جانب
المتكلم وجانب المستمع. أما الوظيفة الإشارية للكلمة فتتضمَّن الإشارة إلى الأمور
ذات
المرجعية المُعينة، والترابط فيما بينها بدلالاتٍ معنوية مُشابهة لدى المُتكلم والمستمع،
لكن الوظيفة الانفعالية تتضمن التعبير عن المشاعر والانفعالات والمواقف والحالات
العاطفية والقوى الداخلية، بما لها من كثافةٍ عالية عند المتكلم، وكذلك ما تَستدعيه
تلك
الأحوال النفسية من إثارات وترابطات داخلية لدى المستمع.»
٢
ويوضح الدكتور الرباعي أثر الوظيفة الانفعالية في لامحدودية المدلول، مُستنتجًا ذلك
من آراء «أوجدن» و«ريتشاردز» بقوله: «ولمَّا كانت الوظيفة الانفعالية لا تُشير بشكلٍ
مباشر إلى ما تُعَبِّر عنه لدى المُتكلم/الشاعر، ولا إلى ما تُثيره لدى المستمع/القارئ،
فإن المعاني المُرتبطة بها غير قابلة للتحديد هنا وهناك، وبذا ينتفي شرط التشابه
في
الدلالة الذي وجدناه في الوظيفة الإشارية للغة.»
٣
ثم يُحدِّد الناقد قضيته الأساسية ومنطقة عمله في تلك الدراسة بقوله: «وتأسيسًا على
هذا
الفهم لمعنى المعنى الذي يتجاوز المباشَرة وينفتح على «حقل من المعاني» أو اللامحدود
فيها، سأحاول في الصفحات التالية قراءة نماذج شعرية حديثة في النص الشعري، وسأحصر
مناقشتي في ظاهرةٍ واحدة حتى تبين الفروق الفردية في التعامُل معها استغراقًا لانعكاساتها
في النفس، وامتداداتها في التجربة، وترابطاتها في شبكة علاقات النص.»
٤
وبعد أن رصد الناقد انعكاسات «الليل» في التراث الشعري، دخل مباشرة إلى نموذجه الأول
في شعر الحداثة بقوله: «لكن الليل عند آخرين ذو وقع مختلف تمامًا. فهذا محمود درويش
يسير والليل على دربٍ واحد، فماذا كانت النتيجة؟»
٥ ثم يسوق الناقد قول درويش:
٦
… وأنا أنظر خلفي في هذا الليل؛
في أوراقِ الأشجارِ، وفي أوراق العمر،
وأحدِّق في ذاكرة الماء، وفي ذاكرة الرمل.
لا أُبصر في هذا الليل
إلا آخر هذا الليل.
دقَّات الساعة تقضم عمري ثانيةً ثانية،
وتُقصِّر أيضًا عمر الليل،
لم يبق من الليل ومِنِّي وقتٌ نتصارع فيه …
وعليه،
ولكنَّ الليل يعودُ إلى ليلته،
وأنا أسقط في حفرة هذا الظل.
ويبدأ الناقد قراءته الأولى لهذا الدالِّ/الليل عند درويش، مُرتئيًا أنه —
أي الليل — رمز للاحتلال. ويتضح ذلك حين يقول: «مَن خَبَرَ شِعر درويش وتعامل معه
وعيًا
وتحليلًا، فإنه قد يرى في هذا الليل رمزًا لغاصِبِ بلد الشاعر، وعند ذلك تصبح المقابلة
بين الشاعر/الليل، مقابلة بينه وبين عدوٍّ خارجي اقتحم عليه داره وأخرجَه منها. وقد
تكرَّرت
صورة الليل عند درويش مُتضمنة هذا المعنى.»
٧ ويستشهد الناقد على هذا الرأي بقول محمود درويش من قصيدة له بعنوان «خطوات
في الليل»:
٨
دائمًا،
نسمعُ في الليل خطى مقتربة،
ويفرُّ الباب من غرفتنا ..
دائمًا،
كالسُّحب المُغتربة!
ظلُّكِ الأزرق مَن يَسحبه
من سريري كلَّ ليلة!
الخُطَى تأتي وعيناكِ بلاد.
أرى ما أريد من الليل … إني أرى
نهاية هذا الممرِّ الطويلِ على باب إحدى
المدن.
ويعلق الناقد على دالِّ «الليل» في هذين النموذجين بقوله: «فالليل في
القولَين رمز لهذا الكابوس الذي اسمُه الاحتلال،
١٠ فهو المَمرُّ الذي يرى نهايته، أو الذي يرقُب الخطى القادمة لتُخلِّصه من آثامه
وطغيانه. فاقتران الليل بالاحتلال هو الرمز القريب الذي يرِد على الخاطر في أول مواجهة
مع القصيدة.»
١١
ولمَّا كان دال «الليل» يودي وظيفةً انفعالية لدى المُبدع والمُتلقي، فهو غير مُرتبط
بمدلولٍ مُعين، بل يظلُّ هذا المدلول مرهونًا برؤية الشاعر وبإثارة المُتلقي، وتسير
— طبقًا
لذلك — مدلولات الدوال المكونة للنص في ركاب مدلول الليل. ومن ثم تصبح «أوراق العمر»
وجود الشاعر و«ذاكرة الماء» عزيمة الحياة الحاضرة لدى الثائرين، و«ذاكرة الرمل» تراث
أُمته، وتُمسي «الحفرة» رمزًا لظلِّ الحقيقة القادمة مع النصر الآتي من بعيد.»
١٢
على هذا النحو بدا دالُّ «الليل» في القراءة الأولى للناقد مُرتبطًا بمدلول الاحتلال،
لكنه ليس ارتباطًا نهائيًّا؛ لأن تعدُّد القراءة يُفضي إلى تعدُّد المدلول/معنى المعنى.
وحول هذا الطرح يقول الدكتور الرباعي: «ولمَّا كان معنى المعنى في نصٍّ شعري ما مُرتبطًا
بقراءة هذا النص، ثم لمَّا كان هذا النص قابلًا لأن تتعدَّد قراءته وتتنوَّع بتعدُّد
قارئيه
وتنوُّع مواهبهم وثقافتهم وتجاربهم وعصورهم وما إلى ذلك، فإن معنى المعنى قابل لأن
يتعدَّد
ويتنوَّع بحسب تعدُّد هذه القراءات وتنوُّعها.»
١٣
وانطلاقًا من هذا، شرع الدكتور الرباعي في قراءةٍ ثانية لدالِّ «الليل» داخل هذا النص
نفسه. وقد بدا الليل في القراءة الثانية رمزًا للعدو الداخلي للشاعر.
ويتكئ الناقد على جماليات النصِّ لتوضيح ما ذهب إليه في قراءته الثانية، فيقول:
«يُطالِعنا هذا الليل منذ البيت الأول في القصيدة، على أنه عدوُّ الشاعر الذي يسير
خلفه
يمحو كل آثاره أو يسحَق كل ما يُثبته من حقائق في موقفه ومكانه. يستوقف المُحلِّل
حرف
«الواو» الذي ابتدأ الشاعر به على أنه حرف استئناف. فقد كوَّن مع عبارة «وأنا أنظر»
إيحاءً بأن تلك الأفعال التي أحدثها الليل كان الشاعر يُراقبها مُستغربًا؛ لأنه لم
يكن
يتوقَّعها، فهي تَصدُر عن عقليةٍ لا تُدرك تمامًا نتائج ما تفعل. كما يستوقفه اسم
الإشارة
«هذا» السابق على الليل في بداية القصيدة أيضًا. ولعل اسم الإشارة «هذا» في مَوضعه
إيحاءٌ بأن الليل ليس طارئًا، وإنما تشكَّل منذ زمنٍ وأصبح له تأثير سلبي حتى غدت
الإشارة إليه تخصيصًا لا تعريفًا.
١٤ أما عبارة «خلفي» فارتباطها بسياق الكلام في موضعها يُوحي بمُلازمة الليل
للشاعر وتتبُّعه إيَّاه تتبُّع الغريم غريمه؛ كي يتعرف إلى خططه وأعماله فيُحبطها
قبل أن تبلغ
غايتها. إنه في هذا لا يقلُّ خطورةً عن العدو الخارجي المُشترَك بينهما.»
١٥
ولم يفُت الناقد أن يعتمد على منطقة الزمن في إيضاح المدلول الثاني لليل، فيقول:
«الفعل «أنظر» في موضعه شُعبتا نظر: واحدة للخلف في «هذا الليل» وما يُحدثه من أخطار،
وواحدة للأمام في «أوراق الأشجار وأوراق العمر» خوفًا عليها منه. لهذا كانت «أوراق
الأشجار» رمزًا مُتعدِّد المعاني، فهي تُوحي بالخضرة والنماء، كما توحي بالانغراس
الثابت في
عمق الأرض، وفي شعابها وفوق تلالها وعلى سهولها وبين صخورها. وشأن الأشجار شأن أهلها،
فحالها من حالهم. لذا كانت خُضرتها رمزًا لآمالهم وطموحاتهم في حياةٍ رغيدة، وثباتها
رمزًا لتجذُّرهم فيها وثباتهم فوقها.»
١٦
وكان طبيعيًّا أن يتطرَّق الناقد إلى مناقشة بعض الثنائيات التي تُبرز المفارقة بين
ماضي
الشاعر المُشرق وبين حاضره القاتم، لذا نراه يقول: «لقد بدا هذا كله قارًّا في خيال
الشاعر حين جمع بين «الأشجار» و«العمر» على مظهرٍ واحد هو «خضرة الأوراق» مُنطلقًا
في ذلك
من أنَّ بقاء الأوراق على الشجر رمز للحياة، في حين أن تساقُطها رمز للموت. ولقد
أضاف
الشاعر إلى ثنائية الأشجار/العمر، ثنائية أخرى هي الماء/الرمل، وجعل التقاء طرفيها
على
حدٍّ مُشترك هو «الذاكرة». وهي ثنائية لا تُكرِّر الأولى ولكنها تُتمِّم معناها …
إن هذا
يقودنا إلى تكامُل ثنائية الأشجار/العمر مع ثنائية الماء/الرمل. ويغدو تبادل الأشياء
بينهما مُمكنًا؛ بمعنى أن هناك إمكانًا لإحداث ثنائية الماء/الشجر، وثنائية الرمل/العمر،
على أساس أنَّ الماء عنصر حيوي لنمو الأشجار وتثبيتها في باطن الأرض، والرمل أصل
مَكين
لعمر الأمة الذي منه عمر الشاعر. الثنائية الأخرى المُتقابلة هي ثنائية الحدَّين
المُشتركين، وهما: الأوراق/الذاكرة. لا نستطيع أن نُوجِد رابطةً مُشتركة بين هذَين
العنصرين
في الظاهر، ولكن حين نعود إلى النصِّ نجد أن هذه الرابطة مُمكنة؛ فأوراق الأشجار
وأوراق
العمر التي يُريدها الليل للهلاك هي حاضر الشاعر، بينما ذاكرة الماء والرمل هي التاريخ
والماضي. وعلى هذا يغدو الليل عدوَّ الحاضر وعدوَّ الماضي على حدٍّ سواء.»
١٧ وقد جسد الناقد تلك الثنائيات في الشكل الآتي:
على هذا النحو، بدا دالُّ «الليل» بمدلولَين مُختلفَين باختلاف القراءة. والمهم أن
المدلولَين كليهما استُنتِجا من داخل النص نفسه، وليس من أية عوامل خارجية مُقحَمة
على
النص. وهذا هو المقصود من قول الناقد: إن النصَّ الشعري كيان لُغوي له وجوده
المُستقل.
•••
أما دال «الليل» عند صلاح عبد الصبور، فيُمثل له الناقد بقصيدة «انتظار الليل والنهار»
١٨ التي يقول عبد الصبور في مقطعها الأول:
وهكذا مات النهار،
ومال جنب الشمس، واستدار،
ثم تساقط المساءُ فوقنا،
مثل جدار خرب، وانهار،
واعتنقت صحيفة السماء والغبراء،
لَطَّختا الجبين بالغُبار،
وانطفأت نوافذ المرضى، وأنوار الجسور؛
أعين الحرَّاس والمآذن.
تكومت حوائط الظلمة في مداخل البيوت والمخازن،
فانكفأت كئيبةً مرصوصةً، كأنَّها مدافن
مُنهارة على بقايا جبلٍ منهار.
ويعلق الدكتور الرباعي على هذا المقطع بقوله: «ففي هذا المقطع يَقرن
الشاعر حلول الليل بحضور الموت للنهار، ويُحدِث علاقاتٍ بين أشياء يتولَّد من اجتماعها
المعنى الأعمق «معنى المعنى». لكن منبع كل هذه المعاني عنده هو العدم والموت؛ فالمساء
جدار خرب منهار. وإذا دقَّقنا النظر وجدْنا أنَّ كل هذا التهدُّم حدث بعد أن «مال
جنب الشمس
واستدار». الشمس، إذن، هي التي كانت حائلًا بين الأشياء ودمارها، بين الحركة ورقدتِها.
فالشمس في ضوئها القيادة والتحكُّم؛ لذا هي رمز للانضباط والتوازن والتماسُك وحفظ
الحياة
من السقوط والانهيار. فحضور الشمس، حضور الحياة، وغياب الشمس، غياب الحياة. وفي هذا
ترجمة
أخرى لثنائية الليل/الموت. لأن حضور الليل يعني حضور الموت وغياب الحياة.»
١٩
ويشرع الناقد في تحليل جماليَّات المقطع بما يؤكد ما ذهب إليه من أن مدلول الليل
يعني
الموت، وذلك من خلال تحليلاته لمنطقة الفعل وكذلك الصور الشعرية.
٢٠
وفي مقطع آخر يقول عبد الصبور:
في آخِر المساء شعشعت سحابة بنور؛
سحابةٌ ناحلةٌ رقيقة،
وأومضت حمراء حمرة الزهور،
سويعةً، وانطفأت في عتمة الأفق،
واندفع النهار،
«ياحمرة الغسق،
يا لون عمري الذي ودَّعْتُه حقيقةً …
وعشته تذكار،
أضاعك الليلُ كما أضاعك النهار.»
وهنا يعلق الدكتور الرباعي بقوله: «يبدو في هذا المقطع شعاع نور يتسلَّل
وسط كل هذا الظلام، فيتحرك في داخل الشاعر خيط من أمل، لكن يبقى سويعةً ثم ينطفئ
في
«عتمة الأفق». إن تشكيل الشاعر هذا الأمل المنطفئ ساعة نهوضه ليُوحي بأبعاد قد تجمعها
العلاقة بين صوت الفرد، وصوت الجماعة. أما صوت الفرد، فاجتمعت عليه عوامل لإضعافه
…
إذن، اعتمد الشاعر في تشكيله صورة التقابُل على شعاع نور فرد ضعيف، وسط عتمة عامة
واسعة
الامتداد في الأفق (الجماعة) أو — في المستوى الزمني — اعتمد على صرخة تنوير واحدة
خافتة تُلقى في أسماع جماعة عامة اعتنقت الظلام مبدأً.»
٢١
ويستأنف الناقد تحليله لصورة النهار الذي اندفع «واندفع النهار» بقوله: «تأتي بعد
هذا
صورة النهار مُندفعًا. وكان المأمول أن يندفع مع اندفاع النهار علاجٌ لكل النوائب
التي
جرَّها ظلام الليل. لكن البكائية التي أنهى الشاعر فيها المقطع ووضعها بين قوسين
«…»
تشير إلى عكس ذلك ونقيضه. فالنهار والليل مُتساويان في عدوانهما، وقد تعاونا على
تضييع
عمره. إن تشكيلة بكائية الذات المُقوسة لتوحي بأن تلك الصرخة التنويرية السابقة والتي
جعل صورتها «حمرة الغسق» هي صرخته نفسه وقد رآها «لون عمره … وحقيقته»، مما يُوحي
بأن
فيها الانقياد لو أنها سُمِعَت. لكنها كانت حقيقةً عاشها لفترةٍ ثم ودَّعها بعد أن
ضاعت
نهارًا كما ضاعت ليلًا، وأصبح يعيشها «تذكار» تاريخ مضى. وهكذا، أصبح تشكيل المقطع
موحيًا بصرخةٍ فردية تاهت في غياهب العموم وورَّثت بكائية للذات، تلك الذات التي
سعت إلى
إحياء القيم فضيعها مسعاها.»
٢٢
وإذا كان الشاعر قد رصد مطلع النهار في المقطوعة السابقة، نراه في المقطوعات التالية
يستكمل هذا الرصد الذي ينبع من نفسه وينعكس عليها أيضًا. وقد اهتمَّ الشاعر بلحظتَين
مُهمَّتَين؛ هما: لحظة الضحى، ولحظة الغروب «الأصيل». يقول عبد الصبور في اللحظة
الأولى:
وهكذا مات المساء.
وحين تقَلَّبَت على ضلوعها الشمس،
وهبَّت تعتلي السماء،
تنفَّست شوارع المدينة الرعناء
أصوات ضجةٍ بلا إيقاع،
وانسكبت مجامر الشعاع،
تمور في العيون، تكشف الظلال،
تثقب الحجر.
أواه يا نور الضحى!
ملأت قلبي فزعًا وترحًا؛
لأنني رأيتُ فوق ما أردتُ أن أرى.
بوركتِ وقدة الظهيرة.
النورُ يجلد العيون، تعشَى، لا ترى
من البيوت والبشر،
سوى مكعبات لونٍ وحجر.
ومن الواضح أن الملل الذي خيَّم على وجدان الشاعر في نهاية الليل،
وقُبيل اندفاع النهار، بعد أن انطفأت سحابة النور، استمرت على وجدانه أيضًا في لحظة
الظهيرة «أواه يا نور الضُّحى. ملأت قلبي فزعًا وترحًا.» ويصل الشاعر مع النهار إلى
نهايته
«لحظة الغروب» فيقول:
في آخر اليوم تدبُّ في عروق الشمس فترةُ الملال،
ويولد اللون الرمادي الرقيق،
حتى ضجيج الطرقات،
ينحلُّ إيقاعًا رماديًّا رقيقًا؛
«كلَون أيامي التي ما استطعتُ أن أعيشها حياة …
فعشتُها تأمُّلًا.»
وفضلًا على استمرار الكآبة وعتمة الرؤية، وعدم استطاعة الشاعر أن يعيش
حياته سعيدًا، واكتفائه بأن يحياها تأمُّلًا، يستعين الناقد بآلية فعَّالة في إيضاح
جماليات الشعر ودورها في إنتاج الدلالة، ألا وهي «منطقة اللون»، فيقول الدكتور الرباعي:
«قد يسأل سائل: لِمَ اختار الشاعر لون «الحُمرة» للفترة السابقة على طلوع الشمس «الغسق»،
بينما اختار اللون «الرمادي» للفترة السابقة على حلول الليل «الأصيل»، مع أن العكس
يمكن
أن يصف الواقع بمصداقيةٍ أكثر؟ والجواب المُحتمَل، هو رغبته في أن يتناسَب اللون
المختار،
نفسيًّا، مع ما يأتي بعدَه. فاللون الرمادي إيحاء بتحوُّل الضياء إلى العتمة، بينما
اللون
الأحمر إيحاء بتحول العتمة إلى ضياء، بل إن تشابُه الفترتَين في نفسه قد منحه الحرية
في
إعطاء كل منهما لون الأخرى وصفتها.»
٢٣ وقد تطلَّع الشاعر بعد ذلك إلى لحظة إشراق:
وهكذا تمضي الحياة بي؛
أعيش في انتظار:
هل …
لحظةٌ مُشرقةٌ في ظلمات الليل،
أو … لحظة هادئة في غمرة النهار؟
ويعلق الدكتور الرباعي على هذا المقطع الأخير بقوله: «فالحياة الحاضرة
في نظر الشاعر دائرة من القلق: الظلام يلفُّها ليلًا، والضجيج الأرعن الصاخب يتملَّكها
نهارًا. ولا يملك هو سوى الأمل بالنور والهدوء.»
٢٤ ثم يُوجِز الناقد قراءته لدالِّ الليل عند صلاح عبد الصبور بالرسم الآتي الذي
يُوضِّح من خلاله الحالة الحزينة للشاعر:
ثم يسوق الدكتور عبد القادر الرباعي تعليقًا عامًّا على المدلولات السيميولوجية لدال
«الليل»، فيقول: «بذلك أصبح الليل مصدرًا خصبًا لحقلٍ من المعاني الكامنة في كِلا
النصَّين
المُحلَّلين آنفًا. ويُمكننا أن نبني — اعتمادًا على هذا — قاعدةً نقدية عامة مؤدَّاها
أن
أية كلمة لغوية تُصبح في الشعر حافزًا لتجميع كلمات أخرى حولها، بحيث يُصبح معناها
من
خلال ترابطاتها وعلاقاتها بغيرها معاني لا مُتناهية، فكل معنى يقود إلى غيره حتى
يتشكل
من جملة هذه المعاني المُتشابكة ما سُمِّيَ «معنى المعنى» الشعري.»
٢٥
•••
وبعد هذا النموذج التطبيقي الذي قدَّمه الدكتور عبد القادر الرباعي لمدلول «الليل»،
يمكن استخلاص السمات التي اتسمت بها هذه القراءة على النحو الآتي:
- أولًا: يبدو من تطبيق الدكتور عبد القادر الرباعي أن مدلول العلامة اللغوية
لا يقتصِر على المُبدع وحدَه بوصفه المُطْلِق الأول للعلامة، بل يتجاوز
ذلك إلى المُتلقي بوصفه المؤوِّل — بقراءته الإبداعية — لمدلول العلامة
اللغوية. أي أن تحديد مدلول العلامة يجمع بين طرفي العملية الإبداعية:
المبدع والمُتلقي. وهذا هو المقصود من الآراء التي أكَّدت أن النص الشعري
— بوصفه مجموعة من العلامات اللغوية — لا بدَّ أن يحمل شفرةً يفهمها كل من
المُبدع والمُتلقي على حدٍّ سواء.
- ثانيًا: رغم الحرية التي حظي بها المبدع في إطلاق المدلولات على دوالها، فهي
ليست حرية مُطلقة؛ لأن المدلول يدور عنده في إطار تجاربه الخاصة تجاه
الواقع. وكان الدكتور عبد القادر الرباعي على وعيٍ تام بهذا الأمر،
عندما فسر مدلول «الليل» عند محمود درويش وصلاح عبد الصبور من خلال
تجاربهما المختلفة.٢٦
- ثالثًا: والأمر نفسه نجِدْه عند المُتلقي، فبرغم اهتمام مناهج النقد الأدبي
المعاصر بإظهار دور المُتلقي في تفسير المدلول، نلحظ أن المُتلقي نفسه
يدور في أُطر مُعينة:
-
أولها: الاعتماد على النص ذاته بما فيه من علاماتٍ لغوية بالكشف عن مدلولاتها
من خلال ترابطاتها بعضها مع بعض، دون الالتفات إلى أية عوامل خارجية
تُخرِج النص الشعري من أدبيته وتجعله وثيقةً واقعية. ولا يمنع — في هذه
الحالة — تعدُّد المدلول بتعدُّد القراءات الواعية.
-
ثانيها: الكشف عن المدلول من خلال علاقة النص بالأنظمة الأخرى؛ لأن النص
الأدبي، كما تقول الدكتورة سيزا قاسم: «نظام له خصوصيته ومقوماته،
ولكنه ليس بمعزلٍ عن غيره من الأنظمة السيميوطيقية الأخرى، فيتقاطع معها
ويتفاعل معها، وإذا كان العمل الأدبي له خصوصيته، فإن تلك الأنظمة لها
أيضًا خصوصيتها. ومن ثَمَّ يمكن دراسة كل هذه الأنظمة في تشابكها
وترابطها. وتتم عملية وضع العمل الأدبي في سياقه من خلال كشف ترابُطه
بالأنظمة المختلفة، وهذا السياق هو السياق المعرفي العام للثقافة البشرية.»٢٧
-
ثالثها: يُحلل الناقد العلامة اللغوية من خلال أفق توقُّعاته. وهذا الأفق يُعد
قاسمًا مشتركًا من البيئة الثقافية التي أُنتِج فيها النص. ويظلُّ تعدُّد
المدلول مرهونًا بما يحمله الدالُّ من تأويلات.
-
رابعًا: أظهرت الدراسة أن العلامة اللغوية تنقسم من حيث وظيفتها إلى نوعَين:
علامة إشارية، وهي التي تعتمد على أمورٍ ذات مرجعية مُعينة. وعلامة
انفعالية، وهي التي لا تُشير إلى شيءٍ مُعين، وإنما يرجع مدلولها إلى داخل
المُتكلم (الشاعر) أو المُستمِع (المُتلقي)، بما تُثيره فيهما من إيحاءات؛ لذلك
فهي مُتعدِّدة كما أوضحَت القراءتان السابقتان من خلال دالِّ
«الليل».
-
خامسًا: أثبتت الدراسة أيضًا صحة ما ذهب إليه «سوسير» من أن العلاقة بين
الدال والمدلول علاقة نفسية،٢٨ وهو ما لُحِظَ لدى تمثُّل الشاعرَين لعلامة «الليل»؛ إذ
أوِّلت من خلال الترابُطات النفسية. وباختلاف تلك الترابطات اختلف مدلول
العلامة من شاعرٍ لآخر، وكذلك ما برز من العلاقات النفسية بين وجدانهما
والألوان التي سُحِبَت على فترات زمنيةٍ مُعينة.
-
سادسًا: استعان الدكتور الرباعي — لتوضيح مدلولات الليل — بالرسوم والأشكال
الهندسية. والحقيقة أن هذا الاتجاه ليس مقصورًا على منهجٍ نقدي بعينه،
فهو إحدى الآليات التي تعتمِد عليها معظم المناهج النقدية المعاصرة. وقد
جاء استخدام الدكتور الرباعي لهذه الأشكال والرسوم مُبَسَّطًا ويسيرًا
ومفهومًا؛ فلم يبدُ عليه شيءٌ من التعقيدات أو الإغراب، مما ساعد على
فهم المدلول إلى حدٍّ بعيد.
وإذا كان ذلك كذلك، فأنا أميل إلى استخدام هذه الآلية شريطة — كما فعل الدكتور
الرباعي — ألا تُوقِع المُتلقي في الغموض، أو تُضفي على النص قدرًا من التعتيم يرهق
المتلقي في فك شفراته.
أما ما ألحظه على قراءة الدكتور عبد القادر الرباعي لمدلول «الليل»، فيتمثل في قوله:
«ويُمكننا أن نبني قاعدةً نقدية عامة مؤداها أن أية كلمةٍ لغوية تُصبح في الشعر حافزًا
لتجميع كلماتٍ أخرى حولها، بحيث يُصبح معناها من خلال ترابطاتها وعلاقاتها بغيرها
معاني
لا مُتناهية، فكل معنًى يقود إلى غيره حتى يتشكَّل من جملة هذه المعاني المتشابكة
ما سُمِّي
«معنى المعنى» الشعري.»
٢٩
ويبدو أن الناقد قد تأثَّر في مقولته هذه بآراء «رولان بارت» الذي يقول في هذا السياق:
«النص تمدُّدي. مجاله هو مجال الدال. ولا ينبغي تصور الدال على أنه الجزء الأول من
المعنى، وحامله المادي، وإنما هذا الذي يأتي بعد حين. وبالمِثل فإن لا نهائية الدال
لا
تُحيل إلى ما يعجز اللسان عن التعبير عنه، وإنما إلى فكرة اللعب؛ إن التوليد الدائم
للدال داخل مجال النص لا يتمُّ وفق النمو العضوي أو حسب طريقٍ تأويلي، وإنما وفق
حركة
تسلسُلية للتداخُل والتغيُّر. إن المنطق الذي يتحكم في النص ليس منطقًا تفهُّميًّا،
وإنما
هو منطق كنايات. فالتداعي والتجاوز والإحالة هي هنا نوع من الإفصاح عن الطاقة الرمزية.»
٣٠
ويبتعد رولان بارت أكثر من هذا، فيقول: «النص تعدُّدي. لا يعني هذا فحسب أنه ينطوي
على
معانٍ عدة، وإنما أنه يُحقق تعدُّد المعاني ذاته. إنه تعدُّد لا يئول إلى أية وحدة.
ليس النص
تواجدًا لمعانٍ،
٣١ وإنما مجاز وانتقال. بناء على ذلك، فلا يمكن أن يخضع لتأويل وحتى لو كان
حرًّا، وإنما لتفجير وتشتيت. ذلك أن تعدُّدية النص لا تعود لالتباس محتوياته، وإنما
لما
يُمكن أن نُطلِق عليه التعدُّد المُتناغِم للدلائل التي يتكوَّن منها.»
٣٢
ولا أدري بعد ذلك، ما وظيفة النقد تجاه مثل هذه النصوص التي يتحدَّث عنها «رولان
بارت»
التي لا تخضع لأي تأويل؟ ومع إيماني بأن اللغة الفنية تقوم في أساسها على انحراف
الدوال، بل خروجها عن مدلولاتها المُعجمية وتلفُّعها بمدلولات إيحائية جديدة، فهذا
لا
يعني أن تصبح المدلولات لا مُتناهية؛ لأننا بذلك ندخل في دائرة اللعب الحر بالدوال،
٣٣مما يؤدي إلى إزاحة مركزية النص وسلطته، ووضع مدلولاته في طابعٍ هلامي، لا
يستطيع الناقد أن يخرج منه بشيء.
ومهما قيل في حقيقة القصيدة أو عدمها، سواء في ذلك قصدية المبدع أو النص، فإن الشعر
العربي يُعبر عن بيئة لها مقوماتها الخاصة وتطوراتها الحضارية، مما يضع مدلولاته
في
دائرة القصدية الشعرية، والابتعاد عن لامحدودية المعنى. ولا يتناقَض هذا الرأي مع
تعدُّد
المدلول الذي ينتج بتعدُّد القراءة.
٢
وثانية هذه القراءات التطبيقية، تتمثَّل فيما قدَّمه الدكتور صلاح فضل في قراءته
لشعرية
البنفسج في ديوان «سيرة البنفسج» للشاعر حسن طلُب.
٣٤
وعن وحدة الدال مع تعدُّد المدلول في هذا الديوان يقول الدكتور صلاح فضل: «وعندما
نتأمَّل
هذا الديوان الصغير الأنيق الذي يُحقق فيه الشاعر قدرًا كبيرًا من الاتساق عبر وحدة
الدال مع تعدُّد المدلول، أي باتخاذ البنفسج مُنطلَقًا مُتماسكًا في قصائد الديوان
بوصفه
رمزًا لغويًّا وكونيًّا لجملةٍ من التجارب الشخصية والقومية الحميمة يتكئ عليها في
تجميع
خيوطه وتكثيف صوره وتكوين عناصر شعريته، فإن هذا يسمح لنا بأن نحاول اكتشاف هذه الشعرية
الخاصة.»
٣٥
وأول تلك الملامح التي رصدها الناقد هو «الاختزال» وهو في هذا يقول: «ولعل أبرز هذه
الملامح يتمثَّل في نزوح واضح للاختزال على مستوياتٍ عديدة، ومُعايشة حميمة للصِّيَغ
التراثية
القارَّة في الوجدان العربي، مما يضعنا أمام مفارقةٍ أولى في التجديد عبر القديم
من ناحية
واستحضار أوضح فواعله، وإعادة تركيبها تقديم التجربة الصامتة من ناحية أخرى.»
٣٦
ويشرع الناقد في تتبُّع مظاهر الاختزال داخل الديوان، فيسوق قول الشاعر حسن طلب:
٣٧
عن عِنَبي رُدِّي خيلكِ؛
إنِّي سوف بأكثركِ أردُّ أقلَّكِ،
وبِهتَّانِكِ … مُنهَلَّكِ.
ويلي منكِ،
ومنِّي ويلكِ.
أحببتُك حبًّا:
لو قد تحتَكِ كان أقلَّكِ،
أو لو قد فوقكِ كان أظلَّكِ،
أو لو قد حولكِ،
من لي بكِ .. بي من لك؟
ويعلق الناقد على هذا المقطع الشعري بقوله: «فالشاعر يختزل أفعال
الكينونة «لو قد – كان - تحتك» أو «لو قد - كان - فوقك» أو «لو قد - كان - حولك».
كما
يختزل الشرط الأخير، فتدخل «قد» على الظرف مما يكسر نمَط التعبير اللغوي المألوف،
لكنه
لا يخلُّ بالدلالة؛ إذ يقوم فعل الكينونة في جواب الشرط بالإفهام وجبر الكسر، ويُلغي
الثرثرة التي لا طائل من ورائها، ويعود باللغة إلى حالتها الإشارية الأولى، في إيجاز
دون إلغازها، في إفهامها دون تحدُّدها المادي الكثيف إلى قدر من شعريتها في الإيماء
واختزال التركيب إلى أدنى حدوده.»
٣٨
وعن وظيفة هذا الاختزال في منطقة التركيب، يقول الدكتور فضل: «لكن هذا المظهر الأول
للاختزال في التركيب يكشف من ناحيةٍ أخرى عن ولعٍ شديد بمُعايشة الصيغ التراثية واستحضارها
في مجالاتها الدينية والشعرية؛ فردَّ الخيل عن الكرم ذات عطر صوفي. والأكثر والأقل
من
عبارات الفلسفة، والعنان والمُنهل كلمات من شعرية التراث، والويل عبارة قرآنية مهما
تقلَّبت أعطافها، وهي ذات تاريخ طويل في صيغ التراث الشعري القديم أيضًا.»
٣٩
وتعليقًا على المقطع الثاني الذي يبدأ بقوله: «أحببتُك حبًّا …» يقول الدكتور صلاح
فضل: «أما المقطع التالي، فكل كلماته تتنفَّس من خلايا التراث الحميم، فالحُب الذي
يُقِلُّ
كالمركب أو يُظلُّ كالسحاب أو يلفُّ الكون .. ليس موسومًا بخاصيَّته العصرية، لا
ينتمي
بالضرورة ليومِنا الأخير، لا يحمل سمة هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها، إنه حُب
لا
زماني ولا مكاني، يخرج من لغة الأمس ويظلُّ مقتصرًا في حياته عليها، إن تراثية الصيغة
لا
تتجلَّى في نسيج مُحدث لتصنع مفارقة كاشفة عن موقفٍ جديد، كما كان يفعل أمل دنقل
مثلًا في
صلواته الشهيرة، ثم إن هذا التخالف في ترتيب الكلمات في البيت الأخير لا يُفضي لشيء،
إنه
مجرد دليلٍ على مهارة الصائغ وإتقان ما كان يُسمَّى في النقد القديم بالسبك اللغوي.»
٤٠
وينتقد الدكتور صلاح فضل الشاعر حسن طلب في انفصاله فنيًّا عن الواقع المعيش بقوله:
«هذه في تقديري المشكلة الرئيسية في شعرية حسن طلب، قدرة فائقة على النظم وإتقان
عظيم
لتوافقات الإيقاع الخارجي، وامتلاك مُدهش لناصية اللغة، لكن الوعي بتغيُّر المجتمع
والعصر،
الحس العميق بالوضع الإنساني الجديد لا تُسعفه الوسائل التقنية الجمالية التي استهلكها
القدماء في الاختزال والتقليب، بل تصمت عنه صِيَغهم الأثيرة، ما لم تُوضَع في حالة
تحدٍّ
واضح للبنية القديمة، فتظل الدلالة مجرد تنويع على اللحن المأثور، دون أن تقدر على
استراق السمع لمنظومة الحياة الصاخبة الحديثة؛ لأنها لم تتَّخِذ أجهزةً قادرة على
ذلك في
التكوين الرمزي والتصوير النابتَين من التكوين اللغوي الأول.»
٤١ ثم يسوق الناقد — تدليلًا على ما ذهب إليه — خاتمة هذه القصيدة:
٤٢
سوف بِشَمْلي … شملك.
ويلكِ.
ما كان أَجَلَّ خروجكِ لي،
تحت الدَّوح!
وكان أجلَّكِ.
ويلك.
ويعلق الدكتور فضل على هذه الخاتمة بقوله: «ولا أعرف أية بلاغة تكمُن في
حذف الفعل «سوف بشملي – أجمع - شملك» فالوزن يستقيم، والحياة الزوجية تتَّخِذ مسارها
الأبدي، والجلال الذي يحاول الشاعر أن يُضفيه على خروج الحبيبة صيغةٌ لغوية فارغة،
فالتجربة مكرورة والوعد مبذول، والحياة تمور في اتجاهٍ مُخالف لما تُفضي إليه صِيَغ
الشعر المأثور.»
٤٣
ثم ينتقل الناقد إلى إيضاح دور المُبدع في خلق الدوال اللغوية وما يكتنِفها من مدلولات
جديدة. وذلك حين يقول: «يُعيد الشاعر تسمية الأشياء والحالات كي يجعلنا نتعرَّف عليها
من
جديد، يخلع عنها ما ألِفناه من أوصافٍ كي يكسرها مرةً أخرى فتتجلَّى أمامنا، فهو
خالق دوال
تُعيد تكوين مدلولات، ومن حقه — حينئذٍ — أن يصنع ما شاء بدون شرط، لكنه في نهاية
الأمر
يُحدِث فعله فينا، يتمُّ عمله علينا، يَهبُنا نعمة هذه التسمية. فإن لم يقدر لم يتحقق
الشعر،
ولم تُثمر الشعرية.»
٤٤
وأما عن دالِّ البنفسج عند حسن طلب، فيقول الدكتور صلاح فضل: «والبنفسج عند حسن طلب
دال
جديد، ليس تلك الزهرة الشجية الباكية الحزينة فحسب، ولا علاقة له بالرومانسية الأسيانة
الخجول عند الشعراء السابقين، إنه اكتشاف يكتب سيرته في ديوان.»
٤٥
ثم ينتقد الدكتور صلاح فضل حسن طلب في توسيعه من دائرة البنفسج وإطلاقه على كلِّ
شيء،
فيقول: «لكن المشكلة أنه يكاد يُطلقه على كلِّ شيء، فتفقد التسمية فعاليتها المُخصَّصة،
وتأثيرها الحقيقي، فمنذ أطلَّ علينا هذا الدالُّ في الديوان في قصيدة «بنفسجة من
مرسى
مطروح» وهي مجرد وردة مثل كل الورود، لكنها ذات طبيعةٍ نورانية مُتراوحة، ليس لها
وجود
حسِّي مائز، ولا دلالة رمزية خاصة، وعندما تُصبح البنفسجية صفة تُنعَت بها القصيدة
تُمعن في
محاكاة لغة المُتصوِّفة الأقدمين.»
٤٦ ويضرب الناقد مثالًا لذلك قول الشاعر:
٤٧
أسلَمَني الطيفُ إلى الحرف ..
فلُذْتُ بآلاء اليَاء.
كانت تتبرَّج في مستويات الضوء الحيِّ،
وتأخُذ زينتَها من أُبَّهة الماء.
ومن ثم تقع في فراغ عوالمهم وحرفية لُغتهم، إذ تُبهرهم ملاحة الكلمات وهي
تتناسَخ وينسلِخ بعضها من بعض:
٤٨
ما كل حبيبٍ أمسك بعد استرسالٍ
سالٍ.
وتساءلتُ: لِمن أشكو في حلِّي أو ترحالي
حالي؟
حتى يُفضي الحال بالشاعر إلى لونٍ من الحلول الكوني يُصبح البنفسج رمزًا
لمزيجة من الألوان:
٤٩
القمح العشب الدَّوح المرج الزيتوني الماء.
وي! لكأنَّ الكون–اللون تبرَّج،
فاتَّحد الأزرق بالأحمر .. ثم توهَّج.
صار بنفسج.
ويستكمل الدكتور صلاح فضل تعليقاته على دال البنفسج عند الشاعر حسن
طلب، فيقول: «فإذا تتبَّعنا ما صنَعَه الشاعر بهذا الدالِّ بعد ذلك وجدْنا أنه يصرُّ
على
إطلاقه على كلِّ شيء، فمرثيته مثلًا للشاعر فوزي العنتيل يُسمِّيها «بنفسجة إلى لميس»
تعني
غزلية، فهي تكرار لكلمة قصيدة.»
٥٠
وفي إطلاقةٍ أخرى لدال البنفسج، يقول الناقد: «أما البنفسجة التي كتبها للوطن وقد
أرَّخَها الشاعر في أكتوبر ١٩٨١م أي عقب حادث المنصة، في أغلب الظن، فهي مُحيرة حقًّا؛
لأنها تعزُّ على اتخاذ السمت القرآني، لكنها تحفل بلونٍ خاصٍّ من التناقُض الداخلي
الحميم؛ إذ
تستنفد طاقتها الشعرية في كلماتٍ مكبوتة مُتفجِّرة، كأن الشاعر يُطلِق بها رصاصاته.»
٥١ ويذكر الناقد هذا الموضوع الذي يقول فيه حسن طلب:
٥٢
وطنٌ؛
وطنٌ مُستطاع
… ونهر مُطيع.
بلدةٌ؛
بلدةٌ عدَّة
… وقطيع جميل.
وردةٌ؛
وردةٌ فردة
… وأريج أجيج،
وماء فرات،
وماء خليج،
وكون مزيج.
وردة: آه ما أنت من وردة!
بلدة هجدة.
سجدة مدَّة وهجود وجود،
وناس مُصلُّون … ناس حجيج،
وحزن بهيج.
وفي موضوعٍ آخر، يُطلق الشاعر دالَّ «البنفسج» على الوئام. وينتقد الدكتور
صلاح فضل هذه العلاقة بين الدال والمدلول على هذا النحو: «وأخيرًا فإن تسمية الوئام
بالبنفسج في القصيدة التالية «في عروبة البنفسج» لا تُقدِّمنا كثيرًا في الاكتشاف
الشعري
الناضج لطرائق هذا الوئام، ولا تزيد عما كانت تفعله قصيدة الهجاء في الديوان القديم.»
٥٣ ثم يورد الناقد أبيات الشاعر على هذا النحو:
٥٤
في زمان التبرُّج والسكوت الذليل؛
يستطيع البنفسج أن يكون البديل.
يستطيع البنفسج أن يستهلَّ،
ويصنع خبز الوفاق.
يستطيع — إذا شاء — أن يستدلَّ،
ويجمع كلَّ الملايين في غمصةٍ ومضةٍ؛
فالبنفسج ضدَّ الشقاق.
ويعلق الناقد على هذا المقطع بقوله: «ولا نستطيع أن نتجرَّع هذا القدر من
العقلانية في تركيبٍ شعري ينمو إلى إعادة صوغ رؤيتنا للكون ويُجدد معرفتنا به، إلا
إذا
تصوَّرنا أن الشاعر قد قرَّر أن يُطلِق على الديموقراطية مثلًا اسمها الجديد: البنفسج،
كي لا
تُصبح شعرية البنفسج هي شعرية التعمية.»
٥٥
ويستكمل الناقد رفضه لإطلاق دالِّ «البنفسج» على كل شيء، فيقول: «لكنَّ سَعْيَنا
إلى تثبيت
المُسميات خائب مثل سعي العشَّاق في سيرة البنفسج؛ لأنه لا يلبث أن يأخذ صِبغةً ميتافيزيقية
مُعلنة كالموت، وصريحة كالباطل، لا يلبث هذا البنفسج أن يتشكَّل من وجهَين: يصل أحدهما
في
استطالته وشموله، وإحاطته بكل شيءٍ أن يكون مقابلًا خدَّاعًا للحقائق الدينية أو
الذات
الإلهية، فهو ذو بُعدٍ كوني أنطولوجي في مرحلته الأولى، وله طابع معرفي إبستمولوجي
في
الثانية، ويتمتَّع بأساسٍ أكسيولوجي في الثالثة، وله سمة كوزمولوجية في الرابعة،
وقوة
ترنسندنتالية في الخامسة، وصفات فينومنيولوجية في السادسة، وأيديولوجية في السابعة.»
٥٦ حتى ليُصبح كما يقول الشاعر:
٥٧
ولأْيًا بلأي،
ستكشف أن البنفسج عنوان وعي،
وإعلان رأي،
وتأسيس منهج.
أيها القارئ المنتمي،
اقترب من دمي،
وتجدَّد وجدِّد،
فإن البنفسج شكٌ
يقين محك،
وإنَّ البنفسج نارٌ منارٌ،
ونور شرار،
ومبتدأ،
وختام،
ومسك.
أما الوجه الأخير كما يقول الدكتور صلاح فضل: «فهو انقلاب على هذه
الحركة؛ إلحاد بها. كتابة ضدَّها، اكتشاف لِزَيف هذا المُطلق، وتعرية للوجه الآخر
القبيح
فيه، إنه الخطوة الثانية لجدلية الكون والوجود.»
٥٨
•••
وبعد هذا النموذج التطبيقي، يمكن لي أن أوضِّح السمات التي ميزته على النحو الآتي:
- أولًا: أوْضح الدكتور صلاح فضل مَقدرة الشاعر حسن طلُب في إلباس الدالِّ المفرد
مدلولاتٍ مُتعدِّدة، من خلال اتخاذ البنفسج مُنطلقًا متماسكًا في ديوانه
بوصفه رمزًا لغويًّا وكونيًّا لجملةٍ من التجارب الشخصية والقومية. وهذا
معناه، أن الدكتور صلاح فضل يؤمِن بأن أية قراءةٍ سيميولوجية يجِب أن تمرَّ
من خلال نفقَين؛ الأول: الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص. الأخير:
مجموعة من التجارب الشخصية، أي ثقافة المُبدِع نفسه. وهذا ما أومن به
وأميل إليه بشدة.
ويمكن تأكيد ذلك من خلال حديث الناقد نفسه في هذا المجال، يقول: «إن
منهج السيميولوجيا هو الذي يستطيع — دون أن يقع في مزالق مناهج ما قبل
البنيوية — أن يربط بين الإشارات الدالَّة في النُّظم الأدبية والفنية
الجديدة وبين مرجعيَّتها في الإطار الثقافي العام، ففي مقدوره أن يقوم بموقعة
٥٩ النص داخل سياقِه في إنتاج المؤلِّف والجنس الأدبي الذي ينتمي
إليه والتقاليد الثقافية التي يندرِج في إطارها الكلي دون أن يُفلت منه
الاهتمام والإمساك بالحلقات المفصلية الرابطة بين هذه المستويات.»
٦٠
- ثانيًا: كشَف الدكتور صلاح فضل عن ملامح الشعرية عند حسن طلب وحصَر هذه
الملامح في خاصيتي الاختزال وحوار الأشكال. وربط بين الملمح الأول
«الاختزال» وبين الصيغ التراثية، وذلك باختزال أفعال الكينونة. كما
أبرز الناقد الملمح الثاني من خلال تشكيل دالِّ البنفسج في وجهَين
مختلفَين؛ الأول: إحاطته بكل الحقائق الكونية، والأخير: انقلابه على تلك
الحقائق في تمثُّله لجدلية الكون والوجود، واشتباك هذا الوجه الثاني مع
بناء القصيدة الذي تَمثَّل لدى المُبدع في ثلاثة أُطر؛ الأول: الإطار الحُر
الكلاسيكي. والثاني: الإطار المدوَّر. والأخير: الإطار العمودي.٦١
- ثالثًا: اهتم الدكتور صلاح فضل بعلاقة العلامة اللغوية بإطارها الثقافي، وهو
ما يبدو جليًّا في مأخَذِه الذي أخذه على حسن طلب في عدم توفيقه بين
مَقدرته الشعرية وأساليبه اللغوية وبين منظومة الحياة الحديثة، واكتفائه
بصبِّ آلياته الفنية في دنانٍ تُراثية قديمة. وهذا الأمر هو ما قال به
«سوسير» من قبل في إقراره بعلاقة العلامة اللغوية بالواقع الاجتماعي، وفي أنَّ
اعتباطية العلاقة بين الدالِّ والمدلول ليست في حُرية
اختيار المُبدع، ولكن في تطابُق الدال مع مدلوله.٦٢ وهو ما أكده بعد ذلك عند حديثه عن اختلاف العصور وعلاقتها
بتغيُّر العلامة اللغوية.٦٣
- رابعًا: لفت الدكتور صلاح فضل الانتباه إلى ضرورة تكامُل الأنظمة العلامية
المختلفة، وتداخُلها، وإفادة بعضها بعضًا، وقد أكد ذلك في حديثه عن
إخفاق حسن طلُب في مجاراة الواقع، واهتمامه بالقوالب القديمة، وذلك في
قوله: «بل لا بد من هندسةٍ جديدة لهذه الدِّنان تُفيد من مُعطيات التقدُّم في
علوم الطبيعة والضوء والمادة والكيمياء لتُفرز إشعاعها الذي لم يُسبَق مِن قبل.»٦٤
- خامسًا: أعطى الدكتور صلاح فضل المُبدعَ الحريةَ في استخدام العلامات وخلقها
خلقًا جديدًا، وإعادة تسمية الأشياء، للتعرُّف عليها من جديد، فتخلع عنها
— أي الأشياء — مدلولاتها القديمة المألوفة. ولم يشترط الناقد على
المُبدع ما يُقيد حريته في هذا المجال، ما دام يُحدِث فعلَه وأثره في الذات
المُتلقِّية، بل عدَّ تقاعس المُبدِع عن ذلك صفعةً للشعر، وتراجعًا في تحقيق
الشعرية.
- سادسًا: حذَّر الدكتور صلاح فضل من إطلاق العلامة اللغوية المُفردة على كل
مكونات الواقع؛ لأن العلامة اللغوية في هذه الحال ستفقد وظيفتها، وتفقد
التسمية فاعليتها المُخصَّصة، وتأثيرها الحقيقي. وهذا ما حدث في استخدام
حسن طلب لدال «البنفسج» إذ كاد يُطلِقه على كل شيءٍ في الواقع
المعيش.
ويمكن لهذا الدال المُخطط أن يُبين كثرة المدلولات التي أطلقها الشاعر
على دالِّ «البنفسج»:
ويبدو أن الشاعر مُتأثر بآراء «بيرس» في تحويل العالَم بكل ما فيه إلى
نظامٍ من العلامات. ويتَّضح ذلك من خلال تعريف «بيرس» للمدلول إذ يقول:
«إن العلامة «يقصد بها المدلول» هي كل ما يُحدِّد شيئًا آخر بإرجاعه إلى
شيءٍ بدوره هو الآخر يُرجِعه بنفس الطريقة. فالمؤول/المدلول، يصير بدَوره
علامةً وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.»
٦٥
وفي تحديد بيرس للمُفسرة (المدلول) تقول الدكتورة سيزا قاسم: «يرى
بيرس أن المُفسرة هي علامة جديدة تنجم عن الأثر الذي يترُكه موضوع
العلامة في ذهن المُفسِّر أو مُتلقي العلامة، وهنا يختلف بيرس عن سوسير في
أنه لا يعتبر المفسرة تصورًا ذهنيًّا أو مفهومًا، ولكنه يرى أنها علامة،
وأنها في الواقع ليست علامة واحدة بسيطة، ولكنها مُتشعِّبة ومتعددة، فهي
في الحقيقة مجموع الاحتمالات التي ينطوي عليها موضوع العلامة الأولى.»
٦٦
وقد واجه هذا الرأي كثيرًا من الانتقادات؛ فمثلًا ينتقد العالِم
اللغوي إميل بنفست في مقاله «سيميولوجيا اللغة» هذا الرأي بقوله: «إن
بيرس ينطلِق من مفهوم العلامة لتعريف جميع عناصر العالَم سواء كانت هذه
العناصر عناصر حسِّية ملموسة أو عناصر مجردة، وسواء كانت عناصر مُفردة أو
عناصر مُتشابكة، حتى الإنسان — في نظر بيرس — علامة، وكذلك مشاعره
وأفكاره. ومن المُلفت للنظر
٦٧ أن كل هذه العلامات، في نهاية الأمر، لا تُحيل إلى شيءٍ سوى
علاماتٍ أخرى، فكيف يمكن أن نخرج عن نطاق عالَم العلامات المُغلَق على
نفسه؟ هل نستطيع — في نظام بيرس — أن نجد نقطةً خارج هذا السياج نُرسي
فيها علاقة ترابط بين العلامة وشيءٍ آخر غير نفسها؟»
٦٨
وهكذا، رفض الدكتور صلاح فضل — في قراءته لدالِّ البنفسج عند الشاعر
حسن طلب — ما رفضه إميل بنفست من إطلاق العلامة على كلِّ شيء، مثلما رفضت
الدكتورة سيزا قاسم هذا الرأي من قبل. وما ذهب إليه الدكتور صلاح فضل
والدكتورة سيزا قاسم من رفضهما لهذا الرأي، هو ما أؤيده وأومن به في
الدراسات النقدية.
- سابعًا: استغل الدكتور صلاح فضل جماليات الشعر عند حسن طلب في ربطها بالواقع؛
وذلك عندما أشار إلى حالة الاستلاب التي اتَّضحت من خلال الطابع الاسمي
الذي هيمن على المقطوعة الشعرية في قصيدة «بنفسج للوطن» التي كتبها حسن
طلب بعد حادث المنصَّة ١٩٨١م، وإن خلوَّ هذه المقطوعة من الأفعال يعني
خلوَّ الواقع المعيش من الحركة وتوقُّف أحداثه، ومن ثَمَّ وصوله إلى هذه
الحالة من الاستلاب.٦٩
٣
وأما القراءة الثالثة في هذه الدراسة، فتتمثَّل في الدراسة التي قدَّمَها الدكتور
كمال أبو ديب عن جدلية الواحد-المتعدد: البنية المعرفية والعلاقة بين النص والعالم.
٧٠
وقد أبرز الدكتور أبو ديب أثر هذه الجدلية على اللغة بخروج مُفرداتها من المدلولات
الأحادية إلى المدلولات المُتعدِّدة التي تبعد كثيرًا عن المستوى المعجمي المتعارَف
عليه.
وفي هذا المجال يقول الدكتور كمال أبو ديب: «ولعلَّ أبرز ما تتجسَّد فيه هذه الحركة
الانتقال باللغة، من كونها شيئًا مُحدَّدًا ثابتًا إلى كونها بؤرةً من الاحتمالات،
والخروج
بالمفردة اللغوية من كونها علامةً ثابتة الدلالة، قاموسيتها، إلى كونها طاقة إيحائية
وبؤرة دلالية تُشِع في جسد النص بإمكانات مُتعددة، مُثريةً إيَّاه بهذه التعددية،
وخالقةً حول
نفسها شبكةً من الترابطات والدلالات التي لا يمكن أن تُقلَّص إلى الدلالة القاموسية
الواحدة.»
٧١
ويُمثِّل الدكتور كمال أبو ديب لهذه السِّمة السيميولوجية التي لحقت مفردات اللغة
بثلاثة
دوالَّ؛ الأول: دال «الجُرح». ويستشهد الناقد على هذا الدالِّ من خلال استخدام أدونيس
له.
يقول أدونيس:
٧٢
١
الورق النائم تحت الريح
سفينة للجُرح.
والزمن الهالك مجدُ الجُرح.
والشجر الطالع في أهدابنا
بحيرة للجُرح.
والجُرح في الجسور،
حين يطول القبر،
حين يطول الصبر،
بين ضفاف حبِّنا وموتنا، والجُرح
إيماءة والجُرح في العبور.
٢
«للُّغة المَخنوقة الأجراس،
أمنح صوت الجرح.
للحجر المُقبل من بعيد،
للعالم اليابس، لليباس،
للزمن المحمول في نقَّالة الجليد،
أُشعِل نار الجُرح.
وحينما يحترق التاريخ في ثيابي،
وتنبت الأظافر الزرقاء في كتابي،
وحينما أَصيح بالنهار:
من أنت؟ مَن يَرميك في دفاتري،
في أرضي البتول؟
ألمح في دفاتري في أرضيَ البتول،
عينَين من غُبار.
أسمع من يقول:
«أنا هو الجرح الذي يصير،
يكبُر في تاريخك الصغير».»
ويعلق الدكتور كمال أبو ديب على دالِّ الجرح في هذا النص قائلًا: «فالجرح
في هذا النص ذو دلالة مُختلفة من جهة، وأكثر شمولية وجوهرية من جهةٍ أخرى من دلالة
الجرح
اللغوية–القاموسية، أو دلالته في الموروث الشعري … فإن الجرح لا محدود، غير مُحدَّد
الدلالة ويتجاوز المجال الفيزيائي الضيق ليُشكل عالمًا كليًّا، كما يُجسِّده القول:
«الورق
النائم تحت الريح، سفينة للجرح … والشجرة الطالع من أهدابنا، بُحيرة للجرح»؛ بل كما
تُجسِّده
بِنية النص الكلية.»
٧٣
ثم يتطرَّق الدكتور كمال أبو ديب إلى كيفية تعامل أدونيس مع هذا الدالِّ وبلوغه درجة
الرمز، فيقول: «ويرتفع الجرح بهذه الطريقة، إلى مستوى الرمز الذي يستقي مقومات تَشكُّله
من تعامل الشاعر الفرد مع المفهوم؛ اللغة من جهة، والبنية الثقافية الاجتماعية الكلية،
كما تتجلَّى في تمثُّل الشاعر الفرد لها من خلال ما أسميته «البنية المعرفية» المتشكلة
لدَيه
من جهة أخرى.»
٧٤
ثم يؤكد الناقد حدوث هذه النقلة في طبيعة الجرح عند أدونيس بقوله: «وليس أدل على
حدوث
هذه النقلة، أو التحوُّل في طبيعة الجرح ودلالاته من شيئين؛ أحدهما: استخدام أدونيس
له
بوفرةٍ في النصوص التي يكتُبها في المرحلة التاريخية التي ينتج فيها النص المُناقَش.
وثانيهما: استمرار الجرح مُكوِّنًا من مُكونات اللغة الشعرية، والعالم التصوُّري
— التخيُّلي
لدى أدونيس — على مدًى زمني واسع يستمر حتى آخر مجموعاته الشعرية مُتمتعًا بالحقل
الدلالي
ذاته، وآلية الفعل السيميائية ذاتها.»
٧٥ ويُمثِّل الناقد لهذه الاستمرارية بنص أدونيس «أغنية إلى المعنى»، حيث يقول:
٧٦
ليس هذا زمان البداء ولا آخر الأزمنة؛
إنه نهرُ الجرح يَدفق مِن صدر آدم،
معناه يُوغِل في الأرض،
والشمس صورته المُعلَنة.
ثم ينتقل الدكتور كمال أبو ديب إلى عنصر من أهم العناصر التي تؤثر في
التحليل السيميولوجي للدوال، وهو علاقة الدوال بسياقاتها المُتعددة، فيقول: «وتتمثل
عملية تكسير الدلالة الواحدة المُستقرة، وتفجير دلالات جديدة للفظة المفردة، في استخدام
اللفظة في سياقاتٍ جديدة تمامًا لم يكن مألوفًا أن تُستخدَم فيها في التراث اللغوي
عامة،
أو التراث الشعري بشكلٍ خاص، ثم في التجاوز باللفظة من حدود شبكةٍ للعلاقات مُمكنة
(وإن لم
تكن مألوفةً دائمًا في الاستخدام الشعري) إلى خلق شبكةٍ للعلاقات بينها وبين غيرها
من
الألفاظ، تكاد تكون أدخلَ أحيانًا في إطار اللامُمكن أو اللامعقول، وأدخل أحيانًا
في إطار المُتناقض.»
٧٧
ويستدل الناقد على ذلك بأحد الدوال اللغوية وهو دال «الغسل» الذي يُمثل الدال الثاني
في هذه الدراسة. ويرصد الناقد المدلولات غير المألوفة لهذا الدال لدى عبد العزيز
المقالح الذي يقول:
٧٨
كيف لي أن أُحادث سيدة الضوء؟
أن أتقي ساعة الضجر المُرِّ؟
أن أبدأ الاتجاه المعاكس للحزن؟
أن أستعين بلؤلؤة القلب؟
لا شيء … مغسولة بالتراب العتيق طريقي،
ومغسولة بالغياب.
وعن وظيفة الاغتسال المألوفة يقول الدكتور أبو ديب: «إن وظيفة الاغتسال
هي، في الواقع الفعلي والتراث اللغوي، أن تُزيل ما يتراكم على الشيء أو بداخله من
أجسامٍ
غريبة عليه بينها — بل أهمها — التراب والغبار. ويؤدي الغسل وظيفةً إيجابية: خلق
الإحساس
بالنظافة والبهجة والنشاط والحيوية والوضوح. والطريق المغسولة في الواقع والاستخدام
اللغوي، هي الطريق التي يسقط عليها الماء فيُزيل عنها الغبار والتراب.»
٧٩
أما عن خروج دالِّ «الغسل» عن مدلوله العادي إلى الإيحائي (السيميولوجي)، فيقول الدكتور
أبو ديب: «غير أن النصَّ يُقحِم فعل الاغتسال في سياقٍ مُضاد تمامًا تُصبح فيه الطريق
مغسولة
بالتراب العتيق «وهو المادة التي تُغسَل منها الطريق عادة» في سياق يُمثل فيه وجود
التراب في الطريق وظيفةً سلبية. وحين يستمر النص ليَصِف الطريق بأنها أيضًا «مغسولة
بالغياب» فإن شبكة العلاقات الناشئة بين المادَّتَين اللتَين غَسَلَت كل منهما الطريق؛
أي
التراب والغياب، تبلغ درجةً عالية جدًّا من التعقيد والتشابك والالتباس؛
٨٠ إذ إن الغياب مُرتبط بالتراب في سياقٍ آخر هو الموت. وكل ذلك مما يُعمِّق آلية
الخروج من الواحد إلى المُتعدِّد، من اليقين إلى الاحتمال، ومن المُحدَّد إلى اللامُحدد.»
٨١
ثم ينتقل الدكتور كمال أبو ديب إلى الدال الثالث في هذه الدراسة السيميولوجية وهو
دال
«القراءة والكتابة»، فيقول: «وقد تتطوَّر عملية كسر الدلالة المألوفة — الموروثة
— وشحن
الكلمات بدلالاتٍ جديدة إلى درجةٍ تُصبح معها الدلالات الجديدة، والاستخدام الجديد،
هو
الأكثر شيوعًا وأُلفة، بحيث يقترب من إعطاء الكلمة مألوفيةً على مستوًى أعلى هو المستوى
الطارئ الذي تبرز عليه. وبين الأمثلة الأكثر حضورًا على هذه العملية استخدام الفعلَين
«أَقرأُ» أو «أَكتُبُ» في قصيدة الحداثة.»
٨٢
ويدرس الدكتور أبو ديب هذه المدلولات الجديدة من خلال ديوان عبد العزيز المقالح
«أوراق الجسد العائد من الموت»، وذلك عندما يقول: «إن مراجعة دقيقة لديوان عبد العزيز
المقالح «أوراق الجسد العائد من الموت» تكشف أنه يندُر أن يَستخدِم فِعلَي القراءة
والكتابة
في سياقهما العادي المألوف — أي قراءة نص مكتوب، أو كتابة نصٍّ مسموع مثلًا — وأنه
غالبًا
ما يَستخدِمهما في سياقاتٍ جديدة تمامًا، يكتسبان فيها دلالاتٍ مختلفة عن دلالاتهما
المألوفة.»
٨٣ ثم يسوق الناقد قول عبد العزيز المقالح:
٨٤
حين كان الصباح يُداعب أجفان نافذة،
ويُغني مفاتنها.
لم يكن يقرأ الشَّرخ في جفنها.
يتأمَّل وجه النهار الذي عاد مُكتئبًا،
والعناكب تقرأ صوت الغراب.
ويقول في موضوع آخر:
«تكتب الدماء اللحظة – العصر
يُسجل الزمان.
يقرأ العالَم في الترابِ ساعة الوداع.
تحفظ الآفات ما يَكتُبه دمي.»
كما يقول في موضع ثالث:
«أظمأ إنْ هجرَتْني القصائد.
تقرؤني في النهار الرياح،
ويقرؤني في المساء البكاء.»
ويعلق الدكتور أبو ديب على هذه الدوال بقوله: «ومن الجلي أن «أقرأ»
و«أكتب» في هذه النماذج، تُوسِّع مدى استخدام الفعلَين وتصِل به آفاقًا لا مِثال
لها في
التراث اللغوي أو الشعري … ومن الدالِّ أن الفعلَين يُستخدَمان بوفرةٍ لافته تمامًا
بالقياس
إلى استخدامهما في النصوص الشعرية السابقة، لكن الأبعد دلالةً هو أنهما، رغم هذه
الوفرة
في نصوص المقالح، لا يَرِدان مُستخدَمين بالطريقة المألوفة، أو بصورةٍ قريبة منها،
إلا في
مواقع أربعة (منها ثلاثة جلية)
٨٥ يقول في الأول:
«ويقرأ آخر سِفْرٍ في تلمود العهد المفتوح.»
ويقول في الثاني:
«وأقرأ في وجهه آخر الكلمات.»
ويقول في الثالث:
«أكتب بالخطِّ الكوني مرثية.»
أما الموقع الرابع، فهو موقع مُلتبِس، يقول فيه:
وبعد هذا النموذج التطبيقي، أسوق ملحوظاتي عليه في النقاط الآتية:
- أولًا: أن الدكتور كمال أبو ديب استطاع أن يُثبت تطبيقًا أن الدال اللغوي
يخرج — في شعر الحداثة — من إطار المدلول المعجمي (القاموسي) إلى أُطر
سيميولوجية جديدة، مما يُضفي على العملية الإبداعية قدرًا كبيرًا من
الجمال الفني، ليضع الإبداع الشعري مَوضعه الصحيح في مُعالجة قضايا
الواقع معالجةً فنية، تمهيدًا — أو تحفيزًا — لمُعالجتها في الواقع
المعيش.
- ثانيًا: أكد الدكتور كمال أبو ديب أثر الواقع الثقافي-الاجتماعي في
التغيرات السيميولوجية، وذلك حين يقول عن استخدام دال «الجرح» عند
أدونيس: «يرتفع الجرح بهذه الطريقة إلى مستوى الرمز الذي يَستقي مقومات
تشكُّله من تعامل الشاعر الفرد مع المفهوم؛ اللغة من جهة، والبنية
الثقافية الاجتماعية الكلية كما تتجلَّى في تمثُّل الشاعر الفرد لها من
خلال ما أسميتُه «البنية المعرفية» المُتشكِّلة لدَيه من جهةٍ أخرى.»٨٧
ويلتقي هذا الرأي مع رأي سوسير في أثر العُرف الثقافي–الاجتماعي
على الإشارة اللغوية، عندما تطرَّق إلى الحديث عن اعتباطية العلاقة بين
طرفي العلامة اللغوية، حين قال: «ثُم إن كلمة الاعتباطية تحتاج إلى
توضيح. فهذه الكلمة لا تعني أن أمر اختيار الدال متروك للمُتكلم كليًّا،
بل أعني بالاعتباطية أنها لا ترتبط بدوافع؛ أي أنها اعتباطية لأنها ليس
لها صِلة طبيعية بالمدلول.»
٨٨
- ثالثًا: أثبتت الدراسة أنه كلما استخدم الشاعر دالًّا مُعينًا في إنتاجه
الشعري، أصبح هذا الدال مُكونًا جذريًّا من مُكوِّنات هذا الإنتاج. وفي
الوقت نفسه لا بد أن تتعدَّد المدلولات السيميولوجية لهذا الدال؛ لأنه لا
يُعقَل أن يستمر الشاعر في الاستعانة بدالٍّ مُعين في إطار مدلولٍ واحد.٨٩
- رابعًا: أكد الدكتور كمال أبو ديب أهمية السياق في تعدُّد المدلولات للدال
الواحد؛ لأن الدوال تأخذ مدلولاتٍ جديدة كلما وُضِعت في سياقات مُتعددة
ومختلفة، سواء تعدَّدت هذه السياقات عند الشاعر الفرد أو لدى مجموعة من
الشعراء.
ولأهمية السياق وأثره في المنهج السيميولوجي، أسوق تعريفه عند
ياكبسون الذي يقول عنه: «فالسياق هو الطاقة المرجعية التي يجري القول
من فوقها، فتُمثِّل خلفية للرسالة تُمكِّن المُتلقي من تفسير المقولة
وفهمها. فالسياق إذًا هو الرصيد الحضاري للقول وهو مادة تغذيته بوقود
حياته وبقائه.»
٩٠
- خامسًا: أقرَّ الدكتور كمال أبو ديب بتغير العلامة اللغوية حسب تغيُّر الزمن،
وذلك باختلاف المدلولات في السياق الشعري المعاصر عن السياق الشعري
القديم (الموروث). ويؤكد ذلك قوله: «وتتمثَّل عملية تكسير الدلالة
الواحدة المُستقرة، وتفجير دلالاتٍ جديدة للفظة المُفردة، في استخدام
اللفظة في سياقاتٍ جديدة تمامًا لم يكن مألوفًا أن تُستخدَم فيها في
التراث اللغوي عامة، أو التراث الشعري بشكلٍ خاص.»٩١
وفي هذا المبدأ السيميولوجي يلتقي الدكتور كمال أبو ديب كذلك مع ما ذهب إليه سوسير
في
هذا الشأن، إذ يقول سوسير: «إن الزمن الذي يضمن استمرارية اللغة، له تأثير آخر مُناقض
على ما يبدو للتأثير الأول (يقصد بالتأثير الأول ثبوت العلامة اللغوية)، فهو يدفع
إلى
التغيير السريع أو البطيء للإشارة اللغوية.»
٩٢
•••
على هذا النحو، فَهِم النقَّاد العرب المنهج السيميولوجي، واستعانوا به في قراءة
النص
الشعري، مُقرِّين بإجراءاته التي تصلح لقراءة النص العربي، رافِضين منها ما لا يتناسَب
مع
طبيعة هذا النص. أي أنهم استطاعوا أن يُطوِّعوا هذا المنهج؛ ليُصبِح مؤهلًا للقراءات
الفعَّالة التي تفرز المدلولات المُتعددة للدال الواحد، في إطار البنية المعرفية
للعناصر
الثلاثة المشاركة في العملية الإبداعية: المبدع والنص والمتلقي.
٩٣