١
أبدأ هذه القراءات، بالدراسة التي قدَّمها الدكتور محمد العبد تحت عنوان «سمات أسلوبية
في شعر صلاح عبد الصبور».
١ وقد حدَّد الناقد العناصر والمُثيرات اللغوية الأساسية ذات الِقيَم الأسلوبية في
شعر صلاح عبد الصبور في النقاط الآتية: التثنية، والتأنيث، والتصغير، والفعل، والصفة،
ورمزية الألوان، والمُزاوجات الاسمية وقيمتها الأسلوبية، ومُزاوجات اسمية خاصة، والتأثر
بلُغة الحياة اليومية، وأخيرًا التكرار وقيمته الأسلوبية.
وتحديدًا للمجال، سأكتفي بقراءة عنصرٍ واحد فقط من هذه العناصر، وهو «التكرار وقيمته
الأسلوبية»، بوصف هذه البِنية التكرارية أحد العناصر الأسلوبية التي تُشارك في إنتاج
الدلالة.
وفي بداية الدراسة يوضح الناقد الأهمية الأسلوبية التي تحظى بها بِنية التكرار بقوله:
يُعَد التكرار ظاهرةً لغوية من حيث اعتماده — في صُوَره البسيطة والمركبة — على العلاقات
التركيبية بين الكلمات والجمل. وهو يُعَد — في علو معدلات تكراره — وسيلةً بلاغية
ذات قِيَم
أسلوبية مختلفة. ويُمكننا — وفقًا للتصنيف العام عند لوتمان — التمييز بين نمَطَين
أساسيَّين
للتكرار في شعر صلاح عبد الصبور: الأول؛ التكرار البسيط، والآخر؛ الأنماط المركبة
للتكرار.
وإذا كان هذا التصنيف يجرى على أساس تركيبي، فإن لكلِّ نمطٍ مما سبق صورًا بلاغية
أخرى.
أما النمط الأول، فيمكن أن نجعله لتكرار الكلمة — أَيًّا كان الجنس الصرفي الذي تنتمي
إليه — في جملة واحدة أو في عدة جُمَل متوالية. ويمكننا — على أساس شكل التكرار وقيمته
الأسلوبية معًا — أن نجد لهذا النمط في شعر صلاح عبد الصبور صورًا صُغرى مُتعددة:
الصورة
الأولى تكرار الكلمة-السياق على نحوِ ما رأينا في تكرار كلمة «حبيبي» مثلًا في قصيدة
«أغنية حب».
٢ وتبدو قيمته هنا في إبراز أهمية الكلمة المُكررة في السياق، وجعلها بمثابة
«المركز» الذي يدور حوله الحديث.
٣
وقد تلعب الكلمة-السياق دورًا أخطر من ذلك، فتكون كالنغمة الأساسية التي تُصوِّر
المشهد بكامِلِه، وتُعبر عن جوِّ القصيدة العام. ومن ذلك تكرار كلمة «حياة» في قوله:
٤
وأتى السيَّاف مسرور وأعداء الحياة.
صنعوا الموت لأحباب الحياة،
وتدلَّى رأس زهران الوديع.
قريتي من يَومها لم تأتدِم إلا الدموع.
قريتي من يومها تأوي إلى الركن الصديع.
قريتي من يومها تخشى الحياة.
كان زهران صديقًا للحياة.
مات زهران وعيناه حياة،
فلماذا قريتي تخشى الحياة …؟
ويُعرف هذا النمط، على المستوى التركيبي الخاص، باسم
epipher أي تكرار اللفظ في نهاية عدَّة جُمَل أو أجزاء
من الجُمَل يتلو بعضها بعضًا تواليًا غير مباشر.
ولكننا نلاحظ — من ناحية أخرى — تكرار «قريتي …» لارتباط الكلمة–السياق بها، أو
لارتباطها بالكلمة–السياق. وتكرارها هنا جاء في بداية عدة جُمَل متوالية.
٥
فإذا انتقلنا إلى التفسير الأسلوبي، رأينا أن كلمة «حياة» قد تكرَّرت في الأسطر التِّسعة
السابقة ستَّ مرات. وهي لا تلعب دَورها هنا أساسًا من مجرد التكرار العددي، وإنما
هي التي
تقوم بدور «المقابل» للحالة الشعورية المُسيطرة. إن الخوف هنا ليس خوفًا من الموت،
كما
تقضي الطبيعة الإنسانية. وإنما هو خوف من الحياة؛ ولذلك يرتكز الشاعر على كلمته المُكرَّرة
للحضِّ على البقاء والترغيب في الحياة، ونفي الخوف منها.
وقد عبر الشاعر عن ذلك بوسائل بلاغية مختلفة؛ الأولى: المقابلة بين أعداء الحياة
وأحباب الحياة. الثانية: التعلق بالحياة وأسبابها وإن تسلط الموت، ويبدو ذلك في عبارة:
«مات زهران وعيناه حياة.» و«زهران» هنا هو الرمز الذي يُجسِّد معاني الصراع ضد الموت
(ولاحظ إيثار «العينين» هنا). الأخيرة: الاستنكار والتوبيخ في عبارة: فلماذا قريتي
تخشى
الحياة؟ ومن الأمثلة على هذا النمط كذلك كلمة «انكسار» في قوله:
٦
هجم التتار،
ورموا مدينتنا العريقة بالدمار،
… … …
والأفق مُختنق الغبار.
وهناك مركبة محطَّمة تدور على الطريق،
والخيل تنظر في انكسار.
الأنف يَهمِل في انكسار.
العين تدمع في انكسار،
والأُذن يلسعها الغبار.
هنا يسيطر مشهد الدمار الذي ألحقه التتار بتلك المدينة العريقة، وتُسهم
كلمة «انكسار» هنا في تعميق الحالة الشعورية المُسيطرة؛ وهي الحقد والثورة والغضب
لهذا
الدمار، لا بدلالتها فحسب، بل بتكرارها كذلك في جُمَل قصيرة متوالية، لتصوير الانفعال
الحاد بهذا المشهد.
٧
ولا شكَّ أن هناك وسائل تعبيرية أخرى مساعِدة، الأولى: إهمال واو العطف في الجمل
المُشتملة على الكلمة المكرَّرة، على نحوٍ يُظهر التوالي المفاجئ السريع لجزيئات
المشهد.
الثانية: الإخبار في الجُمَل المتوالية بالفعل المضارع، الذي يقوم بوظيفة تصوير الحدث
واستحضاره: الخيل تنظر، الأنف يَهمِل، العين تدمَع. الأخيرة: اشتمال كلمة «انكسار»
ذاتها
على الراء في آخرها؛ وهو يُوصَف بأنه «صوت مُكرر».
٨
أما الصورة الثانية لهذا النمط فهي تكرار الكلمة للتعبير عن انفعالٍ مُعين. بدلًا
من
التعبير على نحوٍ منطقي يحكمه «الحصر» المُفزع. إنه — كما يقول فندريس — تعبير عن
الانفعال الذي يصحب التعبير عن عاطفةٍ قد دُفِعَت إلى أقصاها. هذه العاطفة لا يُناسبها
—
حينئذٍ — الحد والحصر والتقليد. وهو يمدُّ العبارة بزيادةٍ في القوة، ويدلُّ على
الوفرة
ومجاوزة الحد المألوف. ويُمكننا أن نُسمِّي هذا النوع باسم «التكرار الانفعالي».
٩ ومن أمثلته تكرار الفعل «تسيل»:
ومات أبي، والدموع تسيل على وجنتيه،
وفي كفِّه مِزقة من رداء حرير.
١٠
أو تكرار الفعل «صغر» في قوله:
في قلب العاجز ماذا يُلقي العاجز؟
ماذا يهَب العريان إلى العريان،
إلا الكلمة؟
والجلسة في الركن النائي؛
قزمَين ودودين،
صغُرا صغُرا، حتى دقَّا.
١١
وذلك في مقابل «تسيل في غزارة، أو غزيرة، تظلُّ تسيل، ونحو ذلك»، أو «صغُرا
جدًّا» ونحوه، مما لا يَخفى ما فيه من «فتور» في الإحساس. و«نثرية» في الصياغة.
أما التكرار المُركب فله كذلك عدة صور فرعية؛ الصورة الأولى: تكرار عبارة أو جملة
بذاتها، أو إعادة صياغتها مرةً أخرى عن طريق التغيير في العلاقات التركيبية بين عناصر
الجملة، بالتقديم أو التأخير أو الحذف أو الإضافة … إلخ.
١٢
ومن النوع الأول، وهو الشائع في شعر صلاح عبد الصبور، وفي الشعر الحديث بعامة، لا
سيما
في نهاية المقاطع أو نهاية القصيدة (التي تكون غالبًا جملة المطلع) قوله:
١٣
أين أُعلق تذكاراتي
والحائط منهار؟
أين أُسمِّر حزني، شغفي،
أفراحي، ولهي، لهفي،
والحائط منهار؟
حيث يكون تكرار الجملة الحالية «والحائط منهار» كالنور العالي الذي
يقوم بوظيفة التحذير والتنبيه حين يكون الإحساس بالتردُّد والحيرة. ولا شك أن في
هذه
الأسطر عوامل لُغوية مُساعِدة لنقل هذا الإحساس، كالاستفهام، وتزاحم الكلمات الدالة
على
إحساساتٍ مُتناقضة.
١٤
وقد لا تتكرَّر الجملة بذاتها أحيانًا، وإنما يعتورها التغير اللفظي الذي يعكس التغيُّر
في الشعور والانفعال، أو بعبارةٍ أخرى، يعتورها التعديل اللغوي الذي يعكس التعديل
في
مسار العاطفة، كقوله:
١٥
جارتي مدَّت من الشُّرفة حبلًا من نغم؛
نغمٍ قاسٍ، رتيب الضرب، منزوف القرار.
… … …
بيننا يا جارتي بحر عميق.
بيننا بحر من العجز رهيب وعميق.
فقد عدَّل التركيب «بحر عميق» للإحساس بنقصان ما يلزم التعبير عنه، وهو
تحديد جِنسه ووصفه بصفةٍ أخرى.
وقد يأخذ هذا النوع من التكرار صورًا أخرى، هي التكرار لا للحاجة إلى الإضافة
والتعديل، بل للرغبة في التأكيد، كقوله:
١٦
طفلنا الأول قد عاد إلينا،
بعد أن تاهَ عن البيت سنينًا.
… … …
كان طفلًا عندما فرَّ عن البيت وولَّى،
من سنين عشرةٍ، ذات مساء، كان طفلًا.
فلا شكَّ أن «كان طفلًا» الثانية ليست فضلةً أو زائدة عن الحاجة؛ لأنها
ليست «كان طفلًا» الأولى؛ فبالرغم من أنها هي هي «كان طفلًا» الأولى في اللفظ، فإنها
ليست هي هي «كان طفلًا» الأولى في المعنى، فإذا كانت الأولى لمجرد الإخبار، فالثانية
وسيلة بلاغية للتأكيد. وهي أبلغ من أية وسيلة نحوية أخرى للتأكيد.
وتتمثل الصورة الثانية للتكرار المُركَّب في تكرار الجملة على نحو يختلف عما سبق.
فالانتباه هنا لا يتَّجه إلى الجملة المُكررة بأسرِها بقدْر ما يتَّجِه إلى التصرُّف
في تغيير
موقع إحدى كلماتها ووظيفتها النحوية. ويُعرف هذا النمط باسم «التكرار عن طريق التلاعُب
اللفظي».
١٧ من ذلك قول صلاح عبد الصبور:
١٨
أنا رجعتُ من بحار الفكر دون فكر.
قابلني الفكر، ولكنِّي رجعتُ دون فكر.
أنا رجعت من بحار الموت دون موت.
حين أتاني الموت، لم يجِد لديَّ ما يُميتُه،
وعدت دون موت.
فالجُملتان المكرَّرتان هنا هما: رجعت دون فكر ورجعت (عدت) دون موت. وأحسب
أن انتباهنا لا يُوجَّه هنا إلى تكرار هاتَين الجملتَين بكامِلِهما، بقدْر ما يُوجَّه
إلى
التلاعُب اللفظي بكلمة «فكر» في الأولى، و«موت» في الثانية (ولاحظ التمهيد لتكرار
الجملة
الأولى: قابلني الفكر. والتمهيد لتكرار الثانية: حين أتاني الموت … إلخ).
١٩
وقد يأخذ التكرار عن طريق التلاعب اللفظي صورةً فرعية أخرى. حين تُظهِر الكلمات
هنا
تشابهًا صوتيًّا، وأصلًا اشتقاقيًّا واحدًا، مع اختلافاتٍ صرفية، ومن ذلك قوله:
٢٠
وأعلم أنكم كرماء،
وأنكم تُحبون القريض وأهله الشعراء،
وأنكم ستغفرون لي التقصير عن سبقٍ إلى تعبير،
وعن تدوير ما يَمتدُّ في الدنيا إلى الكلمات،
… … …
وعن تنغيم هذا الزمن المُوحش موسيقى،
وعن وحشة موسيقى السماء بقلبي الموحش.
أما الصورة الثالثة، فتتمثل في هذا النمط الذي يُشبه «الفلاش باك» وتقدم
لنا قصيدة «أبي» هذا النوع؛ فهي تبدأ بجملة تُلخِّص جوهر الحديث الذي تحكيه أو خلاصته.
ثم
تتوالى الجُمَل الأخرى التي تُصوِّر أحد مشاهده، فإذا ما انتهت تلك الجُمَل، تكرَّرت
الجملة
الأولى، ثم يستأنف مشهدًا آخر جديدًا، وهكذا. والجملة المُكررة معطوفة بالواو على
محذوف.
ويُعبر عن ذلك بالنقط الثلاث. والمحذوف هو — بطبيعة الحال — الحكاية بكاملها التي
يَحكيها
لنا بعد ذلك تفصيلًا في مشاهدها المختلفة. تبدأ القصيدة بجملة:
٢١
… وأتى نعيُ أبي هذا الصباح.
ثم تتوالى جزئيات المشهد الأول:
نام في الميدان مشجوج الجبين،
حوله الذؤبان تعوي والرياح،
ورفاق قبَّلوه خاشِعين،
وبأقدامٍ تجرُّ الأحذية،
وتدق الأرض في وقعٍ مُنفِّر،
طرقوا الباب علينا.
فتتكرر هذه الجملة:
وهكذا بعد انتهاء كل مشهد. والمشهد الواحد هنا كالقصة أو الفيلم
السينمائي. وليست الجملة التي تبدأ بها أول الخيط، ولكنها آخِرُه المقلوب.
٢٢
وتتمثل الصورة الرابعة من أنماط التكرار المُركب بالإضافة إلى ما سبق، ما يمكن أن
نُسميه باسم «التكرار التصويري»، قياسًا على «الموسيقى التصويرية»، حيث يلعب تكرار
الجملة اللغوية عند الشاعر دور الموسيقى التصويرية بعينه في الفيلم السينمائي. ولنتأمَّل
مثلًا على ذلك تكرار «مطر يَهمي، وبرد، وضباب» في قوله:
٢٣
كان فجرًا مُوغلًا في وحشته؛
مطر يَهمي، وبرد، وضباب،
ورعودٌ قاصفة.
قطَّة تصرخ من هول المطر،
وكلاب تتعاوى.
مطر يَهمي، وبرد، وضباب.
فالأصوات تتوالى: قصف الرعود، وصراخ القطة، وعواء الكلاب. وكل صوتٍ منها
يُعبِّر عن حدثٍ جديد، أما الخلفية فلا جديدَ فيها ولا تغيير؛ فما زال المطر يَهمي،
وما زال
البرد والضباب.
٢٤
وأخيرًا تأتي الصورة الخامسة لهذا النمَط مُتمثلة في المحافظة على الجملة الأساسية
مع
اختزال أحد مكوِّنات الجملة المُكررة في كل سطرٍ حتى تتلاشى، ثم يبدأ «العد التنازلي»
لمُكونات الجملة الرئيسية، حتى تنتهي بأصغر مكوناتها التي يسمح بها النظام النحوي.
ونجد
ذلك في قول صلاح عبد الصبور:
٢٥
أرتدُّ إلى هذه الفكرة كلَّ مساء،
مثل صدًى يرتدُّ إلى صوت
… …
تبغي أن تعرفها يا جاسوس الوقت؟
لا، إني أكتمُها عنك،
بل إني في الحق
لا أعرف كيف أُعبِّر عنها لك.
لا شيء يُعينك … لا شيء يُعينك.
لا شيء يعينك … لا شيء يُعين.
لا شيء يُعينك، لا شيء.
لا شيء يُعينك.
لا شيء.
لا …
وأحسب أن هذا النمَط من التكرار ليس «تشكيلًا بصريًّا» مجردًا، وإنما هو
وسيلة تعبيرية وموسيقية مهمة؛ إنه يُشبه — إلى حدٍّ كبير— «القفلة الموسيقية» التي
تسبق،
أو يُمهد لها، باختزال مدَّة «الاستغراق الزمني» للجملة الموسيقية كاملة؛ فتكون النغمة
هادئة، بطيئة، مُتكسِّرة، حتى تنتهي الجملة بأصغر وحداتها النغمية.
٢٦
وفي هذا الشكل الطباعي الذي تعتمِده القصيدة الحديثة، يقول الدكتور محمد العبد: وأودُّ
أن أُشير هنا إلى محاولة الشعر الحديث استغلال طريقة الكتابة في جعلها وسيلةً إيضاحية
لأداء جزءٍ مُعين من القصيدة على النحو الذي يريده الشاعر؛ لنشترك معه فيما يحسُّ
به. ومن
أمثلة ذلك في شعر صلاح عبد الصبور قوله:
٢٧
أحسُّ أني خائف،
وأنَّ شيئًا في ضلوعي يرتجف،
وأنني أصابني العيُّ، فلا أُبين،
وأنني أوشِك أن أبكي،
وأنَّني
سقطتُ
في
كمين.
فلا شك أن الفصل بين الكلمات التي تتألف منها الجملة على هذا النحو،
وانفراد كل كلمةٍ منها بسطرٍ كامل، على غير ما هو مألوف، بل على غير ما يسمح به النظام
النحوي العادي، إنما هو «كالتصوير البطيء» لحدَث السقوط، حيث يكون من الضروري هنا
أن
نقرأ كل كلمةٍ من تلك الكلمات، بإشباع أصوات اللِّين، والوقوف عليها وقفة قصيرة.
وهكذا
يجعل الشاعر من طريقة الكتابة عنصرًا أسلوبيًّا تعبيريًّا خارجيًّا، أي لا يعتمد
على
اللُّغة ذاتها. إنه تصوير — بالكتابة — للمدة الزمنية التي تتخلَّل النطق بهذه الكلمات
عندما «يقتضي الحال» نُطقها على هذا النحو.
٢٨
وبعد هذا النموذج الذي قدمتُه، يحق لي أن أُقدم ما تميَّز به على النحو الآتي:
٢
أما النموذج الثاني الذي أقترِحه للقراءة، فهو القراءة الأسلوبية التي قدَّمها الدكتور
محمد عبد المطلب تحت عنوان «تحوُّلات بنية النفي – دراسة أسلوبية في ديوان أحمد سويلم:
الشوق في مدائن العشق».
٣٤
وفي البداية يربط الدكتور محمد عبد المطلب بين إنتاج المعنى وبين كلٍّ من المُبدع
والمُتلقي، حيث يقول: «لقد اتَّجَه الدرس النقدي قديمًا إلى تحديد كيفية إنتاج المعنى
اللغوي بوضعه في إطار «النفي والإثبات»، ذلك أن التعامُل باللغة يقتضي حركةً ذهنية
أولية
تتعلق بمفهوماتٍ تنتمي إلى قصد المُتكلم ثم المبدع، وتظلُّ في دائرة المنطوق بالقوة
حتى
تخرج إلى حَيز الفعل، وهنا يتَّصِل بها عنصر إضافي يُعطيها طابعًا وجوديًّا أو عدميًّا،
على
أن يكون في الوعي دائمًا حضور المُتلقي باحتياجاته المعرفية لهذا البناء أو ذاك.»
٣٥
ثم يركز الدكتور عبد المطلب حديثه على علاقة النص بالمُبدع في حالة الوعي والقصد
فيقول: «واتصال الإثبات والنفي بالمُتكلم أو المبدع اتصال تلاحُم ذو طبيعة انفصالية
في
الظاهر، تتجسَّد في تشكيل صياغي مُميَّز، لكن هذا الانفصال لا يُلغي انتماء الصياغة
لمُبدعها، ذلك أن جملة التعامُل اللغوي منشؤها الحركة النفسية من ناحية، والمُدرك
العقلي
من ناحيةٍ أخرى، وهما بدورهما خاضعان لعملية «الوعي والقصد». وتتركَّز هذه الحركة
الصياغية
في منطقة «الخبر»، فهو مجال التصوُّرات غير المحدودة، التي تسمح بمجموعةٍ من التحولات
العميقة والسطحية تستثير حاسَّة التذوُّق ثم النقد.»
٣٦
وبعد أن يربط الناقد بين الحركة الصياغية ومنطقة الخبر الذي يُعد مجال التصوُّرات
الذهنية، يُبرز خصوصية المبدع بانحرافه بالدوال اللغوية عن مواضعتها المعجمية والخروج
بها إلى مواضعات شعرية من خلال ربطها بالسياق فيقول: «والتعامُل الخبري في «الإثبات
والنفي» يتَّصِل بالشعرية اتصالًا حميمًا يُتيح للمُحلِّل أن يصِلها بالشاعرية، على
معنى أن
الكشف التحليلي لبنية الخبر الثنائية يسمح برصد كيفية اتصال الإبداع الشعري بذاتٍ
مُعينة
ينغلق عليها دون أن يتجاوزها إلى سواها، بل إن الانغلاق هنا قد يصِل إلى درجة «المواضعة»
فإذا كانت المواضعة ترتبط بالمفردات وتعليقها بمدلولاتها، فإن «المواضعة الشعرية»
ترتبط
بالبُنى وكيفية اختيارها من ناحية، ثم كيفية توظيفها داخل السياق من ناحيةٍ أخرى،
وعلى
هذا يكون للمعنى عمومًا — والشعري خصوصًا — اختصاص بمُبدع دون آخر، أي الأولوية وعدم
السبق.»
٣٧
وفي أهمية المنهج الإحصائي في هذه الدراسة الأسلوبية، يقول الدكتور محمد عبد المطلب:
«إن اختيار هذا الديوان منطقة اختبار لتحوُّلات بِنية النفي يؤكد الحاجة إلى نظرةٍ
شمولية
تتعامل معه بوصفه دفقةً شعرية واحدة، ولكي يتحقق ذلك لا بد من اعتماد منهج مُحدَّد
يساعد
على التحليل ثم الكشف. وأعتقد أن التحرك الإحصائي سوف يكون وسيلةً فعالة في تقديم
الخطاب
تجريديًّا، وهو ما يُتيح للمُتلقي إدراك بُعده الكمِّي تمهيدًا للانتقال به إلى البُعد
الكيفي.»
٣٨
وسرعان ما يدخل الناقد إلى أدوات النفي ودورها المُكثف داخل الديوان ليُعلن عن تكثيف
كل
أداةٍ على حدة
٣٩ معلقًا على هذا التعامُل مع أدوات النفي بقوله: «ويُلاحظ أن التعامُل المُكثف
مع أدوات النفي في النماذج السابقة قد أخذ طابعًا كليًّا له خصوصيته، حيث جاء على
نمط
رأسي بهدف تحويل الشعرية في منطقة السلب، إلى دفقاتٍ مُتتابعة، تلاحِق بعضها مُجدِّدة
مهمة ما
يسبقها من ناحية، ومؤكدة لها من ناحية أخرى.»
٤٠ وبهذا استطاع الناقد أن يوظف هذا التكثيف توظيفًا دلاليًّا.
وحين يدرس الدكتور محمد عبد المطلب تحوُّلات هذه البنية، فإنه يدرسها تحت أشكالٍ ثلاثة.
أول هذه الأشكال يكمن في امتلاك هذه البنية قدرةً على التعامُل مع الدوال انتقائيًّا.
وثانيها: هو تخلُّص هذه الأدوات من مرجعيَّتها المُعجمية وتلبُّسها بدلالاتٍ جديدة
تُزيحها
جزئيًّا؛ لتصنع أداة ثنائية الوظيفة. وآخرها: هو عمل تلك الأدوات على مُستوَيي الحضور
والغياب.
وفي النوع الأول، يُبرز الناقد وظيفة الأداة الانتقائية حيال التعامُل مع المفردات
في
إيثار بعضها والإعراض عن بعضها الآخر، وذلك من خلال وظيفتها من ناحية، وبُعدها السياقي
من ناحيةٍ أخرى. ويستشهد الناقد على هذه الظاهرة بقول أحمد سويلم:
٤١
ما بيننا مسافة الهمس،
ويقظة النظر ..
ما بيننا مسافة .. شديدة القِصَر.
ما بيننا ابتدأ ..
ولن يكون يا أميرتي .. له انتهاء …
ويُعلق الدكتور محمد عبد المطلب على هذه المقطوعة الشعرية قائلًا:
«وجاءت خطة الأداة انتقائية، فتؤثر في بعض المفردات، وتبتعِد عن بعضها الآخر، حيث
تسلَّطت
فاعلية النفي على جُملةِ كان واسمِها وخبرِها «لن يكون له انتهاء» مُتخطِّية جملة
النداء «يا أميرتي»، أي إنها تُحقق ناتجَين على صعيدٍ واحد: نفي الكينونة عن الانتهاء
من ناحية،
وإثبات الإمارة للموضوع من ناحية أخرى. وعلى هذا تئول البنية العميقة إلى تشكيلٍ
صياغي
جديد يقول: «لن يكون انتهاء لما بيننا بفاعلية إمارتك على مملكة الحُب المُستكنَّة
في ذاتي».»
٤٢
وإذا كان هذا التأثير قد تمَّ من قِبَل أدوات النفي انتقائيًّا في المفردات التي
تلتها، فهي على الجانب الآخر تؤثر انتقائيًّا في المفردات التي تسبقها. يقول أحمد
سويلم
في «سيف الحب»:
٤٣
سُحقًا للعالَم إن لم تسْرِ إليه رياح الحب.
سُحقًا للأرض إذا لم تتفجر بالظمأ وبالأشواق.
سحقًا للشمس إذا غابت يومًا
عن حلم العُشَّاق …
ويعلق الدكتور عبد المطلب على هذه المقطوعة بقوله: «وهنا يتفجَّر المعنى
من بنية التكرار «سحقًا» التي تؤدي مُهمتها في توسيع الفضاء الشعري باستدعاء دال
غائب
ضرورة «سحق» الذي يخلق نوعًا من التجانُس المُتوهَّم بين الغائب والحاضر «سحق سحقًا»
حيث
تعمل البِنية على إحداث جلبةٍ صوتية تُشير إلى غياب العالم غيابًا مشروطًا. ثم تتداخَل
أداة
النفي «لم» لتعمل — أيضًا — على تغييب الحب. لكن يلاحظ أن التغييب الثاني هو الفاعل
في
التغييب الأول، على معنى أن الأداة تنفي العالَم لنفي الحب، وتسمح بحضور العالم عند
حضور
الحب، أي إن البنية العميقة تقول: «إن لم تسْرِ رياح الحب فسُحقًا للعالم.» ويلاحظ
أن أداة
النفي قد فقدت جانبًا من مُهمتها الدلالية؛ إذ إن «لم» تعمل على صرْف الزمن إلى المُضي
لزومًا، لكن اقترانها بأداة الشرط «إن» أحدث تصادمًا زمنيًّا؛ لأن الشرط يقتضي
المُستقبلية، وهذا التصادُم يخلق زمنًا جديدًا للنص، هو زمن التجربة المطلقة.»
٤٤
ثمَّ يستطرد الناقد قائلًا: «وعلى هذا النحو تؤدي أداة النفي مُهمتها في السطر الثاني،
مع مغايرة لها خطورتها في إنتاج المعنى، إذ تحلُّ «إذا» محل «إن»؛ فإذا كان هناك
إحساس
مُبهم عند الذات بالخوف من فقْد الحب، فإن السطر الثاني يُجلِّي إحساسًا واضحًا بتفجُّر
الظمأ
والأشواق. وبهذا نكون أمام بناءٍ عميق يجمع بين السطرَين، ويُعلن أن غياب الحب لن
يُلغي
بحالٍ تفجُّر الظمأ والشوق؛ فهو بديل حاضر حضورًا مؤكدًا يُعوِّض احتمال غياب الحُب.»
٤٥
وكما تمتلك هذه الأدوات قُدرة على التأثير فيما يَسبقها وما يَلحقها من مفردات، تمتلك
كذلك قُدرةً على تحديد مجال عملها في أضيق مساحةٍ تعبيرية مُمكنة. يقول سويلم في
«حكايات
وادي عبقر»:
٤٦
صادفني مُرتعش الكفين،
خائر الساقين.
قال: احتمِلْني ياصديقي خطوتَين؛
فإنني أملك أحرفًا بلا عينَين،
وأنت تملك العيون .. والحروف،
والماء .. والشطَّين ..
وهنا يقول الدكتور محمد عبد المطلب: «وطبيعة الاختيار المنوط بالمفردات
قد اتكأت على دالٍّ بالِغ التأثير «العين» بوصفه حاملًا بالقوة لإمكانيات اللغة على
مستوى
التواصُل، وعلى مستوى الخلْق والإبداع، وبوصفه وسيلةَ إدراك العالَم إدراكًا شموليًّا.
ومن
ثَمَّ كان للدالِّ حضور واضح في الديوان حتى بلغ حقلُه ثمانيةً وثمانين دالًّا تجمع
بين
العين وما يتَّصِل بها. وبهذه المكانة الكمية–الكيفية جاء في السطر الرابع خاضعًا
لسطوة
أداة النفي «لا» وبرغم فقدِها لوظيفتها النحوية لدخول حرف الجر عليها، فإنها حافظت
على
أداء مُهمَّتها الدلالية المُحدَّدة لتُعلن عجز اللغة عجزًا مُطلقًا إذا غاب عنها
عنصرها الفاعل
«الوعي والإدراك» الذي يحمِله دالُّ «العين». وتحديد المُهمة هنا هو الذي حاصر فاعلية
الأداة لتُمارِس عملَها في نطاق دالٍّ واحد دون أن تتجاوزه. كما تأكد ذلك بإحاطتها
بتركيبَين
يكادان يتضافران في بناءٍ واحد قائم على المفارقة والتوازي: «إنني – أملك – أحرفًا»
«أنت
– تملك – العيون» وهذا التوازي هو الذي أتاح لأداة النفي أن تُفرز فاعليتها برغم
مساحتها المحدودة.
٤٧
أما التحوُّل الثاني، فيتمثَّل في ابتعاد أدوات النفي عن مواضعتها المرجعية وتلبُّسها
بدلالاتٍ جديدة تدخُل مع الدلالات الأولى لهذه الأدوات فتخلق أدواتٍ ثنائية الوظيفة،
ومن
ذلك استدعاء أداة النفي لمُقابِلتها (الإثبات). يقول أحمد سويلم في «الشوق في مدائن»:
٤٨
يا مولاي الطيب،
ما كنت عصيًّا،
لكنِّي .. علَّمَني عصري أن أدفع عُنقي
من أجل الكلمات.»
ويعلق الناقد على هذه المقطوعة قائلًا: «هنا تتآزر مجموعة عوامل تعمل
على استدعاء بِنية الإثبات بديلًا عن بنية النفي؛ لأن نفي العصيان يقتضي على الفور
حضور
«كنت مُطيعًا». لكن هذا الحضور لا يُحقِّق مجموعة النواتج التي تُقدِّمها بِنية النفي،
ذلك أن
التركيب الجديد ينصرف زمنه إلى الماضي وحدَه دون إشارةٍ إلى تغيُّر الأحوال في الأزمان
التالية، بينما التركيب السالب يجمع زمنَين على صعيدٍ واحد، أحدُهما يتَّصِل بالماضي
المُمتد
بتأثير فعل الكينونة، والآخر يتَّصِل بزمن الحضور الذي تُفرزه «ما». لكن هذا كله
لا يُلغي
حضور بِنية الإثبات في المستوى العميق بوصفه ردَّ فعلٍ مباشرًا لبنية السطح.
٤٩
ويلاحظ تدخل طرف إضافي مؤثر في حضور بِنية الإثبات هو «لكن» في السطر الثالث، حيث
تؤدي
دورَها في إلغاء طبيعة السلب تحولًا إلى الإثبات، كما أنها تعمل — في نفس الوقت —
على
استحضار تركيبٍ موازٍ في البنية التحتية يفرض العصيان من «أجل الكلمات» وهنا يحدُث
نوع من
التصادم التعبيري: «ما كنتُ عصيًّا. كنت عصيًّا»، لكنه يتلاشى بفعل تغايُر الدوافع
والمُسبِّبات، أي اختلاف الجهة التي يأتي منها كل ناتج.
٥٠
وقد تنتقِل هذه التحوُّلات في بنية النفي إلى مناطق دلالية طارئة فتبتعِد نسبيًّا
عن
حقلها الأصيل، ومن ذلك إحلال التمنِّي في منطقة النفي مع ملاحظة أن التمنِّي ينتسِب
إلى
البُعد السالب، وإن كان سلبًا أماميًّا في مقابل سلب النفي الذي يؤثر — غالبًا —
على
نحوٍ تراجُعي. يقول سويلم في «سيف الحب»:
٥١
يا هذا الليلُ المُمتد ..
أمسك بخناق الظُّلمة لحظات؛
إنَّا ما ذُقنا طعم النوم،
وما خطرت في العينَين الأحلام.»
وهنا يقول الدكتور عبد المطلب: «دالُّ «الليل» — في الأسطر— يُمثل نقطة
تفجُّر المعنى؛ فهو ليل خاص بصاحِبه له مواصفات تستمدُّ شرعيتها من تجربته، وأبرزها
«الامتداد اللانهائي»، وبهذه المكانة الدلالية سلَّطت عليه الشاعريةُ قوةً ضاغطةً
على
مستوى الشكل والمضمون «يا» ثم اسم الإشارة «هذا» الذي يستخلِص من مفردات الليل ليلًا
بِعينِه هو ليل التجربة الذي يدفع مجموعة المفردات إلى الانتماء إليه والدوران في
فلكه،
سواء أكانت مفرداتٍ ناقصة الدلالة «يا. هذا» أم مكتملة الدلالة «المُمتد».»
٥٢
ثم يتابع الدكتور عبد المطلب قائلًا: «ويُنمِّي السطر الثاني دالَّ الليل على نحوٍ
آخر،
حيث يُحيل امتداده الأفقي إلى حالةٍ رأسية مُركَّزة، وهذا التحوُّل الدلالي سابق
على
مُسبِّباته التي تشغل السطرَين الثالث والرابع، ذلك أن الليل قد فقد حقيقته الوجودية
بوصفِه
محلًّا مُختارًا لظاهرتَين تربطانه بمدلوله الوضعي: النوم والأحلام، وقد تمَّ تغييبها
تحت
سطوة أداة النفي «ما» التي فرضت على السطرَين الآخرَين معنًى بديلًا هو «التمنِّي»
الذي يُشبع
جانبًا من حرمان الذات من «النوم والأحلام» أي من الليل.»
٥٣
وقد تعمل التحوُّلات على خلق جدليةٍ بين المنطوق والمفهوم، أي تعلق الدلالة بالمباشر
المنطوق من ناحيةٍ وبالمفهوم من ناحيةٍ أخرى، يقول سويلم في «المشنقة»:
٥٤
مشنقتي،
إني حملتُ في يديَّ موتي .. وانطلقتُ.
أعشق وجهك الذي استوى على سارية الجراح،
لم يقبل السقوط مرةً .. في ألم النواح.
ويعلق الناقد على هذه المقطوعة بقوله: «تُوغِل الأسطر في مغامرةٍ مع
المجهول، تتذبذب حركتُها صعودًا وهبوطًا بين الموت بالقوة والحياة بالفعل، ثم تخلُص
من
ذلك إلى حالةٍ أخرى مُوازية تتذبذب حركتها بين فاعلية الذات الداخلية «أعشق»، ومفعولية
الموضوع الخارجية «على سارية الجراح»، حيث تنغلِق بِنية الإثبات في نهاية السطر الثالث،
ويحدث التحوُّل الصياغي في مطلع السطر الرابع بتأثير أداة النفي «لم»، التي تُوجِّه
طاقتها
الدلالية إلى «قبول السقوط» لتَسلُبه إمكانية الحلول في عالَم الذات برغم وجود مُبرِّراتٍ
تسمح
له بذلك، نتيجة لبلوغ الجراح درجةً تؤذن بالسقوط.»
٥٥
ثم يستكمل الناقد قائلًا: «ويتدخَّل دالٌّ إضافي في جُملة النفي «مرة» ليُنشئ العلاقة
الجدلية التي أشرْنا إليها بين المنطوق والمفهوم؛ إذ يعمل المنطوق على تقليص دائرة
النفي
وحصرها في نطاقٍ نصِّي ضيق، على معنى أنَّ دالَّ «مرة» يشدُّ إليه كل الطاقة السالبة
في «ألَم»
دون أن يُجاوِزها. وهنا يأتي دور المفهوم الذي يتحرك حركةً معاكسة فاعلة في توسيع
دائرة
النفي، وتعليقه بالمُدرَك العقلي متجاوزًا الواقع الصياغي؛ لأن نفي «مرة» يستدعي
بالضرورة
نفي «أكثر من مرة».»
٥٦
وهذه الجدلية بين المنطوق والمفهوم تكاد تُلغي فاعلية الدال، أو تضعه في منطقة الصفر
ليتهيَّأ لأداة النفي أن تُمارس عملَها بشكلٍ مُطلق في رفض «قبول السقوط»؛ لأن محاذيره
تتربص
بها في نهاية السطر «في ألَم النواح».
٥٧
وآخر هذه الظواهر الدلالية هي دخول الدلالة من منطقة النفي إلى منطقة المجهول؛ لذلك
يتوقَّف المُتلقي أمام هذه البنية مُتردِّدًا بين ما وقع عليه النفي، وما لم يقع
عليه. يقول
سويلم في «ثرثرة»:
٥٨
«منذ كان الصباح ..
تُطالِبني وهي في المهد طفلتي الباكية،
أن أجيء إليها بدُميتها .. تتحاور،
تُغمض أعيُنها وتُفَتِّحها،
وتُسِرُّ إليها الأحاديث.»
لم نكن يا صديقة نحيا الطفولة،
أم زمن الأمس مُختلف؟!
وهنا يقول الدكتور محمد عبد المطلب: «تتحرَّك الصياغة حركةً مزدوجة، حيث
تتعلق بالماضي وتشدُّه إلى الحاضر، كما تتعلق بالحاضر وتشدُّه إلى الماضي، فتخلق
بهذه
الازدواجية مُعادلًا يوازي تجربتها خارج إطار الزمن، وهي تجربة تجمع بين الذات وموضوعها
في لحظةٍ مُطلقة تختلُّ فيها العلائق التي تربط بينهما. أما المعادل فهو الارتداد
إلى واقعٍ
زمني لاستعادة علاقةٍ من نوع آخر بين الذات والطفلة حيث تجمعهما علاقة التضايُف،
بوصفها
علاقةً مُفرغة من هموم الواقع، تُشكل عالمًا من البراءة والسذاجة والطهر.
ودور بنية النفي خالص للطرف الحاضر من التجربة مع سلبه جوهرية المعادل وشحنِه بكلِّ
تناقُضات اليوم في مقابل الأمس، لكن جاء دور النفي مُعقدًا غاية التعقيد؛ لأنه قد
أدَّى
دورَه بالسلب ليضع التجربة في نطاقٍ ضبابي نتيجة لاستدعائها تساؤلًا بلا إجابة، فعلى
المستوى السطحي يتمُّ نفي معاني الطفولة من علاقة الذات بموضوعها، أما على المستوى
العميق، فقد تمَّ استدعاء التساؤل المَبتور؛ إذ انتفت معاني الطفولة بكلِّ هوامشها
الدلالية
فما هو البديل الذي شكَّل هذه العلاقة؟ إذ بين الطفولة الغائبة والنُّضج الحاضر مراحل
زمنية مُشبعة بكثيرٍ من العلاقات التي سكت عنها الخطاب الشعري مُستهدِفًا وضع المُتلقِّي
في
حالةٍ من التوتر والغموض توازي حالة المُبدع ذاته.»
٥٩
أما التحوُّل الأخير، فهو عمل هذه الأدوات على مُستويي الحضور والغياب. ويُمكن أن
يكون
عمل الأداة على المستوى الثاني أبلغ فاعليةً في سلب الدلالة، بخاصة إذا جاء الغياب
مُعتمدًا على مؤشراتٍ حاضرة. يقول أحمد سويلم في «ثرثرة»:
٦٠
نهرك كان الجفاف،
وكنَّا نخاف ..
على فلذات القلوب الضِّعاف ..
وما كان دمعك يفتح باب المطر،
وما كانت الصلوات .. تُجاب،
وما كان نهرُك يمنح وجه الصبايا ابتسامًا،
«ويرسم للغد بيتًا سعيدًا .. وحلمًا ..
وطفلًا!»
وهنا يعلق الدكتور عبد المطلب بقوله: «وكثافة بِنية النفي في الأسطر
كانت مؤشرًا على استغراقها للموقف الشعري في مُجمله، وهو ما افتقدناه في السطر الأخير،
حيث غابت أداة النفي على المستوى السطحي، لكنها كانت حاضرةً على المستوي العميق،
أي أن
الصياغة تئول إلى: «وما كان يرسم …» لكن غياب الأداة حقَّق ناتجَين على صعيدٍ واحد:
أحدهما
يتساوى مع الأسطر السابقة في مجموعة المفردات التي تُحقِّق للذات واقعًا مريحًا:
البيت
السعيد – الحلم – الطفل. والآخر يتصادم معها؛ لأنه يُحدِّد إيجابًا نفس المفردات
السابقة،
ويطرحها بوصفها واقعًا إيجابيًّا يخرج من دائرة التمنِّي إلى دائرة الحلول التنفيذي.»
٦١
ويربط الدكتور محمد عبد المطلب بين أداة النفي في عدم حضورها حضورًا تامًّا وبين
بِنية
التمنِّي التي تَعني بحضورها غياب ما يُقابلها، فيقول: «وليس من الضروري — في هذا
المحور من
محاور التحوُّل — أن يكون هناك حضور — من نوع ما — لأداة النفي، لكن العلاقات النَّظمية
تعمل على تحويل التركيب من حالة الإيجاب إلى حالة السلب، أي أن حضور الأداة يأتي
مُضمرًا
ليؤدِّي نفس الدور المزدوج السابق.» ثم يستشهد بقول سويلم في «عناق في الغربة»:
٦٢
وددتُ لو أنِّي استرحت ساعة،
وأوثقت جواد الشِّعر في شجرة.
ثم يُعلق قائلًا: «يأتي السطر الأول في بناءٍ إيجابي على المستوى السطحي،
لكنه يتحرك حركةً مُخالفة على المستوى العميق، يتم فيها جذب أداة النفي المناسبة
من
الفضاء الشعري ليكون الناتج الصياغي: إني لم استرح ساعة، ولا يمكن بحالٍ إغفال هذا
التقدير في إدراك المعنى في السطر؛ لأن بِنية التمنِّي لا تحلُّ في تركيبٍ إلا إذا
كان هناك
غياب تقديري لمُقابِلِه.»
٦٣
وأيضًا يربط الدكتور عبد المطلب بين أداة النفي وبِنية الاستفهام فيقول: «وبنية
الاستفهام من البُنى الرئيسية التي تطرح هذا الناتج بكثافةٍ تردُّدية واضحة في الديوان،
حيث
جاءت البنية مُفرَّغةً من معناها المُعجمي ومشحونة بمعنى النفي الطارئ خمس عشرة مرة،
ممَّا
يعني أن هذه كانت مُهمتها الشعرية في الخطاب.» ثم يسوق قول سويلم في «وجهًا لوجه»:
٦٤
مَن له نحتكِم؟
والنهار خُطًى تزدحم ..
والظلام يشدُّ علينا الوساوس،
يحمل أعتى الوصايا .. بأن ينتقِم ..
من تُرانا له نحتكِم.
ويُعلق الدكتور عبد المطلب بقوله: «الدفقة الشعرية هنا مُحكمة الإغلاق
بين تساؤلين يضعان الذات في منطقةٍ غائمة، حيث تُحاول إدراك مفردات عالَمها الكئيب،
فتهرُب
منه فيه، ولا يمكن تحقُّق فاعلية الهروب إلا بسُلطة عُلوية قادرة على إزاحة التشكيل
المُدرك
بكل نواتِجه التدميرية.
والموقف الغائم هو الذي فرض على الصياغة أن تبدأ حركتها من دائرة التساؤل لتنتهي
إلى
ما بدأت به، لكن التحوُّل الداخلي قد أزاح المعنى الأول، وأتاح للمعنى الثاني «النفي»
أن
يشغل هذه المساحة التعبيرية ليُبعِد أي احتمالٍ لوجود هذه السلطة، ومن ثم يكون تغيير
الواقع — أو مجرد تعديله — أمرًا غيرَ واردٍ في البدء والختام.»
٦٥ وقد يكون ثمة علاقة بين أداة النفي والفعل الذي يحمل دلالة السلب. وهنا
يقول الدكتور عبد المطلب: «وقد يتمُّ إنتاج دلالة النفي بالتعامُل مع صِيغة الفعل
إذا جاء
مشحونًا بطاقةٍ سالبة مُناسبة، وقد يكون تأثيره في الخطاب أشدَّ فعالية، لا من حيث
الناتج
فحسب، ولكن من حيث المساحة التعبيرية التي يفرض سطوته عليها.» ويسوق لذلك قول أحمد
سويلم
في «المشنقة»:
٦٦
مشنقتي ..
إني أبَيْتُ أن أعيش كالهوام؛
(آكلُ وأنام،
أُمارس الطقوس ما بين التصاقِ الجسدَين،
أو أرتوي كشهريار مِن فراغ القصِّ،
واختلاف الليل والنهار .. والمابين ..
أو أنظر العالم مِن ثُقْبٍ صغيرٍ بين أصبعين …)
وعلى هذا المقطع يُعلِّق الدكتور عبد المطلب بقوله: «وحركة المعنى في
الأسطر على المستوى الكُلِّي — أو الجزئي — تتلاحَق داخل دائرة السَّلب المُتفجرة
من الفعل
«أبَيْتُ»، على معنى أنَّ دلالة السلب لا تنتشِر من الفعل إلى مجموعة الأسطر، وإنما
كانت
الأسطر تتلاحَق لتدخُل هي في دائرته، وهذه الحركة الصياغية العجيبة صنعتها أداة العطف
«أو» التي تعمل على شدِّ ما بعدَها إلى ما قبلها على مستوى الدلالة، وعلى مستوى
الوظيفة.»
٦٧
وفي نهاية دراسته لتحوُّلات بِنية النفي في ديوان أحمد سويلم، يُبرز الدكتور عبد
المطلب
نجاح الشاعر في توظيف هذه البنية توظيفًا نموذجيًّا بقوله: «إن هذه المُتابعة لتحوُّلات
بِنية النفي في ديوان «الشوق في مدائن العشق» ليست دراسة في الديوان بقدْر ما كان
الديوان
منطقةَ اختبارٍ صالحة لها، وجاءت الصلاحية من كون البِنية كانت أداةً شعرية أساسية
وظَّفها
أحمد سويلم توظيفًا نموذجيًّا، وحقَّق بها أمرَين معًا؛ الأول: الربط بين الجانب
المحسوس
من صياغته، والجانب الداخلي لحركته الذهنية. الأخير: أنه شكَّل من خلالها صياغةً
شعرية
تنتمي إليه وتنمُّ عنه بتعامُله مع أدوات النفي في حدودها المُعجمية الضيِّقة وصولًا
إلى
دَورها السياقي، ومرورًا بتحوُّلاتها الداخلية والخارجية، ووقوفًا عند البدائل التي
تؤدي
وظيفتها أداءً مُبهرًا.»
٦٨
•••
وبعد تقديم هذا النموذج التطبيقي، أسوق ما تميَّز به من سِماتٍ في النقاط الآتية:
- أولًا: أن الدكتور محمد عبد المطلب ربط في هذه الدراسة — وهذا هو منهجه في
دراسته الأسلوبية كلها — بين منهجها الأسلوبي وبين عناصر الإبداع
الثلاثة: النص، والمبدع، والمتلقي؛ فمن ناحية النص ينطلِق الدكتور عبد
المطلب من النص ذاته بوصفه كيانًا لُغويًّا قائمًا بذاته له خصوصية، وفي
الوقت نفسه يرى الدكتور عبد المطلب أن النص علامة بارزة ترتبط بمُبدعٍ
بعينِه، كما يُعطي القارئ مكانةً عالية في قراءة النص والتعرُّف على دلالاته
المتنوعة بتتبُّع خيوطه اللغوية.
وهنا يُطرَح تساؤل: تحت أي نوعٍ من الأسلوبية نستطيع إذن أن نُصنف هذا
النموذج المقروء؟ وقبل الإجابة عن هذا التساؤل، أُناقش — أولًا — أمرًا
مُهمًّا: هو أنَّ الاختلاف الظاهر بين المدارس الأسلوبية المتنوعة
يُعزى في حقيقته إلى الجوانب التنظيرية، ثم إلى الجذور الفلسفية التي
أثَّرَت في نشأة هذه المدارس، وكذلك تبايُنها في نظرتها إلى اللغة وارتباط
ذلك كله باعتماد كلٍّ منها على المنهج العقلي العلمي، أو المنهج المثالي.
٦٩
لكن ينبغي أن يُدرَك أنَّ هذا الاختلاف سرعان ما يزول في الجوانب
التطبيقية. فمثلًا، هل تستطيع أسلوبية «بالي» الوصفية — رغم قِيامها على
الكشف عن الطابع الجماعي في جانب الإبداع — أن تُهمِل علاقة النص الشعري
بمُبدِعه الذي أنتجه؟ بالطبع لا، وإلا جاءت المباشرة الأسلوبية مُبتسرة.
ومعنى هذا أن الاختلاف الموجود بين هذه المدارس يتعلق بمستوى السطح
فحسب. أما على مستوى العُمق، فإن هذه المدارس لا بد — قَبِلَتْ هذا أم
رفضَتْه — أن تربط بين النصِّ من ناحيةٍ ومُبدِعه ومُتلقيه من ناحيةٍ أخرى.
٧٠
وحتى لو سلَّمنا جدلًا أن ثمَّة اختلافًا بين هذه المدارس في جانب
التطبيق، فيجب أن نضع في الحسبان طبيعة المادة المقروءة، وبخاصة أن هذه
المدارس غربية المنشأ. ومن المُسَلَّم به أن الشعر العربي له لُغته
الخاصة التي تختلف عن لُغة الشعر الغربي، مما يفرض على الناقد أن يُطوِّع
هذه المناهج لمباشرة النص والتعرُّف على جمالياته، ولا يتسنَّى له ذلك إلا
بالاعتماد على عناصر الإبداع الثلاثة.
وبعد ذلك يمكن القول إنَّ الدكتور محمد عبد المُطلب عندما يعتمد في
دراساته الأسلوبية على تلك العناصر الثلاثة، فإنه يضع بذلك منهجًا
يناسِب طبيعة الشعر العربي الحديث، وبخاصة في مرحلة الحداثة وما بعدها،
وهو ما يُضفي على هذه الدراسة وغيرها من مثيلاتها قدرًا كبيرًا من
الحيوية يُرافقه قدْر أكبر من المصداقية النقدية.
- ثانيًا: اعتمد الدكتور عبد المطلب على المنهج الإحصائي، لكنه لم يعتمِد عليه
في طبيعته الكمِّية، وإنما استطاع أن يُوظفه في الجانب الكيفي بوصفه
منهجًا مساعدًا في الكشف عن الدلالة، بل ربما أصبح عنصرًا فاعلًا في
إنتاجها.
- ثالثًا: لم يدخل الدكتور عبد المطلب إلى النص بطابعٍ شمولي، بل اكتفى برصد أحد
العناصر اللغوية «أدوات النفي» وتتبَّعَها داخل نسيج الديوان مُفسرًا
تحوُّلاتها المختلفة طبقًا لسياقاتها المُتعدِّدة. أي أن الناقد اعتمد على
ما يمكن أن نُسمِّيَه «ومضة» مُعينة لها صِفة الشيوع داخل الديوان. وهذا
الإجراء الأسلوبي له وجاهته؛ فكلَّما انحصر مجال الدراسة في منطقةٍ مُعينة،
ازداد تحكُّم الناقد من مادته في تتبُّع هذه المنطقة من ناحية، واتَّسمت
دراسته بالتركيز من ناحيةٍ ثانية، ووصل إلى نتائج مرجوة من ناحية
ثالثة.
- رابعًا: استطاع الدكتور محمد عبد المطلب من خلال كشفه عن تحوُّلات بِنية النفي
أن يربط بين الداخل «الحركة الذهنية للمُبدع» والصياغة الخارجية
المُتمثِّلة في النص ذاته. ومعنى هذا أنَّ ثمة نوعًا من العلاقة بين
النص وبين وعي المُبدع وقصده.
- خامسًا: أعطى الناقد — في هذه الدراسة — المبدع حقَّه في التصرُّف في بدائله
اللغوية وخروجه بها من دائرتها المُعجمية إلى دوائر دلالية أخرى، وذلك
بدخولها في علاقاتٍ تركيبية مع المفردات المجاورة لها، ومن ثَمَّ
تأثيرها وتأثُّرها في هذه المفردات وبها. وقد اتضح ذلك جليًّا عندما
تعامَلَت أدوات النفي — انتقائيًّا — مع المفردات التي سبقتْها والتي
تلتْها، بل والتي كانت تحصرها بين أيديها.
- سادسًا: لم يدخل الدكتور محمد عبد المطلب إلى دراسته بفروضٍ مُسبقة، بل جعل
للنص الكلمة العُليا فيما وصل إليه من نتائج. ولم يقحم النص بعوامِل
خارجية تأبى طبيعتُه طبيعة تلك العوامل، وإنما جعل جُلَّ اهتمامه
الانطلاق من النص وليس إليه.
- سابعًا: دائمًا ما يُعَضِّد الدكتور محمد عبد المطلب دراساته المتنوعة
بالتراث النقدي عند العرب مِثلما فعل في بداية هذه الدراسة.٧١ وهو في هذا الإطار يُعَدُّ من النقاد الروَّاد الذين يجمعون
في دراساتهم بين التراث والمعاصرة.
٣
أما النموذج الثالث الذي أقترحه للقراءة فهو الدراسة التي قدَّمها الدكتور محمد حماسة
عبد اللطيف في قراءته لقصيدة «صلاة» للشاعر أمل دنقل.
٧٢ وبعد مقدمةٍ طويلة في الجانب التنظيري أبان فيها عن منهجه في التحليل النصِّي للقصيدة.
٧٣ يُجمِل الناقد إجراءاته المنهجية في التعامُل مع النص الشعري بقوله: «حاولتُ
في الصفحات السابقة أن أُبيِّن مفهوم التحليل النصي للقصيدة وأوضح المسوغات الداعية
إليه في التناول العربي، وأرشح المُرتكزات التي يستنِد إليها، وقد أجملتُ معالِم
التحليل
النصِّي للقصيدة في النقاط الآتية:
- أولًا: التعامل مع القصيدة على أنها نصٌّ واحد، وبِنية فنية لُغوية
مُتكاملة لا يُغني جزء منها عن جزءٍ آخر؛ لأن كل جزء يتفاعَل مع الآخر
أخذًا وعطاءً في تشكيل دلالته.
- ثانيًا: النص الواحد تحكُمه علاقات لغوية ودلالية تعمل على تماسُكه،
وترابُط أجزائه. وهذه العلاقات تُكوِّن شبكة نصِّية تُعين على تفسير النص،
وهي ما تُسمى «الاتساق».
- ثالثًا: الاعتماد على القصيدة وحدَها في استخراج المُعطيات التي تُعين
على تفسير النصِّ دون الاستعانة بمساعداتٍ من خارجه، أيًّا ما كانت، على
اعتبار أن كل نصٍّ يحمل في تضاعيفه مفاتيح حلِّ ما يُراد حلُّه فيه.
- رابعًا: تحليل كل قصيدةٍ على حِدة، وتفسيرها وحدَها في ضوء مُعطياتها
التعبيرية الخاصة بها.
- خامسًا: الاهتمام بكل عنصرٍ من عناصر مُكونات القصيدة، وبكل ظاهرةٍ فيها
مهما بدَت صغيرة، سواء أكانت هذه المُكوِّنات على المستوى الصوتي أم على
المستوى الصرفي أم المستوى المُعجمي أم المستوى التركيبي؛ لنرى كيف تعمل
هذه المكونات وتلك الظواهر على تكوين النص، وبناء رؤيته الخاصة،
انطلاقًا من أنَّ كلَّ مُكوِّن لا بد أن يكون له رصيد من الدلالة حيث تُشكل
كل دلالةٍ جزئيةٍ لبنةً من الدلالة الكلية للنص. وأرجو ألَّا أكون مُبالغًا
إذا قلت: إنَّ كلَّ قصيدةٍ تكاد تكون لها خصائصها التركيبية الخاصة، وهي
«مُتغيرات» تتجلَّى على «ثوابت» من النظام النحوي.
- سادسًا: عدم تعميم النتائج التي ينتهي إليها تحليل القصيدة المُعينة،
على شعر الشاعر نفسه فضلًا عن شعر شعراء عصره أو جِنس الشعر عامة؛ لأنَّ
كل ظاهرة ترتبط بسياقها، وإذا اختلف السياق اختلفت دلالة الظاهرة. ومن
هنا يكون تَجدُّد الفن وعدم تأطيره أو قولبته، ويكون تجدُّد التحليل النصِّي
نفسه داخل الإطار العام.»٧٤ ثمَّ يسوق الناقد النصَّ كاملًا على هذا النحو:٧٥
(١) أبانا الذي في المباحث. نحن رعاياك. باقٍ
لك الجبروت. وباقٍ لنا الملكوت. وباقٍ لمَن
تحرس الرَّهبوت.
(٢) تفردتَ وحدَك باليُسر. إنَّ اليمين لفي الخُسْر.
أما اليسارُ لفي العُسر. إلَّا الذين يُماشون.
إلَّا الذين يعيشون يَحشُون بالصحف المُشتراة
العيون .. فيعيشون. إلا الذين يشون. وإلَّا
الذين يُوَشُّون ياقات قمصانهم برباط السكوت!
(٣) تعاليتَ. ماذا يُهمُّكَ مِمن يذُمُّك؟ اليوم يومُك
يرقى السجين إلى سُدَّة العرشِ ..
والعرشُ يُصبح سجنًا جديدًا وأنت مكانك. قد
يتبدلُ رسمُك واسمُك لكنَّ جوهرك الفرد
لا يتحوَّل. الصمتُ وشمُك. والصمتُ وسمُك.
والصمت — حيث التفتَّ — يرين ويسمك. والصمت
بين خيوط يدَيك المُشبَّكتَين المُصمَّغتَين يلفُّ
الفراشة .. والعنكبوت.
(٤) أبانا الذي في المباحث. كيف تموت.
وأُغنية الثورة الأبديَّة
ليست تموت؟!
ويُعلق الدكتور محمد حماسة على اتحاد قوافي الأبيات الأربعة بقوله: «وقد
توحَّدت قوافي الأبيات الأربعة «الرهبوت – السكوت – العنكبوت – تموت» وهي قافية مُقيدة
بتاءٍ ساكنة مسبوقة بحركة الردف الطويلة «واو المد» وقد تدرَّجت كلمات القافية دلاليًّا،
فالرهبة تؤدي إلى السكوت وانعدام الحركة، فينسج العنكبوت خيوطَه التي تُعَدُّ شبكةً
لاصطياد الفريسة فتُفضي إلى الموت. وهذا المعنى مُستفاد من الوقف على كلِّ كلمةٍ
من هذه
الكلمات في نهاية كل بيت، وإلا فما معنى اختيار هذه الكلمات للوقف عليها مع أنَّ
هناك
كلماتٍ أخرى تتفق معها «الجبروت – الملكوت»؟ وما معنى اختيار جملة «وباقٍ لمن تحرس
الرهبوت» في آخر البيت الأول؟»
٧٦
ويُوظف الناقد الجانب الصوتي للقافية توظيفًا دلاليًّا بقوله: «إنَّ القافية تُمثل
جانبًا صوتيًّا في القصيدة، وهي أبرز عنصرٍ صوتي فيها. وفي «شعر البيت» يكون دورها
ظاهرًا غير خافٍ. أما في «الشعر الحر» أو «شعر التفعيلة» فإن دور القافية قد تغيَّر،
فإذا اتَّحدت القافية — مع أنَّ شعر التفعيلة قد تحرَّر من ذلك — كان لاتحادها دلالة
خاصَّة. وقد اتَّحدت القافية في هذه القصيدة برغم تباعُد ما بينهما، وبرغم استطالة
البيتَين الثالث والرابع، ومع تباعُد ما بينهما كانت القافية تأتي لتُكمِل دورةً
واسعة في
البيتَين الثالث والرابع، فأشعَرَ اتحاد القافية أننا في الدائرة نفسها، وأنها دائرة
مُغلقة لا فكاك منها إلَّا بموت من توجَّهت له القصيدة بالنداء، وقد أكَّدت القصيدة
أنَّ
الموت له وحدَه؛ لأنَّ «أغنية الثورة الأبديَّة ليست تموت».
٧٧
وقد ألحَّت القصيدة على هذه القافية، وهيَّأت ذِهن قارِئها في البيت الأول لتلقِّيها
وتقبُّلها، بل توقُّع نظيراتها «الجبروت - الملكوت» ولتجعله أيضًا يشعُر أن إيقاع
هذه
الكلمات بهذه الصيغة هو اللَّحن الأساسي، وهي كلمات — في الوقت نفسه — تُناسِب «الصلاة»
لهذا «الإله» الجديد، وقد جاءت جميعها على وزن «الكهنوت».»
٧٨
وأيضًا وظَّف الناقد التقفيةَ الداخلية للأبيات توظيفًا دلاليًّا. وإذا أخذنا البيت
الثاني دليلًا على الطرح، نجده يقول: «وقد اشتمل البيت الثاني في داخله على تقفيتَين
داخليتَين؛ أولاهما: السين الساكنة مع الراء المكسورة «اليُسرِ – الخُسْرِ - العُسْرِ»
وهي تُذكِّر بسُورتَي الشرح والعصر معًا على هذا المستوى «إنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا»
و«إنَّ
الإنسان لفي خُسْر». وهذا ما يُناسِب جوَّ الصلاة أيضًا. والأخرى هي الشين مضمومةً
بضمة
طويلة، فالنون مفتوحة «شون» وقد تكرَّرت ستَّ مراتٍ «يماشون – يعيشون – يحشون – فيعيشون
–
يشون - يوشون» فأوحت بجوِّ الوشاية الخائفة، والوشوشة المذعورة التي انتهت بربط السكون،
وساعدت صيغة المُضارع المسند إلى واو الجماعة في هذه الأفعال الستة على تحقيق الإحساس
بالتقارُب الصوتي.»
٧٩
ثم يشرع الدكتور محمد حماسة في إيضاح الدلالة من خلال المستوى التركيبي في منطقة
الضمائر وتسلُّطها على القصيدة فيقول: «على المستوى التركيبي نجِد أنَّ ضمير المُخاطَب
يستولي على القصيدة من أولها إلى آخرها، فقد نودي في أولها «أبانا …» وحذْف حرف النداء
دلالة على قُرب المُنادى مع تعاليه وتألُّهه، فالقارئ أو المُتلقي لهذه القصيدة لا
يستطيع أن
يَطرُد عن ذهنه الجملة الأصلية التي حاورتها هذه الافتتاحية وهي «أبانا الذي في السماوات»
التي نسختها هذه الجملة بالمباحث، فوضعت المباحث مكان «السماوات» فكأن المباحث هي
سماوات هذا الأب المؤلَّه المُنادَى، وأصبحت «أبانا الذي في …» تأليهًا لهذا المُتعالي
المُحتمي بالمباحث الذي يعلم خبايا كلٍّ منَّا ويُحيط به ويُشرف عليه من مباحثه؛
سماواته؛
ولذلك حُقَّتْ له الصلوات.»
٨٠
ويستخدم الدكتور حماسة المنهج الإحصائي في رصد ضمير الجمع للمُتكلِّمين في مقابل
ضمير
المخاطب، فيقول: «وعلى حين يتردَّد «ضمير المخاطب» سبع عشرة مرة، ويُنادَى مرَّتَين؛
يأتي في
المقابل ضمير جمع المُتكلِّمين أربع مرات، منها مرتان مُضاف إليه الأب فيهما، فالجميع
في
مِلكيته وتحت سيطرته، ويؤكد هذا «نحن رعاياك»، ويُعلن عن هذا الخضوع التهكمي من أول
القصيدة في جملة النداء الأولي وفي الجملة التالية لها. ولكن المرة الرابعة التي
يأتي
فيها ضمير جمع المُتكلمين مع أنها ترد محوطة بالجبروت والرهبوت مُتوسطة بينهما وهي
«وباقٍ
لنا الملكوت» تأتي لتؤكد من اللحظة الأولى أيضًا فاعلية هذا الجانب المُستضعف، وبقاء
الملكية له برغم القهر والرهبة المسيطرة؛ لأن أصحاب هذا الضمير «لنا» هم الذين يُنشدون
أغنية الثورة الأبدية التي ليست تموت، على حين تتوجَّه القصيدة في آخرها إلى هذا
القاهر
المُتجبر المُستعلي بهذا السؤال «كيف تموت»؟»
٨١
ثم يُجمل الناقد تعليقه على منطقة الضمائر بقوله: «فالضمائر المُستخدَمة في القصيدة
تُمثل قوتَين: إحداهما مُتسلطة مُستعلية قاهرة مستولية، يبحث عن كيفية موتها، والأخرى
خفية
كامنة لا يظهر منها غير الخضوع الظاهري والعبادة المُعلنة التي تُخفي ثورة «أبدية»
ليست
تموت مهما بطشت بها القوة الأولى وتجبَّرت. وهذه القوة الكامنة قد تعلن أحيانًا ذمَّها
لهذا
المعبود القوي «ماذا يهمُّك ممن يَذمُّك؟» وبرغم ظهور القوة الأولى فهي ضعيفة أوهى
من
خيوط العنكبوت الذي يُمثلها، وسوف تقضي هذه القوة على نفسها، وإلا فإن القوة الخفية
الكامنة ليست تموت، وباقٍ لها الملكوت.»
٨٢
وعن تركيب الجُمل داخل القصيدة يقول الناقد: «اشتمل البيت الأول على خمس جُمل، الأولى
منها ندائية قُصِد بها استعطاف هذا الأب والتوجُّه إليه بالصلاة، وهي مُغلَّفة بسخرية
كامنة جاءت من وضع كلمة «المباحث» بدلًا من «السماوات» في الجملة الدينية المأثورة
في
المسيحية، ولعلَّ في هذا أيضًا إشارة إلى خروجه عن الملَّة أصلًا، وأربع جُمَل اسمية
تقريرية
مُثبتة جاءت الأولى منها «نحن رعاياك» لتدعم الصلاة الظاهرة المُعلنة، وتؤكد السخرية
الكامنة في الجملة الأولى. وأمَّا الجُمَل الثلاث الباقية، فقد اتَّحد فيها الخبر
المُتقدِّم
«باقٍ …» وتوزع من له البقاء «لك» و«لنا» و«لمن تحرس»، واختلف المبتدأ المتأخِّر.
فللمُخاطَب الجبروت، وللمُتكلِّمين الملكوت، وللغائب المُتخفي المحروس الرهبوت. وبرغم
اتفاق
الصيغة بين المملوكات الباقية الثلاث بما قد يوحي بعدالة التوزيع فاجأتنا الجُملة
الوسطى
«وباقٍ لنا الملكوت»؛ إذ كان المُتوقَّع أن يكون الملكوت للأب الذي في المباحث أو
لمن
يحرسه هذا الأب ويَخصُّه بالرعاية، فكسرت هذه الجملة الرتابة، وأخلفت التوقُّع مرةً
أخرى،
فإذا كان لهذا الأب ولمن يحرُسه التجبُّر والرهبة فإن الملكوت مع كل هذا وبرغم كل
هذا
«لنا» نحن غير المُتأهِّلين وغير المحروسين.»
٨٣
ثم يتابع قائلًا: «إنَّ «مَنْ» اسم موصول مُشترك يصلُح أن يكون للمُفرد والجمع، ويتَّضِح
ذلك من خلال الجُملة، وقد حُذف الضمير من جملة الصلة «تحرس» فاحتمل بذلك أن يكون
فردًا
واحدًا أو أكثر من فردٍ واحد، وأن يكون واحدًا مُتكررًا يستحقُّ الحراسة في هذا الموقع،
فهو
محروس لمَوقعه. ولا تُعنى القصيدة بعدد هؤلاء، وهم على كل حالٍ محروسون بقوَّة هذا
الأب
«الإلهي» الذي في المباحث والذي يُشدِّد عليهم قبضة الحراسة، ويَنسج حولهم خيوط الصمت
الرهيبة العنكبوتية التي ستقضي عليهم كذلك في النهاية. ومن هنا تؤدي الحراسة إلى
الوقوع
في المخوف الذي من أجلِه شُدِّدت هذه الحراسة.
٨٤
وتقديم الخبر في هذه الجُمَل التقريرية الثلاث «باقٍ لك الجبروت، وباقٍ لنا الملكوت،
وباقٍ لمن تحرس الرهبوت» يتضمَّن إقرارًا تعبُّديًّا ساخرًا؛ لأن الجملة الاستفهامية
الأخيرة في القصيدة «أبانا الذي في المباحث كيف تموت وأغنية الثورة الأبدية ليست
تموت؟»
تقضي على كل هذه «الصلاة» الخاضعة بضربةٍ واحدة خاطفة سريعة، فهذا «الأب» ممن يجوز
عليه
الموت، فهو إذن زائف، وليس إلهًا حقيقيًّا، وما الصلاة له إلا ضربٌ من المصالحة الظاهرة
التي تسبق الثورة الأبدية التي ليست موتًا، والذي لا يموت هو الذي ينتصِر في النهاية
على
من يموت. وساعد على ذلك خلو البيت بجُمَله الخمس من الأفعال الأساسية إلا من الفعل
«تحرس»
الذي جاء صلة الموصول «مَنْ»؛ ولذلك أوحت الجُمَل بأنَّ كلَّ شيءٍ ثابت مُستقر في
هذه المرحلة.»
٨٥
ويدخل الناقد إلى تحليل العلاقات الأفقية والرأسية، فيقول عن العلاقات الأفقية: «على
مستوى العلاقات الأفقية يَلفتنا أن الجُمَل في القصيدة قد لجأت إلى التركيب البسيط
(المبتدأ + الخبر المفرد) في أربع جُمَل و(الخبر المفرد + المبتدأ) في ثلاث، و(الجملة
الفعلية المضارعة المثبتة) في أربع، و(المبتدأ + الخبر الجملة الفعلية المضارعة
المنفية) في واحدة. وأمَّا الجُمَل الفعلية، وهي خمس أصلية، فقد جاءت أفعالها كلها
أفعالًا قاصرة، أي لازمة.
هذه هي الجُمَل الأساسية، وهناك جُمَل فرعية منها ستُّ جُمَل فعلية مُكمِّلة للموصول،
ومنها
ثلاث فعلية معطوفة ومنها اثنتان حاليتان إحداهما فعلية والأخرى اسمية أُخْبِر عن
المبتدأ فيها بجملة اسمية منفية خبرُها جملة فعلية مضارعة.»
٨٦
ثم يتابع الناقد قائلًا: «ما الذي يُوحي به قِصَر الجُمَل الاسمية والفعلية
الأساسية في هذه القصيدة بالذات؟ إنَّ القصيدة بعنوان «صلاة» وهي صادرة من رعايا
للأب
الجديد الذي حلَّ بالمباحث بدلًا من السماوات. والجُمَل القصيرة غير المُعقَّدة هي
الأشبه
بالصلوات، والأكثر مناسبةً لها لكي تتلاحَق في وقعِها، وتتتابَع في قراءتها من هؤلاء
الرعايا الكثيرين الذين يُردِّدونها في «صلاتهم». وتأتي الأفعال في الجُمَل الفعلية
الأساسية
— وخاصة ما أُسنِد منها إلى «الأب» المُتوجَّهِ إليه بالصلاة والنداء — أفعالًا قاصرة،
فتكشف عن أنَّ هذا الأب عاجز قاصر لا يستطيع عملَ شيءٍ ولا يصدُر عنه فِعل يتعدى
ذاته
«تفرَّدتَ – تعاليتَ – يتبدل رسمُك – كيف تموت» وكذلك الأفعال التي جاءت في الجمل
الفرعية
مُسندةً إليه «جوهرك الفرد لا يتحوَّل». وعلى حين جاءت أفعاله هو قاصرة، وقَعَ هو
مفعولًا به
لفعلَين يوقِعان عليه الهمَّ والذم، وهما مما لا يليق بإلهٍ معبود «ماذا يهمُّك ممَّن
يذمُّك؟»
والفعل الوحيد الذي وصل منه إلى غيره لم يجئ عن طريقه بحيث يكون هو فاعله، بل جاء
من
الصمت الذي بين يدَيه المُشبَّكتَين المُصمغتَين، وهو الفعل «يلفُّ الفراشة والعنكبوت»
فهو إذن
معبود لا يقدر إلَّا على الشر والإهلاك، ولا يمكن أن يصدُر عنه خير أو شيء نافع
مُفيد.
ولم تطُل في هذه الجمل إلَّا الجملة التي استُثني فيها «إلَّا الذين يُماشون … إلخ».
غير أنَّ سقوط الأدوات بينها،
وتقفيتها الداخلية بمقطعَين صوتِيَّين مُتماثِلَين «شون» أعطيا إحساسًا بالقصر والتلاحُق.»
٨٧
وفي إطار العلاقات الأفقية، تناول الدكتور حماسة عنصرًا مُهمًّا من عناصر التحليل
الأسلوبي وهو كسر قوانين الاختيار. وفي هذا المجال يقول: «وقد كُسِرت قوانين الاختيار
مباشرةً في أكثر من مَوضعٍ وأكثر من علاقة، فجاء في علاقة الإسناد «إنَّ اليمين لفي
الخُسر»
وهذا كَسْر لما هو مألوف دينيًّا عن أصحاب اليمين فدلَّ على أن أصحاب اليمين في شرع
هذا
المعبود مُختلفون عن غيرهم، فهم خاسرون؛ لأن معبودهم نفسه باطل مآلُه البوار والهلاك.
وجاء التضادُّ في طرفي الإسناد بين «اليسار» و«في العُسر» فأحدث مفاجأة، وجاءت المصادمة
الواضحة في الإخبار عن «الصمت» بعدَّة أخبارٍ تتابعت وتدرَّجت، فهو «وشم» وهو «وسم»
وهو
«يَرين ويسمُك» وهو بين يدَيه «يلفُّ الفراشة والعنكبوت». إنَّ هذه المُصادمة في
قوانين
الاختيار قد كوَّنت صورًا استعارية مقبولة في القصيدة من خلال سياقها الخاص، وهي
نفسها
جعلت العرش يُصبح سجنًا جديدًا، وجعلت أغنية الثورة ليست تموت.»
٨٨
ثم يستكمل قائلًا: «وقد نجد كذلك في علاقاتٍ أخرى غير علاقة الإسناد ضروبًا من هذه
المُصادمة في قوانين الاختيار المألوفة كتلك التي في علاقة الإضافة في «خيوط يدَيك»
ثمَّ
«بين خيوط يدَيك» و«رباط السكوت» وكتلك التي نجدها في تعلُّق الجار والمجرور بالفعل
مثل
«يُوَشُّون ياقات قمصانهم برباط السكوت»، وأثر هذا التعلُّق على وقوع الفعل على المفعول
به
ومثل «يحشون بالصحف المُشتراة» وأثر تعلُّق الجار والمجرور «بالصُّحف» بفِعله ووقوع
هذا الفعل
على مفعوله، وتعلُّق الجار والمجرور في جملة «يرقى السجين إلى سدَّة العرش».»
٨٩
ولم يَفُت الدكتور محمد حماسة أن يتناول بنية الحذف بوصفها إحدى البُنى التي تؤدِّي
دورًا
فعَّالًا في إنتاج الدلالة، فيقول: «وإذا كانت بعض العناصر النحوية تؤثر بوجودها،
فهناك
بعضها المحذوف الذي يؤدي حذفه إلى تأثيرٍ آخر كالذي رأيناه في حذف الضمير العائد
في «لمن
تحرس»، ومثل أيضًا في «إلَّا الذين يُماشون» حيث حذف المفعول به فأفسح مجال المُماشاة،
وجعلها تشمل كل من يكون في «المباحث» ومن يتفرد باليُسر مهما يتبدَّل رسمُه واسمُه،
بل
جعلها صفةً خاصة بهم كأنها أصبحت لهم طبيعةً وسجيَّة. وكذلك حذف ما يتعلق بالفعل
«يشون» فلم
نتبيَّن — على وجه التحديد — بمن يَشون ولِمن، وحذْف هذا المُتعلق يجعل الوشاية سجيَّة
وغاية في ذاتها لهم بسبب ما دُرِّبوا عليه من الخوف والإذعان.»
٩٠
ثم يتطرَّق الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف إلى تحليل العلاقات الرأسية داخل القصيدة،
فيقول: «ومن حيث مستوى العلاقات الرأسية، فإنَّ القصيدة — كما رأينا من قبل — مكوَّنة
من
أربعة أبيات فحسب، كل بيتٍ منها مُكون من عددٍ من الجُمل أشرتُ إليها كذلك، وبداية
كل بيت
منها مُوجَّه إلى مُخاطَب واحد، فاتحاد جهة الخطاب أدَّى إلى تماسُكها النَّصِّي
«أبانا –
تفرَّدتَ - تعالَيتَ- أبانا». وكما تماسَكَت أواخِر الأبيات وتدرَّجت دلاليًّا، تماسكَت
أوائل
الأبيات دلاليًّا كذلك. والقصيدة كلها مكونة من اثنتَين وعشرين جُملة أصلية، اشتملت
منها
سبع عشرة جُملة على ضمير المُخاطب الذي نودي في أول بيتٍ وآخر بيت، ولم تخلُ من ضميره
المباشر سوى خمس جُمَل ترابطت بوسائل أخرى، أولاها «وباقٍ لنا الملكوت» وقد عُطِفَت
على
سابقتها المُشتملة على ضمير المخاطب بالواو، وعُطِفَت عليها جملة أخرى مُشتمِلة على
ضميره
كذلك، والجملتان الثانية والثالثة «إنَّ اليمين لفي الخسر. وإن اليسار لفي العسر»
وقد
جاءت أولاهما تعليلية لسابِقتها التي اشتملت على ضميرَين للمخاطب نفسه «تفرَّدتَ
وحدَك»
فتماسكت معها دلاليًّا. وأما الأخرى فقد اشتملت على ضمير المُخاطب بالفحوى والإيحاء؛
لأننا قد نفهم ما استُثنِيَ منها على هذا النحو «إلا الذين يُماشونك، إلا الذين يعشون
لك
يحشون بالصحف المُشتراة العيون فيعشون عنك، وإلا الذين يوَشُّون ياقات قمصانهم برباط
السكوت عنك».»
٩١
ثم يقول: «والجملة الرابعة هي «يرقى السجين إلى سدَّة العرش» كأنها مُشتملة أيضًا
على
ضمير المُخاطب، لأنها في معنى «يرقى سجينك» والألف واللام في العربية تنوب مناب الضمير
كثيرًا. والجملة الخامسة هي «والعرش يُصبِح سجنًا جديدًا»، وقد عُطِفَت بالواو على
سابقتها، وترابطت معها عن طريق العطف. وإذن يُصبِح النصُّ كله وحدةً واحدة مُتماسكة
متلاحمة
تُغذِّي دلالات جُمَلِهِ بعضها بعضًا.»
٩٢
•••
وأسوق تعليقي على قراءة هذا النموذج في النقاط الآتية:
وأرى أن أُقدِّم نموذجًا آخر للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف يؤكد منهجه اللغوي الذي
يتَّبِعه في قراءة القصيدة الحداثية. ويتمثَّل هذا النموذج في قراءته العروضية الدلالية
لقصيدة «طلل الوقت» للشاعر أحمد عبد المُعطي حجازي.
٩٣
وأول المُنطلَقات التي انطلق منها الدكتور محمد حماسة لقراءة هذه القصيدة هو البحر
العروضي الذي بُنيت عليه، وذلك حين يقول: «وقصيدة «طلل الوقت» تتَّخِذ من بحر الخفيف
بوحدته
الثلاثية «فاعلاتن مُستفعِلن فاعلاتن» نغمًا أساسيًّا لها، ولكنها تستخدِم هذا البحر
بطريقتِها الخاصة في إيقاعٍ جديد يُوحي بالعُمق والامتياح من النبع القديم، كما يُوحي
بالجدة
والحداثة والتفرُّد في وقتٍ واحد. وهذا الإيقاع ليس مُطَّردًا، وقد قاومت القصيدة
هذا
الاطراد بعفويةٍ بالِغة … تستغل القصيدة بحر الخفيف بوصفه النغم الأساسي، وتُنوِّع
في
إيقاعه، وتستحدِث فيه إيقاعاتٍ جديدة تزيد من جلال هذا النغم وتَوَقُّره الحزين.»
٩٤
ويشرع الدكتور حماسة في رصيد المُستحدثات العروضية فيقول: ويُمكن رصد هذه المُستحدَثات
فيما يأتي: تزيد القصيدة تفعيلة غير التفعيلات الأساسية في هذا البحر «فاعلاتن مُستفعلن
فاعلاتن» هذه التفعيلة المُستحدَثة في هذا الوزن هي «فاعلن» وهي — كما ترى — مأخوذة
من
فاعلاتن، وفاعلاتن هي التفعيلة الأعلى صوتًا في بحر الخفيف؛ لأنها تتكرَّر أربع مراتٍ
في
النظام العروضي القديم في البيت الواحد، فلو حذفنا جزءها الأخير «تُنْ» صار الباقي
«فاعلن» وقد جاءت هذه التفعيلة المُستحدَثة في سطرٍ مُستقل هو السطر الثاني من أول
القصيدة
مباشرة:
طَلَل الوقت، والطيورُ عليه
وُقَّعُ.
وقد تكرَّر هذا المطلع مرَّتَين أُخرَيَين في القصيدة بالطريقة نفسها بما يوحي
في إنشادٍ مكتوب أنَّ القارئ ينبغي أن يقرأ كلمة «وُقَّعُ» بإشباع حركة العين المضمومة
فيها، وحدَها، وجاءت هذه التفعيلة «فاعلن» في القصيدة مرة أخرى في كلمة «خلسةً».
مُدن في ضحًى بعيدٍ،
كأنَّا مِن ذُرى وقتِنا نُطلُّ عليها
خلسةً.
وفي المُستحدَث الثاني يقول الدكتور حماسة: في العروض التقليدي تُكرَّر
تفعيلات بحر الخفيف على هذا النحو:
فاعلاتن مُستفعلن فاعلاتن
فاعلاتن مُستفعلن فاعلاتن
وفي قصيدة «طلل الوقت» جاءت بعض الأبيات على هذا النمط الموروث
مثل:
آه لا تُوقِظ الدُّفوف فما آ نَ لنا بعدُ أن نهُزَّ الدُّفوفا.
ولكن القصيدة، خشية أن يستمرئ القارئ هذا النغم القديم المألوف تُغيِّر في البيت
التالي مباشرة:
بين أرواحنا وأجسادنا ينـ ـكسر الإيقاع فلنبق في العراء وقوفًا.
فعلى حين حافظت على تماثُل القافية (الدفوفا - وقوفًا) بين هذا البيت وسابقِه وتالِيه
أيضًا (نزيفًا)، غايرت في توزيع التفعيلات في داخل هذا البيت، فكرَّرت تفعيلة «فاعلاتن»
في الشطر الثاني، أو ما يساوي الشطر مرَّتَين في أوله، فجاء على هذا النمط:
فاعلاتن مُتفعلن فاعلاتن
فعلاتن فاعلاتن مُتفعلن فعلاتن
فتعمَّد البيت أن يكون هناك تجاوب بين وزنه ودلالته، فقد «انكسر الإيقاع»
حتى يستجيب لانكسار الإيقاع بين أرواحِنا وأجسادنا. ومن المُلاحظ أنَّ انكسار الإيقاع
العروضي تطابَق مع التعبير بانكسار الإيقاع في البيت التالي (وهو بيت واحد برغم التوزيع
الكتابي). وقد يبلُغ عدد التفعيلات تسعًا، أي بزيادة ثلاثٍ على النظام الموروث:
أيها الوجهُ!
أيها الجسدُ الغضُّ!
أيها الجسد الغامض الذي تسكنه روحي،
وترحل فيه.
وقد يبلغ تسعًا وعشرين كما في البيت الذي يلي البيت السابق مباشرة، وقد شغل
في التوزيع الكتابي تسعة أسطر، وهو:
بين وقتَين أيها الجسد الغامض تأتي؛
بين وقتَين شاحبَين.
وهذا سريرُنا خارج الوقت،
وتنضو لي عن غُصنك الرطيب،
كأني أتقرَّى سيرتي في غضونه.
رعشتي الأولي تستفيق،
وآناء من الغبطة الحميمة تنهل،
وأعضاؤُنا الشقيقة تذوي كالرياحين،
وهذا موتي الذي أشتهيه!
ونلاحظ أنَّ الميل إلى جانب «فاعلاتن» أكثر قليلًا من «مُستفعلن»، ولعل
ذلك لِما في فاعلاتن من الندب والحسرة المُعلنة بالتأوُّه، ورفع الصوت بالنحيب. وعلى
تفاوت
ما بين هذين البيتَين في الكم وحَّدت القصيدة بينهما بتوحيد القافية «ترحل فيه -
أشتهيه»
فجعلتهما وحدتَين تتجاوبان مع وحدات سابقة «ما بين تيهٍ وتيهِ – فسيفساء الوجوه –
ويبكي ذويه».
٩٥
ويناقش الدكتور حماسة المُستحدث الثالث بقوله: «قد تهمل القصيدة مؤقتًا ثلاثية وحدة
بحر الخفيف «فاعلاتن مُستفعلن فاعلاتن» وتُزاوج في مواضع منها بين تفعيلتَين فقط،
كما
زاوجت بين «فاعلاتن مُستفعلن» في:
هل حملنا يوم الخروج سوى الوقت؟
نماشي سرابه!
ونُضاهي غيابه!
وقد تعكس تواليهما، وتكررهما فتكون «مستفعلن فاعلاتن» كما في:
رأينا،
كأنَّ سِرب ظِباءٍ،
أو أنَّهُنَّ صبايا
يلُحْنَ عبر المرايا،
أو في قرارة ينبوع، يضطجعن عرايا،
يخلعن فيه شفوفا.
هذا الصنيع في القصيدة يُنوِّع الإيقاع في داخلها هذا التنويع المحسوب،
فعلى حين تكون «فاعلاتن مُتفعلن»، نلحظ الانطلاق ثم الانحسار أو الانكسار في «نُماشي
سرابَه» و«نُضاهي غيابه» ففي المُماشاة والمُضاهاة براءة الانطلاق وعفويته، ولكن
في
السراب والغياب ضربًا من الإحباط بضياع هذه المُماشاة، وتلك المضاهاة. وحين تكون
«مُتفعلن
فاعلاتن» هي المُستخدَمة نلحظ قدرًا من النشوة العارضة «كأن سرب ظباء – أو أنهن صبايا
–
يلُحن عبر المرايا» ويساعد على ذلك انطلاق الصوت في «صبايا» و«مرايا» في مرَّاتهما
المتوالية.»
٩٦
وأخيرًا يأتي المُستحدَث الرابع الذي يقول عنه الناقد: تُوالي القصيدة في مواضع منها
وحدة البحر الخفيف الثلاثية «فاعلاتن مُستفعلن فاعلاتن» في عددٍ من الأسطر، وهذه
الأسطر
التي راعت فيها هذا النغم:
طلل الوقت والطيور عليه،
شجر راحل ووقت شظايا.
نقطف الوردة التي لا نراها،
نلقط الذكرى كسرةً بعد أخرى،
ونُسوِّي فُسيفساء الوجوه،
في انتظار المعاد أعجاز نخل،
أو ظلالًا في غيبة الوقت ترعى
كلأً ناشفًا ودمعًا نزيفَا.
وطيور بيض تطير الهوينى.
شجر راحل ووقت خبيء،
وطيور بيض تطير الهوينى،
تلقط الوقت في الفضاء العاري!
كل سطر من هذه يساوي — نغميًّا — نصفَ بيتٍ من بحر الخفيف في شكله
الموروث، ولمَّا كانت القصيدة لا تتبع النظام الموروث تبعيةً مُطلقة، بل تُناوشه
وتُجاذبه
بحيث تتجاوزه ولا تُجانفه، نثرت هذه «الأنصاف» في تضاعيفها ووزعتها توزيعًا يُذكِّر
بهذا
النغم، ويجعله كاللوحة الخلفية تُرى في المشهد، وتتداخل مع حركة الأشخاص، أو كقرارة
الينبوع الصافي تُرى في العمق مُتموجة مع السطح. وهذا مما ساعد على توفُّر هذا النغم
الحزين.
هناك تفعيلة واحدة في القصيدة جاءت على «فعلن» في مكان «فاعلاتن» في:
وهي أيضًا مقطوعة من «فاعلاتن» فليست غريبة عنها أو ناشزة في مواضعها. ولعلَّها هنا
تدل
على أنَّ الاستغاثة لم تبلغ مداها، فليس من مُجيب.
٩٧
وأما عن طريقة التقفية التي اتبعتها القصيدة فيقول الدكتور حماسة: «تُساند طريقة
التقفية التي اتبعتها القصيدة طريقة التوزيع العروضي فيها؛ إذ تنوَّعت القوافي الأساسية
فيها إلى خمسة أنواع، يجمعها كلها المَيل إلى الحركة الطويلة التي تُوحي بالتأوُّه
والألم
والتوجُّع، فالقوافي جميعها مُطلقة سواء أكان الإطلاق بالفتحة الطويلة (الألف)، أم
بالكسرة
الطويلة (الياء)، أم الضمة الطويلة (الواو)، والقوافي كلها مُردفة بحرف مدٍّ قبل
حرف
الروِي، وتنوع هذا الردف بين الألف والواو والياء أيضًا. وقد تعادل الإطلاق بالألف
مع
الإطلاق بالياء، فهناك ثماني قوافٍ بالألف (مرايا - شظايا - الشظايا - الدفوفا -
وقوفا -
نزيفا - شفوفا - الوريفا) وهناك ثماني قوافٍ بالياء (وتيه - الوجوه - ذويه - فيه
–
وترحل فيه - أشتهيه - الأسحار - العاري) وهو أشبه بتعادل الانطلاق والانكسار الذي
تُعبر
عنه القصيدة، وإن كانت هناك قوافٍ داخلية مُطلقة بالألف مثل (شذاها - نراها - صبايا
-
مرايا - عرايا) فهي تميل إلى الانطلاق أو تدعمه، ولكنه — إن صح التعبير— انطلاق حبيس
أشبه بطيران طائر في غرفة مُغلقة؛ لأنها في دواخل الأبيات؛ ولذلك فهي — من هذه الوجهة
—
تميل إلى حالة الانكسار.»
٩٨
وفي تعانُق التجربة العروضية مع الصورة الافتتاحية يقول الدكتور حماسة: «تتعانق
التجربة العروضية بجدَّتها وأصالتها مع الصورة الافتتاحية التي تشدُّ القارئ إلى
مخزونه
الدلالي عن «الطلل» ولا تلبث أن تفجأه بأنَّ هذا طلل خاص؛ لأنه «طلل الوقت»، فكأنَّ
الوقت هو الذي تهدَّم ودرسَت آثاره، وبقِيَ منها ما يمكن أن تقع الطيور عليه:
طلل الوقت، والطيور عليه
وُقَّع.
فالطلل والطيور الوقَّع من الصورة التراثية التي ارتبطت في أذهان قارئي الشعر العربي
بالوحشة والحنين إلى «الوقت» الماضي، ورحيل الأهلين والذي لم يُخلِّف سوى الحسرة
والشعور
بالضياع وفقدان الأنيس. وهكذا تنقلنا افتتاحية القصيدة من أول كلمةٍ فيها إلى جوٍّ
مُوحش،
وتحمِلنا على المُضي فيها بهذا العبَق المُشبَّع بالأسى ومشاعر الحزن الكامن الأليف،
وبالصورة نفسها تُختَم القصيدة إذ تُكرَّر الصورة نفسها في ختامها فتُصر بذلك على
حصرنا
بهذا الجو المُوحش، وتجعلنا نُدرك أننا في هذه الدائرة نفسها، وتُذكرنا بهذه الصورة
نفسها
في وسطها.»
٩٩
ويناقش الدكتور محمد حماسة عنصرًا من أهم عناصر القراءة النصِّية وهو دور النحو في
توجيه القراءة، فيقول: «في قصيدة «طلل الوقت» نجد أنَّ المقطع الافتتاحي-الختامي
يحتمل وجوهًا من التأويل القرائي المؤسَّس على التوجيه النحوي، سأختار منها الطريقة
التي
قدمه بها الشاعر:
طلل الوقت، والطيور عليه
وُقَّع
شجرٌ ليس في المكان.
وجوهٌ غريقةٌ في المرايا،
وأسيرات يستغثن بنا،
شجرٌ راحل، ووقت شظايا.
في هذا المُفتتح ستة أسطر، أولها «طلل الوقت، والطيور عليه» لا يجعلنا
ننظر إلى طلل الوقت إلا مَقرونًا بالطيور عليه، فهما مُتلاحمان لا يتجاوران، فطلل
الوقت
مُلتبس بالطيور التي عليه، وهنا نجد أن الفاصلة بين «طلل الوقت» و«الطيور عليه» قُصِدَ
بها أن يقف القارئ على عبارة «طلل الوقت» وقفةَ تأمُّل فحسب لا وقفة نهاية كاملة،
فهو إذن
وقف على نية الاتصال. من شأن هذه الوقفة أن تُعيد الانتباه إلى هذا التركيب الجديد:
الطلل المُضاف إلى الوقت. والوقت مقدار من الزمن، وأكثر ما يُسمَع في الماضي وقد
يُستعمل
في المستقبل. إنَّ الحدس الشعري يصِل إلى قلب اللغة بنفاذٍ لا يصِل إليه البحث والتحري
المنطقي. يقول صاحب اللسان: «وقد استعمل سيبويه لفظ الوقت في المكان تشبيهًا بالوقت
في
الزمن لأنه مقدار مِثله، فقال: ويتعدَّى إلى ما كان وقتًا في المكان كمِيلٍ وفرسخ.»
وهنا في
عبارة «طلل الوقت» تداخُل مكاني زماني، فالطلل مكان، والوقت زمان، وقد تداخلا تداخُلًا
حميمًا، وهما في الحقيقة كذلك، فلا يُوجَد مكان في غير زمن أو وقت، لكن العبارة الشعرية
تنقلنا نقلةً أوسع حيث تجعل شظايا الوقت وبقاياه آثارًا تراها العين، وتؤكد ذلك بأن
الطيور شاخصة فوق هذه الآثار المُحطمة المهجورة، ومع ذلك يتعلَّق بها القلب ويهفو
إليها الوجدان.»
١٠٠ ثم يسوق الناقد هذا المقطع من القصيدة:
هل حملنا يوم الخروج سوى الوقت؟
نُماشي سرابه!
ونُضاهي غيابه!
هل تبعنا غير الهنيهات نستاف شذاها؟
ما بين تيه وتيه،
نقطف الوردة التي لا نراها.
نلقط الذكرى كسرةً بعد أُخرى،
ونسوِّي فُسيفساء الوجوه.
آه!
لا توقظ الدفوف؛
فما آن لنا بعدُ أن نهزَّ الدفوفا،
بين أرواحنا وأجسادنا ينكسِر الإيقاع؛
فلنبقَ في العراء وقوفا،
في انتظار المعاد أعجاز نخل،
أو ظلالًا في غيبة الوقت ترعى
كلأً ناشفًا ودمعًا نزيفا.
وعن شيوع ضمير الجمع في هذا المقطع يقول الناقد: «يتكثَّف ضمير الجمع
في هذا المقطع من القصيدة، ويعرض ألوانًا من الأسى منذ «يوم الخروج»، فلا يحمِل هذا
الجمع سوى «الوقت» يُماشي سرابه ويُضاهي غيابه، في التنقُّل من تيهٍ إلى تيه، ويستأنف
شذى
هنيهات هذا الوقت، ويُصور هذا الجمع لنفسه وردة يقطفها في الخيال، ولا يقتات سوى
الذكرى
المُبدَّدة التي يلقطها كسرةً كسرة، ويتظاهر بوجوهٍ مستوية مع أنها مِزَق تبدو أجزاؤها
مرصوصة بجوار بعضها لا تُخطئها العين.
هذه معاناة جماعية لجماعةٍ ترحل وعينها على مكانٍ خرجت عنه لا يشغلها سوى ذكرى أيامه،
وهي تُعِد نفسها للعودة إليه، وتتشوَّف لهذه العودة، قد يُسرع بعضها فيُعلن عن اقتراب
هذه
العودة المرجوة، فيهتف به هذا الجمع في لوعةٍ «آه لا توقظ الدفوف فما آن لنا بعد
أن
نهزَّ الدفوفا.»
إنَّ انكسار الإيقاع بين الأرواح والأجساد هو سبب المأساة كلها، وهذا الانكسار قد
يكون دالًّا مُتعدِّد الدلالة، إذ يمكن أن يكون مدلولًا محدودًا، ويمكن أن يتَّسِع
حتى يشمل
كل ما يؤدي عدم التناغُم فيه إلى الاختلال انطلاقًا من الروح والجسد إلى كل ما هو
معنوي
ومادي في شتَّى مناحي الحياة. ومن هنا يمكن التعدُّد في تأويل القصيدة. لكن يبقى
الأهم
دائمًا هو التعبير أو البناء اللغوي الذي تسلكه القصيدة، والتكثيف الذي يُوجَد في
القصيدة
في كسر قوانين الاختيار بدءًا من «طلل الوقت» الذي يفرش مساحةً واسعة من المدلولات
التي
تستوعِب أشياء كثيرة، ويتوقَّف أحدُها على الاختيار الذي يلجأ إليه المؤوِّل.»
١٠١
وعن محاولة الجمع استرجاع الوقت يقول الناقد: «إنَّ ثمَّة محاولة حثيثة لاسترجاع هذا
«الوقت» وجمع شتاته … هذه المحاولة تبدأ في المقطع الثاني من القصيدة بمِثل ما بدأت
به
المقطع الأول. وإذا كان يحمل التمزُّق، والضياع، والأَسْر، والخروج، والذكرى المُبدَّدة،
فإن
المقطع الثاني يحمل تباشير من الوصول المأمول؛ لأن روائح المدن وأصواتها قد بدأت
تأتي
إلينا، ونستطيع أن نطَّلِع عليه خلسة. وهناك «طيور بيض تطير الهوينى» وهناك أيضًا
«الوقت»
في الباحة الظليلة يستعبر في حلمه ويبكي ذويه.
بداية المقطعين واحدة مما يُوحي بأن الحالة ما تزال على ما هي عليه، غير أنَّ هناك
بوادر أمل في العودة أو الاقتراب منها مع أنها لم تُحقَّق بعد.»
١٠٢ ثم يسوق الناقد المقطع الثاني من القصيدة:
طلل الوقت، والطيور عليه
وُقَّع.
شجرٌ ليس في المكان، وأصوات تجيء،
وطيورٌ بيض تطير الهوينى.
شجر راحل ووقت خبيء.
مُدُنٌ في ضحًى بعيدٍ،
كأنَّا من ذُرى وقتنا نطلُّ عليها
خلسةً،
وكأنَّا نشمُّ عطرَ بساتينها،
ونسمع من لغو يومِها هَينمات تصدى،
كأزمنة تستيقظ في الوتر المشدود.
كان الصمت يحتدُّ،
وكان الوقت في الباحة الظليلة يستعبر في
حلمه ويبكي ذويه،
ثم يرفَضُّ عن الفردوس المخبَّأ فيه.
ويقارن الدكتور حماسة بين هذا المقطع وسابقه بقوله: «إن المقارنة بين
هذا المقطع وسابقه تَقِفنا على نقاطٍ مهمة تقوم على الاستبدال، فالبداية واحدة، لكن
جيء ﺑ
«أصوات تجيء» و«طيور بيض تطير الهوينى» بدلًا من «وجوه غريقة في المرايا» و«وأسيرات
يستغثن بنا». وجاء «وقت خبيء» بدلًا من «وقت الشظايا»، فالأصوات التي تجيء مُتواليةً
في
مجيئها وهي باعثة على شيءٍ من الأنس، وهي ليست أصوات استغاثة على كل حال، والطيور
البيض
التي تطير الهوينى غير الوجوه الغريقة في المرايا، فهي باعثة على الإحساس بقُرب الوصول
إلى اليابسة، والوقت الخبيء غير وقت الشظايا؛ لأن الخبيء يمكن أن يظهر. ومن هنا يُقابل
بقية المقطع الثاني بمُدنه التي تبدو في ضحًى بعيد وإمكان الإطلال عليها، واشتمام
عطر
بساتينها وسماع لغو يومِها … إلخ. يقابل يوم الخروج والتنقُّل من تيهٍ إلى تيهٍ وانتظار
المعاد … إلخ.
إنَّ أمل العودة يلوح في هذا المقطع الثاني، ولكنها ليست العودة التي يُسببها تغير
الأحوال وتحسُّنها، بل هي العودة التي يُسببها الاكتئاب والوحشة من الاغتراب، وهي
— على كل
حالٍ — أمل في العودة، وليست عودة كاملة.»
١٠٣
وعن المستوى الإفرادي داخل مفردات القصيدة يقول الدكتور حماسة: «إنَّ المرتكزات
الأساسية في هذه القصيدة هي «الوقت» و«الشجر» و«الطيور» سواء ذُكِرَتْ كل منها مُطلقة
أو
مُقيدة، ومُقترنة أو مُتفرقة، ومُتقاربة أو مُتباعدة. والقصيدة بطبيعة الحال تُضفي
على كلٍّ
منها دلالات مُتعدِّدة مرتبطة بسياق القصيدة نفسها، وهي دلالات مَرِنة تتشكَّل بحسب
الرؤية
التي تُوحي بها تراكيب القصيدة؛ ولذلك بدأ المقطع الأول والثاني بالبداية نفسها،
وقامت
عملية الاستبدال الشعري بتكوين المقطع الثاني بطريقةٍ تجعلنا ننظُر لها في مقارنةٍ
مع
ملابسات المقطع الأول.»
وعن بداية المقطع الثالث يقول الدكتور حماسة: «في المقطع الثالث تختلف البداية، فلا
يبدأ ﺑ «طلل الوقت» الذي بدأ به المقطعان الأول والثاني، بل بدأ بقَرين الوقت في
المُرتكزات الأساسية وهو «الشجر». والشجر نفسه يُوصَف في القصيدة بطريقةٍ تجعله ليس
«الشجر»
المعهود في واقع الحياة، بل هو شجر خاص بواقع القصيدة. قد يجعلنا هذا الوصف ننظُر
إلى
هذا الشجر نفسه على أنه «ناس» مُرتحلون، فهو شجر ليس في المكان، وهو شجر راحل، وأخيرًا
هو شجر يرسُم الرياح. إن الرياح لا تُرى ولكن يُرى أثرها، وأظهر آثار الرياح في حركة
الشجر، فكأنَّ الشجر يرسم الرياح لتراها العيون، تظهر صورة «شجر يرسم الرياح» كأنها
وحدها
لا يُخبر عنها بخبر، بل تتجاوز مع «غيم قزحي مُرصَّع بالعصافير» وهذا جزء من مسلك
هذه
القصيدة؛ إذ تضع الصور متجاورةً وتبني جزءًا كبيرًا منها بهذا الأسلوب «تجاور الصور»
كما
بدا ذلك واضحًا في المقطعَين الأول والثاني.»
١٠٤
ثم يسوق الناقد قول حجازي:
شجرٌ يرسم الرياح،
وغيمٌ قزحي مُرصَّع بالعصافير
رأينا.
كأنَّ سِرب ظباء،
أو أنهنَّ صبايا
يلُحنُ عبر المرايا،
أو في قرارة ينبوع، يَضطجعن عرايا،
يخلعن فيه شفوفا،
يملأن منه أباريق للوضوء،
وينفضن على الماء عُريَهُنَّ الوريفا.
ورأينا،
كأنما سكت الوقت، ثمَّ غاض
كما غاضت البحيرة في الرمل،
وأبقت لنا الحصى والشظايا.
ويعلق الدكتور محمد حماسة على هذا المقطع بقوله: «وسط هذه الرؤية
الغائمة التي تختلط فيها الرياح بالغيم، والشجر الذي تظهر عليه آثار الرياح، فهو
في
مَهبِّها، والعصافير التي تُرصِّع الغيم المُختلط بالشجر؛ وسط هذه الرؤية تظهر «الرؤيا»
إذ
تجتمع «رأينا وكأن» حيث تدل «رأينا» على شيءٍ من اليقين من الرؤية البصرية أو الرؤيا
الحلمية. وتأتي «كأنَّ» لتُحوِّل هذا اليقين إلى حلم؛ ولذلك يختلط سِرب الظباء بالصبايا
اللائي يَضطجعن عرايا، وهي رؤية تلوح عبر المرايا التي غرقت فيها الوجوه من قبل،
وهنا
تختلط المرايا بقرارة الينبوع، فالرؤية غائمة لدواعٍ مُتعددة؛ ولذلك بدت كأنها حُلم
أو
«رؤيا»، فهي حلم بشيءٍ من «النعمة» المُفتقدة والسكينة المأمولة؛ ولذلك رُئيت هذه
الصبايا
اللائي كنَّ ظباء شبه عرايا مُطمئناتٍ في قرارة هذا الينبوع، يخلعن غلالاتهن الرقيقة،
ويملأن من قرارة الينبوع أباريق للوضوء. إنها الأحلام بالسكينة والطمأنينة والاستقرار،
وتُكرَّر «رأينا - كأنما» فتؤكد حلمية الرؤية، ويكون المأمول سكوت الوقت. وهو أشبه
بالصحو
من هذا الحُلم العابر بالسكينة؛ حيث سكت الوقت ثم غاض كما غاضت البحيرة في الرمل،
ولم
يبقَ إلا الحصى في الأيدي.
١٠٥
وإذا كان ضمير الجمع هو الذي سيطر على مقاطع القصيدة السابقة، فإن ضمير المُتكلم
المفرد هو الذي سيُسيطر على المقطع التالي.» وعن ظهور هذا الضمير يقول الدكتور حماسة:
«هو
أشبه بحديثٍ إلى النفس؛ فبرغم أنه واحد من المجموع السابق ينزوي ليُخاطب نفسه، وهو
له وجه
مثل وجوه الجماعة غارِق في المرايا، وله روح وجسد ينكسر الإيقاع بينهما شأن الآخرين،
ولكن الخطاب هنا يخصُّ المُتكلِّم وحدَه، فهو يحمل عن الآخرين همومهم ويُعبِّر عنها.
يقول
حجازي:
أيها الوجه!
أيها الجسد الغضُّ!
أيها الجسد الغامض الذي تسكُنه روحي،
وترحل فيه.
بين وقتين أيها الجسد الغامض تأتي؛
بين وقتين شاحبين،
وهذا سريرنا خارج الوقت،
وتنضو لي عن غصنك الرطيب،
كأني أتقرَّى سيرتي في غضونه،
رعشتي الأولى تستفيق،
وآناء من الغبطة الحميمة تنهلُّ،
وأعضاؤنا الشقيقة تذوي كالرياحين،
وهذا موتي الذي أشتهيه!»
ويعلق الدكتور حماسة على هذا المقطع بقوله: «لا أدري على وجه التحديد
من أين يأتي الشجَن العميق في هذه النجوى؟ هل يأتي من مُخاطبة الوجه، أو مخاطبة الجسد،
أو
من وصف الجسد مرَّتَين؛ مرة بأنه الجسد الغض، وأخرى تُكرَّر مرَّتَين بأنه الجسد
الغامض؟ هل من
رحلة الروح في هذا الجسد الغامض؟ هل من إتيان هذا الجسد بين وقتَين شاحبين وكشف غصنه
الرطيب؟ هل من تقرِّي السيرة الشخصية في غضونه، أو من استفاقة الرعشة الأولى وانهلال
آناء
من الغبطة الحميمة، أو من الأعضاء الشقيقة التي تذوي كالرياحين، أو من الموت
المُشتَهى؟»
وعن اسم الإشارة في قول حجازي «وهذا موتي الذي أشتهيه» يقول الدكتور حماسة: «إلامَ
يُشير اسم الإشارة في «وهذا موتي الذي أشتهيه»؟ إنَّ أقرب مُشار إليه هنا هو استفاقة
الرعشة الأولى، وانهلال آناء «أوقات» من الغبطة الحميمة، وذَوْي الأعضاء الشقيقة
كالرياحين، وهي تَذوي بسرعة، إنه — إذن — الرفض لكل الأسباب الداعية للهجرة الاضطرارية،
والرحيل الذي يدعو إليه اضطراب الأوضاع واختلال المعايير الذي يؤدي إلى انكسار الإيقاع
بين الروح والجسد، فترحل الروح رحيلَين: أحدهما في داخل الجسد، والآخر خارج الوقت
الذي
يصير أطلالًا وشظايا.»
١٠٦
وعن المقطع الأخير في القصيدة يقول الدكتور حماسة: «يأتي المقطع الأخير في القصيدة
فيُعيد
بعض الجُمَل في المقطعَين الأول والثاني، ويستبدل أشياء منهما، ويَحسُن أن نقارنه
بهما. يقول
المقطع الأخير في القصيدة:
طلل الوقت، والطيور عليه
وُقَّع.
شجرٌ ليس في المكان.
نساء يرحلن في الأسحار،
وطيور بيض تطير الهوينى،
تلقط الوقت في الفضاء العاري.
تتفق المقاطع الثلاثة في «طلل الوقت والطيور عليه وقع. شجر ليس في
المكان» بعد هذا في الأول:
وجوه غريقة في المرايا،
وأسيرات يستغثن بنا.
شجر راحل ووقت شظايا.
وفي الثاني:
وأصوات تجيء،
وطيور بيض تطير الهوينى.
شجر راحل ووقت خبيء.
وفي الثالث:
نساء يرحلن في الأسحار،
وطيور بيض تطير الهوينى،
تلقط الوقت في الفضاء العاري.»
١٠٧
وعن اتفاق البدايات يقول الدكتور حماسة: «اتفاق البدايات دليل على أن
الوضع باقٍ على ما هو عليه. وعلى حين كان في المرتَين الأولى والثانية «شجر راحل»
وإن
اقترن به في المرة الأولى «ووقت شظايا» واقترن به في الثانية «ووقت خبيء»، لم يعُد
الشجر
راحلًا في المقطع النهائي. وعلى حين كان في المقطع الأول «وجوه غريقة في المرايا
–
وأسيرات يستغثن بنا» كان في الثاني «وأصوات تجيء – وطيور بيض تطير الهوينى» وكان
في
الثالث «نساء يرحلن في الأسحار – طيور بيض تطير الهوينى» فكأن الأسيرات فُكَّ أسرهنَّ
ورحلنَ في الأسحار مع الراحِلين، وظلَّت الطيور التي تطير الهوينى، ولكنها وُظِّفَت
في
آخر القصيدة حيث ظهرت وهي تلقط الوقت في الفضاء العاري. إنه الوقت الذي تشظَّي في
المقطع
الأول، واختبأ في المقطع الثاني، ها هي الطيور البيض تلقطه، ولعلَّها تحاول جمعَه
من جديدٍ
وبعث الروح فيه، ويُصبح وقوعها عليه بقصد التقاطه ولمِّ شتاته. إنَّ الأمل في العودة
موجود، وإن كان واهنًا؛ لأن طيوره البيض تطير الهوينى، وطيرانها الهوينى خير من وقوعها
وسكونها على كل حالٍ ما دامت الحركة في الطريق الصحيح، فقد تؤدي حركتها إلى جبر «انكسار
الإيقاع».»
١٠٨
•••
وبعد هذه القراءة الثرية التي قدمها الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف لقصيدة «طلل
الوقت» للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، أسوق تعليقاتي عليها في النقاط الآتية:
- أولًا: وُفِّق الدكتور محمد حماسة في توظيف المستوى الصوتي — من خلال البناء
العروضي للقصيدة — في إظهار دلالة القصيدة؛ هذه الدلالة التي لا تنتهي
بقراءة القصيدة قراءةً واحدة، بل تتعدَّد بكل قراءة ثرية تُقدَّم لها. إن
هذه القراءة العروضية الدلالية المُتميزة أثبتت — بما لا يدع مجالًا
للشك — أن جماليات التشكيل العروضي للقصيدة الحداثية بما هي عليه من
خروج على النمَط المألوف لبناء القصيدة القديمة هي إحدى آليات إنتاج
الدلالة في قصيدة الحداثة، ويجِب ألا يُنظَر إلى هذا التشكيل على أنه
قالبٌ جافٌّ تُوضَع فيه مفردات التركيب.
- ثانيًا: أظهرت القراءة فاعلية محور الاختيار (الاستبدال) في بناء مقاطع القصيدة
المختلفة في تَشابُه مفرداتها حينًا واختلافها حينًا من مقطعٍ إلى آخر.
يؤكد ذلك قول الدكتور حماسة: «إن المرتكزات الأساسية في هذه القصيدة هي
«الوقت» و«الشجر» و«الطيور» سواء ذُكِرت كل منها مُطلقة أو مُقيدة،
ومقترنة أو مُتفرقة، ومُتقاربة أو مُتباعدة. والقصيدة بطبيعة الحال تُضفي
على كلٍّ منها دلالاتٍ مُتعددة مرتبطة بسياق القصيدة نفسها، وهي دلالات
مرِنة تتشكَّل بحسب الرؤية التي تُوحي بها تراكيب القصيدة.»١٠٩
- ثالثًا: وبالمِثل اتكأ الناقد كذلك على المستوى التركيبي (النحوي) في إبراز
الدلالة؛ هذا المستوى الذي يُعطي مفردات التركيب فيمةً لا يمكن الحصول
عليها بدونه؛ إذ لا مَزِيَّةَ للكلمة إلا فيما تجاورت به من كلمات. ومن
خلال هذا المستوى أقرَّ الدكتور حماسة بوجود وجوهٍ من التأويل القرائي —
في المقطع الافتتاحي والختامي — المؤسَّس على التوجيه النحوي. كما استعان
الدكتور حماسة بالمنهج الإحصائي في بعض مواضع القراءة.
- رابعًا: استعان الدكتور حماسة بأهم مبدأ من مبادئ المنهج السيميولوجي، وهو
تعدُّد المدلولات للدال الواحد، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تعدُّد مدلولات
القصائد بتعدُّد قراءاتها. يؤكد ذلك التعليق الختامي الذي قدَّمه الدكتور
حماسة في نهاية هذه القراءة إذ يقول: «إنَّ قصيدة طلل الوقت — ككل
قصيدة عظيمة — لا تُقدِّم معنًى مُحددًا ولا ينبغي لها أن تفعل ذلك، ولكنها
تُطلِق في جوِّها عددًا كبيرًا من «الفراشات الدلالية» يستمتع بها القارئ
بالجري وراء إحداها ومحاولة التحليق في تتبعها.»١١٠
- خامسًا: كذلك استعان الدكتور حماسة بأحد مبادئ المنهج البِنيوي، وهو علاقة
الأجزاء بعضها ببعض وأثر ذلك في إيضاح الدلالة داخل القصيدة. ويُلحَظ ذلك
عند حديثه عن اتفاق بدايات المقاطع، وأثر ذلك على المعنى الكلي
للقصيدة، وهو بقاء الوضع على ما هو عليه، وهو إحساس الحزن
والألم.
وما أريد قوله في نهاية هذا التعليق: إنَّ الدكتور محمد حماسة قام بقراءة هذا النص
قراءةً لغوية من خلال منهجٍ لغوي قائم على التحليل النصي للقصيدة من داخلها. والذي
يلفت
الانتباه أن الدكتور حماسة لم يفرض على النصِّ منهجًا مُعينًا، بل ترك للنصِّ حرية
اختيار
المبادئ الإجرائية التي تصلُح للتعامُل معه. فإذا كان منهج القراءة قد أُسِّس على
المنهج
الأسلوبي في معظم مبادئه الإجرائية — كما أوضحتُ في النقاط السابقة — من استعانة
القراءة بالمستوى الصوتي والإفرادي والتركيبي والإحصائي، اتكأ هذا المنهج كذلك على
بعض
إجراءات المنهج السيميولوجي والبِنيوي؛ مما يدلُّ على أنَّ تداخُل المبادئ الإجرائية
لهذه
المناهج وتكامُلها في قراءة النص الشعري أكثر من تفرُّقها واختلافها. ويعزو السبب
في ذلك
إلى حقيقةٍ واحدة وهي أنَّ مناهج النقد الأدبي المعاصر من بنيوية وسيميولوجية وأسلوبية
ونظرية التلقي … وغيرها من المناهج الأخرى؛ مؤسَّسَة على التحليل اللغوي للنص ليس
إلا؛ أي إنها تمتاح من معينٍ واحد هو معين لُغة النص، بخلاف المناهج القديمة التي
كانت
تُعوِّل كثيرًا على العوامل الخارجية للنصِّ الأدبي من حياة المُبدع وحالته النفسية،
وكذلك
ملابسات الواقع الذي يحياه. والأخطر من ذلك أنها كانت تَعدُّ هذه العوامل من ركائز
التفسير.
•••
وما أريد أن أؤكده في نهاية هذا الفصل، أنَّ هذه الدراسات جميعها جاءت مُتنوعة من
حيث
طبيعتها، الأمر الذي أبرز — بوضوح — فاعلية المنهج الأسلوبي وصلاحيته لدراسة الشعر
العربي على مستوى النصِّ الواحد وعلى مستوى الديوان الشعري، وكذلك على مستوى الأعمال
الشعرية. مما يُعزِّز مصداقية هذا المنهج ويجعله من أقرب المناهج النقدية لمُباشرة
الشعر
العربي في مرحلة الحداثة وما بعدَها.