النقد في إطار نظرية التلقي
ولتحقيق هذا الهدف، سأعتمِد في هذه القراءات التطبيقية على نموذجَين من شعر التفعيلة: الأول هو قصيدة «عابرون في كلام عابر» للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وذلك من خلال قراءة الدكتور عبد الله الغذامي، وقراءة الناقد حاتم الصكر. أما النموذج الأخير فهو قصيدة «الأرض» للشاعر نفسه، وذلك من خلال قراءة الناقدة اعتدال عثمان، وقراءة الدكتورة فاطمة طحطح.
١
ولهذه الأهمية يشرع الناقد في تحليل هذه الجملة تحليلًا لغويًّا مقابلًا إيَّاها بتحليل جملة العنوان فيقول: ولن يصعب علينا أن نُدرك أنَّ جملة العنوان هي رديف دلالي يعادل هذه الجملة ويفسرها ويمدُّ من دلالتها، ولكي نُدرك ذلك عيانًا فلنضع الجملتَين معًا وبإزائهما النقيض الدلالي لكل منهما حسب الجدول اللآتي:
الجملة النقيض | عابرون في كلام عابر |
باقون على لغة باقية | |
الجملة النقيض | أيها المارون بين الكلمات العابرة |
أيها الباقون في «على» اللغة الباقية |
ثم يُعلِّق الدكتور الغذامي على هذين الجدولين بقوله: «نُلاحظ من هذَين الجدولَين أنَّ النفيض للجملتَين واحد، ولا يُوجَد اختلاف إلا من حيث التعريف والتنكير حيث تكوَّنت جملة العنوان من عناصر مُنكَّرة، مما يُشير إلى الشمول والإطلاق، ولكن هذا الشمول يتحدَّد ويُقيد داخل النص باستخدام أداة النداء «أيها» التي تقتضي وجود منادٍ مُحدَّد في حدود مدار الصوت، لأننا عادة ننادي من يسمعنا — ولو مجازيًّا أو افتراضيًّا — وهذا التحوُّل من الإطلاق إلى التقييد يعني أن الشاعر قد أحضر المُخاطبين وجعلَهم مادة لصوته وكلماته بعد أن قيَّدهم بأدوات التعريف وطوَّقَهم بكلمات «بين الكلمات»، وهذا هو الفارق الدلالي ما بين جملة النص وجملة العنوان، فارق الشمول والتقييد. ولكنهما جُملتان مُترادفتان مُتكاملتان بعد ذلك.»
ويرصد الدكتور الغذامي ظاهرة في مُنتهى الأهمية، وهي أنَّ المعنى المُدرَك من الدال الموجود يؤدي بالضرورة إلى استحضار المعنى المضاد (الغائب). ومن ثم تأتي أهمية العلاقة الجدلية بين الحضور والغياب في الدالِّ الواحد. وفي هذا الإطار يقول الدكتور الغذامي: «أما في النص فإنه لا بد من وجود مُعادلة تُعيننا على الفَهم، وذلك بأن نُدرك «نقيض الكلمة» لكي نفهم معناها؛ لأن معنى الكلمة يقتضي شيئين في آنٍ، فهي تثبت مدلولها وفي الوقت نفسه تنفي نقيضها، والعكس في حالة السلب. ولذلك فإن جملة «عابرون في كلام عابر» تقتضي وتحتاج جملة «باقون على لغة باقية»، حيث الأولى تعني اليهود، حسب السياق الذهني للنص، وهو ما يؤيده ويُفضي إليه سياق الدلالات التركيبية في القصيدة حسب إشارات مثل (عشاء راقص – الهيكل العظمي للهدهد – العجل). مع إشارات أخرى ذات دلالةٍ خاصة مثل الفولاذ وقنبلة الغاز والغبار المر وغيرها، مما يُشكل صورةً خاصة لهؤلاء «العابرين» ويقابلهم «باقون على لغة باقية» وهم الفلسطينيون حسب السياق الذهني الذي يويده — أيضًا — سياق النص بما فيه من إشاراتٍ للدم واللحم والمطر والحجَر والقمح، وهي عناصر البقاء في مقابل عناصر العبور والمرور.»
وإذا كان هذا الانشطار يبرُز على المستوى الداخلي من علاقة الدال بالمدلول، فثَم انشطار على مستوى الخارج أيضًا. وفي هذا يقول الدكتور الغذامي «… مثلما أنهم مُنشطرون من الداخل بانفصال الاسم عن المُسمَّى فإنهم — أيضًا — مفصولون عضويًّا عن «الوقت»، وساعاتهم لا تملك وقتًا ولا ترتبط بوقتٍ خاصٍّ بها. ذاك لأن الوقت يخصُّ «نا» وساعاتهم — إذًا — دخيلة على وقت «نا» ومن كان هذا شأنهم وتلك صفتهم فإنهم لن يملكوا من الأشياء سوى «صورها» والصورة هي ظل الحقيقة، وليست الحقيقة. مما يعني أنهم قوم بلا حقيقة منذ أن كانوا بأسماء مبتورة العلاقة؛ أي بلا أصول، ومنذ أن كانوا لا ينتسبون إلى وقت، مما أفضى بهم إلى مجرد عابرين (مارين) ليس بيدِهم سوى أن يسرقوا الصور. ومَنْ قَبِلَ سرقة الصورة فمعنى ذلك أنه عاجز عن امتلاك الواقع، ولسوف يعرف أنه لن يعرف. وهذه هي غاية الضياع لهؤلاء المُتجرِّدين من الحقيقة، كما تقول الدلالة العامة لهذا المقطع: تجرد المارِّين من الحقيقة، من خلال انفصالهم عن مُسمَّاهم وعن الوقت وعن الواقع (نقيض الصورة).
ويعلق الدكتور الغذامي على هذا المقطع بقوله: «ويبدو الصوت الشعري قاطعًا في ثِقته بامتلاك الماضي وامتلاك المُستقبل والدنيا وارتباطها جميعًا بالمكان من خلال تكرار الظرف المكاني «هنا»، ولكنه حينما يُشير إلى الحاضر يشعر بأن هذا الحاضر ليس مملوكًا له ملكيةً قاطعة مثل ملكيته للأخريات؛ ولذا فإنه يؤكد على الحاضر بأن يُورِد الإشارة إليه مرةً تلوَ أخرى فيعطف هذا الحاضر على نفسه «الحاضر والحاضر»، مما يعني أن ذلك هو موضوع الصراع والمُداولة الانفعالية، ويُكرِّر لذلك إشارة الملكية «ولنا» أربع مرات في أربعة أبيات، وهي تتكامل مع مُجمَل إشارات الملكية المُتردِّدة في النص اثنتي عشرة مرة «لنا، ولنا، فلنا» مثلما تتردَّد إشارات الإضافة «نا» محتوية للوقت والأرض والبر والبحر والقمح والملح والجرح. وفي هذا ترجمة لحقيقة هؤلاء الباقين في مواجهة المارِّين العابرين.» وليبيِّن الناقد الفارق القاطع بين الوجودَين يسوق قول درويش:
تلك هي معادلة التضاد التي تنفي وتُثبت في آنٍ واحد، وكل ما هو «لنا» فهو ليس «لكم»، وهو أيضًا «ليس يُرضيكم». ومن هنا فإن النص قد أتى كله مُتحركًا من خلال إثبات «الملكية» والانتماء للأرض والوقت، ونفي ذلك كله عن «المُخاطبين».»
•••
- أولًا: إن الناقد وقف أولًا عند عنوان القصيدة وبيان أهميته، ليس ذلك فحسب،
بل أبرز أهمية العنوان في قراءة كل قصيدة. وفي أهمية العنوان في شعر
الحداثة يقول الدكتور محمد عبد المطلب: «اللافت أن مجموعة العناوين
الشعرية قد دخلت دائرة الإبداعية، على مستوى البناء الشكلي أو مستوى
العُمق، حتى لنكاد نفتقِد العناوين ذات الدالِّ الواحد، وأصبح امتداد
العنوان ظاهرةً مميزة تسمح له بدخول هذه الإبداعية. وحتى عندما يُؤثِر
المبدع اختيار العنوان في إطار الدالِّ المفرد، فإنه يُلحقه بمذكرة
تفسيرية توسِّع من مساحته الصياغية والدلالية .. وقد يستعيض المُبدع عن هذه
الإضافة الصيغية بإعطاء الدال المُفرد طاقة تعدُّدية من طبيعة الصيغة التي
يبني عليها .. وغالبًا ما تدخُل عناوين الحداثة في إطار الدفقة المُكتملة،
لكن اكتمالها لا ينفي ما يُسيطر عليها من عتمة دلالية تتوافَق مع عتمة
الخطاب نفسه. أي أنَّ هناك توازيًا بين العناوين والخطابات.»١٦ويعد العنوان — رغم حدوده الصيغية الضيِّقة — خلاصةَ النص بأكمله؛ لأن المُبدع — كما يقول الدكتور محمد فكري الجزار: «غالبًا ما يضع عنوان مراسلته (نصه) بعد انتهائه منها وتشكُّلها عملًا مكتملًا، بمعنى أنه — إذ يضع العنوان (يُبدِعه) — واقع تحت تأثير العمل نفسه بشكلٍ خاص من الأشكال. وكأنَّ المُرسل يتلقى عمله ليتمكَّن من عنونته.»١٧
وحتى إذا فُرِض أن المبدع وضع عنوان قصيدته قبل إبداعها، فلا بدَّ — على أقل تقدير — أن يُراجع هذا العنوان للتأكد من مدى صلاحيته للقصيدة بعد انتهائه منها. ومعنى هذا، أن العنوان هو آخِر ما يُوضَع في العملية الإبداعية، وذلك بخلاف وضعه في عملية التلقِّي؛ إذ إنه أول ما يُواجِه القارئ، ومن خلال فهمه يستطيع القارئ أن يضع بذورًا مبدئية لرحلته التفسيرية.
كما يتميَّز العنوان بجمالياتٍ فنية خاصة، مثلما يتميَّز بذلك النص نفسه. وفي هذا المجال يقول الدكتور محمد فكري الجزار أيضًا: «إنَّ العنوان مراسلة مُستقلة مثلها مثل العمل الذي يُعنونه، ودون أدنى فارق، بل ربما كان العنوان أشدَّ شعريةً وجمالية من عمله في بعض الإبداعات.»١٨ - ثانيًا: ربط الناقد عنوان القصيدة بجملة التكرار داخل بنائها العام؛ مما أضفى على هذا العنوان مشروعيةً في تغلغُل مضمونه وامتزاجه بمضمون القصيدة كلها.
- ثالثًا: اعتمد الناقد في الربط بين العنوان والجملة التكرارية على الجماليات اللغوية. وهذا يعني أنَّ هذه العلاقة لا تظهر على مستوى السطح، بل هي مُتغلغلة داخل النسيج اللغوي للجُملتَين.
- رابعًا: اعتمد الدكتور الغذامي في هذه القراءة على أحد إجراءات المنهج البنيوي، وهو جدلية الثنائيات الذي ظهر من خلال فاعلية سياق الحضور والغياب، وكذلك علاقة المفارقة بين الدوال. كما اعتمد في الوقت نفسه على المنهج السيميولوجي من خلال علاقة الانفصال بين الاسم والمُسمَّى المنوط بدالِّ المارين (العابرين). وهذا العنصر الأخير هو ما تتميَّز به القراءة، فقد استطاع صاحبها أن يستغلَّ المناهج النقدية الأخرى — في بعض إجراءاتها — ويوظفها توظيفًا جماليًّا في إيضاح مضمون القصيدة، مما ينمُّ عن امتلاك الدكتور الغذامي مقدرةً نقدية عالية في قراءة النص الشعري.
ويُعلِّق الناقد على إسناد الشاعر المُخاطبين إلى زمن الماضي بقوله: «إن الشاعر بعد أن اختار زاوية المواجهة بين ضميرَين؛ أعطى للمُخاطَبين كل ما هو عابر يَستند إلى الماضي الذي لا يمكن التوثُّق منه أو الوثوق به. فثمة لهؤلاء المارين: كلمات عابرة وأسماء وساعات وسرقات عديدة وصور. وهي كلها مُستندات وهمية وضعوها «هم» دون سند؛ ولذا فهي قابلة لأن تغيب مرةً واحدة فيختفوا باختفائها. لقد ارتضوا أن يحتلوا «زمننا» بنداء الماضي الذي صاغوه «هم» ثم صدَّقوا أنه حقيقة. ولذا صار من الصعب أن يعرفوا كيف ينهض حجَر من الأرض، ليكون بناءً يعلو حتى يغدو سقفًا للسماء.»
وفي إطار الخارج، يرصد الناقد المواجهة بين المُتكلمِين والمُخاطبِين فيقول: «إن القصيدة بمَقاطعها الأربعة تتَّجِه تدريجيًّا نحو تجسيم المواجهة بين قوة «مُدجَّجة» بالأوهام والأساطير؛ وقوة «عزلاء» تبدأ من حجَر ودمٍ ولحم. ولكن البقاء دومًا للحقيقة التي يُمثلها الجسد المرتبط بالواقع. والمرور المؤقَّت هنا لا يعني الرغبة في إفناء الآخَر، لأنه موجود وحسب، كما أرادت القراءة الصهيونية أن تلخِّص مُشوِّهة عن عمد. إن المرور يعني زوال الوهم وانقراض الأسطورة المنقرضة! حتى وهي تُسلح نفسها في المقطع الثاني بالسيف والفولاذ والنار والدبابة وقنبلة الغاز.»
ويقرن الناقد أفعال المُخاطَبين بأسطورية خطابهم فيقول: «لقد تضافرت «أسطورية» الخطاب الصهيوني ووحشية فِعله العنيف: بناء الهيكل مُجدَّدًا والبكاء بدموع حارة عند حائط المبكى. حتى قبل غسيل الأيدي من المجازر الجماعية. وشحذ الأسلحة المُدمرة التي تبدأ بتكسير الأطراف وهدم البيوت والمزارع ولا تنتهي بقتل الأطفال والعاجزين. الهدهد؛ رسول سليمان إلى رغباته بالفتوحات؛ هيكل عظمي لم يبقَ منه إلا ما يتركه الزمن لجثة مُتفسِّخة.»
ويعزو الناقد جماليات النص إلى مرجعيتها الخارجية، فيقول: «تفضي بنا قراءة الإطار وتحديد المرجع في قصيدة درويش إلى تفهُّم الضجة التي تلت نشرها. وهذا الأثر يُدخلنا مباشرة إلى شِعريتها، أي إلى طرق النظم والتأليف والتعبير فيها، فهي تنتمي إلى مرجعها انتماءً شديدًا لا تتنكَّر له رغم أنها لا تَذكُره صريحًا باسمه. إن الانتفاضة هنا مرجع قوي الحضور. يُهيمن على النص ليحلَّ المرموزات ويجعل عمل الشاعر في الترميز سهلًا وواضحًا. فما بين «أنتم» و«نحن» و«الماضي» و«الحاضر» و«الدبابة» و«الحجر» أشياء كثيرة غير ملفوظة. إلَّا أنَّ انقسام الخطاب تقابليًّا إلى مُتكلِّمين ومُخاطَبين تلخيصًا للمواجهة خارج النص؛ جعل المفردات الأخرى في المقاطع التالية للمقطع الافتتاحي؛ عناصر تدعم الخطاب ولا تُنميه باتجاهاتٍ مفاجئة.»
ثم يوضح الناقد خطأ القراءة الصهيونية لهذا النص بتركيزها على المنتج النهائي، فيقول: «فالنص يُعيد كثيرًا مما يقوله. وذلك حاصل من الإلحاح على المقولة الواحدة بكيفيات مُتعددة. حتى بدا للقراءة الصهيونية أنَّ الشاعر لا يقول قصيدة، بل بيانًا سياسيًّا. وهذا واضح في قيمة القصيدة فنيًّا. فقد وصفها كثيرون ممَّن كتبوا ردود الأفعال المُتشنِّجة بأنها من «الشعر الرديء» وبأنها «خرقاء» وعديمة الذكاء.
ويُخصص الناقد حديثه في ثنائية السيف والدم، فيقول: «نعود هنا إلى ثنائية السيف والدم مثلًا. فهي تعترف بالتسلُّط المُطلق للقاتل على ضحيته. لكنها تبطن ما يمكن أن يفعله الدم — دم الضحية — وفي غمرة انهماك المُحتلَّين الحالِمين بقوة التاريخ والحق الإلهي في الأرض؛ نجد انشغال المُتكلمين بالحاضر والمُستقبل.
إنَّ المُحتلين يُمثلون سلطة الوهم والأسطورة، بينما يُمثل المضطهدون المنتفضون سلطة الحاضر والمستقبل. وهذا ما لم تُدركه القراءة المضادة للقصيدة. ولم تدرك تلك القراءة طرافة الأسلوب، والسخرية المُتعمَّدة حتى في المطابقات والمجانسات، كقوله:
أو استخدامه القوافي الداخلية:
وهو لا يُهمل طاقة الكلمة لإيصال المفارقة المطلوبة، كقوله:
وفي نهاية القراءة يُبرز الناقد مضمون القراءة الصهيونية القاصرة بقوله: «إنَّ القراءة الصهيونية التي تبحث عن نوايا؛ والتي تنطلِق من نوايا سابقة أيضًا؛ لم تستطِع أن تجِد في القصيدة إلا الدعوة إلى رمْي اليهود في البحر وإخراجهم من أرض الأجداد وإبادتهم وإبادة موتاهم أيضًا! وهذه القراءة الساذجة والضجَّة العارمة التي خلقتها القصيدة تؤكدان مُلامَسة القصيدة لجوهر الصراع.»
•••
- أولًا: أنَّ الناقد استخدمَ في قراءته للنصِّ العلاقة بين «الخارج» المُتمثل في الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي لإنتاج النص، وبين «الداخل» المُتمثل في الجماليات الفنية التي بُنِيَ عليها النص؛ من ذلك استعانته بمبدأ الثنائيات في توجيه الخطاب الشعري وتقسيمه إلى مُخاطَبين ومُتكلِّمين. أي أنَّ الناقد قرأ النص في ضوء سياقه التاريخي، وهو ما يتناسَب مع ما ذهب إليه ياوس في علاقة التاريخ الأدبي بالجمال الفني.
- ثانيًا: أنَّ الناقد — وهذا العنصر يُعَد نتيجة للعنصر الأول — أرجَعَ النص إلى مركزٍ خارجي يئول إليه، وهو ما يتناسَب كذلك مع طبيعة الشعر العربي؛ لأن القول بنسف مَرجع النص والعصف بمركزه قول لا يقبله — من وجهة نظري — النقد العربي نهائيًّا.
- ثالثًا: أن الناقد قرأ القصيدة بوصفها موازاة فنية نجح درويش في إبداعها بين الواقع المعيش والواقع الفني؛ فالواقع المعيش يؤكد — حتى الآن — ضعف الآخر (الغاصب) — رغم ما يبدو عليه من مظاهر القوة والانتصار المُزيف — في مواجهة الأنا (الشعب الفلسطيني). وهذا ما رصدَتْه القصيدة واستنطَقَه الناقد منها.
- رابعًا: أن الناقد رغِبَ في التطرُّق إلى القراءة الصهيونية للقصيدة لإبراز سذاجتها ومُغالطتها للأمور وقصور فَهمها لجماليات الشعر العربي، وهو ما جعلها تُوجِّه مدلولات القصيدة حسب ما ترغب، لا كما هو موجود. وقد اتضح ذلك جليًّا في عدم وقوفها على المواجهة الفنية؛ لرغبتها في تناسي هذه المواجهة على أرض الواقع.٢٧
٢
وتبدأ الناقدة قراءتها بدراسة أصوات القصيدة. وأول ما يُطالِعنا من هذه الأصوات هو صوت الزمن، حيث تقول: «يظهر في المدخل الافتتاحي في القصيدة صوت الزمن (في شهر آذار) الشهر الذي يُحتَفَى فيه بعودة الخصب إلى الأرض، ويرتبط بشعائر كانت تجمع منطقة البحر الأبيض كلها، حيث كانت تُقام احتفالات سنوية لآلهة الخصب، أوزوريس وأدونيس وتموز وأتيس، تميزت بطبيعتها الواحدة واحتفائها — على الرغم من تعدُّد أسماء الآلهة واختلاف تفاصيل الشعائر — بتجدُّد النبات على الأرض في هذا الوقت من العام.
لكن هذا الزمن لا يُطلَق في هذه القصيدة على ذلك الزمن المعروف فحسب: إنَّ «آذار» ليس هو فحسب ذلك الزمن المُطلَق الذي «يأتي إلى الأرض من باطن الأرض» في حدثٍ كوني مُفعم بسرِّ الوجود، لكنه زمن فلسطيني مُحدَّد؛ «في شهر آذار، في سنة الانتفاضة» ما يزال الفلسطينيون يُقيمون له عيد الأرض. ويأتي ذلك الزمن في بُعدِه التاريخي الفلسطيني تاليًا على الصوت الأول، أي صوت القرار، فيكون جوابًا للَّحن الأساسي الأول. يُشكِّل الزمن في بُعدَيه جذرًا عميقًا يتغلغل في مقاطع النصِّ ويشدُّه إلى مركزٍ تتجمَّع فيه شبكة العلاقات التي تُنسَج حول الأرض.»
ثم يأتي بعد ذلك صوت الشاعر: «وما إن يتم دخول اللحنَين الأساسيَّين في مُفتتح القصيدة حتى يظهر صوت الشاعر مُتوحِّدًا بالأرض في بُعدَيها الكوني والوطني «أنا الأرض»، ومازجًا بين القرار والجواب في اللحن الأساسي الثاني. ولا يكون ظهوره بصيغة المُتكلِّم المُفرد فحسْب، وإنما يظهر كذلك مُتوحِّدًا مع الجماعة في «سنطردهم».»
وإذ تركز الناقدة اعتدال عثمان قراءتها على هذا الصوت (خديجة) تُبيِّن أولًا علاقته بالشاعر، قائلة: «إنَّ صوت خديجة يدخل إلى القصيدة، أول الأمر، مُرتبطًا بالعلاقة المحورية المُتشكِّلة من الشاعر. الأرض «أنا الأرض»، و«الأرض أنتِ»، «خديجة …» مما يكسب هذه العلاقة بُعدًا نبويًّا وقداسةً لا يمكن إغفالها، تتوازى مع الجو الشعائري وتتقاطع معه. إنَّ الشاعر يدفع بهذَين البُعدَين إلى خلفية الصورة الذهنية التي يرسمها للأرض. يدفع بهما إلى منطقة قصوى، حيث يكمُن في أغوار اللاوعي نزوع غريزي لإضفاء القداسة على مظاهر الحياة والموت، أو على قوى الطبيعة، كما يظهر هذا النزوع نفسه في الإيمان بالقِيَم الدينية السماوية المُنظِّمة للحياة. وتظهر أشكال أخرى لهذا النزوع في الإيمان بفكرة، أو عقيدة، أو مسعًى وطني … إلخ.
إنَّ هذا النزوع الأصيل في النفس يُوظَّف في القصيدة لتأكيد التشبُّث باستمرارية تاريخية تُجاوز التاريخ المكتوب، وتتشكَّل من قاعدةٍ تعلوها طبقات مُتتالية كطبقات الجيولوجية المكونة للأرض، فيُصبح المقدَّس المُمثَّل في خديجة، في نهاية المطاف، هو الحياة الأليفة، على نحو ما يتمثَّل في المقطع «١»: «لا تُغلقي الباب» و«إناء الزهور» و«حبل الغسيل» و«حجارة الطريق» و«هواء الجبل».»
وعن طبيعة الصوت في هذا السياق تقول الناقدة: «يدخل صوت خديجة في هذا السياق الحُلمي المُلْغز في شكل حوارٍ بين صوت خارجي هو نفسه صوت القرار في اللحن، ويقوم في هذا الموضع بالمزج بين الأصوات الأخرى التي تُمثل الأبعاد الدرامية في القصيدة، وبين صوت الجواب المُحمَّل بأبعاده الخاصة. ويُوجِّه إليها صوت الشاعر سؤالًا يبدو في ظاهره سؤالًا عاديًّا:
لكنه سؤال مَشحون في حقيقة الأمر بالتوتُّر والغليان؛ إذ إنه — على حين يؤسس العلاقة بين خديجة التي ارتبطت بالأرض والفتيات — يُضفي على الحدث، الذي سبق أن ظهر في سياقٍ أسطوري حُلمي قداسةً مكتسبة، كما أنه يُنذر بتطوُّر الحدث نحو غايته المأساوية، التي أشار إليها في الصيغة الحُلمية المُبهمة في المقطع الأول. ويأتي الجواب مُثبتًا الأبعاد السابقة ومُفجرًا — في الوقت نفسه — لغليانٍ مكتوم:
ويظهر السياق نفسه في هذا المقطع مُعدَّلًا ليشير إلى طور الحدث من ناحية، واقترابه من نهايته المأساوية من ناحيةٍ أخرى، وهي النهاية التي يُشير إليها التراب الذي يمشي «دمًا طازجًا في الظهيرة» فيقول:
وتعلق الناقدة على حدث الفتيات فتقول: «وعلى الرغم من تراكُب المستويات الأسطورية والدينية، فإن حدث الفتيات لا يفقد صفةَ الواقعية، بل على العكس، يؤكدها في ثلاث جُمَل فعلية، تُشير أفعالها إلى الزمن الحاضر «يقرأن أنشودة عن دوالي الخليل»، و«يكتُبن خمس رسائل»، و«يحلُمن بالقُدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة». فإذا ما جاءت النهاية المأساوية عندما تقتحم الفتيات «جنود المظلات»، و«ينكسرن مرايا مرايا»، يكون الحدث قد أدَّى دورَه في نسيج العلاقات، وفي توظيف الأبعاد الأسطورية والدينية، لتدعم استمرارية تاريخية هدفها النهائي: الأرض الآن وفي المستقبل.
وما إن يكتمل الحدَث حتى يبدأ في التراجُع، لكنه لا يختفي فجأةً وإنما تبقى منه ظلال كأنها الصدى، وتظهر تلك الظلال كالأصداء مُصاحبة لصوت خديجة التي كانت تتحدَّث عن حفيداتها على حين كانت «تحث الندى خلفهن»، لكنهنَّ يبتعِدن، ويدخلن في غياب العناق النهائي».»
وعن صوت خديجة في المقطع الخامس تقول الناقدة: «أما في المقطع «٥» فتتشكل الصورة كالتالي:
في هذه الصورة تكون كلمة «الندى» هي الظل الباقي، هي النار الخبيئة والجمرة التي يُطبق عليها الشاعر قبل الانطفاء النهائي فيشعلها بمدٍّ انفعالي صاخب، يتمثل في أربع جُمَل تقريرية متتالية:
وعن استدعاء صوت خديجة في المقطع السادس وارتباطه بتحقُّق النبوءة تقول اعتدال عثمان: «إنَّ استدعاء خديجة وحضورها الغامر في هذا المقطع يُصبح بشيرًا بقرب تحقق نبوءة الشاعر ونبوته التي ظهرت شاراتها في المقطع رقم «٥»، فاقترنت الأناشيد التي تُرفع إلى الوطن بزيتونة مباركة زمَّلته حين كان فؤاده يرجف فرقًا من هول التمزُّق الآني في الساحة العربية وجاهلية منافي الوجود الفلسطيني المُبعثَر في أرجاء العالم. وتنبلج الرؤيا آخر الأمر، وتتجلَّى فيضًا سماويًّا يغمر الأرض:
وفي تداخُل عناصر الوجود وتبادل خصائصها تقول الناقدة: «وما إن تنبلج الرؤيا وتقع في القلب موقع الإيمان والتصديق حتى يتم الاتصال الكُلي فتحل الذات العاشقة في الأرض التي تمتدُّ حدودها إلى ما لا يُحَدُّ؛ إلى آفاق روحية مجهولة البدء والمُنتهى. وتسري تلك الطاقة الهائلة إلى الطبيعة فلا تُصبح الطبيعة وحدَها مصدر خصوبة الحياة النباتية على سطح الأرض، وإنما ينفجر الخِصب من قلب عاشقٍ يمنح الطبيعة ذاتها آية من آيات الخصب الكامنة فيها «يقتبس البرتقال اخضراري ويصبح .. هاجس يافا». فالاخضرار، علامة الحياة النباتية، يُصبح هنا صفة من صفات الشاعر التي يتبادلها مع عنصر نباتي، على حين يصبح جوهر الحياة والنماء هاجسًا يدور، لا بخلد بشرٍ، وإنما يدور بخلد مظهر حيوي من مظاهر الحياة النباتية في فلسطين، أعني برتقال يافا.»
ويكون هذا التبادل الحُر بين خصائص الموجودات وموقعها في سُلَّم الوجود مقدمةً تؤذِن بالدخول إلى مركز الحركة في القصيدة كلها، والبؤرة التي تستقطب التداخُل والتشابك بين الألحان الأساسية التي تصِل إلى احتدامٍ عنيف في هذا الجزء من المقطع، فتندمج عناصر الوجود وينصهر الكوني بالبَشري بأشكال الحياة الأخرى، ويندمج النبوي بالأسطوري، والواقعي بالحُلمي، والسردي بالغنائي، ويبدو الوجود مهرجانًا وعُرسًا للاحتفاء بتخلُّق فلسطين، أندلس المُمكن الذهني، في كوكبٍ آخر وفي مجرة أخرى؛ إذ تنبثِق في سديمٍ من الشعر.
- أولًا: لفتت الناقدة اعتدال عثمان الانتباه إلى خاصية من أهم خصائص شعر الحداثة وهي تعدُّد الأصوات داخل القصيدة؛ فثم صوت الشاعر وصوت الزمان والمكان وصوت البنات الخمس وصوت خديجة … إلخ. وعلى هذا لم تعُد القصيدة الحداثية تُبنى على الصوت المُفرَد الذي كان يُمثل — غالبًا — صوت الشاعر في المراحل الشعرية السابقة. ولم تكتفِ الناقدة بإظهار كل صوتٍ على حدة، بل بيَّنت تداخُل هذه الأصوات، ومن ثَمَّ مشاركتها في إنتاج الدلالة.
- ثانيًا: كشفت الناقدة عن شيءٍ مُهم عمد إليه الشاعر في بناء قصيدته، وهو توظيف عناصر النص في خدمة الدلالة؛ فالرمز خديجة، والفتيات الخمس، وشهر آذار، وصوتا الزمان والمكان، وكذلك صوت الشاعر نفسه، كل هذه الأصوات انصهرت في بوتقة واحدة كشفت عن هذا الحدث الدرامي الذي جسدته القصيدة بوصفها رؤية فنية للواقع.
- ثالثًا: ربطت الناقدة — بتوسُّع أفُق توقُّعها — بين عناصر النص وما يكتنِفها من ماضٍ يُمثل الأساطير، مثل ارتباط شهر آذار بالخصب والنماء، ويُمثل كذلك الماضي الإسلامي من خلال الرمز «خديجة» كما كانت على وعي تام عندما رصدت التناصَّات القرآنية في بعض مواضع التفسير. ورغم هذا الارتداد لم تنفِ عن الرمز دلالته المُعاصرة؛ فمثَّلت خديجة لديها الأرض الفلسطينية، إذ خلعت عليها بُعدَين؛ الأول: نبوي مُقدس مُرتبط بالنبوءة، والأخير: مرتبط بالحدث الفعلي اليومي وهو مقتل الفتيات الخمس.
- رابعًا: عزت الناقدة لجوء محمود درويش إلى الحقائق الكونية بالربط بين ما هو
حسِّي واقعي وما هو معنوي رُوحي برغبته في الفرار من هذا الواقع اليومي
المُحبط المُتناحر، وذلك حين قالت: «إنَّ الشاعر يلجأ إلى تلك الحقائق
الكونية؛ لأن اليومي مُحبط ومُمزق ومُتناحِر إلى درجةٍ يصعب التعايش معها
كما قلت، إنه يقوم بتجميع صورة ذهنية لوطن مُستلَب، عناصرها شذرات من
مرايا مُهشَّمة ومبعثرة في ماضٍ ناءٍ غائر في الذاكرة، لكنه يتوهَّج بحياة
لا تنطفئ؛ لأنها الحياة الوحيدة القادرة على بعث الحياة في حاضرٍ ميت،
أو يكاد يموت، على حين تبدو نذُر المستقبل قاتمة.»٤٠
وعند هذه النقطة يمكن القول إن محمود درويش تأثر — في خلق هذه الموازاة الفنية للواقع — بالمثالية الإيجابية التي ترى أن الفن الصحيح هو الذي يُكمل الواقع ولا يَنفيه؛ أي أنه يقف منه موقفًا إيجابيًّا لا سلبيًّا، وهو الاتجاه الذي ظهرت بوادره عند روَّاد شعر التفعيلة، والذي يبتعِد تمامًا عن المثالية السلبية التي كانت تتطلَّع إلى خلق عوالم مثالية تُجافي الواقع المعيش.
- خامسًا: ربطت الناقدة بين الإبداع عند درويش وأيديولوجيته تجاه الواقع، وقد اعتمدت في هذا الربط على التفاعُل بين المقاطع السردية والمقاطع الغنائية. ويمكن القول إن اعتدال عثمان قد تبنَّت — في هذا الموضع — وجهة النظر الماركسية التي تربط بين الإبداع (البنية العليا) والواقع.
- سادسًا: وظَّفت الناقدة الجوانب الشكلية للنص في خدمة الدلالة؛ وذلك عندما قسَّمت النص إلى اثني عشر مقطعًا مُرقمًا بالعربية والهندية توازي عدد شهور السنة، وكذلك التداخُل بين المقاطع السردية من ناحية والغنائية من ناحية ثانية. وتطرُّقها إلى العلاقة بين اللغة التركيبية والإيقاع، وعلاقة الإيقاع بالأيديولوجية.٤١
وتدخل الناقدة إلى القصيدة مدخلًا لغويًّا، تربط فيه بين الأرض وشهر آذار «زمن الربيع»، فتقول: «هناك أولًا، ستُّ عباراتٍ شعرية تتكرَّر عبر ستة مقاطع شعرية كاللازمة، وهي تأتي — حسب مقامات الكلام — بعضها في المبتدأ والآخر يتخلَّل الجُمَل الشعرية في الوسط، وبعضها الآخر ينتهي بها المقطع الشعري، وهذه العبارات الشعرية مرتبطة بالأرض في زمن الربيع «شهر آذار».
وفي تفاعل العناصر في فصل الربيع بما في ذلك قلب الشاعر، تقول الدكتورة فاطمة طحطح: «وفيه — أي الربيع — تمدُّ العصافير مناقيرها في اتجاه النشيد وقلب الشاعر فيصرخ هذا الأخير:
وفي هذه المنطقة من الدراسة يدخل رمز خديجة الذي يكاد يستحوذ على خارطة القصيدة كلها. ولكي تُبرِز الناقدة تفاعُل خديجة مع بقية عناصر القصيدة وهي القدس والبنات الخمس والزمان الربيعي، تعود إلى بداية النص:
ثم تنتقل الناقدة إلى إظهار التفاعل بين عناصر الطبيعة في شهر آذار، وما قد يَجمعه هذا الشهر حوله من ثُنائيات، فتقول: «هكذا تتَّضِح العلاقة، شيئًا فشيئًا (عبر امتداد مقاطع القصيدة) بين الأرض وآذار، وسنة الانتفاضة، والبنات الخمس، والشاعر، والعصافير، وبين كل هذه الأشياء، خديجة وما فاهت به الأرض من أسرار!
ثم تسوق الناقدة هذا المقطع الذي تجمع فيه اللحظة الشعرية بين الأزمنة المختلفة:
وفي تعليق الناقدة على هذا المقطع تقول: «إنَّ اللحظة الشعرية تجمع بين أزمنةٍ مُتعدِّدة، فليس هناك ماضٍ مُنعزل أو حاضر يحجز عن الشاعر رؤية الماضي، ثم ليس هناك مُستقبل لا صِلة له بالحاضر أو الماضي، فالكل مندمج والكل حاضر في اللحظة الشعرية.
وتسوق الناقدة هذا المقطع الذي يستحضر فيه الشاعر لحظة الإسراء والمعراج ويخلعها على الحُلم وعلى القدس:
وفي فضاء القصيدة العربي–الإسلامي تقول الدكتورة فاطمة طحطح: «إن الذي أعطى القصيدة عُمقها الشعري، هذا الفضاء العربي–الإسلامي الذي تتحرك القصيدة في إطاره، فالشاعر بدلًا من أن يَستوحي من الأساطير القديمة اليونانية والبابلية وغيرها أقنعته الفنية ورموزه … استوحى في هذه القصيدة من التراث العربي الإسلامي.
فهذا الزمان الربيعي زمان الحياة الجديدة، الزمان الذي يتحوَّل فيه الحصى إلى أجنحة، والندى إلى أسلحة، وضلوع الشاعر إلى حجارة، هذا الزمان الذي تصدح فيه الأناشيد بلُغةٍ أخرى في شهر آذار وسنة الانتفاضة … هذا الزمان الذي ستفتتح فيه البنات الخمس نشيد التراب، ويدخُلنَ فيه العناق النهائي … هذا الزمان من الحب ومن السجن، والذي يستيقظ فيه الخيل، ويمتدُّ فيه الناس في الأرض وتمتدُّ فيهم … هو زمان خديجة وصعود الفتى العربي إلى الحُلم وإلى القدس هو زمان خديجة.» ثم تسوق الناقدة هذا المقطع الذي يُبرز بقاء خديجة (الأرض) مع أن كل شيءٍ سيذوب ويُصبح إلى زوال:
وفي بلورة أخيرة لرمز خديجة وعلاقته بالشاعر تقول الناقدة: «لقد أصبحت الرؤية واضحة — الآن — لدى الشاعر، فهو لن يختار غير خديجة، ولن يُصدِّق غير ما تقوله خديجة؛ خديجة هي الأرض، وهي التراث وهي القدس، وهي العمر الجديد، يقول:
- أولًا: أن الناقدة قرأت
هذه القصيدة في سياقها الاجتماعي بما بُنِيت عليه من عناصر: الأرض، الفتايات الخمس،
شهر
آذار، المدرسة، الشاعر نفسه بوصفه مُمثلًا للفلسطينيين جميعهم. وكذلك سياقها الديني
بكل
عناصره التي تغلغلت فيها؛ فثَمَّ الرمز خديجة، واستدعاء الإسراء والمعراج، وكذلك
بعض
التناصَّات القرآنية التي احتوت في داخلها على بعضٍ من القصص القرآني.
وقد غلَّفت ذلك كلَّه بالسياق التاريخي الذي لم يظهر على السطح، بل كان يعمل في الخفاء من خلال فِعل الآخر (العدو) وما أحدثه من دموية في حادث البنات الخمس.
- ثانيًا: اعتمدت الناقدة في إبراز الدلالة النصِّية على مبدأ الثنائيات، وبخاصة عندما ربطت هذه الثنائيات بشهر آذار؛ لتُبرز البُعد المزدوَج لهذا الشهر؛ فرغم أنه شهر البهجة والسعادة، بدا شهرًا حزينًا، فهو شهر الموت والحياة في الوقت نفسه.
- ثالثًا: أقرَّت الناقدة أن اللحظة الشعرية لحظة لا تعرف زمنًا مُحددًا، بل تقوم على تداخُل الأزمنة؛ فهي لحظة انصهارية تجمع بين الماضي والحاضر والمُستقبل، وتلتحِم فيها العناصر حتى تُصبح عنصرًا واحدًا، وهذا هو ما لُحِظ عند تداخُل الأشياء في شهر آذار. وهو سمة الإبداع السليم الذي لا ينقل الواقع نقلًا حرفيًّا بقدْر ما يُعَدُّ موازاة فنية يُخالف منطقها منطق الواقع المحسوس في العلاقات التي تجمع بين الأشياء.
- رابعًا: أرجعت الدكتورة فاطمة طحطح العمق الشعري الذي حظِيت به القصيدة إلى الفضاء العربي-الإسلامي، إذ استقى الشاعر أقنعته الفنية ورموزه من التراث العربي-الإسلامي، مما يدلُّ على حيوية هذا المنبع.
- الأولى: أنَّ نظرية التلقِّي تختلف عن بقية المناهج الأخرى، رغم أنها تُعدُّ
جميعها ضربًا من التلقي. ويعزو هذا الاختلاف في حقيقته إلى طبيعة
الإجراءات التحليلية لكل منهجٍ وعلاقتها بكلٍّ من النص والمُتلقي؛ فبالنظر
إلى المناهج السابقة، وهي البنيوية والسيميولوجية والأسلوبية، نجد أن
إجراءاتها التحليلية قامت في أساسها على الارتباط بالنص المقروء ذاته،
مما يجعل المُتلقي مرتبطًا — في عملية التحليل — بهذه الإجراءات، وإن
كان بوسعه أن يُطوِّعها لتُناسب طبيعة بيئة شعرية مُعيَّنة.
أما في نظرية التلقي، فالأمر يختلف؛ لأن مركز الثقل النقدي انتقل من النص إلى القارئ، وما دام القرَّاء يختلفون فيما بينهم في أفق توقعاتهم وتفاوت خبراتهم النقدية، فلا بدَّ أن يكون ثمَّة اختلاف بين القراءات المُتعدِّدة للنص الواحد، فلم تَعُد الإجراءات التحليلية ثابتة أو مُتعارفًا عليها، بقدر ما غدت نِسبية.
- الثانية: أنَّ كون التلقِّي أصبح نسبيًّا يختلف من ناقدٍ لآخر، فإن هذا يقودنا إلى عدم الانتقاص من قراءةٍ ما بُمقارنتها بقراءةٍ أخرى. وهذا الطرح أقرب إلى ما أنا بصدده الآن في القراءات المتنوعة لقصيدتَي محمود درويش: «عابرون في كلام عابر»، و«الأرض». فكل نصٍّ قُرِئ مرَّتَين تُكمل إحداهما الأخرى؛ فإذا كشفت إحداهما عن جانبٍ من النص، تكشف الأخرى عن جانبٍ آخر … وهكذا. وكلما تعدَّدت قراءات النص تميَّز هو بالثراء الفني الذي يضمن له الخلود على مرِّ الأزمنة.
- الثالثة: أنه في أحيان كثيرة يفرض النص دلالته على المُتلقي، مما يجعله يُحلل النص في إطار هذه الدلالة؛ فمثلًا في قصيدة «عابرون في كلام عابر» لا يخفى على أي ناقدٍ أنَّ المخاطب هنا هو العدو (الكيان الصهيوني) وأنَّ المُتكلم (الباقين) هم الفلسطينيون. لذلك جاءت قراءة هذا النص مُتقاربة عند الناقدين: الدكتور الغذامي والناقد حاتم الصكر. والأمر نفسه نجده في قصيدة «الأرض»، فلا يُعقَل أن يُحلل ناقدٌ ما هذه القصيدة دون الجزم بأن مدلول الأرض (خديجة) هو الأرض الفلسطينية، وأن ما فعله الشاعر محمود درويش يُعَد موازاة فنية لدرامية الواقع المحسوس. وإذا كان ثَمَّ اختلاف بين تلك القراءات، فهو يتمثَّل في الإشاعات اللغوية والتوسُّع في أفق التوقُّعات من ناقدٍ لآخر، مع ثبات الدلالة الأصلية في النصَّين، مما يجعلنا نُقر بتحقيق مبدأ القصدية في الشعر العربي.
- الأخيرة: أنه في بعض الأحيان — وهي نقيض النقطة السابقة — تختلف قراءات النص
الواحد اختلافا جوهريًّا. ويحدُث هذا الأمر عندما يعتمد النص في بنائه
على الرمز الذي يَشوبه شيء من الغموض. وهنا فقط، يستطيع كل ناقدٍ أن يُفسِّر
الرمز تفسيرًا مُستقلًّا، فتعدُّد مدلولات الرمز من قراءةٍ لأخرى لا يعني
ذلك أن يشتطَّ أيٌّ من النقَّاد في تفسيره؛ لأن مرجعه الأول والأخير هو النص
نفسه؛ فكلما استطاع الناقد أن يُدلِّل على صحة مدلول الرمز في قراءته
باعتماده على الجماليات الفنية للنص المقروء، حَظِيَت قراءته بالمشروعية
والإقرار النقدي. مما يعني أن عملية التفسير ذاتها ليست عمليةً مائعة أو
قائمة على اللامحدودية.
وهذه الخشية من لامحدودية التفسير هي التي دفعت ستانلي فيش إلى القول بانتماء الناقد إلى جماعةٍ مُفسرة، حرصًا منه على عدم ضياع النص وسط تعدُّد القراءات واتِّصاف بعضها بالخلل في بعض الأحيان.٥٢