الفصل الخامس
آراؤه في الرجال
إن اللهو واللعب لا يكونان خلق الرجال.
وشر معائب المرء القمار
لا تزعزع ثقتي في الرجل نقيصة بأسرع مما تزعزعه نقيصة القمار، فإذا بلغني أن رجلًا موصوم بتلك النقيصة سقط لوقته في نظري، ويستحيل عليَّ بعدُ أن أعول عليه أو أركن في أمر من الأمور إليه.
خلة من خلال العظماء
ليس في وسعي أن أخلق رجالًا لأتخذهم أعوانًا، ولذا أكتفي بالانتفاع بمن أجد في طريقي.
قوة البيان
إن للكلام قوة قاهرة ونفوذًا شاملًا على عقول الرجال.
ما يصح عن الرجل الأبي
إن المنافع لا تستجلب الرجال.
جزى الله الشدائد كل خير
كنت أظن وأنا سعيد أنني أعرف كنه الرجال، ولكن قُضي عليَّ أنني لا أعرفهم حق المعرفة إلا في شقوتي وبؤسي (١٨١٤).
دناءة الرجال
أتعلم ماذا يكون أصعب على الحر من انقلاب الأيام ومعاكسة الدهر؟! إن دناءة الرجال ونكرانهم للجميل أشد على النفس من مصائب الزمان. الراحة في الموت (١٨١٤).
آراء الرجل العظيم المتقزز
إن خبرتي بأخلاق البشر في الأيام الأخيرة أبعدت عن ذهني سائر الأوهام التي تخفف عن أصحاب العروش والتيجان بعض مصائبهم وأحزانهم، فأنا منذ الآن لا أعتقد فيما يسمونه بحب الوطن؛ لأن الوطنية كلمة فارغة تؤدي معنى شريفًا جميلًا، إن حب الوطن هو عبارة عن حب الإنسان لذاته ودفاعه عن مركزه وتفانيه في الحصول على منافعه الخاصة بشخصه (١٨١٥ بعد وترلو).
تخلي الصغار عن الرجل العظيم
إنكم لا تعرفون أخلاق الرجال؛ لأن ذلك يصعب عليكم وعلى غيركم، فإن الواحد منا لا يمكنه أن يعرف كنه نفسه. إن الذين هجروني ونأوا عني لم يكونوا ليحلموا بالانصراف لو أنني بقيت والدنيا مقبلة عليَّ والآمال تحوم حولي.
إن في الحياة فضائل ورذائل تسببها وتظهرها الأحوال والحوادث، أما محبتي أنا فمما لا تحتمله الطبيعة البشرية، على أنني أنسب عمل القوم الذين انصرفوا عني إلى ضعف في طبائعهم، ولا أنسبه إلى الغدر والخيانة، فمثلهم كمثل القديس بطرس مع المسيح، ولعلهم كانوا يتوبون لو ثابوا إلى رشدهم، مع أن رجال التاريخ كانوا أكثر مني أصحابًا وخلانًا وأقرب إلى قلوب الأمة وأحب إلى وطنهم مني، ومَن من رجال التاريخ استبكى الرجال والنساء بما حدث له من المصائب والكوارث؟ من ينكر عليَّ أنني وأنا في هذه الجزيرة القحلاء لا أزال أحكم بلاد فرنسا التي تمزقها الثورات كل ممزق، وتبدد شملها القلاقل والفتن؟! إن حلفائي وأنصاري من الملوك والأمراء حافظوا على ودي إلى أن قُضي الأمر وحملتهم شعوبهم على تركي وشأني، أما الذين كانوا حولي فقد أصابتهم صاعقة من السماء، فلم يفيقوا لأنفسهم، إني لا ألوم الناس بعد أن رأيت منهم ما رأيت؛ لأنه كان يمكنهم أن يسيئوا إليَّ وكانوا يستطيعون أن يظهروا بمظهر أفظع مما ظهروا به.
رجال المال
إن رجال المال ينفعون في بعض الأحيان نفعًا كبيرًا؛ لأنهم قد يعرفون كل شيء، ومن يعرف كل شيء لا يستهان به.
إلى طلاب الطب والحقوق
إنني لا أثق بالعقاقير، والعلاج الذي ألجأ إليه إذا مرضت إنما هو الصوم والاستحمام بالماء الحار، ومع ذلك فإنني أحترم فن الطب والجراحة احترامًا عظيمًا، وأعتبره فوق سائر الفنون، فإن صناعة المحاماة صعبة المراس على الإنسان؛ لأنها تستدعي تشويه الحقيقة ومزج الحق بالباطل، وإذا اعتاد المحامي على سروره بانتصار الباطل على الحق، كانت عاقبته وخيمة؛ لأن تلك النقيصة تنتهي بعجزه عن التفريق بين الحسن والقبيح والعدل والظلم والحق والباطل. وكذلك فن السياسة، فإن المشتغل به لا بد له من ذمة تسع كل شيء، وكذلك رجال الدين يتحول صلاحهم إلى فساد وخيرهم إلى شر، فيصيرون مرائين ومنافقين؛ لأن الناس ينتظرون منهم أكثر مما يستطيعون إتيانه من الخير، أما الجنود فهم لصوص وقتلة. ولكن الواجب الذي يقوم بتأديته الطبيب والجراح هو واجب إصلاح الجسم البشري، وهو بلا ريب واجب أسمى من أعمال الذين يسببون الشقاق بين الناس ويشعلون نيران الحروب (١٨١٥).
الخطباء والمنطق
إن الخطباء البلغاء الذين يديرون دفة المجامع والمجالس السياسية يكونون في الغالب من المتوسطين في فن السياسة، والأولى ألا يعارضوا في أقوالهم؛ لأن لديهم من الألفاظ والمعاني والأصوات الجهورية ما يغلبون به من يعارضهم، ولا يمكن الفوز عليهم إلا بالجدل المنطقي؛ لأن قوتهم كائنة في الخيال؛ فهم على الدوام يلجئون إلى النظريات المبهمة لإثبات أقوالهم، وكلهم قوَّالون، ويندر بينهم الفعَّالون، فخير وسيلة للفوز عليهم إقناعهم بالحوادث الواقعة والحقائق الواضحة، وقد حدث لي أنني كنت ألقى في المجلس خطباء فصحاء نصيبهم من البلاغة والبراعة في تزويق الكلام أوفر من نصيبي، ولكنني كنت على الدوام أغلبهم وأقنعهم بدليل بسيط وهو مجموع اثنين واثنين أربعة.
آراء بونابرت في محمد والإسلام
لقد ظهر محمد في وقت كان الناس فيه محتاجون إلى من يهديهم إلى عبادة إله واحد، وقد يمكن أن تكون جزيرة العرب قضت حينًا من الدهر في الحروب الأهلية التي تورث الشجاعة.
إن محمدًا بعد موقعة بدر صار بطلًا عظيمًا في نظر قومه، وقد استطاع أن يقوم بعد ذلك بأعمال كبرى؛ لأن الرجل وإن كان رجلًا لا يزيد ولا ينقص، فقد يمكنه أن يدهش العالم بما يتم على يديه، هذا إذا كان الوسط الذي حوله مستعدًّا لقبول عمله، أما إذا كان الوسط مغايرًا له في الطباع والأميال، فقد يكون الرجل كالشعلة في وسط الشجر الأخضر لا تؤثر فيه، وأنا أعتقد أن محمدًا لو بعث اليوم (سنة ١٨١٧) في جزيرة العرب لما استطاع أن يقوم بما قام به منذ اثني عشر قرنًا، ولكنه في عهده استطاع في عشر سنين أن يفتتح نصف العالم المعروف مع أن الدين المسيحي احتاج إلى ثلاثة قرون حتى استتب له الأمر. إن الدين المسيحي دين عويص لا يفقهه أهل الشرق بسرعة، فهم يحتاجون إلى دين أكثر وضوحًا وأقل تعلقًا بالسماء من دين المسيح.
بونابرت ووشنطون
لما بلغت الذرى ودانت لي سائر القوى تمنى القوم لو أنني أصير كوشنطون، وقد قال هذا من قاله؛ لأن الكلام لا يكلف صاحبه شيئًا، ولأن القائل جاهل بالأحوال والأيام، فإنني لو كنت في أمريكا لوددت من صميم فؤادي أن أكون كوشنطون، ولم يكن لي فضل لأنني لم أكن أستطيع أن أكون غير ذلك، ولو أن وشنطون كان في فرنسا معرَّضًا للقلاقل والفتن في الداخل وللحروب في الخارج لعجز تمام العجز عن السير على الخطة التي سار عليها في أمريكا، ولو أنه حاول ذلك لوصمه التاريخ بالجنون؛ لأن سلوك مثل ذلك السبيل لم يكن يؤدي إلا إلى استمرار السيئ. أما أنا فلم أكن أستطيع أن أقوم بما قام به وشنطون إلا وأنا فوق عرشي وعلى رأسي تاج وفي يدي صولجان وحولي الملوك والأمراء الذين دانوا لي واستوليت على بلادهم، حينئذ كان يمكنني أن أعدل عدل وشنطون، وأسير بمقتضى علمه وحكمته، ولم يكن هذا يستطاع إلا إذا صرت ملك العالم، وكانت هذه غايتي، فهل تعد تلك الغاية جريمة لا تغتفر؟!