الفصل الأول
بداية الخطابة
١
الخطابة إحدى ضروريات المجتمع من أقدم العصور. فبمجرد أن عمَّ النظام بين الناس على
قواعد المساواة للقيام بعمل جماعي، وجدت المناسبات التي تضاربت فيها الآراء إلى خير
الطرق التي تُتَّبع لصالح القوم. وإذا لم يكن بينهم ملك موهوب له من النفوذ ما يمكِّنه
من فرض إرادته؛ فإن على الأغلبية أن تفصل في الأمور وتقرَّر هل تقاتل أو تركن إلى
الفرار، وهل تقضي على عدوها أو تبقي عليه. وهكذا وجبت مناقشة آراء وخطط متباينة. وفي
الحالات التي تتعادل فيها الآراء ولا ترجح كفة على أخرى، ينتصر الفريق الذي يستطيع أن
يفيض في كل ما يؤيد آراءه ويعززها بالحجج الدامغة ويعرضها بطريقة أكثر إقناعًا؛ ومن هنا
كانت الحاجة إلى الخطابة للتشاور فيما بينهم.
لقد كان الإغريق خطباء بالفطرة؛ فنجد فيما نملكه من السجلَّات شبه التاريخية أن فصاحة
اللسان هبة لا تقلُّ عن الشجاعة في القتال. ولم تقُم شهرة الملوك والأمراء على قوة
بأسهم فحسب، بل كانوا يقودون الشعوب بآرائهم ونصائحهم؛ إذ كانوا يستعملون الحكمة وطلاقة
اللسان في إملاء تعليماتهم. وحيث إن القوة والإقدام ملك للجميع؛ فيشترط في القادة
الحقيقيين صحة المشورة وسداد الرأي βουλήφοϱοι
ἄνδϱες، فهذا نستور Nestor الذي
تعدَّى سن القتال أو كاد، يعتبر من الأوائل بسبب فصاحته. وبينما يقاسم أخيلليس
Achilles أمجاد الإلياذة مع عدَّة محاربين آخرين؛
فإن أودوسيوس Odysseus الصادق المشورة، كان الموضوع
الرئيسي لمنظومة بأكملها.
ويوضح لنا فوينكس
Phoenix في الكتاب التاسع من
الإلياذة، المثل العليا التي كان يهدف إليها تعليم الأمراء؛ فيروي كيف درَّب أخيلليس
الصغير «ليتلاعب بالألفاظ ويقوم بعظائم الأعمال»؛
١ وقد برَّر أخيلليس، كما نعلم عنه، هذا التدريب. وإن الشخصيات التي تحتلُّ
المرتبة الأولى في الأسفار الهوميرية، هم خطباء مفوَّهون، على استعداد، وفي مقدورهم
المناقشة عن إدراك وسداد رأي، في أيِّ موضوع معقَّد، علاوة على الاسترشاد بالمبادئ
العامة. فكثيرًا ما يستشهد نستور بالسابقات التاريخية، ويعطي فوينكس
٢ توضيحًا رمزيًّا، كما يشير كثير من الخطباء إلى قدسيَّة القانون والتقاليد.
فعلى الرغم من حصر الفكر في معالجة الأمر الخاص؛ فإن مختلف المسائل العامة ليست متعددة
على الإطلاق.
يستطيع الناصح الهوميري أن يؤيد آراءه ويفنِّد وجهات نظر منافسيه ويحقرها، بسهولة
وطلاقة طبيعيتين واستعداد للطعن، يحسده عليها أي خطيب محنَّك يسوس الشخصيات مثل
ديموسثينيس Demosthenes.
فمن غيث أخيلليس المرتجل ومَن على شاكلته، إلى فن لوسياس
Lysias وديموسثينيس المدروس، مسافة طويلة خلال قطر
مجهول، وبديهي أنه لا يمكن نتبع مجرًى معيَّن للتطور. بَيدَ أن هناك إشارة إلى هوميروس
ذات فائدتين؛ فأولًا قد تشير إلى أن الخطابة الإغريقية بداهة نشأت وترعرعت في الوطن
الإغريقي، يؤيد ذلك أنه يمكن العثور على بذورها في أولى الأخبار التاريخية. وثانيًا كان
يدرس هوميروس بشغف وورع زائدَين، ولم يكن يدرسه الخطباء الأثينيون أنفسهم فحسب، بل
وكذلك مشاهير من سبقهم مباشرة من الأدباء، والسفسطائيون الذين لم يكن لهم وطن معيَّن،
ومشاهير خطباء صقلية، حتى صار أثره أعظم مما قد يبدو لأول وهلة.
٢
يمكن دراسة سجلَّات الفصاحة من وجهات نظر عديدة مختلفة، ويمكن تقسيمها بالتقريب إلى
قسمين «أدبي» و«عملي»، ولو أنه من العسير دائمًا جعل
العناصر واضحة؛ فدراسة ما كتبه الخطباء الأثينيون، يجب أن تسير على نظام معيَّن يتناول
تطوُّر النثر الآتيكي. أما في مثل عملنا هذا الذي يعنى بالخطباء فقط؛ فلا يمكن القيام
بتلك الدراسة على الوجه الأكمل. فبينما يبدو محتملًا أن نناقش تأثير ثوكوديديس
Thucydides أو أفلاطون
Plato في ديموسثينيس؛ لا نجد مجالًا للتفكير في مدى
تأثُّر المؤرِّخ مباشرة بأنتيفون Antiphon أو الفيلسوف
بجورجياس Gorgias، ولو أنه يمكن التنويه بإشارة سطحية
إلى أنه كان هناك مثل هذا التأثُّر.
غير أنه إذا نظرنا إلى البلاغة من حيث كونها فنًّا عمليًّا دون التعرُّض إلى قيمتها
الأدبية، تصبح مهمتنا سهلة يسيرة. فنرى أن الأدب يعلو ويهبط وتكتنفه الأعاصير، في حين
أن الخطابة، ولا سيما خطابة المناظرة، تسير على نهج متجانس منتظم؛ فلقد تشابهت أغراض
أنتيفون وديموسثينيس إلى حدٍّ كبير، كما كان عليهما أن يقطعا مراحل متشابهة، ويتغلَّبا
على عقبات متماثلة، ويعالجا حل مسائل تتشابه من حيث التعقيد. وإن دراسة طرقهما المختلفة
في معالجة مثل هذه المسائل قد تعطي بعض النتائج المعقولة المسلِّية التي تكون عونًا
لتاريخ «فن الإقناع»، وحتى هنا تقابلنا بعض الصعاب؛ فإنه من المعروف أن إيسوقراط
Isocrates، أحد المعدودين من أعاظم الخطباء، لم يكن
قط كما كان ديموسثينيس، ولم يكن المقصود تلاوة ما تسمَّى خطبه على الإطلاق، وقد اعتمد
مفعول هذه الخطب على أسلوبها الأدبي أكثر من مزاياها العملية.
وربما كان هناك عامل هامٌّ واحد مشترك بالنسبة لجميع الخطباء؛ ألا وهو أنهم جميعًا
يعطوننا بطريق مباشر أو غير مباشر مواد عظيمة القيمة لدراسة التاريخ الأثيني، ومعلومات
عن الحياة العامة والخاصة والطابع القومي في عصورهم.
فالخطب التي كانت تلقى في المجالس والمجامع العامة، تزيد معلوماتنا التاريخية
اتساعًا، كما أن الخطب الخاصة التي كثيرًا ما كانت تتناول أمورًا تافهةً للغاية، تمدنا
بمعلومات عديدة مختلفة عن المسائل العائلية والمنزلية لا يمكن أن تقارن إلا بالمعلومات
التي عرفت حديثًا من أوراق البردي المصرية.
٣
قد يبدو أن الحرية الدستورية والحماسة الوطنية ضرورتان أساسيتان لنمو الخطابة، غير
أنه يجب أن يكتنف التصريح بهذا القول شيء من الحيطة؛
إذ هناك آلاف من المؤثِّرات الفعالة الأخرى، وليس لدينا سجلَّات عن الخطابة في أثينا
قبل قيام الديمقراطية. وقد انهارت الخطابة بسرعة فائقة بعد تحديد النفوذ الأثيني نتيجة
لانتشار الحضارة اليونانية Hellenism تحت إمرة الإسكندر
Alexander.
ويعطينا خيال هيرودوت في مناقشات المحكمة الفارسية، فكرة عما كان يراه في خطابة العصر
السابق، بَيدَ أنه عندما نقل آراء بلاده إلى بلاد أخرى دون التعرُّض إلى المذهب الواقعي
تعرُّضًا خطيرًا، أصبحت تلك الخطب قليلة القيمة لنا. ولقد أدخل ثوكوديديس خطبًا في
تاريخه، إلا أنه يعترف صراحة بأنها من نسج الخيال ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، وعلى ذلك
ينبغي أن ينحصر اعتمادنا في ثوكوديديس؛ لنستقي المعلومات عن بلاغة أوائل خطباء
الديمقراطية السياسيين.
وقد خلَّف ثيموستوكليس
Themistocles شهرته كخطيب،
ويشير إليه هيرودوت، وقد خطب في الإغريق قبل معركة سلاميس
٣ Salamis، ويقرِّظ ثوكوديديس قدرته على
التعبير عن سياسته،
٤ ويصفه مؤلف خطبة الرِّثاء التي تنسب خطأً للخطيب لوسياس
Pseudo-Lysian Eptaphios، بالكفاءة في الخطابة
والفصل في الأمور والقيام بالأعمال.
٥ وليس عندنا زيادة على هذه الملاحظات الضئيلة، وإشارة شيشيرون
٦ Cicero إلى فصاحته، سوى بلوتارخوس
٧ Plutarch الذي يخبرنا أنه شغف بالخطابة
منذ حداثة شبابه، وأنه درس على يد سفسطائي يدعى منيسيفيلوس
Mnesiphilus، يبدو أنه علَّمه شيئًا عن علم تدبير
شئون الدولة. ويسجِّل بلوتارخوس رده على يوروبياداس
Eurybiadas عندما عيَّره في مجلس الحلفاء بأنه رجل
لا مدينة له؛ حيث إن أثينا
Athens كانت قد أخليت، ولذلك
فلا يتمتَّع بحق الخطابة:
«لقد تركنا بيوتنا وأسوارنا، أيها الوغد، غير راضين بالعبودية من أجل هذه
الأشياء العديمة الروح، ومع ذلك فإنه لا
تزال لنا مدينة — هي أعظم المدن الإغريقية — وفي أسطولنا مائتا سفينة حربية
triremes، على استعداد الآن لمساعدتك إذا
كان يُهمك أن تنجو بمعونتها. أما إذا رحلت عنَّا ووشيت بنا مرة ثانية؛ فإن
العالم الإغريقي سيعلم في الحال أن للأثينيين مدينة حرة ووطنًا ليس أسوأ مما فقدوه.»
٨
ويحتفظ لنا بلوتارخوس بقطعة أخرى، عبارة عن نداء إلى كسركيس
Xerxes بأسلوب مختلف، به استعارة بلاغية قد يظنُّ
أنها مما يلائم العقلية الشرقية:
«يشبه حديث الإنسان قطعة من المنسوج بديعة التطريز. إذا نُشر كل منهما أظهر
محاسنه وروائع فنه، وإن طُوي أخفاها.»
٩
وكثير من أقواله الأخرى مدوَّنة، ولكنا نشك في صحتها. مثال ذلك رده على الرجل الآتي
من سيريفوس
Serifos الذي قال إن ثيموستوكليس يدين
بعظمته إلى كون مدينته عظيمة. «ما كان لصيتك أن يذيع يا ثيموستوكليس لو كنت من سيريفوس،
وكذلك ما كنت لتحظى بتلك الشهرة لو كنت من أثينا.»
١٠
وإن تفسيره للنبوة ليوضح أنه كان حاضر البديهة مثل أودوسيوس؛ فقد فسر «الحوائط
الخشبية» بالسفن. كما أن الفكرة التي نكوِّنها عنه من المعلومات الطفيفة التي لدينا،
هي
لرجل فصيح قوي الحجة مدعم الأقوال بالبراهين، لم يعرف أنه تحير قَط في تفسير شيء، وربما
كان مجادلًا أفضل منه خطيبًا.
أما بركليس
Pericles الذي يمثِّل الجيل التالي؛
فلدينا عنه صورة أكثر وضوحًا؛ إذ نعرف أكثر عن حياته الخاصة، وعن أنصاره الذين كان لهم
تأثير عظيم في آرائه. فأول مدرسيه هما الموسيقيان دامون
Damon وبوثوكليديس
Pythoclides. وكان الأول صديقه الحميم طوال حياته،
١١ وإذا صدقنا بلوتارخوس؛ فإنه كان يسدي إليه النصح دائمًا، حتى في المسائل
الخاصة بإدارة شئون الدولة.
١٢ وكانت صداقة أناكساجوراس
Anaxagoras له ذات
أثر فعَّال كما يؤكد أفلاطون في فقرة شهيرة وردت في فايدروس
١٣ Phaedrus:
«تتطلَّب الفنون جميعها، المناقشة والخيال الرفيع عن حقائق الطبيعة، ومن هنا
يأتي السمو في الفكر والكمال في الإنجاز.»
«وهذه الصفات، على ما أعتقد، كانت ما اكتسبه بركليس — فضلًا عن مواهبه
الطبيعية — من معاشرته وصداقته لأناكساجوراس … وهكذا شبَّ على فلسفة رفيعة …
فطبَّق ما وافق مأربه على فن الخطابة.»
ويقال أيضًا إنه كان على صداقة مع زينو الإيلي Zeno of
Elea، المنطقي البارع، وكذا مع السفسطائي العظيم بروتاجوراس
Protagoras.
ويقدِّسه بلوتارخوس وهو يسلِّي نفسه بالمناقشة مع بروتاجوراس حول مسألة، هي موضوع
إحدى رباعيات أنتيفون
Antiphon’s tetralogies: «قتل رجل
زميله في ملعب للرياضة برمح عن غير قصد، فمن الملوم؟»
١٤
ونجده في الذكريات
١٥ Memorabllia لمؤلفها كسينوفون
Xenophon، مشغولًا في مناقشة سفسطائي مع ابن أخيه
الصغير ألكيبياديس
Alcibiades الذي كان قد تخرَّج
حديثًا من مدارس البلاغة؛ فكان يفوقه في النقاش الدقيق بشكل ظاهر.
ويروي ثوكوديديس ثلاثة أحاديث على لسان بركليس، وعلى الرغم من أن اللغة لغة المؤرخ؛
فإن بعض الأفكار قد تكون للسياسي.
ويبدو أننا نلمس ذكاءه الخارق الذي نما بالتدريب الفلسفي والسمو وصحة الحكم، التي
يحدثنا عنها أفلاطون.
١٦ كما يعطينا الشاعر الهزلي يوبوليس
Eupolis
صورةً من وجهة نظر مخالفة:
ونعرف من ثوكوديديس مدى تأثيره على الشعب؛ فإنه لم يكن من زعماء الشعب بالمعنى
الدارج، بل أدرك الشعب فيه الإخلاص والإصلاح. ولم يعرف عنه أنه تقهقر قط بسبب عدم رواج
سياسته، فهو يفضِّل أن يقود الشعب، على أن يرضخ لهم كي يقودوه. وكان في مقدوره أن يحتقر
أرواحهم إذا ما رفعت بغير استحقاق، ويزيد في ثقتهم بأنفسهم إذا ضعفت روحهم المعنوية.
١٨
وفي ذروة مجده كانت خطبه أكثر تأثيرًا؛ لأنه لم يكن ليخطب إلا نادرًا؛ أي في المسائل
الخطيرة فقط، أما الأمور الأقل شأنًا فكان يتركها لأعوانه؛ فإذا ما قام بركليس نفسه
ليتكلَّم، كان ذلك علامة على أنه سيدور على بساط المناقشة موضوع ذو أهمية قومية، كما
أن
مظهره كان يغرس الثقة في قلوب القوم بأن خطابته ستكون جديرة بالموضوع.
١٩
وإن لقب أوليمبي الذي أعطي له أصلًا بقصد التهكم، طابق الواقع أكثر مما كان يتوقع
من
خلع عليه هذا اللقب؛ فكانت فصاحته إظهارًا نبيلًا لذكائه المفرط وسمو خلقه، جديرًا
بالاستماع.
ورغم أننا لا نملك سجلًّا حرفيًّا لخطبه؛ فإن بعض عباراته قد علقت بذاكرة المؤرخين؛
مثال ذلك:
«كانت أيجينا
Aegina عنده «قذى بيريوس
Piraeus»؛ فأفسدت منظر الميناء الأثيني.
٢٠ إن أهل ساموس
Samians الذين خضعوا
كارهين لنعم الحضارة الأثينية، كالأطفال، يستوي عندهم إذا أعطيتهم الثدي أم
أخذته منهم.
٢١ وتشبه بويوتيا
Boeotia التي شتتتها
الحرب الأهلية، شجرة بلوط شقت بأوتاد من البلوط.»
٢٢
وهاك أجمل تشبيهاته، وقد لا يكون مبتكرًا؛ إذ ينسب هيرودوت تشبيهًا مماثلًا إلى جيلون
Gelon عندما رفضت بلاد الإغريق مساعدته القيِّمة —
وهو كما يقول أرسطو، من خطبة جنائزية:
«فقدت المدينة شبابها؛ فكأن العام قد فقد ربيعه.»
٢٣
٤
ومع أن فصاحة هؤلاء الساسة الأوائل ترمز إلى العبقرية الآتيكية، غير أنها ظاهرة
فريدة. ولنتأمل الآن أثرَين مباشرَين؛ أثر السفسطائيين وأثر علماء البلاغة الصقليين
المبكرين.
ففي منتصف القرن الخامس ق.م. عندما فشل خيال الفلاسفة الأيونيين الطليق، في حل لغز
البقاء على أسس طبيعية، قام بارمينيديس Parmenides،
الفيلسوف الباحث في الأسباب والمسببات، وأنكر احتمال المعرفة الصحيحة، كما أن زينو
الإيلي، المنطقي، لزم الصمت إزاء ما انتهى إليه قرارهم من أن المعرفة ليست مستحيلة
فحسب، بل لا يمكن تبرير الإسناد النحوي أيضًا؛ فلا يمكنك أن تقول عن شيءٍ ما إنه شيء
آخر، أو أن الأشياء المتشابهة غير متشابهة. فأصاب الفلسفة من جراء ذلك بعض العار،
وانتشر الشك في ربوع العالم الإغريقي، ولمَّا فشل فطاحل المفكرين في محاولاتهم اكتشاف
حقائق أرفع، حوَّلوا اهتمامهم إلى الجانب العملي للتعليم.
وقد قام في عدَّة مدن مختلفة من بلاد الإغريق العظمى، رجال ذوو عقول راجحة وتفكير
سامٍ، يمكن جمعهم تحت عنوان «السفسطائيين Sophists» أو
«المربين»، أهملوا المشكلات المعنوية، وأخذوا على عاتقهم إعداد الناس لمسالك الحياة
المدنية الراقية، بوساطة تعاليم مختلقة. وأعظم هؤلاء بروتاجوراس
Protagoras من أبديرا
Abdera؛ فقد جاهر بازدرائه للفلسفة في قوله المأثور
«إن الإنسان مقياس كل شيء؛ فما هو موجود موجود، وما ليس موجودًا غير موجود.» ولذلك وقف
نفسه على دراسة الأدب، ولا سيما دراسة هوميروس؛ فذاع صيته في أثناء رحلاته الطويلة خلال
ربوع العالم الإغريقي، وزار أثينا عدة مرات حيث تعرَّف على بركليس.
ويعطينا أفلاطون، في الحوار الذي سُمِّي باسمه، فكرة عن أثر شخصيته في افتتان شباب
أثينا به.
وفي الحقيقة، كان للسفسطائيين على وجه العموم شهرة فائقة؛ فإن شباب العائلات النبيلة
وسادتهم ممن يميلون إلى الحياة السياسيَّة، كانوا يحتشدون لسماع المحاضرات التي يلقيها
السفسطائيون. ومما لا شكَّ فيه أن ألكبياديس وكريتياس
Critias وغيرهما يدينون إلى هذه الحركة بالكثير من
مقدرتهم السياسية.
وكثيرًا ما نوقشت أخلاق السفسطائيين، ووصفها شعراء الملهاة بأنها الوسيلة الأساسية
لهدم المُثل القديمة للأخلاق. وعلى الرغم من أن أفلاطون كان يلمس قيمتها الإنسانية،
وتحدَّث عن أفراد كثيرين من المدرسين بالتقدير والإعجاب؛ إلا أنه لم يقرِّظ تعاليمهم
على وجه عام. حقًّا، إن ادِّعاء بروتاجوراس بأن في استطاعته أن يجعل الخطأ صوابًا، قد
عرَّضه للمهاجمة العلنيَّة بوجه خاص.
لقد قام بروتاجوراس ببعض الدراسات الأولية في النحو كأساس للمنطق، ويظهر أن طريقته
في
التعليم كانت بوساطة الأمثلة.
ويشير أفلاطون في حواره عن كيفية مناقشة موضوع معيَّن: وتتألف محاضرته، أولًا من
«أسطورة»، ثم حديث مستمر، وأخيرًا نقد قطعة شعرية، وقد تكون هذه محاكاة معقولة لطرقه.
وقد حفظ تلاميذه عدة خطَب كهذه أو ملخصات لها، عن مواضيع متباينة، وبذا كانوا مزوَّدين
نسبيًّا بمادة تكفي غرض المجادلة العامة.
أما بروديكوس الكيوسي
Prodicus of Ceos الذي كان —
فيما يبدو — يصغر بروتاجوراس
٢٤ بعدة سنوات، فقد اهتم بالفلسفة الأخلاقية أكثر من التمرينات المنطقية،
فوجَّه جلَّ عنايته في جميع تعاليمه إلى الاستعمال الصحيح للكلمات
όϱϑοέπεια أو التمييز بين معاني الكلمات التي
أصبحت تُستعمل في اللغة العامية كمرادفات.
٢٥ وقد روعيت هذه الدقة إلى حد المغالاة. ولمَّا كان استعمال التراكيب،
استعمالًا صحيحًا، عنصرًا هامًّا في الأسلوب النثري؛ فإن دراساته جديرة
بالاعتبار.
ويقل عن أهمية، هيبياس من أليس Hippias of Elis الذي
كان دائم الاستعداد للمحاضرة في أيِّ موضوع كان، في هذا العالم، كما كان في استطاعته
تعليم تلاميذه مثل هذه البلاغة؛ فسعى إلى وفرة الألفاظ ليستر افتقاره في
الأفكار.
٥
لقد احتفظ شيشيرون بعبارة من أرسطو مؤدَّاها أن البلاغة البيانية نشأت في سيراكوزة
Syracuse، عندما حاولت عائلات كثيرة أن تطالب
بحقوقها بعد أن طردهم الطغاة وصادروا ممتلكاتهم عام ٤٦٥ق.م.
٢٦
ومن المؤكَّد أن كواركس
Corax، مؤسس علم البلاغة، كان
يعلم حوالي عام ٤٦٦ق.م.، ووضع
τέχνη
أو كُتيبًا عن قواعد البلاغة.
٢٧ ثم نحا نحوه تلميذه تيسياس
Tisias، فكتب
رسالة أعلن أرسطو أنها تفوق رسالة أستاذه، وسرعان ما تلتها أخرى خير منها.
٢٨
وقد وجَّه كل من كوراكس وتيسياس جلَّ اهتمامهما إلى «الاحتمال» εἰκός كوسيلة لإقناع هيئة المحلفين. ولنضرب مثلًا
لاستخدام هذه الوسيلة في مؤلف كوراكس، حالة الذي اتُّهم بالاعتداء وأنكر التهمة قائلًا:
«ترون أنني ضعيف الجسم بينما هو قوي العارضَين، فهل من المعقول أن أجسر على مهاجمته؟»
وطبعًا يجوز للقاضي أن يحوِّل مجرى القضيَّة ويعكس اتجاهها: «حيث إن المدَّعَى عليه
ضعيف البنية فلا يتطرَّق إلى الذهن أنه يقوم بالعدوان.»
وسنجد أن هذه المناقشة من الحجة «
εἰκότα» ظاهرة بارزة جدًّا في الخطيب أنتيفون؛ فنراها في خطَبه
أمام المحاكم، وكذلك في رباعيته «تترالوجاته» التي تُعتبر بحقٍّ تمرينات نموذجية. ويظهر
جليًّا أنه كان يفضِّل هذا النوع من الحوار عن البرهان الواقعي، حتى ولو قام الدليل على
الاتهام.
٢٩
قام تيسياس بإدخال تعديلات على طريقة كوراكس؛ ففرض أن الرجل الضعيف الشجاع قد يعتدي
على رجل قوي جبان؛ فيرى تيسياس أن كليهما سيكذب في المحكمة. فالجبان لا يحب أن يعترف
بجبنه؛ ولذا سيقول إن أكثر من شخص واحد قد اعتدى عليه، أما المذنب فسوف يثبت تفنيد هذا
القول ملتجئًا إلى محاورة كوراكس، فيقول: «أنا ضعيف وهو قوي، فما كنت لأستطيع الاعتداء
عليه، أو سرقته، أو … أو … وهكذا.»
٣٠
وتشير قصة هذَين العالمَين إلى أنهما يميلان إلى المراوغة،
٣١ فقد درس تيسياس على يد كوراكس، مشترطًا أن يدفع أجر تعليمه إذا كان يفوز في
أول قضية له في المحكمة. وبعد أن مضى بعض الوقت قلق كوراكس على أتعابه، فقدَّم قضية إلى
المحكمة، وكانت بطبيعة الحال هذه أول قضية تولَّاها تيسياس أمام المحكمة، وقال كوراكس:
«إذا فزت في القضيَّة نلت أجري بحكم القضاء، وإن خسرت أنا وفزت أنت يا تيسياس طالبتك
بالدفع حسب اتفاقنا.» فأجاب تيسياس: «لست بدافعٍ أتعابك سواء فزت أنا أم خسرت.» فرفضت
المحكمة الدعوى قائلة: «إن الغراب الرديء يضع بيضًا رديئًا.»
٣٢ وغنيٌّ عن البيان أن هذا كان في صالح الرجل الأصغر الذي كانت تؤيده تسع
فقرات من القانون.
ورغم عدم وجود شيء من كتاباتهما؛ فإن في استطاعتنا تكوين فكرة عن طرقهما، فلم يكونا
على خلف؛ بل بالعكس كانا سفسطائيين، يفضِّلان ما يبدو مستحسنًا في مظهره على الحقيقة،
جاعلين جلَّ همِّهما كسب القضية بأي طريقة كانت. وتبعًا لآراء أرسطو، كانت طريقة
تعليمهما «سريعةً لا تستند إلى العلم في كثير أو قليل.»
٣٣ وتتلخَّص في جعل التلميذ يحفظ عن ظهر قلب عددًا هائلًا من الموضوعات العامة
والمحاورات القياسية التي يمكن تطبيقها في جميع الأغراض القضائية. ويظهر أنهما لو
يوجِّها أي اهتمام إلى الأسلوب من الناحية الأدبية.
٦
بدأ جورجياس الليونتيني
Gorgias of Leontini، أحد
معاصري بروتاجوراس، كسفسطائي من حيث الاعتقاد بأنه لا يمكن معرفة أي شيء، وأن متابعة
الفلسفة كالحرث في الرمال أو النقش على الماء؛ لا نخرج منهما بنتيجة. ويقال إنه كان أحد
تلاميذ تيسياس ويحتل مكانة بين علماء البلاغة المبكرين الذين يسمَّون عادةً
بالسفسطائيين. وقد درس الخطابة كسابقيه وعلمها. ولمَّا كان كل غرضهم مُنصبًّا على
المنافسة من أجل إحراز قصب السبق في المناقشة والمحاورة؛ فإنه حظيَ بقسط وافر من
التعليم، واضعًا نصب عينيه أن البلاغة فنُّ الإقناع،
٣٤ فاهتمَّ بالناحية الفنية أكثر من أي معلِّم سابق؛ وبذا أصبح أول فنان حقيقي
في الأسلوب النثري.
وكان يتنقَّل، كباقي السفسطائيين، من مدينة إلى أخرى، يعرض فنَّه، فربح من ذلك ثروات
طائلة أنفقها في بذخ وإسراف. وقد أوفدته مدينته إلى أثينا سنة ٤٢٧ق.م. فأثَّر في سامعيه
تأثيرًا خلَّده التاريخ، ليس في جموع الشعب التي تحدَّث إليها فحسب، بل وكذلك في طبقة
المتعلمين المثقفين الذين كان في استطاعتهم تقدير فنِّه.
ويدين له ثوكوديديس ببعض الشيء كما ظهر تأثيره على الشاعر أنتيفون.
٣٥
ونسمع عن رحلة له في لاريسا
Larissa حيث أثار إعجاب
أهل تساليا
Thessalians؛ فصاغوا من اسمه الكلمة التي
يستعملها فيلوستراتوس
Philostratus للتعبير عن أسلوبه الفيَّاض.
٣٦
ويقال إن أول أعمال كان رسالة شك في الطبيعة أو عدم الوجود،
٣٧ تلاها عدد معيَّن من الخطب أشهرها الأوليمبية
Olympiac، التي حثَّ فيها الإغريق، كما فعل
إيسوكراتيس
Isocrates من بعده، على ضرورة الاتحاد. أما
مرثاته، التي سنعود إليها؛ فيظنُّ أنها ألقيت في أثينا، ولو أنه يستبعد ذلك؛ لأن مثل
هذه الخطب كان يلقيها الساسة الأثينيون البارزون، ولم تكن هناك حاجة إلى استدعاء أيِّ
خطيب غريب.
وقد سجِّلت له خطبة بوثية
Pythian وعدَّة خطَب أخرى
في المديح
Encomia، بعضها في مدح شخصيَّات أسطوريَّة،
يمكن اعتبارها لمجرَّد التمرين، وبعضها في مدح شخصيات حقيقية كالإيليين
Eleans.
٣٨ ولا يبدو أنه كتب خطبًا للمحاكم. وكانت غايته الظهور، كما يتضح في عاداته
وخطبه؛ ولذا أنشأ الأسلوب الخطابي المعروف باسم أسلوب المحافل
epide
clic، الذي نقَّحه إيسوكراتيس في عصر تالٍ حتى وصل به إلى حد
الكمال.
ورغم أنه أيوني المولد
lonian؛ فقد لاحظ بغريزته أن
اللهجة الآتيكية حافلة بالمعاني والألفاظ؛ فاختارها وسيلة للتعبير. وعلى أيَّة حال، فلم
تكن هي اللهجة الآتيكية المستعملة في الحياة اليوميَّة، بل لهجة كثُرت ألفاظها بوساطة
الخيال الشعري. ولدينا من أعماله الحقيقية، نبذة واحدة فقط جديرة بالتقدير، مأخوذة من
مرثاته. ويمكننا أن نكوِّن فكرة عن مبالغاته الطنَّانة من هذه النبذة ومن بعض النبذات
المبعثرة التي انتقدت، ومن العبارات التي حافظ عليها الناقدون مضافة إلى اللغة التي
ينسبها أفلاطون إلى محاكيه أجاثون
٣٩ Agathon.
وقد كان مغرمًا إلى حد الإدمان، باستعمال الاصطلاحات والتعابير النادرة التي سمَّاها
النقَّاد الإغريق γλῶτται بدلًا من
التعابير العادية، كما كانت لغته زاخرة بالكلمات المهجورة والألفاظ الشعرية والاستعارات
الخلَّابة والتراكيب الوحشية. وكثيرًا ما كان يلجأ إلى استعمال الصفات الخاصة بالجمادات
وأسماء الفاعلين والمفعولين، ويفضِّلها على الأسماء المعنوية، كما كان يحب استعمال اسم
فعل متبوع بفعل مساعد في المواضع التي كان يستعمل فيها الفعل العادي البسيط.
وأخيرًا، فرغم أنه لم يستطع التأليف على مدًى واسع مثل إيسواكراتيس وديموسثينيس،
إلا
أنه نقَّح استعمال المتناقضات، فردَّ على كلمة بكلمة، وعلى عبارة بعبارة، مشيرًا إلى
أسلوبه في استعمال النقيض، ليس بكثرة استعماله للحرفين δέ, μέν فحسب؛ بل كذلك بالالتجاء إلى السجع في نهاية العبارات، أو
بصور الأفعال المناسبة في مثل هذه المواضع، أو بالعناية بالقافية والوزن في الجمل
المتناقضة.
كانت المغالاة خطأه الأول؛ فقد كان إمامًا في التعبير، وقام بأعمال جيدة جدًّا، إلا
أنه كان يفتقر إلى عنصر التناسب؛ فإذا ما قرأنا صفحة مما لدينا من عمله الحقيقي،
ألفيناها كأنها تحريف للأسلوب؛ لأنه قد وصل بكل سمة من سمات التعبير إلى التطرُّف في
المغالاة. حقيقة، يجب على المعلِّم الإغراق في المبالغة، وإلا فلن يعيَ التلميذ عناصر
موضوعه. وأعمال جورجياس جديرة بالتقدير؛ إذ كانت أول محاولة لتكوين أسلوب، وقد تعلَّم
أتباعه تارة بالمحاكاة وطورًا بتجنُّب الأخطاء البارزة. والحقيقة الواقعة في عدم احتمال
كون الكسرة المحفوظة من أحسن أساليبه، تسهِّل علينا أن نلحظ أثره فيمن جاء بعده
كأنتيفون وثوكوديديس وكثير من كتَّاب النثر الفني.
وبالإضافة إلى الخطب التي سبق ذكرها؛ فإن لدينا خطبتين تنسبان إليه؛ إحداهما في مدح
هيلين
Helen، والأخرى في مدح بالاميديس
Palamedes؛ نشكُّ كثيرًا في صحتهما، غير أن بلاس
Blass الذي تناول مناقشة الأمر بعناية زائدة في
كتابه «الخطباء الآتيكيون»، دون الوصول إلى برهان مقنع، قد حكم منذ ذلك الحين بصحتهما.
٤٠ وهذه وجهة نظر شخصية بحتة، وحتى على فرض عدم صحتها؛ فإنهما تقليد متقن
لأسلوب جورجياس وطريقته.
ومن العسير ترجمة الشذرة التي وجدت في الإبيتافيوس
Epitaphios بطريقة تعطي فكرة صائبة عمَّا فيها من
خيالات، بَيدَ أنه لما كان من المستطاع تكوين فكرة عن أبرز أخطائها، من ترجمة إنجليزية؛
فقد أضيفت بعض النبذات. ويبدو أن روح الإحساس كانت ضئيلةً للغاية في بعض أماكن ببلاد
الإغريق، وأن ما كان موجودًا منها كان خاضعًا كليةً للصوت:
«ماذا كان ينقص هؤلاء الرجال من الصفات اللازم وجودها في الرجال؟ وبم كانوا يتَّصفون
مما لا يجب أن يتَّصفوا به؟ أتمنى أن تكون لي القدرة على التكلُّم كما أحب، والرغبة في
التحدُّث بما ينبغي، متجنِّبًا غيرة الآلهة وحسد البشر؛ فقد كان هؤلاء مقدسين في
شجاعتهم رغم أنهم بشر مصيرهم الفناء يفضِّلون دائمًا المساواة برقَّة على العدل بعنف،
وإحقاق المنطق على صرامة القوانين، معتقدين أن أعظم قانون قدسية وشيوعًا في العالم هو
«أن تتحدَّث، وتسهو، وتفعل الشيء المناسب في الوقت المناسب.» وقد قاموا بواجبَين
فضَّلوهما على ما عداهما، قوة العقل وقوة الجسد؛ أحدهما للتفكير والآخر للتنفيذ، عاطفين
على من أشقاهم الظلم، معاقبين من سعدوا بالظلم … ولذا، رغم موتهم فإن حنينَنا إليهم لم
يمُت معهم؛ بل ظلَّ خالدًا فوق هذه الأجساد، ولن يخلد إن لم يعيشوا أبدًا.»
إن التنافر والائتلاف موجودان بكثرة في هذه القطعة غير المعقولة، وزيادة على الطنطنة
الغريبة الناتجة عن مثل هذه الكلمات:
γνώμην καὶ ϱώμην: δυστυχούντων,
εὐτυχούντων.
فإنها تحوي مفردات شعرية في مثل هذه الجمل: ἔμφυτος
Άϱης «مارس المولود فيهم»، ένόπλιος ἔϱις «العراك المسلح»، φιλόkαλος ίϱήνη «السلم المحب للفنون».
لقد عانى أنتيفون وثوكوديديس كثيرًا من عدوى هذا الأسلوب، وقام أحد المقلدين
المتيقظين، وهو مؤلف خطبة الرثاء التي تنسب خطأً للخطيب لوسياس، بتقليد أنغامها
المطَّردة البديعة.