فوكيون
جرت القاعدة في أثينا في القرن الرابع، ألا يأمل الخطيب في النجاح إلا إذا تمرَّن
تمرينًا فنيًّا. غير أنه يخرج لنا رجال في بعض الأوقات، يستغنون عن التعليم البلاغي،
وذلك لقوة خلقهم أو مواهبهم الطبعية.
كان فوكيون من الرجال المبرَّزين في حزب الصلح، وهو أريستوقراطي بغريزته إن لم يكن
بمولده، ويعجب به لمقدرته وإخلاصه معًا، حتى إنه رغم عدم كونه خطيبًا عظيمًا، إلا أن
خطبه كانت تقابَل دائمًا بالاحترام والإجلال. لقد كان يطمح كبركليس في أن يكون سياسيًّا
وقائدًا، وكان يتكلم أحيانًا في الجمعية العمومية بمقدرته السياسية. وتشير روايات
مختلفة في بلوتارخوس إلى جهوده في الحصول على الإيجاز الذي أفاد في معظم الأحوال. وكان
إلقاؤه حادًّا موجزًا؛ ويسميه ديموسثينيس «السكين الذي يشطر خطَبي.» وهو حاضر الذكاء
يسرُّ سامعيه مع عدم ذيوع سياسته. وفي إحدى المناسبات عندما صفَّق له الجمهور استحسانًا
— وكان ذلك نادرًا لأنه لم يطلب ولم يتوقع الشهرة — توقف عن الكلام وقال: «هل قلت شيئًا
سخيفًا؟»
ولمَّا كان ناقدًا ديمقراطيًّا لا يرحم كما كان خادمًا أمينًا للديمقراطيين؛ فقد
استمر يحثُّ على السلام مدفوعًا بأرقى البواعث، رغم أنه قضى خير سنيِّ حياته في الحرب.
وكان فيليب والإسكندر يجلِّانه لخلقه السامي. وقد قبلته الحكومة التي ألَّفها أنتيباتر
Antipater في سنة ۳۲۲ق.م. ولكنه ذهب ضحية لعداء
الديمقراطيين المتطرفين، وأجبر على أن يتجرَّع السُّم وهو في سن الثمانين عام
۳۱۷ق.م.
ديماديس
كان ديماديس من معاصري فوكيون، وعضوًا في نفس حزبه السياسي، وكان مثالًا طيبًا
للرعاع. وقد اعتمد في نجاحه على بديهته الحاضرة ولسانه الذي لا ينفكُّ ينطق سيلًا من
الألفاظ دون تعثُّر. وبعد موقعة خايرونيا التي أسر فيها، أصبح عاملًا مخلصًا لفيليب والإسكندر.
١ وقد نال شهرة عظيمة نتيجة للخدمات التي كان يظنُّ أنه قام بها لأثينا بعد
خراب طيبة؛ فأقيم له تمثال في ميدان السوق، ومدَّت إجلالًا له، الموائد المستمرة في
البروتانيوم
Prytaneum، وهذا أفاد الشعب فائدة مادية.
وأخيرًا قتله كاساندر
Cassander بن أنتيباتر؛ فقام
زملاؤه المواطنون بصهر تمثاله واستعمال المعدن في أغراض وضيعة.
٢
يتجلَّى الخيال في حكمه وأمثاله التي سجِّلت؛ «لم يمُت الإسكندر، لأنه لو مات لفاحت
الدنيا بأسرها من رائحة جثَّته.» أو «مقدونيا بدون الإسكندر مثل الكوكلوبيس
Cyclops بدون عينه.»
٣ «وأخيرًا أثينا له.» «ليس كمقاتلي البحار الذين عرفهم أسلافنا، بل كعجوز
شمطاء، تلبس نعالًا وتلعق حساء الشعير.»
٤
ولنعلم أن الرأي العام كان يتلذَّذ بفصاحته، يجب أن نقرأ حكم ثيوفراستوس
Theophrastus: «إن
ديموسثينيس خطيب جدير بأثينا، أما ديماديس ففي مستوًى أعلى من أثينا.»
٥ وليس لدينا أية وسيلة أخرى لنكوِّن أية فكرة عن أسلوبه.