هوبيريديس
كان هوبيريديس من الطبقة المتوسطة، ولد في سنة ٣٨٩ق.م. وعلى ذلك يكون معاصرًا تقريبًا
للوكورجوس، الذي قاسمه آراءه السياسية، وتبعًا لمن ترجم حياته، كان تلميذًا لإيسوكراتيس
وأفلاطون، بَيدَ أنه لا يمكن العثور على أثر الأخير في أي موضع من أعماله.
لقد كان ليِّن الطباع سلس العريكة، ويختلف اختلافًا بيَّنًا عن خشونة طباع لوكورجوس.
وقد انتقد الشعراء الهزليون نهمه وميله للسمك. ويسجِّل بلوتارخوس الكاذب أنه كان
يتنزَّه وسط سوق السمك كل يوم من أيام حياته، ولكن إغراء تلك المتعة لم يفسد
نشاطه.
كان في أول أمره يكتب خطبًا لغيره، كما كان ديموسثينيس في أول حياته الخطابية،
٣٥ ولكنه قبل أن يصل إلى سن الثلاثين، بدأ يشتغل بالمحاكمات ذات الصبغة
السياسية، وقد حاكم القائد أوتوكليس
Autocles على تهمة
الخيانة في سنة ٣٦٠ق.م. فوقف أمام الخطيب أريستوفون الأزيني
Aristophon
of Azenia، وديوبيثيس
Diopeithes،
وفي عام ٣٤٣ق.م. اتهم فيلوكراتيس الذي عقد الصُّلح مع فيليب.
٣٦ وقد أوفد إلى المجلس الأمفيكتيوني
٣٧ فبرهن على أنه معضد عنيد لسياسة ديموسثينيس، ولمَّا هاجم فيليب يوبويا عام
٣٤٠ق.م. جمع هوبيريديس أسطولًا قوامه أربعون سفينة، منهم اثنتان على حسابه الخاص. وبعد
معركة خايرونيا، اقترح إصدار أمر بتكريم ديموسثينيس، واتخذ إجراءات شديدة بعد المعركة
للمحافظة على سلامة الشعب، تشمل منح الشعب حقوقه؛ من تحرير المعتقلين وعتق الأرقاء. وقد
حاكمه ديماديس على تهمة تنفيذ قرار غير قانوني، فأفحمه بردِّه قائلًا:
«لقد جعلت أسلحة مقدونيا الدنيا ظلامًا، فلم نستطع رؤية القوانين؛ لم أكن أنا الذي
اقترحت ذلك القرار، بل معركة خايرونيا.»
٣٨ وقد تمكَّن من الانتقام بسرعة، فحاكم ديماديس على نفس جريرة عدم شرعية
القرارت؛ فقد اقترح ديماديس منح لقب بروكسينوس
Proxenos
إلى يوثوكراتيس
Euthycrates الذي خان أولونثوس لفيليب،
وتظهر قطعة باقية من خطبة هوبيريديس في هذا الموضوع أنه كان سيد التهكُّم.
٣٩
لا نعرف شيئًا أكيدًا عن أصل الخلاف بينه وبين ديموسثينيس، فقد يكون بسبب عدم
استحسانه سياسة تراخي الأخير عندما أرادات إسبرطة أن تحارب أنتيباتر في سنة ٣٣٠ق.م.
وعلى أية حال، يظهر من لغته في سنة ٣٣٤ق.م. أنه كان خصمًا لدودًا لمقدونيا؛ فقد أرسل
نيكانور Nicanor إعلانًا إلى الإغريق طالبًا منهم
اعتبار الإسكندر كإله، وأن يتسلَّموا أسراهم. وفي نفس الوقت غادر هاربالوس أمين خزينة
الإسكندر، مقر الملك، وذهب إلى أثينا يحمل كنزًا عظيمًا.
كان من رأي ديموسثينيس المفاوضة مع الإسكندر، أما هوبيريديس فرغب في رفض مقترحات
نيكانور واستخدام كنز هاربالوس في استمرار الحرب ضد مقدونيا، وقد قبض على هاربالوس، غير
أنه استطاع الفرار، فحامت الشبهات حول كثير من أقطاب السياسة أن يكون قد رشاهم، فوقع
الاختيار على هوبيريديس كأحد القضاة المدَّعين، ونفي ديموسثينيس.
بعد موت الإسكندر، حمل هوبيريديس أعظم مسئولية للحرب اللامية Lamian
War، واختير لإلقاء خطبة يرثي بها صديقه القائد ليوسثينيس
Leosthenes، وغيره من الأثينيين الذين سقطوا في
حومة الوغى. وكان ديموسثينيس وقتذاك قد عاد من منفاه، فتصالح مع هوبيريديس، وظلَّا في
سياسة المقاومة التي طالما حثَّ الأثينيين عليها حزم فوكيون. وبعد موقعة كرانون
Crannon، طلب أنتيباتر تسليم قوَّاد الحزب الحربي؛
فهرب هوبيريديس، ثم قبض عليه، وأعدم سنة ٣٢٢ق.م. ويقال إنه قضم لسانه خوفًا من أن يضطر
بوساطة التعذيب إلى الاعتراف على شركائه. وقد بقيت جثته بدون دفن حتى قيَّض الله له أحد
الصالحين فدفنه في مقبرة عائلته عند «باب الراكب Rider’s
Gate». وقد أثبت هوبيريديس تمسُّكه بآرائه طوال حياته العامة،
ومهما كان سياسته خاطئة، ولا سيما في السنوات الأخيرة؛ فإن له شرف الوطنية الصادقة التي
ساقته إلى الاستشهاد في سبيل نضاله الفاشل، لإعلاء قدر وطنه.
وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان هوبيريديس معروفًا للعالم الحديث عن طريق نقد
ديونوسيوس وغيره من قدامى المشتغلين بالدراسة، وبعض الشذرات الصغيرة المحفوظة هنا وهناك
باقتباسات المعلقين واللغويين. ويعتقد أن هناك نسخة خطية في مكتبة بودا
Buda، غير أنه عندما سقطت المدينة في يد الأتراك
Turks عام ١٥٢٦م، خربت المكتبة أو بعثرت، فضاع
هوبيريديس.
عاد بعض أجزاء من خطبه يظهر عام ١٨٤٧م بين أوراق البردي التي اكتشفت في مصر، وفي تلك
السنة أحضرت إلى إنجلترا لفافة تحتوي على شذرات من خطبته «ضد ديموسثينيس» والنصف الأول
من «دفاع لوكوفرون».
وفي نفس السنة، اكتشفت لفافة أخرى تحتوي على النصف الثاني من لوكوفرون، وجميع خطب
يوكسينيبوس Euxenippus.
وفي سنة ١٨٥٦م اكتشفت شذرات عديدة من خطبة «الجنازة
Funeral» وحصل المتحف البريطاني
British Museum في سنة ١٨٩٠م على بعض شذرات من
الخطبة «ضد فيليبيديس
Philippides»، وإن أعظم اكتشاف،
كان للخطبة «ضد أثينوجينيس»، فاشتريت من متحف اللوفر
Louvre سنة ١٨٨٨م، ولكن
النص الكامل لم ينشر إلا عام ١٨٩٢م. وتقدَّر أهميتها
تبعًا لتقرير ديونوسيوس، من أن هذه الخطبة ودفاع فروني
Phryne، أحسن مثالين للأسلوب الذي يتفوَّق فيه
هوبيريدس حتى على ديموسثينيس نفسه. وقطة ورق البردي نفسها ممتعة؛ لأنها إحدى المخطوطات
الكلاسيكية المبكرة التي في حوزتنا، ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
٤٠
يتحدى هوبيربيريديس المقارنة بلوسياس في عدة نقط، ونقد ديونوسيوس في هذا الصدد جدير
باعتبارنا: «إن هوبيريديس متأكد من هدفه، ونادرًا ما يهوِّل في موضوعه، ويفوق لوسياس
فنًّا وتعبيرًا، أما في تنسيق التركيب فإنه يفوق الجميع، ويظل مسيطرًا على موضوعه طول
الخطبة، ويتمسَّك بالتفاصيل الأساسية ولا يخرج عنها. وهو عظيم الذكاء، ومملوء بالمتعة،
ويبدو بسيطًا، إلا أن المهارة ليست غريبة عليه.»
٤١
والجملة الأولى تجعل هوبيريديس يخالف تمامًا معاصره لوكورجوس، الذي رغم كونه أقل
تأكدًّا من هدفه، إلا أن وقاره الشخصي يعطي عظمة لكل موضوع.
يكاد ما لدينا من أعمال هوبيريديس، يمكِّننا من تكوين حكم أوَّليٍّ عن قدر تعابيره
إذا ما قورنت بتعابير لوسياس، والحقيقة أن له نفس البساطة والصبغة الطبعية، ولكن بقدر
ما نستطيع أن نحكم، نادرًا ما يكون له نفس إجادة التعبير.
وينسب إليه هيرموجينيس Hermogenes إهمالًا ونقصًا في
تجنُّب استعمال الألفاظ التي تمثِّل هذه المصطلحات ἐπήβολος, γαλέαγρα, μονώτατος إلخ، وهي ما تبدو له غير ملائمة
للنثر الأدبي. وكما أتيح لنا أن نلاحظ، يمكن العثور أحيانًا على كلمات نادرة وغير عادية
في كل خطيب، وغالبًا في كلِّ كاتب. ولم يكن هوبيريديس مدقِّقًا في المحافظة على قواعد
اللغة؛ فقد أنعش أسلوبه بألفاظ أخذها من مفردات الكوميديا وألفاظ الشوارع، ولم ينتظر
أي
ثقة ليستعمل أي اصطلاح يعطي قوة لإلقائه.
وقد راع النقَّاد الذين توقعوا أسلوبًا مبجَّلًا في النثر الخطابي، أن يروا الصفة
Θριπήδεστος «متآكلة بالدود» التي
وصف بها اليونان، وتبدو لنا استعارة مناسبة. وتذكِّرنا بعض ألفاظها العامية بلغة
الكوميديا، مثل
κρόνος «إحدى
الحفريات العتيقة»، واسم التصغير
ὀβολοστάτης, θεραποντίον٤٢ (وازنًا للنقدية الصغيرة = المرابي)
προσπερι κόπτειν «لا ينال مقتطفات إضافية»؛ وواضح أن الاستعارة
من «تشذيب شجرة».
παιδαγωγεῖν بمعنى
«يقود من الأنف»، وغير ذلك من الألفاظ تبدو عامية، وهي جزء من مجموعة المفردات العرفية
التي كانت ستصبح عما قليل أساس اللغة الهلينستية
٤٣Hellenistic Greek؛ لأنه يجب علينا أن نتذكر أننا قاب
قوسين أو أدنى من اللغة الهيلينية، وعمَّا قليل ستختفي اللهجة الآتيكية قبل انتشار لغة
أوسع وأكثر حرية، ويصح لنا أن نضع في هذا النوع
ἐποφθαλμιᾶν «ينظر بحسد»،
υποπίπτειν «يضع نفسه تحت إدارة شخص آخر»،
ενσείω «يصطاد»،
κατατέμνειν «يسيء استعمال»،
επεμβαίνω «شعريًّا أو عاميًّا» «يطأ».
ويظهر في بعض خطبه الخاصة بالتشريع القانوني، أنه استعمل لغة خشنة ساءت ناقديه، بَيدَ
أنه لا يوجد ما يسوء في خطبه الباقية.
٤٤
وتكثر كذلك في خطبه الاستعارات الأخرى، والتشبيهات، وهو مغرم بتشبيه حياة الدولة
بحياة إنسان، كما يفعل لوكورجوس ذلك أيضًا.
ἓν μὲν σῶτα ἀθάνατον ὑπείληφας ἔσεσθαι πόλεως δὲ
τηλικαύτης θάνατον Κατέγνως.
«تصوروا أن فردًا واحدًا (أي فيليب) يعيش أبدًا، بينما قد حكمتم بالموت على مدينة
عريقة كمدينتنا.» ونراه يستعمل العبارة الهوميرية «
ἐπὶ
γήραος όδώ ἐπὶ γήραος οὐδῷ على عتبة الشيخوخة» في فقرة خطيرة في
ديموسثينيس، دون أن يُعِد لها مقدمة أو يلتمس لها عذرًا، ولا نستطيع سوى فرض أن سامعيه
قد ألفوا ذلك منه حتى إنها لا تدهشهم بوجودها في غير موضعها، ويستعمل لوكورجوس مثل تلك
العبارة أيضًا.
٤٥ ويقول هوبيريديس في نفس الخطبة «ضد ديموسثينيس» إن الأمة سلبت تاجها، ولكن
هذه الاستعارة كانت على أساس أن ديموسثينيس كان قد منح تيجانًا حقيقية. ومثل هذه
الاستعارات «يبني الآخرون أخلاقهم على الأسس التي وضعها ليوسثينيس
Leosthenes.» واضح جدًّا، ولو أنه أقلَّ شيوعًا في
الإغريقية عن الإنجليزية. ومن محاسن الصدف أن نجد في شذرة عن معاصريه مثلًا باقيًا
«لتحقُّقه من هدفه» يقرِّظه ديونوسيوس:
«الخطباء كالأفاعي، وجميع الأفاعي تتساوى في نفورنا منها، ولكن بعضها، أعني الثعابين
الصغيرة، تؤذي الإنسان، بينما تأكل الحيَّات الكبيرة الثعابين الصغيرة.»
٤٦
كذلك يستعمل التشبيه بنجاح وينوِّع فيه، ورغم أن التعبير جيد في المثال التالي، إلا
أنه لم يؤلِّف كما يجب، حيث أننا نجد المقارنة تضل.
«حيث إن الشمس تذرع الدنيا كلها، محدَّدة الفصول، ومنظمة كل شيء بالنسبة الصحيحة،
وتتعهَّد بطعام الحازمين والمعتدلين من بني الإنسان، من ثمار الأرض وغيرها مما يفيد
الحياة؛ لذا تستمر مدينتنا أبدًا في معاقبة الشرير، ومساعد صاحب الحق، فتضمن بذلك تساوي
الفرص للجميع، وتمنع الطمع، وتكفل الأمن العام لكل بلاد الإغريق، بوساطة مخاطرتها
وخسارتها هي نفسها.»
٤٧
و«المرثية» التي اقتبست منها العبارة الأخيرة، خطبة من النوع الشكلي، مؤلفة بأسلوب
الظهور، وبطبيعة الحال تذكَّرنا بما يشبهها من خطب إيسوكراتيس وغيره. وتبدو في تأليفها
عناية أعظم من العناية بالخطب الأخرى؛ حيث لا يوجد بها سوى أمثلة قليلة للمد الخشن في
المقاطع، الأمر الذي لم يعره المؤلف، كقاعدة، أي اهتمام. وفي جميع الخطب الباقية الأخرى
كثير من حروف العلة المتعارضة.
٤٨ وعبارات الطباق والمقابلة فيها ملائمة للأسلوب، وتركيبها الشعري يشبه تراكي
إيسوكراتيس الشعرية، إلا أن كل الجمل فيها أقصر وأبسط.
ويخلط بمهارة، في الخطب الأخرى، أسلوب النظم بالأسلوب المرسل. والمانع من استعمال
القافية الطويلة أنها تستغرق وقتًا في استيعابها، ولا يمكننا أن نقدِّر تمامًا أهمية
أي
جزء قبل أن نصل إلى النهاية؛ فتصبح في موضع يمكننا الرجوع منه إلى ما سبق بأكمله،
والأصوب في الخطابة العملية هو أن نذكر وقائق قصيرة، وقد تكون نظمًا، ثم نطيلها ببعض
زيادات مفكَّكة الوصل بوساطة
καί, δέ,
γάρ ونحوها، وهذا ما ينجح فيه هوبيريديس؛ فمثلًا في مقدمة
٤٩ «يوكسينيبوس» فقرة حوار، أما فقرات الرواية فأسلوبها مرسل.
٥٠
وعلى نقيض ذلك الأسلوب المرسل، يجب أن نلاحظ وجود تعاقب سريع لجمل قصيرة يركِّبها
أحيانًا على هيئة سؤال وجواب، كما في الشذرة الآتية:
«هل اقترحت إطلاق سراح الأرقاء؟» «بلى، لأحافظ على الأحرار من أن يصبحوا أرقاء.»
«أنفذت قرار وجوب تحرير المواطنين غير الأحرار؟» «نعم فعلت؛ حتى يكون هناك انسجام بين
الجميع، فيحاربوا من أجل وطنهم جنبًا إلى جنب».
٥١
والفقرة التالية أقوى أثرًا:
«وعلى هذا الأساس قد سننتم قوانين لكل ذنب يمكن للمواطن أن يقترفه؛ فهذا ينتهك حرمة
المعابد، فيحاكم على ذلك أمام أرخون الملك، وذاك لا يرعى والديه، فيحاكمه الأرخون، وآخر
يقترح إجراءً غير قانوني، فيحاكم أمام مجلس ثيسموثيتاي
Thesmothetae، وذلك يقترف ما يوجب القبض عليه؛
ولأجل ذلك يوجد «الأحد عشر» موظفًا الدائمين.
٥٢
كان هوبيريدس ذا بديهة حاضرة مكَّنته من المراوغة في الحوار، وإظهار خصمه بمظهر مضحك،
فهذا يوثياس
Euthias يحاكم فروني على عدم التقوى، فيجعل
سامعيه يرتجفون عندما يصف لهم عذاب الأشرار في «هاديس
Hades». عندئذ ينهض هوبيريديس متسائلًا: «كيف يلام
فروني، وهناك صخرة معلَّقة فوق رأس تانتالوس
Tantalus؟»
٥٣ ويشكو في الخطبة «يوكسينيبوس» من أن عرض الشكوى أمام المجلس قد طبَّق على
القضيَّة الحالية:
«إذَن، فقد طبِّق قانون الشكوى ضد أشخاص مثل تيموماخوس
Timomachus، وليوسثينيس، وكاليسترانوس، وفيلون،
وثيوتيموس
Theotimus، الذين فقدوا آخر أمل لهم؛ فبعضهم
لخيانة السفن التي كانت تحت قيادتهم، والبعض الآخر لخيانة المدن، وأحدهم لكونه خطيبًا
نصح الشعب نصيحة سيئة. فهذه الأمور الحالية مضحكة بالنسبة لتلك؛ فإن ديوجنيديس
Diognides وأنتيدوروس
Antidorus يحاكمان لاستئجارهما زامرين بأجر يزيد
على ما حدَّده القانون، ويحاكم أجاسيكليس البيري
Agasicles of
Piraeus لتسجيل نفسه باسم «هاليموس
Halimus»، ويحاكم يوكسينيبوس من أجل حلم قال إنه
رآه في نومه.»
٥٤
وأحيانًا يداعب في تهكمه حتى في الفقرات الجدية، مثل:
«قد قيَّد ديموسثينيس اليوبويين كأثينيين، ويعاملهم كأصدقاء حميمين، فلا يدهشكم ذلك،
لأن سياسته في مد وجزر دائمين، وقد اتخذ له أصدقاء من يوريبوس
Euripus.»
٥٥
ونجد مثلًا جيدًا آخر لروح تهكمه في الدفاع عن يوكسينيبوس ضد تهمة العطف على
مقدونيا:
«إذا كان قولك (أي قول المدَّعي) حقيقيًّا، فإنك لن تكون الوحيد الذي يعرفه، فإن
سرَّ
كلِّ من جاملوا فيليب بالقول أو بالفعل، كان معروفًا للجميع، شاركتهم فيه المدينة
بأسرها؛ فحتى تلاميذ المدرسة يعرفون أسماء الخطباء الذين يستأجرهم، وأسماء الأفراد
الذين يكرمون ويرحِّبون برسله، ويستقبلونهم في الطرقات حال وصولهم.»
٥٦
وفي عدة مواضع يكون هذا التهكُّم سلاحًا قويًّا للإيذاء، كما يتضح من الفقرة التالية
المقتبسة من إدانة ديموسثينيس.
«أنت يا من قبض عليك بنفس قرارك، يا من عندما غفلت الحراسة لم تنبِّهها، وعندما
انقطعت كليةً لم تقدِّم المذنب إلى المحاكمة؛ ولا شك في أنك لم تتحيَّن تلك الفرص نظير
لا شيء. أتصدِّق أن هاربالوس دفع المال شيئًا فشيئًا إلى صغار السياسيين الذين لا
يستطيعون سوى إحداث الجلبة والضوضاء، وأغفلك يا من كنت سيد الموقف كله؟!»
٥٧
وتحوي الشذرة التالية خير مثال للتهكُّم وجد في جميع أعماله، والموقف يفسِّره.
«ليست الأسباب التي أبداها ديماديس هي الدواعي الحقيقية لتعيين يوثيكراتيس رئيسًا،
ولكن إذا كان لا بد من أن يكون رئيسكم؛ فقد وضعت الآن قرارًا يوضِّح الأسباب الحقيقية
لتعيينه في ذلك المنصب، مصممًا أن يوثيكراتيس قد عيِّن رئيسًا
Proxenos؛ لأنه يعمل ويقول ما في صالح فيليب؛ ولأنه
عندما كان رئيسًا للفرسان خان جيش الفرسان الأولونثي إلى فيليب، ولأنه بعمله هذا سبَّب
خراب أهل خالكيديكي
Chalcidice، ولأنه بعد سقوط
أولونثوس تولَّى عملية بيع الأسرى؛ ولأنه قام ضد أثينا في موضوع معبد مدينة ديلوس
Delos، ولأنه عندما هزمت أثينا في خايرونيا، لم
يدفن أي قتيل، ولم يُفِد أي أسير».
٥٨
لقد رأينا كيف يستعمل ذكاءه ضد جميع طبقات الخطباء التي ينتمي إليها هو نفسه، ومن
الممتع أن نراه يصف أثينوجينيس بما يأتي، في خطبة كتبها نظير أجر: «هو شخص عادي، يحترف
كتابة الخطب.»
٥٩ فإنه مهمة كاتب الخطب أن يدعم شخصيته هو نفسه في شخصية موكله (زبونه)، وإن
هوبيريديس الفنان بغريزته، قد فعل ذلك بنجاح أكثر من أي كاتب خطب آخر، وربما كان ذلك
باستثناء ديموسثينيس، ولا بد أنه في المقال الحالي قد شعر برضًا غريب عن عمله.
ويقدم في الخطب الخاصة عدة موضوعات خارجة عن موضوع القضية، فإنه في قضية أثينوجينيس
يثير الكراهية ضد خصمه بالإشارة إلى جرائمه السياسية، رغم كونها عن صفقة تجارية في
الخفاء، ولا شك في أن كثيرًا من القضايا الضعيفة قد نجحت بتلك الوسيلة التي تذكِّرنا
بطريقة لوكورجوس.
٦٠ أما في الخطب العامة، فله وسيلة أرقى، ولما كان لوكورجوس محاميًا في النوع
الآخر، فإن هوبيريديس كان يشير إليه بكل احترام يليق بمقامه، وتخلو حتى الخطبة ضد
ديموسثينيس من حيث الطمع،
٦١ فإن في اتهام أعمال ديموسثينيس العامة ما يكفي من العنف في حدود الذوق
السليم، وليس مردَّ ذلك إلى الصداقة القديمة التي ينبذها هوبيريديس:
«أتجرؤ بعد كلِّ هذا أن تذكَّرني بصداقتنا؟ كما لو كنت أنت نفسك لم تقطع تلك الصداقة
بحصولك على رشوة لتضرَّ وطنك، وغيَّرت سياستك؟ وعندما جعلت نفسك سخرية وجلبت العار
علينا إذ كنا من حزبك؟ وعندما كان لا بد من أن نكون موضع أسمى احترام من الجمهور، وكان
لا بد أن تحافظ على سمعتنا الطيبة بقية حياتنا، حطمت كل تلك الآمال، ولم تخجل وأنت في
سنك هذه أن يحاكمك على الرشوة شبَّان يصغرونك بجيل؟ فقد قلبت الآية؛ إذ يجب على الشباب
السياسي أن يتعلموا من الكبار أمثالك؛ فإن أهملوا في شيء نتيجة رعونتهم وجب توبيخهم
ومعاقبتهم، ولكن الأحوال قد تغيرت الآن، إذ يقع على عاتق الشباب تصحيح أخطاء من جاوزوا
الستين. وهكذا أيها السادة، يحق أن تغضبوا على ديموسثينيس؛ لأنه بوساطتكم حصل على مقدار
عظيم من القوة والشهرة، والآن وقدمه على حافة الشيخوخة يثبت عدم اهتمامه بوطنه.»
٦٢
ويستحسن ديونوسيوس تنوُّع طرق هوبيريديس في سرد رواياته: «يقص حكايته بطرق شتى،
وأحيانًا بالترتيب الطبيعي، وأحيانًا أخرى يبدأ من نهايتها حتى يصل إلى أولها.»
٦٣ وليس لدينا أية وسيلة نحكم بها، فإن خطبة «يوكسينيبوس»، وهي الخطبة
القضائية الوحيدة الكاملة، لا تحتوي على سرد، وواضح أن حكاية أثينوجينيس قد رويت مستمرة
دون توقُّف، ثم أعقبها الدليل والنقد والنقاش القانوني، ثم يتبع ذلك محاولة لتسويئ سمعة
أثينوجينيس بوساطة حوادث أجنبية.
ونختم هذا القسم ببعض عبارات من معاهدة «الرفعة»، توضح تقديرًا لطبيعة خطابته
العامة:
«إذا حكم على النجاح بعدد الخطب وليس بالحجم؛ فإن هوبيريديس يفضِّل ديموسثينيس بدون
نزاع. ففي صوته نغمات أكثر، وله صفات حميدة أكثر، فهو تقريبًا من الدرجة الأولى في كل
شيء، كالرياضي الذي يجيد خمسة أنواع من الرياضة، يتفوق عليه كل لاعب في مسابقة الجائزة
الأولى من المتخصصين في نوع معين من الرياضة، بينما يتفوق هو على غير المتخصصين …»
«فعندما يحاول ديموسثينيس أن يتفكَّه، يثير الضحك على نفسه. وعندما يحاول أن يكون
لطيفًا؛ فإنه يفشل أكثر. وعلى أية حال، فإذا كان قد حاول تأليف خطبة صغيرة عن «فروني»،
أو «ضد أثينوجينيس»؛ فإنه قد زاد في إثبات شهرة هوبيريديس.»
«ولكن محاسن الأخير غير عظيمة رغم تعددها؛ فإن اعتداله يضعف من تأثيرها فلا يحمِّس
السامع. وعلى أية حال، فلا يتأثر أي فرد لدرجة بالغة من قراءة هوبيريديس.»
٦٤ وتنتهي الفقرة بتقريظ جدي لقوة ديموسثينيس العظيمة.
تنسب إلى هوبيريديس سبع وسبعون خطبة، يظن مترجمو سير مشاهير الرجال الأغارقة أن منها
اثنتَين وخمسين حقيقية.
٦٥ وقد جمع بلاس عناوين ما لا يقل عن خمسة وستين خطبة زيادة على الخطب
المحفوظة في أوراق البردي (وعددها خمس)، وبذا يكون سبع منها فقط غير معروف بالاسم. وقد
ذكرنا بعض مقتبسات من محاكمة ديموسثينيس،
٦٦ وشرحنا موضوعها،
٦٧ وانتقدنا معالجتها بقدر ما استطعنا أن نحكم،
٦٨ وتاريخها عام ۳۲٤ق.م. و«دفاع لوكوفرون» خطبة في
εἰσαγγελία٦٩ كان لوكورجوس أحد المدَّعين فيها.
كان لوكوفرون، أحد النبلاء الأثينيين، قائدًا لفرقة الفرسان في لمنوس
Lemnos، فاتُّهم بالزنا مع سيدة لمنوسية من عائلة
معروفة، كانت زوجة رجل أثيني مات قبل إقامة القضية. وتاريخ هذه الخطبة غير معروف، وربما
كان حوالي عام ۳٣۸ق.م.
ونشأت قضية يوكسينيبوس من أن فيليب بعد موقعة خايرونيا، أعاد مقاطعة أوروبوس
Oropus إلى أثينا، فقسمت إلى خمس إقطاعيات خصِّصت
كل إقطاعية منها لقبيلتين؛ فأثير سؤال عما إذا كانت الإقطاعية المعطاة لقبيلتَي
هيبوثوونتيد Hippothoontid وأكامانتيد
Acamantid مقدسة لأمفياراوس
Amphiaraus. فأوفد يوكسينيبوس واثنان آخران ليناما
في مذبح ذلك البطل، حتى يروا في منامهم جواب ذلك الموضوع، فحلموا حلمًا أمكن تفسيره في
صالح هاتَين القبيلتَين. وعلى ذلك اتُّهم هؤلاء في قضيتنا هذه بالكذب فيما رأوه في
حلمهم. وقد سبق المدَّعى عليه ومحام آخر، هو بيريديس؛ فأصبحت الخطبة مخصَّصة لمحاكمة
المدَّعين، وكان لوكورجوس أحدهم. وتاريخها حوالي ۳٣۰ق.م.
والخطبة «ضد فيليبيديس»
٧٠ ممزَّقة جدًّا. وهي
γραφὴ
παρανόμων ضد فيليبيديس غير المعروف، وكان قد اقترح صوت شكر لجماعة
πρόεδροι أو رؤساء مجلس الشعب،
على إصدارهم قرارًا يظهر أنه صوت شرف لفيليب. وقد صدر ذاك القرار تحت تأثير الضغط،
فحاول فيليبيديس تبرئتهم من كل لوم بقرار أعلن هنا على عدم شرعيته.
«المرثية»، أو خطبة الجنازة، مكتوبة في صيغة تقليدية معروفة جيِّدًا. ويجرى تأليف
مثل
هذه الخطبة تبعًا للتقاليد القديمة التي تمسَّك بها القوم مدة طويلة. وتظهر مهارة
الخطيب في طريقه المبتكرة، في تناول الموضوعات العامة؛ فأول شيء بها تعليق شخصيٍّ قوى؛
إذ احتك بالأمور السياسية مع ليوسثينيس، وكان مسئولًا معه عن الحرب اللامية التي قتل
فيها هذا الأخير.
٧١ وعمومًا يظهر شعوره الشخصي بوضوح في الخطبة، وفي الحقيقة كان ليوسثينيس هو
المسئول الأول، وكما يلاحظ المسيو كروازيه، قد وضع في مستوى أثينا تقريبًا: «لمَّا رأى
ليوسثينيس أن سائر بلاد الإغريق قد خرَّت على ركبتيها، وساقها إلى الدمار الخونة الذين
استأجرهم فيليب والإسكندر، ولما رأى أن مدينتنا في حاجة إلى رجل يقودها، وأن سائر بلاد
اليونان في حاجة إلى مدينة تقودها، وهب نفسه لوطنه ووهب مدينتنا للإغريق كي ينالوا حريتهم.»
٧٢ ويقول إنه لا يهضم الوطنيين الآخرين حقهم، بل في الثناء على ليوسثينيس ثناء
عليهم جميعًا. ويرسم صورة خيالية لقدامى الأبطال ترحب بليوسثينيس في هاديس؛ فقد كان من
عادة ذلك العصر وجوب إطراء الأفراد بتلك الكيفية.
لقد سرنا شوطًا بعيدًا حقًّا، من صيغة المجهول الباردة لبركليس الذي كان يعتبر
الأبدال المجهولين الذين يُضحَّون بحياتهم، جزءًا من منظر تمثيليٍّ يمرُّ أمام أعين
المدينة الخالدة. والتغني بالأحياء ملحوظ لأن فيه إشارة إلى الحياة المستقبلة التي لم
يسبق استعمالها قط:
«من الصعب أن نريح من استولى عليهم مثل هذا الحزن؛ فليس في مكنة الخطَب ولا القانون
أن تنيِّم الأحزان …» (ثم تتبع ذلك ملاحظات عن المدح الدائم، وليس هذا دائمًا، وإنما
يختم بتوتُّر أشد): «وعلاوة على ذلك؛ فإذا فرضنا أن الأموات لم يموتوا، وأنه قد زالت
عن
أصدقائنا الأمراض والآلام وكل المصائب التي تصيب بني الإنسان، وأن الأموات قد رجع إليهم
وعيهم وتولَّاهم الله برعايته؛ فقد نتأكد من أن الذين رفعوا قدر الآلهة عندما كان
مهدَّدًا يتمتعون الآن بعطف وحب الإله.»
٧٣ وحقيقة لم يعش سقراط لغير ما فائدة.
والخطبة ضد أثينوجينيس
٧٤ مثل رائع للأسلوب الخفيف لذلك الخطيب، وأهم تقدير لها هو الطريقة التي يلقي
بها الخطيب سرده للوقائع.
أراد موكِّل هوبيريديس، وهو شابٌّ أثيني، أن يشتري عبدًا صغيرًا كان يشتغل في دكَّان
عطور؛ فتحيَّن تلك الفرصة صاحب الدكان، وكان من رعاع مؤلفي الخطَب، وعدَّها صفقة رابحة؛
فرفض أولًا أن يبيع العبد، فتشاجرا، وعند ذلك أقبلت أنتيجونا
Antigona، وكانت في صباها أجمل العاهرات في عصرها
ثم تركت تلك المهنة الآن، وتطوَّعت بخدمة الشاب على شرط أن تحصل لنفسها على هبة قدرها
ثلاثمائة دراخمة، كبرهان على حسن ظنه بها. وقالت للشاب إنها قد أغرت أثينوجينيس على أن
يعتق العبد، ليس وحده، بل مع أبيه وأخيه مقابل أربعين مينًا. فاقترض الشاب ذلك المبلغ
وتصالح مع تاجر العطور، وأوصتهما أنتيجونا بأن يكونا بعد ذلك صديقين. «فأجبت بأني سأفعل
كقولها، وردَّ أثينوجينيس بأنه يجب عليَّ أن أشكر لأنتيجونا خدماتها، ثم قال: «والآن
سترى أي معروف أصنعه لك إكرامًا لخاطرها.» فبدلًا من أن يعتق العبيد، عرض أن يبيعهم
للمدَّعى عليه، وكان يمكنه أن يعتقهم وقتذاك، وبذا ينال شكرها. «أما بخصوص ما عليهم من
ديون؛ فيمكنك تحمُّلها لأنها تافهة، وباقي السلع الموجودة بالدكَّان تغطِّي تلك
الديون.» ولمَّا أعطيت كلمة القبول، أخرج أثينوجينيس عقدًا به تلك الشروط، وكان قد
أعدَّه من قبل وأحضره معه، فوقَّعت عليه وختم في الحال، وبعد ثلاثة أشهر، وجد المشتري
السيئ الطالع، أنه مطالب بديون العمل والودائع ما إن قيمته لتبلغ خمسة تالنتات؛ فاعتذر
أثينوجينيس بأنه لم يكن يعلم أنه كان عليهم جميع تلك الديون العظيمة.
كان ذلك المخدوع في موقف لا يحسد عليه؛ حيث إنه قبل العمل شكلًا بما عليه من الديون،
وهو يحاول الآن البرهنة على وجوب إلغاء ذلك العقد، وحجته القانونية ضعيفة جدًّا. وفي
الحقيقة لم تكن المرافعة تستند إلى شيء غير طلب العدل، ويتناول الجزء الثاني من الخطبة،
أثينوجينيس من حيث علاقاته السياسية. وتحثُّ الخاتمة القضاة على أن ينتهزوا تلك الفرصة
لمعاقبة مثل ذلك النذل على الأسس العامة، حتى إذا لم تمكن محاكمته بمقتضى أي
قانون.
دينارخوس
كان دينارخوس — آخر الخطباء العشرة لقانون الإسكندرية — كورينثيًّا بمولده، وعاش
في
أثينا أجنبيًّا، ولم يحصل قط على قرار باعتباره مواطنًا؛ ولذا لم يستطع الظهور أمام
المحاكم أو المجمع. وقد ولد حوالي عام ۳٦۰ق.م. ويقال إنه لما قدم إلى أثينا، درس على
يد
ثيوفراستوس Theophrastus، وبدأ يكتب خطبًا ككاتب محترف
حوالي عام ۳۳٦ق.م.
لم يظهر اسم دينارخوس، إلا أيام قضية هاربالوس، وأكثر فترات حياته رخاءً هي بعد موت
الإسكندر في عهد الدستور الأوليجاركي الذي سنَّه كاساندر.
وقد ألَّف كثيرًا من الخطَب في الخمسة عشر عامًا من ۳۲۲–۳۰۷ق.م. وفي سنة ۳۰۷ق.م.
هدَّد الإصلاح الديمقراطي كل من أثرى بسبب الأوليجاركية؛ فرحل إلى خالكيس في يوبويا حيث
عاش مدة خمسة عشر عامًا.
٧٥ ثم عاد إلى أثينا سنة ۲۹۲ق.م. ومكث مدة مع شخص يدعى بروكسينوس
Proxenos، انتهز فرصة شيخوخته وعدم ثباته، وسلَبه
مبلغًا كبيرًا من المال، فقدم مضيفه إلى القضاء. وتبعًا لديونوسيوس وبعض المترجمين
الآخرين، ترافع بنفسه أمام المحكمة لأول مرة، ولا نعرف شيئًا عن نتيجة القضية، أو أية
معلومات عن بقية حياة دينارخوس أو مماته.
٧٦
وتبعًا لديمتريوس ماجنيس،
٧٧ كتب دينارخوس ما يربو على مائة وستين خطبة، رفض ديونوسيوس الاعتراف بكثير
منها، كما اعترف بصحة ستين من بين السبعة والثمانين خطبة التي يعرفها.
٧٨ ولم يصل إلينا سوى ثلاث خطب فقط، شك ديمتريوس في صحة أطولها «ضد
ديموسثينيس»، ومع ذلك فسنتناولها على اعتبار أنها حقيقية؛ حيث تشبه كثيرًا باقي خطبه
أسلوبًا ومادة. وتتعلَّق الخطب الثلاث «ضد ديموسثينيس، وأريستوجيتون، وفيلوكراتيس»
بموضوع هاربالوس. وقد تغلغلت جذور الفساد الذي نجم عن ذلك الموضوع حتى أصبح من الضروري
البحث أولًا عن رجال مستقيمي الأخلاق للإشراف على المحاكمة، ولم يكن هؤلاء من مشاهير
الخطباء لأن معظم أعلام السياسة كانوا متَّهمين في تلك القضية. ومن النادر ملاحظة
استخدامهم لمحترفي كتابة الخطب، أو أن كاتبًا واحدًا قد ألَّف خطبًا لتلقى في ثلاث من
المحاكمات العديدة.
لم يكن دينارخوس، آخر الخطباء الآتيكيين المخلصين، ذا أهمية في حد ذاته، بيد أنه
كانت
له أهمية في كل تاريخ أيًّا كان نوعه؛ لأنه يمثِّل أول انحطاط للخطابة. ويقول
ديونوسيوس: «إنه ازدهر أكثر من الجميع بعد موت الإسكندر، عندما حكم على ديموسثينيس
والخطباء الآخرين بالنفي المؤبَّد أو الإعدام، ولم يبق بعدهم من يستحق الذكر.» وفي هذا
القول تقدير عادل لقيمة ذلك الخطيب، الذي — تبعًا لأقوال نفس الناقد — «لم يبتدع
أسلوبًا لنفسه كما فعل لوسياس وإيسوكراتيس وإيسايوس، ولم يكمل ما ابتدعه الآخرون كما
فعل ديموسثينيس وأيسخينيس وهوبيريديس.»
٧٩
إن فضائله وعيوبه ظاهرة، فهو يعرف جميع طرق تأليف النثر، ويستطيع اجتباب المد في
الحروف والمقاطع بمهارة، ويكتب أسلوبًا سهل الفهم حتى ولو كانت عباراته مطوَّلةً أكثر
مما ينبغي. وله بعض المهارة في استخدام الألفاظ والاستعارات الجديدة — μετοιωνίσασθαι τὴν τύχηνα «ليكن لك أمل جديد في
حظك» — ἐκκαθάρατε … «سهل لك الخروج
من الدولة»-δευσοποιὸς πονηρία «شر
مدبوغ».
وإن في أسلوبه لقوةً وبهجة، وفي عباراته المقتضبة لإتقانًا وضبطًا كافيين نحو: «إنك
تختار المحاكمين بالطريق المناسبة؛ مثل أمام المحكمة، أطلقت سراحه».
٨٠ ويجيد استعمال الأمثلة البلاغية التي يوجِّهها إليه المدَّعى عليه «هل
اقترحت أي إجراء نحوها؟ هل قدَّمت أية نصيحة؟ هل تبرعت بمال؟ هل قمت بأية خدمة في موضوع
بسيط لمن كانوا يعملون للأمن العام؟ كلا، ولا بدرجة بسيطة … إلخ.»
٨١
ولا يتهكم إلا نادرًا، لأنه قاس في العبارات المباشرة فلا يجد حاجة إلى التهكم؛ ومع
ذلك فإذا تهكم كان تهكمه ظاهرًا: «هل لك أن تعيد قراءة القرار الذي اقترحه ديموسثينيس
ضد ديموسثينيس؟»
٨٢ وإنه لعلى معرفة بمخادعات الخطابة ومغالطاتها؛ فيمكنه أن يتملَّق الجمهور
بإطراء ذكائهم، وبالثناء على الأريوباجوس، وامتداح فضائل أسلافهم. ويمكنه الاستشهاد
بالمسابقات التاريخية قديمها وحديثها على نزاهة القضاة وعدم تحيزهم وأخذهم المسيء
بالشدة.
وأحسن إجادة له هي في التطويل في تفنيد أقوال الدفاع التي يتوقعها من ديموسثينيس؛
٨٣ وهو تفنيد مرتب وذو تأثير بالغ. وكذلك في الفقرات القصيرة المقتبسة من
الخطبة «ضد فيلوكليس» مثل:
«أيها الأثينيون، فكَّروا في هذه الحقائق، وتذكَّروا الأزمة الحالية، التي
تتطلب الشرف لا الفساد، تجدوا أن واجبكم يقضي بكراهيتكم للمسيئين، وأن تبيدوا
أمثال هؤلاء الوحوش من مدينتكم، وتظهروا للعالم أجمع أن الأمة لم تشترك مع
ساستها وقوَّادها فيما يخلُّ بالشرف، وليست عبدةً للآراء العرفية، مؤمنين أننا
بفضل الله، وبمعونة العدالة والاتحاد، سندافع عن أنفسنا بسهولة إذا ما هاجمنا
أي عدو بدون حق. بيد أنه إذا صاحب الاتحاد الفساد والخيانة وما شاكلهما من
الرذائل التي تصيب البشر، فلا أمل في نجاة أية مدينة.»
٨٤
لقد كان عندئذٍ ظافرًا، ولكنه كان مهملًا؛ إذ يمرُّ من قسم إلى آخر دون مراعاة
للمنطق، أو وجود أية صلة شكلية. ويحلُّ الطعن محل الحجج، وحتى سبه متقطع، وكل شيء عنده
مختل. فقد حصل غيره من الكتَّاب على نتائج رائعة بوساطة تغيير طفيف في ترتيب الكلمات،
ولكن دينارخوس لا يراعي النظام دون تحسين تأكيداته.
٨٥ ومن جهة أخرى نرى أن تكرار الكلمة يعطي تأكيدًا؛ مثل: «مأجور، يا رجال
أثينا، إنه مأجور، وكان مأجورًا» ولكن هذه الوسيلة تستعمل لجيشان النفس
Ad nauseam.
٨٦ وعباراته سلسلة عظيمة من أسماء المفعولين والضمائر الموصولة، تلتوي بطول
الخطبة كالحيات المجروحة.
٨٧
وللطعن مركزه في الخطابة اليونانية، غير أننا عندما نرى في كل صفحة ألفاظًا مثل:
وحش،
رجل سوء، وحش قذر، حثالة، غشاش، ملعون، لص، خائن، شاهد زور، مرتش، مأجور، قذر؛ نشعر كأن
الخطيب يبصق ولا يتكلم.
٨٨
هناك كذلك دناءة مماثلة في اتهامه للدوافع الفاسدة في جميع أعمال ديموسثينيس، الطيب
منها والسيئ، وفي مبالغته في إثم الأخير. ويكون مضحكًا جدًّا عند وصفه ذهاب أريستوجيتون
إلى السجن لأول مرة، وهي أول مرة من عدة «فإن أريستوجيتون أسوأ رجل في أثينا، بل في
العالم أجمع؛ قضى مدة داخل السجن أكثر من التي قضاها خارجه؛ فأول مرة ذهب فيها إلى
السجن، كان سلوكه مشينًا، لدرجة أن بقية المسجونين، وهم حثالة العالم كله، رفضوا أن
يؤاكلوه أو يصاحبوه على قدم المساواة.»
٨٩
لقد صبَّ هذا القدح على امرئ يحاكم من أجل جريمة سياسية بحتة، مبالغ فيها كل
المبالغة، وقد تكون غير حقيقية. ومن أمثلة ذلك القدح، وصفه لسفالة ديموسثينيس؛ حيث
يقول:
«كان يمشي في المدينة مرحًا لمصائبها، وكان يحمل على محفة في شوارع بيرايوس وهو
يتشفَّى من بؤس البائسين.» وأخيرًا فهو كثير السرقة من أقوال ديموسثينيس وأيسخينيس
وغيرهما من الخطباء، لدرجة يتعذَّر معها إحصاء تلك الأقوال المسروقة؛ إذ يستعير فقرات
بأكملها دون أية مهارة في تحويرها لتلائم موضوعه،
٩٠ ويستعير حتى من نفسه.
٩١ ومن ألقابه القديمة
ἀγροῖκος Δημοσθενής,
Κριθινός Δημοσθενής وإن اللقبَين «ديموسثينيس الغبي»، «ديموسثينيس
الجعة الصغيرة» ليُلائمانه بقدر ما تمكن ملاحظة خصائصه.
٩٢
وبالاختصار، فلا يعزى الانحطاط الملحوظ الذي يمثِّله دينارخوس، إلى النقص في المقدرة
الفنية، بل إلى النقص في أصل العقل، وأكثر من هذا إلى الأسباب الخلقية؛ النقص في
المعرفة الأدبية، الظاهر في سرقته أقوال غيره، والنقص في العناية، الظاهر في التنافر
بين عبارات الخطب كلها، ونقص الذوق في تناسب العبارات واجتناب ما لا يناسب فيها، كما
يظهر في المبالغات العديدة المتباينة التي سبق شرحها.