الفصل الثاني عشر
ذبول الخطابة
انتشرت الثقافة الهيلينية بسرعة في جزء عظيم من الدنيا بسبب نجاح الحرب المقدونية
نجاحًا
منقطع النظير، ولكنها لم تستمر في تقدُّمها هذا، بل عادت أدراجها.
١
لقد عانت وسائل الحياة في اليونان تغييرًا كبيرًا في الأجيال التي تلت موت الإسكندر،
فأثينا التي كانت مركز الفكر في العالم كله، أصبحت ذات أهمية ثانوية فقط. ولم تغدُ
الإسكندرية التي أسسها الملك العظيم بنفسه، بوساطة عناية البطالة الدينية، سوقًا عظيمةً
للعالم فحسب، بل وأعظم مركز للعلم. وقد نافستها برجاموس
Pergamus على مر الزمن في المصادر الأدبية، بينما أصبحت
أنطاكية Antioch وطرسوس
Tarsus شهيرتَين كذلك في تاريخ العلم.
منذ غابر الأزمنة يذهب ذوو النبوغ المولودون في جميع جهات اليونان والمدن الأيونية
وبلاد
اليونان (جرايكيا) الكبرى Magna Graecia، إلى أثينا لإظهار
مواهبهم حيث يمكن تقديرها. وبلمحة بسيطة يمكننا أن نرى كم كانت أثينا تدين إلى هؤلاء
الأجانب بتقدُّمها العلمي؛ ونخصُّ بالذكر منهم جورجياس الليوتيني Gorgias of
Leontini، وبروتاجوراس الأبديري Protagoras of
Abdera، وأناكساجوراس الكلازومينايي Anaxagoras of
Clazomenae، وثراسوماخوس الخالكيدوني Thrasymachus of
Chalcedon.
أما شعراء الدراما فكانوا من أبنائها، وكذلك كان خطباؤها العظام باستثناء لوسياس.
ويرجع
بعض السبب في ذلك إلى أن تشريع قوانينها لم يعطِ إلا
فرصة قليلة للأجانب ليكتسبوا شهرة في ساحة القضاء أو المسرح. ولم يكن من بين مؤرخيها
من هو
أثيني المولد حتى ولو كان يكتب بلهجة أجنبية. أما في الفلسفة فلم يبرز أحد أثيني المولد
حقيقة أو يكتسب شهرة حقيقية قبل أفلاطون.
وفي العصر المقدوني، كان يجد الأجنبي الممتاز احترامًا أكثر، لا في التقدير فحسب،
بل وفي
التقدم المادي كذلك، في إحدى المدن الملكية أكثر مما يجد في مدينة أصبحت أحسن قليلًا
من
مقاطعة صغيرة في إحدى الإمبراطوريات العظيمة، وكانت تتجر فقط بذكريات عظمتها السابقة.
وكانت
الحياة في المدن العظمى تختلف عن الحياة في أثينا الديمقراطية؛ فقد اتحد المواطنون منذ
عصر
بركليس إلى عصر ديموسثينيس اتحادًا قويًّا في الشعور، وكان كل مواطن يعرف الآخر، والنحَّات
يحارب جنبًا إلى جنب مع دبَّاغ الجلود، والنبيل يتناقش مع بائع المصابيح، وكانت هناك
عدة
أغراض مشتركة يتقابل فيها الجميع على قدم المساواة.
يجب على الخطيب في المحاكم ألا يرضي القلة المتعلمين فحسب، بل يرضي الكثرة الأميين
كذلك.
وفي المسرح يجب على الشاعر والممثِّلين أن يراعوا كل الطبقات، من الكاهن الأعظم الذي
لا يجب
أن يترك ينعس في عرشه القائم في الوسط، إلى العامة الجالسين في المقاعد الخلفية يأكلون
الحلوى، الذين إذا لم يرضوا تغلَّبت عليهم الروح الأثينية الحقة، وأخذوا يمطرون الممثِّلين
وابلًا من قذائفهم غير الضارة؛
٢ وزيادة على ذلك فقد كان الجميع يتكلمون لغةً واحدة، وهجرت النصوص التراجيدية
أسلوبها الصناعي بالتدريج، واقتربت شيئًا فشيئًا من الكلام الدارج.
أما في الإسكندرية، فإننا إذا أخذنا مثالًا نموذجيًّا واحدًا، لا نجد مثل تلك الوحدة.
فقد
كان هناك عدة طبقات بين السكان الإغريق؛ دائرة القضاء، وطلَّاب دراسة الآثار والمتحف،
والتجار، وفرق الجنود المرتزقة، كل منهم له هدفه الخاص ومهنته الخاصة، غير أن كل هؤلاء
كانوا أقلية. وزيادة على ذلك فقد كان هناك آلاف من اليهود والمصريين والفينيقيين
Phoenicians، وسكان أرض الجزيرة، وغيرهم ممن كانت اللغة
الإغريقية غريبة عليهم، وإذا ما تعلموها كانوا يتكلمونها بلهجة عامية κοινή وهي لهجة فسدت
بدخول كثير من العناصر الأجنبية فيها. ولذا كان الفرق
ظاهرًا دائمًا بين طينة المتعلمين وعامة الشعب، على الرغم من وجود الدراسات
وازدهارها.
ذبلت الخطابة في أثينا بعد موت الإسكندر، شأنها في ذلك شأن باقي الفنون الأخرى، ويرجع
بعض
ذلك إلى الأسباب العامة التي ذكرناها، والبعض الآخر إلى الظروف الخاصة للحياة
الأثينية.
لمَّا أُجبِرت أثينا على الخضوع لأنتيباتر سنة ۳۲۲ق.م. سمح لها أن تحيا بشروط قاسية.
فقد
كانت تعبرها قوات مقدونية إلى مونوخيا Munychia، وانمحت
الديمقراطية، ولم تقيِّد حرية ۱۲۰۰۰ من فقراء الأهلية فحسب، بل وطردوا من وطنهم، وتكوَّنت
حكومة أوليجاركية، ثم حدث انتعاش بعد ذلك بخمس سنوات عندما قلبه بولوسبرخون
Polysberchon (۳۱۷ق.م.) الأوليجاركية. غير أنه بعد ذلك
ببضعة شهور استولى كاسندار على المدينة من جديد، وأنشأ حكومةً على نطاق ضيِّق، ونصَّب
عليها
واليًا ديمتريوس الفاليري Demetrius of Phalereum، وكان ذا
ثقافة عالية واطِّلاع واسع. ورغم أن ديمتريوس هذا لم يكن سوى عامل من قبل كاسندر
Cassnader، إلا أنه حكم المدينة بتؤدة وروية مدة عشر
سنوات، ولكنه فرَّ من المدينة عام ۳۰۷ق.م. قبل قدوم ديمتريوس
بوليوكريتيسDemetrius Poliocretes بن أنتيجونوس
Antigonus، فأصدر ذلك المحاضر إعلانات عن الحرية التي
لم يكن الأثينيون جديرين بالتمتُّع بها في ذلك الوقت، وقد نسبوا إليه كرامات مقدسة. وفي
عام
۳۰۱ق.م. اتخذ مركزه في البارثينون Parthenon. ولا عجب إذا
كانت بالاس أثينا Pallas Athene قد هربت اشمئزازًا لتدنيس
محرابها بعربدة إله الحرب الجديد هذا.
عاش فوكيون وديماديس ودينارخوس من معاصري ديموسثينيس ليرَوا مدينتهم تحت الحكم المقدوني،
ولكنهم لم يتركوا خلَفًا لهم؛ فلم يبقَ للخطباء سوى بعض فرص بسيطة. فإذا ما اجتمع مجلس
الشعب — وكان اجتماعه نادرًا لما يقابله من مشقَّات — لم يستطع النظر إلا في الأمور
العائلية واقتراحات تحسين موارد المياه، أو إقامة التماثيل لطاغية من الطغاة، وهذه لا
تتطلَّب الفصاحة التي تتطلَّبها قضايا الحرب والسلم التي كانت موضع مناقشاتهم. وإذا ماتت
السياسة لم يبقَ شيء لذوي المقدرة السياسية، وكذلك لم تكن في المحاكم قضايا ذات متعة
عظيمة
كقضية التاج أو قضية اتهام ديموسثينيس. أما القضايا الخاصة التي وجدها
الهواة من السياسيين ملائمةً لاختبار مقدرتهم؛ فكانت
أكثر مناسبة للمحامين المحترفين، وقد قلَّ عدد هذه القضايا كثيرًا كما قلَّت أهميتها
عندما
أخذ من أثينا كل من كان يعتمد عليها.
٣ وكذلك لم يكن أمام خطابة المحافل التي وصل بها إيسوكراتيس إلى حد الكمال، إلا
منفذ بسيط؛ فلم يستطع أي خطيب أن يخطب في العيد الأولومبي ليدعو جميع الإغريق إلى الاتحاد
الأخوي في حمل السلاح، ولم تستطع أية خطبة رثائية في جنازة أن تبكي قومًا أو تؤثِّر فيهم
إلى درجة الحماس، ما دام يقاتل في المعارك جنود مرتزقون، والحرب يعلنها أمير أجنبي. وكان
فن
البلاغة لا يزال يُمارَس، وقد ألَّف أرسططاليس أول وآخر رسالة عن البلاغة، بوساطة رجوعه
إلى
المبادئ الأساسية، وأوضح أنه يجب أن تكون لها مكانتها الحقيقية كفرع من فروع الفلسفة
يدرس
مع شقيقه المنطق.
٤ وأصبحت النظرية السياسية التي كان لها مكانة بارزة في إيسوكراتيس وديموسثينيس،
من اختصاص مدارس الفلسفة.
وقد اعتبر كوينتيليانوس أن آخر الخطباء هو ديمتريوس الفاليري، نائب كاساندر، الذي
كرَّس
لدراسة الفلسفة والتاريخ والخطابة، الوقت الذي استطاع أن يدَّخره من إدارة المدينة ومشاهدة
المئات الثلاث والستين تمثالًا التي أقامها له المعجبون به أو أتباعه من الجمهور.
٥ وقد كتب مؤلَّفات أكثر من أي كاتب أبيقوري؛
٦ في المحاورات الفلسفية، والأعمال التاريخية، والأبحاث اللوذعية، والدراسات
البلاغية والأدبية، والخطب، وكلها تستوي عنده صناعة ومتعة. ويقتبس بلوتارخوس من بلاغته
التي
تشمل ذكريات ديموسثينيس الشخصية. وتحوي رسالته عن الرعاع آراءه في العلم السياسي. ولو
استطعنا الحصول على تاريخ نيابته عن كاساندر
(περὶ τῆς
δεκαετείας) لأضاف كثيرًا إلى معرفتنا الضئيلة عن ذلك العصر. وإن
الشذرة الباقية من أعماله قصيرة بحيث نجد أنفسنا مضطرين إلى الرجوع إلى شيشرون
وكوينتيليانوس لتقدير قيمته. ونستخلص أنه كان نموذجًا جيدًا للأسلوب المعتدل المثقف الذي
يتفوق في البهاء والرونق وينقصه العنف والعاطفة الحقيقية. وكانت الدراسة الفلسفية لمادة
موضوعاته إحدى خصائصه البارزة.
٧
ونعرف بعض الحقائق عن حياته، خاصة من ديوجينيس. فقد كان
أبوه فانوستراتوس
Phanostratus العبد المعتق، ودرس على يد ثيوفراستوس
Theophrastus، ودخل الحياة
السياسية حوالي عام ۳۲٤ق.م. ولمَّا كان أحد أعضاء الحزب المقدوني، فقد لعب دورًا في
المفاوضات التي حدثت بعد الحرب اللامية. وفرَّ عندما أعدم فوكيون سنة ۳۱۷ق.م. ولكن
المواطنين اختاروه بموافقة كاساندر ليكون حاكمًا عليهم، فحكم من ۳۱۷–٣٠٧ق.م. ثم خلفه
ديمتريوس بوليوكرتيس. وعاش هو في طيبة ثم رحل بعد ۲۰ سنة إلى مصر. ولمَّا نفاه فيلادلفوس
Philadelphus من الإسكندرية، مات من لدغة ثعبان في إحدى
البلدان المصرية النائية حوالي عام ۲۸۰ق.م.
ومن خطباء هذا العصر أيضًا ديموخاريس
Demochares
وخاريسيوس
Charisius، وكان الأول أحد الأثينيين القلائل
الذين حافظوا على استقلالهم في الرأي، وهو ابن أخ ديموسثينيس الذي قلَّد أسلوبه. أما
خاريسيوس فقد قلَّد لوسياس وبالغ في بساطته.
٨
ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا ماتت بالفعل الخطابة الحقيقية، التي كانت تلقى أمام الجمعية
العمومية والمحاكم، وحلَّت محلَّها خطب من موضوعات خيالية، وأصبحت الخطابة عنصرًا في
التعليم فحسب.
ولسنا في حاجة إلى ذكر هيجيسياس الماجنيسي
Hegesias of
Magnesia (حوالي ٢٥٠ق.م.) وهو مؤسس ما سمِّيت بعد ذلك «المدرسة
الآسيوية للبلاغة»، وكان طابعها الاهتمام بالمصطلحات المصطنعة، والاستعارات الفجة، والتلاعب
بالألفاظ والقوافي غير الملائمة، ونقص الأفكار عامة.
٩
ويقتبس ديونوسيوس فقرة ويذكر أنها كانت تبدو كأنما قد كتبت لتكون نكتة. وتنحصر أهمية
هيجيسياس في تأثيره الخدَّاع على أتباعه من الإغريق والرومان.
ولم تنتعش الخطابة انتعاشًا حقيقيًّا إلا في أواخر عصر الجمهورية الرومانية
Roman Republic.